خرج الحسَنُ بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسَن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب بناحية طبرستان، وكان سبب خُروجِه أنَّه لَمَّا قُتِلَ يحيى بن عمر أقطع المستعينُ لمحمد بن عبد الله بن طاهر طائفةً مِن أرض تلك الناحية، فبعث كاتبًا له يقال له جابر بن هارون، وكان نصرانيًّا، ليتسَلَّم تلك الأراضي، فلما انتهى إليهم كرهوا ذلك جدًّا، وأرسلوا إلى الحسن بن زيد هذا، فجاء إليهم فبايعوه والتَفَّ عليه جملةُ الديلم وجماعةٌ من الأمراء في تلك النواحي فركِبَ فيهم ودخل آمل بطبرستان وأخذها قهرًا، وجبى خراجَها، واستفحل أمرُه جِدًّا، ثم خرج منها طالبًا لقتال سليمان بن عبد الله أمير تلك الناحية، فالتقيا هنالك فكانت بينهما حروبٌ، ثم انهزم سليمان هزيمةً مُنكرة، وترك أهلَه وماله ولم يرجِعْ دون جرجان فدخل الحسنُ بن زيد سارية إحدى مدن طبرستان، فأخذ ما فيها من الأموالِ والحواصل، ثم سيَّرَ أهل سليمان إليه مكَرَّمين على مراكب، واجتمع للحسن بن زيدٍ إمرة طبرستان بكمالِها، ثم بعَثَ إلى الري فأخذها وأخرجَ منها الطاهرية، وصار إلى جند همذان، ولَمَّا بلغ خبَرُه المستعينَ بالله، اغتمَّ لذلك جدًّا، واجتهد في بعض الجيوش والأمداد لقتالِ الحسن بن زيد.
هو الحُسينُ بنُ أحمد بن محمد بن زكريا أبو عبد الله الشيعي المعروف بالقائم؛ فهو الذي قام بالدعوة لعُبيد الله المهدي جَدِّ ملوك مصر, ويُعرَفُ كذلك بالمعلِّم؛ لأنه يعلِّمُ الناسَ عقائِدَ الباطنية, وأصلُه من اليمن من صنعاء، وقيل: كان من أهل الكوفة، سار من سلمية من عند عُبيد الله المهدي داعيًا له في البلاد، وتنقَّلت به الأحوال إلى أن دخل المغرِبَ, وكان من دُهاة العالم، وأفرادِ بني آدم دَهاءً ومَكرًا ورأيًا. دخل إفريقيةَ وحيدًا بلا مال ولا رجال، فلم يزَلْ يسعى ويتحَيَّل ويستحوذ على النُّفوسِ بإظهار الزهادة والقيامِ لله، حتى تَبِعَه خلقٌ وبايعوه، وحاربوا صاحِبَ إفريقية مرَّات. وآل أمرُه إلى أن تمَلَّك القيروان، وهرب صاحِبُها أبو مضر زيادة الله الأغلبي آخِرُ ملوك بني الأغلب منه إلى بلادِ الشرق. كما قضى على دولتَي بني مدرار والرستمية في أفريقيةَ، حتى مهَّد القواعِدَ للمهديِّ ووطَّدَ البلاد, فأقبل المهديُّ من الشرق وسَلَّمَه الأمر، ثمَّ كفَّ المهديُّ يَدَه ويدَ أخيه أبي العباس، فندم أبو عبد الله على ما صنع وأضمَرَ الغَدرَ هو وأخوه بعُبيد الله، فاستشعر منهما المهديُّ الغدرَ, فدَسَّ إليهما من قتَلَهما في ساعةٍ واحدةٍ، وذلك بمدينة رقادة, فتوطَّدَ المُلكُ لعُبيد الله.
خرج المهديُّ بنفسِه إلى تونُسَ وقرطاجَنَّة وغيرِهما يرتادُ موضعًا على ساحِلِ البحر يتَّخِذُ فيه مدينةً، وكان يجِدُ في الكتُبِ خروجَ أبي يزيدَ على دولته، ومن أجلِه بنى المهديَّةَ، فلم يجِدْ مَوضِعًا أحسَنَ ولا أحصَنَ مِن موضع المهديَّة، وهي جزيرةٌ متَّصِلةٌ بالبَرِّ كهيئة كفٍّ متَّصِلةٍ بزِندٍ، فبناها وجعلها دار مُلكِه، وجعل لها سورًا مُحكَمًا وأبوابًا عظيمةً، وزْنُ كُلِّ مِصراعٍ مائةُ قنطارٍ، وكان ابتداءُ بنائها يوم السبت لخمسٍ خَلَونَ مِن ذي القعدة سنة ثلاث وثلاثمائة، فلَّما ارتفع السورُ أمَرَ راميًا أن يرميَ بالقوس سهمًا إلى ناحية المغرب، فرمى سهمَه فانتهى إلى موضِعِ المُصلَّى، فقال: إلى موضعِ هذا يَصِلُ صاحِبُ الحِمارِ، يعني أبا يزيدَ الخارجيَّ؛ لأنّه كان يركب حمارًا، وكان يأمُرُ الصُّنَّاعَ بما يعملون، ثمَّ أمر أن يُنقَرَ دار صناعة في الجبلِ تَسَعُ مائةَ شيني- مركب بَحَري- وعليها بابٌ مُغلَقٌ؛ ونقَرَ في أرضِها أهراءً للطعامِ، ومصانِعَ للماء، وبنى فيها القصورَ والدُّورَ، فلما فرغ منها قال: "اليومَ أمَّنتُ على الفاطميَّات"، يعني بناتِه، وارتحل إليها، ولَمَّا رأى إعجابَ الناس بها، وبحصانتها، كما يقول: هذا لساعةٍ مِن نهار، وكان كذلك لأنَّ أبا يزيد وصل إلى موضعِ السهم، ووقف فيه ساعةً، وعاد ولم يظفَرْ.
سار الأميرُ حُسام الدين طرنطاي نائبُ السلطنة بعسكَرٍ كثيفٍ إلى الكرك، فتلَقَّاه عسكَرُ دِمشقَ صحبة الأمير بدر الدين الصوابي، فتوجَّهَ معه إليها، وضايقَها وقطَعَ الميرةَ عنها حتى بعث المَلِكُ المسعود بن الظاهر بيبرس أخاه خضر يطلبُ الأمان، فبعث إليه السلطانُ قلاوون الأميرَ ركن الدين بيبرس الدوادار من قلعة الجبل بالأمانِ، فنزل الملك المسعود وأخوه بدر الدين سلامش إلى الأميرِ طرنطاي في خامس صفر، واستقَرَّ الأمير عزُّ الدين أيبك الموصلي نائبُ الشوبك في نيابة الكرك، ووردت البشارة بأخذِ الكركِ إلى قلعةِ الجَبَل في ثامن صفر، وقَدِمَ الأمير طرنطاي بأولاد الظاهرِ إلى القاهرة، فخرج السلطانُ إلى لقائه في ثاني عشر ربيع الأول، وأكرم السلطانُ الملكَ المسعود وسلامش، وأمَّرَ كُلًّا منهما إمرةَ مائة فارس، وصارا يركبان في الموكب والميادين، ورتبا يركبان مع الملك الصالح علي، وفي سابع رجب توجَّه السلطان إلى الكرك، فوصلها وعرَضَ حواصِلَها ورجالها وشحَنَ بها ألفي غرارة قمح، وقرَّرَ بها بحريَّةً ورتَّبَ أمورَها، ونظَّف البركة، وجعل في نيابة الكرك الأميرَ ركن الدين بيبرس الدوادار، ونقل عز الدين أيبك إلى نيابة غزَّة، ثم نقله إلى نيابةِ صَفد.
هو ضاهر (ظاهر) بن عمر بن أبى زيدان. وُلِد في صفد سنة 1106هـ كان داهيةً شجاعًا. يقال: إنَّ أصله من المدينة، هاجر أحدُ أجداده إلى فلسطين، وكان والدُه وجدُّه وأعمامُه حكامًا في صفد وعكا. تولى إدارة عكَّا وصفد، فأقام إمارةً قوية تمثِّل مصدرَ قلقٍ للدولة العثمانية في شماليَّ فلسطين، ضمَّت صفد وطبرية والجليل الأعلى والناصرة ونابلس وعكا، فقاتله سليمان باشا والي دمشق العثماني سنة 1150هـ، فتحصَّن في طبرية إلَّا أن موت سليمان باشا المفاجئ أدَّى إلى استفحال أمر ظاهر وازدياد نفوذه، فقام بتحصين عكا وبناء سورِها، وضَمَّها إلى إمارته واتخذَها عاصمةً لها، وانتعشت التجارةُ في عهده، واستقَّر الأمن، ولكِنَّ طموحَ ظاهرِ العمر دفعه إلى التوقف عن دفع الضرائب للعثمانيين، وتحالفَ مع على بك الكبير حاكمِ مصرَ واتفقا على عصيان العثمانيين، فحاربا الواليَ العثماني في الشام عثمان باشا الصادق، واضطرت الأستانة إلى الاعتراف بولاية ظاهر العمر، ولكِنْ سرعان ما ضَعُف أمرُه بعد مقتل علي بك الكبير، فأصدرت الدولة العثمانية أوامرها إلى حسن باشا الجزائري أمير البحر بالقضاء على ظاهر العمر واحتلال عكَّا، فاغتاله رجل مغربي من رجالِه وهو يستعِدُّ لمقاومة العثمانيين، فانهارت دولتُه بمقتَلِه.
إنَّ مِن أهدافِ اليهود إزالةَ المسجد الأقصى ومسجد الصَّخرة؛ لإقامةِ هيكلِ سليمانَ المزعومِ الذي يدَّعون زُورًا وبهتانًا أنَّه كان مُقامًا في نفسِ مكان المسجد، وأنَّ بناءه هو السَّبيلُ لظهور مسيحِهم المنتظَرِ الذي يدَّعون أنَّهم سيقتلون العالَم أجمعَ معه، فكان من تخطيطِهم إحراقُ المسجدِ مِن أجْلِ هَدمِه؛ فقامت السُّلطاتُ اليهودية ُبهدمِ العقاراتِ الملاصقة للمسجد الأقصى، ثم قامت بنَسفِ جميع المباني العربية المجاوِرة، واحتلَّت بقوةٍ بابَ المغاربة وسَمَحت لليهود بإقامةِ صَلَواتهم في المسجد، ثمَّ قامت بعد ذلك بتدريبِ بعض الأفراد وزوَّدتهم بما يلزم لافتعالِ حريق في المسجد الأقصى، فقام في 7 جمادى الآخرة / 21 آب (أغسطس) بعضُ اليهود المجرمين بإضرامِ النار في داخِلِ المسجد الأقصى وسَطْحِه وعِدَّة مناطق منه، وتظاهرت السلطاتُ اليهوديةُ في البداية أنَّها لا علاقةَ لها بالأمر، فتباطأت بشكلٍ ظاهرٍ في عمليات الإطفاء، وهَبَّ الفلسطينيون لإطفاءِ الحريق وجاءت سياراتُ الإطفاء من رام الله والخليل للإطفاء، وقَطَعت شركةُ كهرباء القُدس التيَّارَ حتى لا يتفاقمَ الأمرُ حتى استطاع الأهالي إطفاء الحريق، وأعلن الشيخ حلمي المحتسب رئيسُ الهيئة الإسلامية بالقدس أنَّ الاعتداءَ كان من قِبَلِ السلطات اليهودية، ونُشِرَ تقريرٌ مفصَّل في القدس عن الحريق وافتعاله.
وقعَتْ أزمةٌ بين موريتانيا والسنغال، بسبب الزُّنوجِ في الصحْراءِ المتاخِمة للبلَدَينِ، فقد قُتِلَ اثنانِ من السنغاليِّينَ في قريةٍ على الحدود في الجنوب الشرقي من موريتانيا على يدِ رُعاةٍ موريتانيِّينَ من الزُّنوج، وقام وزيرُ الداخليَّةِ السنغاليِّ بزيارة موريتانيا، وقابَلَ الرئيس، وأعلَنَ الوزيرُ أنَّ الأمر مُبَيَّتٌ، ولن تَسكُتِ السنغالُ، فقام في اليوم التالي السنغاليُّونَ بمظاهَراتٍ في البلدة القريبة من الحادث، وهاجموا محلاتِ الموريتانيِّينَ، ونهبوها، ثم حَرَقوها، وقَتَلوا مَنِ استطاعوا قَتلَه منهم، ومَثَّلوا بجُثَثِهم، وعمَّتِ المظاهَراتُ أجزاءَ السنغال، وفعَلوا كما فعَلَ إخوانُهم في تلك القرية، وهرَبَ مَنِ استطاع الهربَ منَ الموريتانيِّينَ إلى المساجِدِ، أو القُنْصليَّة التي لم تَسلَمْ كذلك من الهجومِ، وتَعرَّضَ ما يُقارِبُ من نصف مليون موريتانيٍّ في السنغال للأذى، ثم في 19 رمضان انفجَرَ الوضْعُ في موريتانيا على ما فعَلَه السنغاليون في بلادهم، فهاجموا الرعايا السنغاليِّينَ في موريتانيا، وقاموا بنفس ما قام به السنغاليُّونَ بإخوانِهم الموريتانيِّينَ، ثم سَيْطَرت الحكومةُ على الوضع، وأُعلن منعُ التجوُّلِ، وجُمِعَ السنغاليُّونَ في المساجِدِ والمعارضِ، وشُدِّدت عليهم الرقابةُ، ثم عاد الأمر، وتفجَّرَ في السنغال في 24 رمضان، وأخذ القتلُ يلحَق بالموريتانيِّينَ حتى أَعلنت الدولةُ حالةَ الطوارئِ، ثم تمَّ الاتفاق على نقلِ رَعايا كل بلدٍ إلى بلدِه، فنُقِلَ أكثرُ من مِئَتَيْ ألف موريتانيٍّ من السنغال، ومئةُ ألفِ سِنغاليٍّ من موريتانيا.
كان أول ظهورٍ لثورة صاحب الزنج الدعيِّ علي بن محمد عام 255هـ وبدأ يستفحل أمرُه وتوالت الحروب بينه وبين جيوش الخلافة مرَّةً تلو الأخرى، وكل ذلك لم يظفروا به، فدخل البصرةَ والسبخة والأبلة وعبادان والأهواز، حتى خافه كثيرٌ من أهل البصرة وفرُّوا خارج البصرة، فكان هذا بدايةً لدولتهم الجديدة المؤسَّسة أصلًا على الزنج من العبيد الفارِّين والمتمرِّدين على أسيادهم، ومَن أُسِرَ من العبيد في حروبِه.
سيطر الجيشُ الانكشاري على السلطان مراد الرابع في أول أمره لصغره، ثم إنَّه لم يلبث أن عرف أمور الحكم حتى بدأ بالقضاء على طغاة العسكر الذين قتلوا أخاه السلطان عثمان الثاني، وأَعدم جميع المتأسِّدين في إستانبول وفي جميع أنحاء الدولة، وأسَّس تشيكلات قوية للمخابرات وثبَّت من خلالها أسماء جميع المستبدين في الدولة، وكان إذا صادف بلدًا في أسفاره يدعو مستبديها بأسمائهم ويعدمهم، ومنع في عهده الخمر والتدخين وأعدم كلَّ مرتدٍّ عن الإسلام.
من أشهَرِ الثَّوراتِ التي قمَعها الحكَمُ بن هشام ثورة ُالربض، وهم قومٌ كانوا يعيشونَ في إحدى ضواحي قُرطُبة، وقد ثار أهلُها ثورةً كبيرة جدًّا عليه؛ بسبب ما عُرِفَ عنه من معاقرةِ الخَمرِ، وتشاغُلِه باللهوِ والصَّيد، وقد زاد من نقمةِ الشَّعبِ عليه قتلَه لجماعةٍ مِن أعيان قُرطبة، فكرهه الناسُ, وصاروا يتعرَّضون لجُندِه بالأذى والسَّبِّ، فشرعَ في تحصينِ قُرطبةَ وعِمارةِ أسوارِها وحَفْرِ خَنادِقِها، وارتبط الخيلَ على بابِه، واستكثَرَ المماليكَ، ورتَّب جمعًا لا يفارِقونَ بابَ قَصرِه بالسلاحِ، فزاد ذلك في حقدِ أهل قُرطبةَ، وتيقَّنوا أنه يفعلُ ذلك للانتقام منهم. ثم وضَعَ عليهم عُشرَ الأطعمةِ كُلَّ سنةٍ، مِن غيرِ خَرصٍ، فكرهوا ذلك، ثم عمدَ إلى عشرةٍ مِن رؤساء سفهائِهم، فقتَلَهم، وصَلَبهم، فهاج لذلك أهلُ الربض، وتداعى أهلُ قُرطبةَ من أرباضِهم وتألَّبوا بالسلاحِ وقصدوا القصرَ، فكان أوَّلَ مَن شهرَ السلاحَ أهلُ الربض، واجتمع أهلُ الربض جميعُهم بالسلاح، واجتمعَ الجندُ والأمويُّون والعبيدُ بالقصر، وفرَّقَ الحكمُ الخيلَ والأسلحة، وجعل أصحابَه كتائبَ، ووقع القتالُ بين الطائفتينِ، فغَلَبهم أهلُ الربض، وأحاطوا بقَصرِه، فنزل الحكَمُ من أعلى القصر، ولَبِسَ سلاحَه، ورَكِبَ وحَرَّضَ الناس، فقاتلوا بين يديه قتالًا شديدًا. ثم أمَرَ ابنَ عَمِّه عُبيد الله، فثلَمَ في السُّورِ ثُلمةً، وخرج منها ومعه قطعةٌ من الجيش، وأتى أهلَ الربض من وراء ظهورِهم، ولم يعلَموا بهم، فأضرموا النَّارَ في الربض، وانهزم أهلُه، وقُتلوا مقتلةً عظيمةً، وأخرجوا من وجَدوا في المنازلِ والدُّور، فأسروهم، فانتقى من الأسرى ثلاثَمائة من وجوهِهم، فقتَلَهم، وصَلَبَهم منكَّسِينَ، وأقام النَّهبَ والقتلَ والحريقَ والخرابَ في أرباض قرطبةَ ثلاثةَ أيام. ثم استشار الحكَمُ عبدَ الكريم بن عبد الواحد بن عبد المغيث، فأشار عليه بالصَّفحِ عنهم والعفوِ، وأشار غيرُه بالقتل، فقَبِلَ قَولَه، وأمر فنودي بالأمانِ، على أنَّه من بقي من أهلِ الربض بعد ثلاثةِ أيَّامٍ قَتَلْناه وصَلَبْناه؛ فخرج من بقي بعد ذلك منهم مستخفيًا، وتحمَّلوا على الصَّعبِ والذَّلولِ خارجين من حضرةِ قُرطبة بنِسائِهم وأولادِهم، وما خَفَّ من أموالهم، وقعد لهم الجندُ والفَسَقةُ بالمراصِدِ يَنهبونَ، ومن امتنَعَ عليهم قتلوه. فلما انقَضَت الأيامُ الثلاثة أمر الحكَمُ بكَفِّ الأيدي عن حَرَمِ النَّاسِ، وجمعَهنَّ إلى مكان، وأمر بهدمِ الربضِ القبلي. فكانت وقعةً هائلة شنيعةً، قُتِل فيها عددٌ كثيرٌ زُهاءَ أربعين ألفًا من أهل الربض، وعاينوا البلاءَ وهُدِّمَت ديارُهم ومساجِدُهم، ونزل منهم ألوفٌ بطُليطِلة وخَلقٌ في الثغورِ، وجاز آخرون البحرَ ونزلوا بلادَ البربر، ومنهم من نزل بالإسكندرية في مصر. وكان بزيعُ مولى أميَّة ابن الأمير عبد الرحمن بن معاوية بن هشامٍ محبوسًا في حبسِ الدم بقرطبة، في رجليه قيدٌ ثقيلٌ، فلما رأى أهلَ قُرطبة قد غلَبوا الجندَ سأل الحرسَ أن يُفرِجوا له، فأخذوا عليه العهودَ إن سَلِمَ أن يعودَ إليهم، وأطلقوه، فخرج فقاتلَ قتالًا شديدًا لم يكُنْ في الجيشِ مِثلُه، فلما انهزم أهلُ الربض عاد إلى السِّجنِ، فانتهى خبَرُه إلى الحكم، فأطلقه وأحسَنَ إليه.
وردَ إلى الخليفةِ القادِرِ بالله كِتابٌ مِن الأميرِ يَمينِ الدَّولة محمود بنِ سبكتكين الغزنوي أنَّه أحَلَّ بطائفةٍ مِن أهلِ الرَّيِّ مِن الباطنيَّة وغُلاة الرَّوافِضِ قَتلًا ذريعًا، وصَلبًا شَنيعًا، وأنَّه انتَهَب أموالَ رَئيسِهم رستُم بن علي الديلمي، فحصَلَ منها ما يُقارِبُ ألف ألف دينار، وقد كان في حيازتِه نحوٌ مِن خمسين امرأةً حُرَّة، وقد وَلَدْنَ له ثلاثًا وثلاثين ولدًا بين ذكَرٍ وأنثى، وكانوا يَرَونَ إباحةَ ذلك. وقد جاء في الكِتابِ: "إنَّ كِتابَ العَبدِ صَدَر مِن مُعسكَرِه بظاهِرِ الرَّيِّ غُرَّةَ جُمادى الآخرة سنة 420، وقد أزال اللهُ عن هذه البُقعةِ أيديَ الظَّلَمةِ وطَهَّرَها من دعوةِ الباطنيَّةِ الكَفَرة والمُبتَدِعة الفَجَرة، وقد كانت مدينةُ الرَّيِّ مَخصوصةً بالْتِجائِهم إليها وإعلانِهم بالدُّعاءِ إلى كُفرِهم، فيها يَختَلِطونَ بالمُعتَزِلة المُبتَدِعة، والغاليةِ مِن الرَّوافِضِ المُخالفةِ لِكِتابِ اللهِ والسُّنَّة، يتجاهرون بشَتمِ الصَّحابةِ ويُسِرُّونَ اعتقادَ الكُفرِ ومَذهَب الإباحة، وكان زعيمُهم رُستُم بنُ عليٍّ الدَّيلميُّ، فعطَفَ العَبدُ عِنانَه بالعساكرِ فطَلَع بجُرجان وتوقَّفَ بها إلى انصرافِ الشِّتاءِ، ثمَّ دَلَف منها إلى دامغان، ووجَّه عَلِيًّا الحاجب في مقَدِّمة العسكَرِ إلى الري، فبرز رُستُم بن علي على حُكمِ الاستسلامِ والاضطرارِ، فقُبِضَ عليه وعلى أعيانِ الباطنيَّةِ مِن قُوَّادِه, ثمَّ خرج الدَّيالِمة مُعتَرِفينَ بذُنوبِهم شاهِدينَ بالكُفرِ والرَّفضِ على نُفوسِهم، فرُجِعَ إلى الفُقَهاءِ في تعَرُّفِ أحوالهم، فاتَّفَقوا على أنَّهم خارِجونَ عن الطَّاعةِ وداخِلونَ في أهل الفَسادِ، مُستَمِرُّونَ على العنادِ، فيَجِبُ عليهم القَتلُ والقَطعُ والنَّفيُ على مراتِبِ جِناياتِهم، وذَكَر هؤلاء الفُقَهاءُ أنَّ أكثَرَ القَومِ لا يُقيمونَ الصَّلاةَ، ولا يُؤتُونَ الزَّكاةَ، ولا يَعرِفونَ شَرائِطَ الإسلامِ، ولا يُمَيِّزونَ بين الحلالِ والحرامِ، بل يجاهِرونَ بالقَذفِ وشَتمِ الصَّحابةِ، ويعتَقِدونَ ذلك ديانةً، والأمثَلُ منهم يتقَلَّدُ مذهَبَ الاعتزالِ، والباطِنيَّةُ منهم لا يُؤمِنونَ باللَّهِ عَزَّ وجَلَّ وملائكتِه وكُتُبِه ورُسُلِه واليومِ الآخر، وأنَّهم يَعُدُّونَ جَميعَ المِلَلِ مَخاريقَ الحُكَماءِ، ويَعتَقِدونَ مَذهَبَ المَزدكيَّةِ: الإباحةَ في الأموالِ والفُروجِ والدِّماءِ، يَدَّعونَ الإسلامَ بإعلانِ الشَّهادةِ، ثمَّ يُجاهِرونَ بتَركِ الصَّلاةِ والزَّكاةِ، والصَّومِ والغُسلِ، وأكْلِ المَيتةِ، فقضى الانتصارُ لدينِ اللهِ تعالى بتَميُّزِ هؤلاء الباطنيَّةِ عنهم، فصُلِبوا على شارِعِ مدينةٍ طالَما تمَلَّكوها غَصبًا، واقتسموا أموالها نهبًا، وقد كانوا بذلوا أموالًا جَمَّةً يَفتَدونَ بها نُفوسَهم، وضَمَّ إليهم أعيانَ المُعتَزِلة والغُلاة مِن الرَّوافِضِ؛ ليتخَلَّصَ النَّاسُ من فِتنَتِهم، ثمَّ نَظَرَ فيما اختَزَنَه رُستم بن علي فعَثَر على أموالٍ طائلةٍ وأثاثٍ عظيمٍ. ومن الكُتُب خمسون حِملًا ما خلا كتُبَ المُعتَزِلة والفَلاسِفة والرَّوافِض، فأُحرِقَت تحت جُذوعِ المَصلوبين؛ إذ كانت أصولَ البِدَع، فخَلَت هذه البُقعةُ مِن دُعاةِ الباطنيَّةِ وأعيانِ المُعتَزِلة وغُلاةِ الرَّوافِضِ، وانتَصَرت السُّنَّة، فطالَعَ العبدُ بحقيقةِ ما يَسَّرَه اللهُ تعالى لأنصارِ الدَّولةِ القاهرةِ".
أخذ الملكُ الصالحُ نجمُ الدين أيوب صاحِبُ مصر دمشقَ بعد أن حاصرها بمساعدةِ الخوارزميَّة، وكان الخوارزميَّة يظنون أنَّ السلطانَ إذا انتصر على عَمِّه الملك الصالح إسماعيل يقاسِمُهم البلادَ حتى دمشق، فلما منعوا من دمشقَ، وصاروا في الساحِلِ وغيره من بَرِّ الشام، تغيَّرت نياتُهم، واتفقوا على الخروجِ عن طاعة الملكِ الصالح نجم الدين، وساروا إلى داريا وانتهبوها، وكاتَبوا الأميرَ ركنَ الدين بيبرس وهو على غَزَّة بعسكرٍ جَيِّدٍ مِن عساكر مصر، وحَسَّنوا له أن يكونَ معهم يدًا واحدةً ويزوِّجوه منهم، فمال إليهم، وكاتبوا الناصِرَ داود صاحِبَ الكرك، فوافَقَهم ونزل إليهم واجتمع بهم وتزوَّج منهم، وعاد الناصرُ إلى الكرك واستولى على ما كان بيد الأمير حسامِ الدينِ بنِ أبي علي، من نابلس والقُدس والخليل، وبيت جبريلَ والأغوار، وخاف الصالحُ إسماعيل، فكاتب الخوارزميَّة وقَدِم إليهم، فحلفوا له على القيامِ بنُصرتِه، ونزلوا دمشقَ، فقام الأميرُ حسام الدين بن أبي علي بحفظِ البلدِ أحسَنَ قيام، وألحَّ الخوارزمية ومعهم الصالحُ إسماعيل في القتال ونهْبِ الأعمال، وضايقوا دمشقَ، وقطعوا عنها الميرةَ، فاشتَدَّ الغلاءُ بها، ومات كثيرٌ من الناس جوعًا، ثم عَدِمَت الأقواتُ بالجملة، وأكل الناسُ القِطَط والكلابَ والميتاتِ، ومات شخصٌ بالسجن فأكله أهلُ السِّجنِ! وهلك عالمٌ عظيم من الجوع والوباء، واستمر هذا البلاء ثلاثة أشهرٍ، وصار من يمُرُّ من الجبل يشتَمُّ ريحَ نتنِ الموتى، لعجز الناس عن مواراة موتاهم، وأخذ الملك الصالح نجم الدين مع ذلك في إعمالِ الحِيَل والتدبير، وما زال بالمنصور إبراهيمَ صاحب حمص حتى مال إليه، واتفق أيضًا مع الحلبيِّينَ على محاربة الخوارزميَّة، فخرج الملك الصالح نجم الدين من القاهرةِ بعساكِرِ مصر، ونزل العباسة، فوافاه بها رسلُ الخليفة، وهما محمَّد بن وجه السبع، وجمالُ الدين عبد الرحمن بن محيي الدين أبي محمد يوسف بن الجوزي في آخر شوال، ومعهما التقليدُ والتشريف الأسود: وهو عمامة سوداء وجبة وطوق ذهب، وفرس بمركوبٍ بحلية ذَهَب، فنصب المنبرَ، وصعد عليه جمال الدين عبد الرحمن محيي الدين بن الجوزي الرَّسول، وقرأ التقليدَ بالدهليز السلطاني، والملك الصالحُ نجم الدين قائم على قَدَميه، حتى فرغ من القراءة، ثم ركِبَ والملك الصالحُ نجم الدين بالتشريفِ الخليفتي، فكان يومًا مشهودًا، وكان قد حضر أيضًا من عند الخليفة تشريفٌ باسم الصاحب معين الدين بن شيخ الشيوخ، فوجد أنه قد مات، فأمر السلطانُ أن يفاض على أخيه الأميرِ فخرِ الدين يوسف بن شيخ الشيوخ، فلبسه، فلما بلغ الخوارزميَّةَ مسيرُ السلطان من مصر، ومسير الملك المنصور إبراهيم صاحِب حمص بعساكر حلب، رحلوا عن دمشق يريدون لقاء المنصورِ، فوجد أهلُ دمشق برحيلهم فَرَجًا، ووصلت إليهم الميرةُ، وانحلَّ السِّعرُ.
أَمَرَ عُثمانُ بن عفَّانَ رضِي الله عنه بِتَجديدِ أَنْصابِ الحَرمِ، وفيها زاد في المَسجدِ الحَرامِ ووَسَّعَهُ، وابْتاع مِن قَومٍ، وَأَبَى آخَرون فهَدَم عليهم، ووضَع الأثْمانَ في بيتِ المالِ، فصاحوا بعُثمانَ، فأَمَر بهم فحُبِسُوا، وقال: أتدرون ما جَرَّأَكُم عَلَيَّ؟ ما جَرَّأَكُم عَلَيَّ إلَّا حِلْمِي، قد فعَل هذا بكم عُمَرُ فلم تَصيحوا به. فكَلَّمَهُ فيهم أَميرُ مكَّةَ عبدُ الله بن خالدِ بن أَسِيدٍ فأَطْلَقَهُم.
هو الفضلُ بنُ الربيعِ بنِ يونُسَ، الحاجِبُ الأميرُ أبو الفضل، مولِدُه سنة أربعين ومائة، وكان حاجبًا للرشيد ووزيرًا له، ولَمَّا مات الرشيدُ استولى على الخزائِنِ وقَدِمَ بها إلى الأمينِ محمَّد ببغداد ومعه البُردة والقَضيبُ والخاتَم، فأكرمه الأمينُ وفَوَّض إليه أمورَه، فصار إليه الأمرُ والنهي، ولَمَّا خلعَ الأمينُ أخاه المأمونَ مِن ولاية عهدِ الخلافة، استخفى ثم ظهرَ في أيامِ المأمونِ، فأعاده المأمونُ إلى رتبتِه إلى أن مات.
هو أنوجور بنُ الإخشيدِ مُحمَّد، تولَّى إمرةَ مِصرَ صَغيرًا، فكان الذي يتحَكَّمُ بالأمور كُلِّها كافور، ولَمَّا كَبِرَ أنوجور حصَلَت بينه وبين كافور وَحشةٌ؛ بسبب استبدادِ كافور بالحُكم والاسمُ لأنوجور، ولكِنْ لم يلبث أن توفِّيَ أنوجور في آخِرِ هذه السنة وحُمِلَ إلى القدس ودُفِنَ بجوار والده، بعد أن كانت مُدَّة ولايته أربع عشرة سنة، فخَلَّفَه أخوه عليٌّ الإخشيدي وأقَرَّه الخليفةُ على ذلك، ولكِنْ بقي كافور هو المستبِدَّ بالحُكمِ.