اتَّفَق الأميرُ حُسين بن محمد بن قلاوون مع الطواشي جوهر الزمردي نائِبِ مُقَدَّم المماليك على أن يُلبِسَ المماليكَ السُّلطانية آلةَ الحرب ويتسَلْطَن، وكان السفيرُ بينهما نصرَ السليماني أحَدَ طواشية الأمير حسين، فوشَى بذلك إلى الأمراء، وكان السلطانُ بالشام، فبادر الأميرُ أَيْدَمُر الشمسي نائب الغيبة والأمير موسى بن الأزْكَشي وقبضا على جوهر ونصر وسُجِنا بخزانة شمايل بالقاهرة، فلمَّا قَدِمَ السلطان والأمير يلبغا سُمِّرا وشُهِرا، ثم نُفِيَا إلى قوص في ذي القعدة.
هاجم أميرُ الرياض دهام العماريةَ المواليةَ للدرعية وقتل أميرَها عبد الله بن علي وعقر إبِلَه، فلما بلغ ذلك الإمام محمد بن سعود جمع أهل الدرعية وعرقة، وأراد أن يرصد عودة جيش دهام من العمارية ويكمن له، وكان دهام بن دواس قد كمن في الموضعِ نفسه فالتقى الفريقان واقتتلوا قتالًا شديدًا انهزم فيه دهام، وجَدَّ أهل الدرعية في إثرِه ولكنهم فُوجئوا بخروج فرقة لابن دواس من جهة العمارية، فوقع القتل وانكسر جيشُ الدرعية.
كعبُ بنُ الأَشرفِ رجلٌ مِن طَيِّءٍ وأمُّهُ مِن يَهودِ بني النَّضيرِ. كان شاعرًا يَهجو النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وأصحابَه ويُحرِّضُ عليهم ويُؤذيهِم، فلمَّا كانت وقعةُ بدرٍ كُبِتَ وذُلَّ وقال: بطنُ الأرضِ خيرٌ مِن ظَهرِها اليومَ. فخرج حتَّى قَدِمَ مكَّةَ فبَكى قَتلى قُريشٍ وحَرَّضهُم بالشِّعرِ، قال جابرُ بنُ عبدِ الله: قال: رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَن لِكعبِ بنِ الأَشرفِ؟ فإنَّه قد آذى الله ورسولَهُ». فقال محمَّدُ بنُ مَسلمةَ: يا رسولَ الله، أَتُحِبُّ أن أَقتُلَهُ؟ قال: «نعم». قال: ائْذَنْ لي فَلْأَقُلْ. قال: «قُلْ». فأَتاهُ فقال له، وذَكَر ما بينهما، وقال: إنَّ هذا الرَّجلَ قد أراد صَدقةً وقد عَنَّانا. فلمَّا سمِعَه قال: وأيضًا والله لَتَمَلُّنَّهُ. قال: إنَّا قد اتَّبعناهُ الآنَ، ونَكرهُ أن نَدعَهُ حتَّى ننظُرَ إلى أيِّ شيءٍ يَصيرُ أَمرُهُ. قال: وقد أردتُ أن تُسلِّفَني سَلفًا. قال: فما تَرْهَنُني؟ قال: ما تريدُ؟ قال: تَرهَنُني نِساءَكُم. قال: أنت أَجملُ العربِ، أَنَرهنُك نِساءَنا! قال له: تَرهَنُوني أولادَكُم. قال: يُسَبُّ ابنُ أَحدِنا، فيُقالُ: رُهِنَ في وَسَقَينِ مِن تمرٍ، ولكنْ نَرهَنُك اللَّأْمَةَ -يعني السِّلاحَ- قال: فنعم. وواعَدهُ أن يَأتِيَهُ بالحارثِ، وأبي عَبْسِ بنِ جَبْرٍ، وعبَّادِ بنِ بِشْرٍ، قال: فجاءوا فَدَعَوْهُ ليلًا فنزل إليهِم، قال سُفيانُ: قال غيرُ عَمرٍو: قالت له امرأتُه: إنِّي لأَسمَعُ صوتًا كأنَّه صوتُ دَمٍ. قال: إنَّما هذا محمَّدُ بنُ مَسلمةَ، ورَضيعُهُ، وأبو نائِلَةَ، إنَّ الكريمَ لو دُعِيَ إلى طَعنَةٍ ليلًا لأَجابَ. قال محمَّدٌ: إنِّي إذا جاء فسَوف أَمُدُّ يَدي إلى رأسِهِ، فإذا اسْتمكَنتُ منه فَدُونَكُم. قال: فلمَّا نزل نزل وهو مُتوَشِّحٌ، فقالوا: نَجِدُ منك ريحَ الطِّيبِ. قال: نعم تَحْتِي فُلانةُ هي أَعطرُ نِساءِ العربِ. قال: فتأذنُ لي أن أَشُمَّ منه، قال: نَعم فَشُمَّ. فتناوَل فَشَمَّ، ثمَّ قال: أَتأذنُ لي أن أَعودَ، قال: فاسْتمكَنَ مِن رأسِهِ، ثمَّ قال: دُونَكُم. قال: فقَتلوهُ". (....ثمَّ أَتَوْا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فأَخبَروهُ).
لمَّا فَرَغَ خالدُ بن الوَليد مِن الأنبارِ واسْتَحكَمت له اسْتخلَف على الأنبارِ الزِّبْرِقانَ بن بدرٍ، وقصَد عَيْنَ التَّمْرِ، وبها يَومئذٍ مِهرانُ بن بَهْرامَ جُوبِينَ في جَمْعٍ عظيمٍ مِن العَجَمِ، وعَقَّةُ بن أبي عَقَّةَ في جَمْعٍ عظيمٍ مِن العَرَبِ مِن النَّمِرِ وتَغْلِبَ وإيادٍ ومَن لاقاهُم فلمَّا سمِعوا بخالدٍ قال عَقَّةُ لمِهرانَ: إنَّ العربَ أعلمُ بقِتالِ العربِ، فدَعْنا وخالدً.، قال: صدقتَ، لَعَمْري لأنتم أعلمُ بقِتالِ العربِ، وإنَّكم لَمِثْلِنا في قِتالِ العَجَمِ -فخدَعهُ واتَّقى به- وقال: دُونَكُمُوهُم، وإن احْتجتُم إلينا أَعنَّاكُم. فقالت الأعاجِمُ له: ما حمَلَك على هذا؟ فقال: إن كانت له فهي لكم، وإن كانت الأُخرى لم تَبلُغوا منهم حتَّى تَهِنُوا، فنُقاتِلهم وقد ضَعُفوا. فلَزِمَ مِهرانُ العَيْنَ، ونزَل عَقَّةُ لخالدٍ على الطَّريقِ، فقَدِمَ عليه خالدٌ وهو في تَعبِئَةِ جُنْدِهِ، فعَبَّى خالدٌ جُنْدَهُ وقال لِمُجَنِّبَتَيْهِ: اكْفونا ما عنده، فإنِّي حاملٌ. ووَكَّلَ بِنَفْسِه حَوامِيَ، ثمَّ حمَل وعَقَّةُ يُقيمُ صُفوفَهُ، فاحْتضَنَهُ فأَخذَهُ أسيرًا، وانهزَم صَفُّهُ مِن غيرِ قِتالٍ، فأكثروا فيهم الأَسْرَ، واتَّبَعَهُم المسلمون، ولمَّا جاء الخبرُ مِهرانَ هرَب في جُنْدِه، وترَكوا الحِصْنَ، ولمَّا انتهت فُلَّالُ عَقَّةَ مِن العَربِ والعَجَمِ إلى الحِصْنِ اقتحَموه واعتَصموا به، وأقبَل خالدٌ في النَّاس حتَّى ينزِلَ على الحِصْنِ ومعه عَقَّةُ أَسيرٌ، وعَمرُو بن الصَّعِقِ، وهُم يَرجون أن يكونَ خالدٌ كَمَنْ كان يُغِيرُ مِن العربِ، فلمَّا رَأوه يُحاوِلهم سألوه الأمانَ، فأَبَى إلَّا على حُكمِه، وأَمَر خالدٌ بِعَقَّةَ وكان خَفيرَ القَومِ فضُرِبت عُنقُه لِيُوئسَ الأُسَراء مِن الحياةِ، ولمَّا رآه الأُسَراءُ مَطروحًا على الجِسْرِ يَئسوا مِن الحياةِ، ثمَّ دَعا بعَمرِو بن الصَّعِقِ فضرَب عُنقَه، وضرب أعناقَ أهلِ الحِصْن أجمعين، وسَبَى كلَّ مَن حَوى حِصْنُهم، وغَنِمَ ما فيه، ووجد في بِيعَتِهم أربعين غُلامًا يَتَعلَّمون الإنجيلَ، عليهم بابٌ مُغلقٌ، فكَسرَهُ عنهم، وقال: ما أنتم؟ قالوا: رَهْنٌ، فقَسَمَهم في أهلِ البلاءِ، منهم نُصَيرٌ أبو موسى بن نُصيرٍ، وسِيرينُ أبو محمَّدِ بن سِيرينَ.
كان المُعتَدُّ بالله أبو بكر هِشامُ بنُ مُحمَّدِ بنِ عبدِ المَلِك بن عبد الرحمن النَّاصر الأمويُّ أميرَ قُرطُبةَ، لكنَّه لم يَقُمْ بها إلا يسيرًا حتى قامت عليه طائفةٌ مِن الجُندِ فخُلِعَ، وجَرَت أمورٌ مِن جُملتِها إخراجُ المُعتَدِّ بالله مِن قَصرِه هو وحشَمُه والنِّساءُ حاسراتٍ عن أوجُهِهنَّ حافيةً أقدامُهنَّ إلى أن أُدخِلوا الجامِعَ الأعظَمَ على هيئةِ السَّبايا، فأقاموا هنالك أيامًا يُتعَطَّفُ عليهم بالطَّعامِ والشَّرابِ إلى أن أُخرِجوا عن قُرطُبةَ، ولَحِقَ هِشامٌ ومَن معه بالثُّغورِ بعد اعتقاله بقُرطُبةَ، فلم يزَلْ يجولُ في الثغور إلى أن لَحِقَ بابن هود المتغَلِّب على مدينة لاردة وسرقسطة وأفراغة وطرطوشة وما والى تلك الجهاتِ، فأقام عنده هشامٌ إلى أن مات في سنة 427 ولا عَقِبَ له، فهِشامٌ هذا آخِرُ مُلوكِ بني أميَّة بالأندلُسِ، وبخَلْعِه انقطَعَت الدَّعوةُ لبني أميَّةَ وذِكرُهم على المنابِرِ بجَميعِ أقطارِ الأندلس، ولَمَّا انقَطَعَت دعوةُ بني أمية استولى على تدبيرِ مُلكِ قُرطُبةَ أبو الحزم جهورُ بنُ مُحمَّدِ بنِ جهور وهو قديمُ الرِّياسةِ شَريفُ البيتِ، كان آباؤه وزراءَ الدَّولةِ الحَكَميَّة والعامريَّة، فلمَّا خلا له الجوُّ وأصفَرَ الفِناءُ وأقفَرَ النادي من الرُّؤساءِ وأمكَنَتْه الفرصةُ؛ وثَبَ عليها فتولى أمْرَها واضطلَعَ بحِمايتِها، ولم ينتَقِلْ إلى رتبةِ الإمارةِ ظاهرًا بل دَبَّرَها تدبيرًا لم يُسبَقْ إليه؛ وذلك أنَّه جعَلَ نَفسَه مُمسِكًا للمَوضِعِ إلى أن يجيءَ مَن يتَّفِقُ النَّاسُ على إمارتِه فيُسَلِّم إليه ذلك، ورتَّبَ البوَّابينَ والحَشَم على تلك القُصورِ على ما كانت عليه أيامَ الدَّولةِ، ولم يتحَوَّلْ عن دارِه إليها، وجعَلَ ما يرتَفِعُ مِن الأموالِ السُّلطانيَّةِ بأيدي رجالٍ رَتَّبَهم لذلك، وهو المُشرِفُ عليهم، وصَيَّرَ أهلَ الأسواقِ جُندًا له وجَعَلَ أرزاقَهم رُؤوسَ أموالٍ تكونُ بأيديهم مُحصاةً عليهم، يأخذونَ رِبحَها، ورُؤوسُ الأموالِ باقيةٌ مَحفوظةٌ يُؤخَذونَ بها ويُراعَونَ في كُلِّ وَقتٍ كيف حِفظُهم لها، وفَرَّقَ السِّلاحَ عليهم واستمَرَّ أمْرُه على ذلك إلى أن مات في غُرَّةِ صَفَر سَنةَ 435، ثم ولِيَ ما كان يتولَّى مِن أمر قُرطُبةَ بَعدَه ابنُه أبو الوليدِ مُحَمَّدُ بنُ جهور فجرى في السياسةِ وحُسنِ التدبيرِ على سَنَنِ أبيه غيرَ مُخِلٍّ بشيءٍ مِن ذلك إلى أن مات أبو الوليدِ في شوَّال من سنة 443.
هو السُّلطانُ طغرل بن ألب أرسلان بن طغرل بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي، آخر الملوك السلجوقية. وكان طغرل من أحسَنِ الناس صورةً، فيه إقدامٌ وشجاعةٌ زائدة, وقد انهارت دولةُ بني سلجوق بوفاته, وكانت عوامِلُ ضَعفِ سلطان السلاجِقةِ قد بدأت بوفاة آخِرِ سلاطينِهم الأقوياء السُّلطان سنجر سنة 552, والذي جلس على سريرِ الملك قريبًا من ستين سنة. وقد كان من أعظمِ الملوك همَّةً، ولم يزَلْ في ازدياد إلى أن ظَهَرَت عليه الغُزُّ سنة 548, في وقعة مشهورةٍ, ولَمَّا كسروه فيها انحلَّ نظام ملكه، ومَلَك الغزُّ نيسابور، وقتلوا خلقًا كثيرًا، وأخذوا السلطانَ، وضربوا رقابَ عَدَدٍ مِن أمرائه، فنَزَل عن المُلْك، ودخل إلى خانقاه مَرْو، وعَمِلَت الغُزُّ ما لا تعمَلُه الكُفَّارُ من العظائِمِ، فملَّكوا مملوك سنجر أيَبَه، وجرت مصائبُ على خراسان، وزال بموتِه ملك بني سلجوق عن خراسان، واستولى خوارزم شاه على أكثَرِ مملكته. أخذت الدولةُ السلجوقيَّةُ في الضَّعفِ والتضعضعِ ثم الانهيار، وكان ذلك في عهد الخليفة الناصر لدين الله، فقد استقَرَّ رأي الخليفة على الاستعانة بعلاء الدين تكش خوارزم شاه ضد آخِرِ سلاطين السلاجقة طغرل بن ألب أرسلان، فأرسل إلى خوارزم شاه شاكيًا من السُّلطان طغرل، ويطلُبُ منه أن يساعدَه عليه، وأرفَقَ الرسالة بمنشور يقضي بإقطاعِ خوارزم شاه كلَّ البلاد التي كانت آنذاك تحت نفوذِ السلاجقة، فلبى خوارزم شاه رغبةَ الخليفة العباسي, وسار بعساكِرِه، وقَصَد طغرل، فلمَّا سَمِعَ السلطان طغرل بوصول خوارزم شاه كانت عساكِرُ طغرل متفَرِّقة، فلم يقِفْ ليجمعها، بل سار إليه فيمن معه، فالتقى العسكران بالقُربِ من الري، فحمَلَ طغرل بنفسِه في وسط عسكر خوارزم شاه، فأحاطوا به وألقَوه عن فَرَسِه وقتلوه، وقطعوا رأسَه في الرابع والعشرين من شهر ربيع الأول، ثم حُمِلَ رأسه إلى خوارزم شاه، فسَيَّرَه من يومه إلى بغداد، فدخلوا به على رمحٍ، فنُصِبَ رأسه بباب النوبي عدَّة أيام، وسار خوارزم شاه إلى همذان، وملك تلك البلادَ جَميعَها. وبهذا زالت الدولةُ السلجوقية تمامًا.
هو أبو جعفرٍ محمَّدُ بنُ يزيدَ بنِ كثير بن غالب الطَّبَري، صاحبُ التَّفسيرِ الكبيرِ, والتاريخِ الشَّهيرِ، كان إمامًا في فنون كثيرةٍ، منها: التفسير والحديث، والفقه والتاريخ، وغير ذلك، وله مُصنَّفات مَليحة في فنونٍ عديدة تدلُّ على سَعةِ عِلمِه وغزارةِ فَضلِه، وكان من الأئمَّة المجتَهِدين، لم يقَلِّدْ أحدًا مِن المجتَهِدين. مولِدُه سنة 224 بآمل طبرستان. أكثَرَ مِن التَّرحالِ، ولقي نُبلاءَ الرِّجالِ، وكان من أفراد الدَّهرِ عِلمًا وذكاءً وكثرةَ تصانيفَ، قلَّ أن ترى العيونُ مِثلَه. قال الذهبي: "كان ثقةً صادِقًا حافِظًا، رأسًا في التفسير، إمامًا في الفقه والإجماعِ والاختلاف، علَّامةً في التاريخِ وأيَّامِ النَّاسِ، عارِفًا بالقراءات وباللُّغة، وغير ذلك" قال أبو بكرٍ الخطيبُ: "كان أحدَ أئمَّةِ العُلَماءِ، يُحكَمُ بقَولِه، ويُرجَعُ إلى رأيِه؛ لِمَعرفتِه وفَضلِه، وكان قد جمعَ مِن العلوم ما لم يشارِكْه فيه أحدٌ مِن أهل عصره، وكان حافِظًا لكتابِ الله، عارفًا بالقراءاتِ، بصيرًا بالمعاني، فقيهًا في أحكامِ القرآن، عالِمًا بالسُّنَن وطُرُقِها؛ صحيحِها وسَقيمِها، ناسِخِها ومَنسوخِها، عارفًا بأقاويلِ الصَّحابةِ والتابعين ومَن بعدَهم في الأحكامِ ومسائل الحلالِ والحرام، خبيرًا بأيَّامِ الناس وأخبارِهم، وله الكتابُ المشهور في تاريخِ الأُمَم والملوك، والكتابُ الذي في التفسيرِ لم يصنَّفْ مِثلُه، وله في أصولِ الفِقهِ وفُروعِه كتبٌ كثيرةٌ، وأخبارٌ مِن أقاويل الفقهاء، وتفرَّد بمسائل حُفِظَت عنه"، كان من العبادةِ والزَّهادةِ والوَرَع والقيامِ في الحَقِّ لا تأخذُه في ذلك لومةُ لائم، وكان حسَنَ الصَّوتِ بالقراءة مع المعرفةِ التَّامَّة بالقراءات على أحسَنِ الصِّفات، وكان من كبارِ الصَّالحينَ، يتعَفَّفُ عن قَبولِ أموال السلاطين والوزراء، وكان صاحِبَ هِمَّة عالية في الكتابةِ, قال الخطيب: "سمعتُ عليَّ بنَ عبيد الله اللُّغوي يحكي أنَّ محمَّدَ بنَ جرير مكث أربعينَ سَنةً يكتبُ في كلِّ يومٍ منها أربعينَ ورقةً". قال أبو محمد الفرغاني: " تمَّ مِن كتُبِ مُحمَّد بن جريرٍ كتابُ "التفسير" الذي لو ادَّعى عالمٌ أن يُصنِّفَ منه عشرةَ كُتُب، كلُّ كتابٍ منها يحتوي على عِلمٍ مُفَردٍ مُستقصًى، لفَعَلَ". وتمَّ مِن كُتُبِه كتاب "التاريخ" إلى عصرِه، وكتاب "تاريخ الرجال" من الصحابة والتابعين، وإلى شيوخه الذين لقِيَهم، وكتاب "لطيفُ القول في أحكام شرائع الإسلام" وهو مذهبه الذي اختاره وجَوَّده واحتَجَّ له، وهو ثلاثة وثمانون كتابًا، وكتاب "القراءات والتنزيل والعدد"، وكتاب "اختلاف علماء الأمصار"، وكتاب "الخفيف في أحكام شرائع الإسلام" وهو مختصر لطيف، وكتاب "التبصير" وهو رسالةٌ إلى أهل طبرستان، يشرحُ فيها ما تقَلَّده من أصول الدين، وابتدأ بتصنيف كتاب "تهذيب الآثار" وهو من عجائِبِ كُتُبِه، ابتداءً بما أسنده الصِّدِّيقُ ممَّا صَحَّ عنده سنَدُه، وتكلَّمَ على كلِّ حديثٍ منه بعِلَلِه وطُرُقِه، ثمَّ فِقهِه، واختلافِ العُلَماءِ وحُجَجِهم، وما فيه من المعاني والغريبِ، والردِّ على المُلحِدينَ، فتَمَّ منه مُسنَدُ العَشَرةِ وأهلِ البيت والموالي، وبعضُ "مسند ابن عبَّاس"، فمات قبل تمامِه".وهو أحدُ المحَدِّثين الذي اجتَمَعوا في مصرَ في أيام ابنِ طولون، وهم محمَّد بنُ إسحاقَ بنِ خُزيمة إمامُ الأئمَّة، ومحمد بن نصر المروزي، ومحمَّد بن هارون الروياني، ومحمد بن جريرٍ الطَّبري هذا. توفِّيَ ببغداد ودُفِنَ ليلًا بداره؛ لأنَّ العامَّة اجتمعت ومَنَعَت من دفنِه نهارًا، وادَّعوا عليه الرَّفضَ، ثمَّ ادَّعوا عليه الإلحادَ، وكان عليٌّ بن عيسى يقول: واللهِ لو سُئِل هؤلاء عن معنى الرَّفضِ والإلحادِ ما عَرَفوه، ولا فَهِموه"، وحُوشِيَ ذلك الإمامُ عن مثلِ هذه الأشياءِ، وأمَّا ما ذكره عن تعصُّبِ العامَّة، فليس الأمرُ كذلك، وإنَّما بعض الحنابلةِ تعصَّبوا عليه، ووقَعُوا فيه، فتَبِعَهم غيرُهم؛ ولذلك سبَبٌ، وهو أنَّ الطبريَّ جمع كتابًا ذكر فيه اختلافَ الفُقَهاءِ، لم يُصنَّفْ مِثلُه، ولم يَذكُرْ فيه أحمدَ بنَ حَنبَل، فقيل له في ذلك، فقال: لم يكُنْ فقيهًا، وإنَّما كان محدِّثًا، فاشتدَّ ذلك على الحنابلة، وكانوا لا يُحصَونَ كثرةً ببغداد، فشَغَّبوا عليه- رحمه الله رحمةً واسعة.
هو أبو منصورٍ محمَّدُ بنُ المعتضد بن طلحة بن المتوكل. أمُّه أمُّ ولدٍ اسمُها فتنة، لَمَّا قُتِلَ المقتَدِرُ أُحضِرَ هو ومحمَّد بن المكتفي، فسألوا ابنَ المكتفي أن يتولَّى، فقال: لا حاجة لي في ذلك، وعمِّي هذا أحَقُّ به، فكلم القاهِر فأجاب، فبويعَ ولُقِّبَ القاهِرَ بالله، فأوَّلُ ما فعَلَ أنْ صادَرَ آلَ المُقتَدِر وعَذَّبهم، وضربَ أمَّ المُقتَدِر حتى ماتت في العذابِ، على الرغمِ أنَّها كانت تُحسِنُ إليه عندما حُبِسَ في بيتها بعد فشَلِ محاولةِ عَزلِ المُقتَدِر عام 317 وتعيينِه خليفةً بدلًا منه. وفي سنة إحدى وعشرين شغَّبَ عليه الجُندُ، واتَّفَقَ مُؤنِسٌ وابن مقلة وآخرون على خَلعِه بابن المكتفي، فتحيَّلَ القاهِرُ عليهم إلى أن أمسَكَهم وذبَحَهم وطيَّنَ على ابنِ المُكتفي بين حائِطَينِ، وأما ابنُ مُقلةَ فاختفى، فأُحرِقَت دارُه، ونُهِبت دورُ المُخالِفينَ، ثم أطلَقَ أرزاقَ الجُندِ فسَكَنوا، واستقام الأمرُ للقاهر، وعَظُم في القلوب، أمَرَ بتحريم القيان والخَمر، وقبَضَ على المغنِّين، ونفى المخانيثَ، وكسَرَ آلات اللهو، وأمر ببيعِ المُغَنِّيات من الجواري على أنَّهن سواذج، وكان مع ذلك هو لا يصحو مِن السُّكرِ، ولا يَفتُرُ عن سَماع الغناء, أهوجَ، سفَّاكًا للدِّماء، قبيحَ السِّيرةِ، كثيرَ التلَوُّنِ والاستحالة، مُدمِنًا للخمر، وفي عام 322 قَتَل القاهِرُ إسحاقَ بنَ إسماعيل النوبختي الذي كان قد أشار بخلافةِ القاهر، ألقاه على رأسِه في بئرٍ وطُمَّت، قيل: إنَّ ذَنبَه أنَّه زايدَ القاهِرَ قبل الخلافةِ في جاريةٍ، واشتراها فحَقَدَ عليه. تحَرَّك الجند عليه؛ لأنَّ أمير الأمراء ابنَ مُقلةٍ كان يوحشُ الجندَ مِن القاهر، ويقول لهم: إنَّه بنى لكم المطاميرَ ليَحبِسَكم، فأجمعوا على الفَتكِ به، فدخلوا عليه بالسُّيوفِ، فهرب، فأدركوه وقَبَضوا عليه وبايعوا أبا العبَّاس محمد بن المُقتَدِر ولقَّبوه: الراضي بالله، كان سببُ خلعِ القاهر سوءَ سيرته، وسَفكَه الدماءَ، فامتنع من الخَلعِ، فسَمَلوا عينيه حتى سالَتا على خَدَّيه، وتعَرَّض لصُنوفٍ من العذاب حتى مات في هذه السَّنةِ.
بعدَ أن قامَ ألفونسو السادسُ –أدفونش- بالاستِيلاءِ على طُليطلة بدأَ بتَهديدِ إشبيلية، فأَرسلَ كِتابًا لصاحِبِها المُعتَمِد بن عبَّاد قال فيه: "مِن الإمبراطورِ ذي الملتين المَلِكِ أدفونش بن شانجة، إلى المُعتَمِد بالله، سَدَّدَ الله آراءَه، وبَصَّرَهُ مَقاصِدَ الرَّشادِ. قد أَبصرتَ تَزَلزُلَ أَقطارِ طُليطلة، وحِصارَها في سالفِ هذه السِّنين، فأَسلَمتُم إخوانَكم، وعَطَّلتُم بالدَّعَةِ زَمانَكم، والحَذِرُ مَن أَيقظَ بالَه قبلَ الوُقوعِ في الحِبالَة. ولولا عَهدٌ سَلَفَ بيننا نَحفظُ ذِمامَه نَهَضَ العَزمُ، ولكنَّ الإنذارَ يَقطَع الأعذارَ، ولا يَعجَل إلَّا مَن يَخاف الفَوْتَ فيما يَرومُه، وقد حَمَّلنَا الرِّسالةَ إليك البرهانس، وعندَه مِن التَّسديدِ الذي يَلقَى به أَمثالَك، والعَقلِ الذي يُدَبِّر به بِلادَك ورِجالَك، ما أَوجَبَ استِنابَتَه فيما يَدِقُّ ويَجِلُّ". فلمَّا قَدِمَ الرَّسولُ أَحضرَ المُعتَمِدُ الأكابرَ، وقُرئ الكِتابُ، بَكَى أبو عبدِ الله بنُ عبدِ البَرِّ وقال: قد أَبصرَنا ببَصائِرِنا أن مآلَ هذه الأَموالِ إلى هذا، وأن مُسالَمَةَ اللَّعينِ قُوَّةٌ بلاده لبلاده، فلو تَضافَرنا لم نُصبِح في التلافِ تحتَ ذُلِّ الخِلافِ، وما بَقِيَ إلا الرُّجوعُ إلى الله والجِهادُ. وأمَّا ابن زيدون وابن لبون فقالا: الرَّأيُ مُهادَنتُه ومُسالمَتُه. فجَنَحَ المُعتَمِدُ إلى الحَربِ، وإلى استِمدادِ مَلِكِ البَربرِ ابنِ تاشفين، فقال جَماعةٌ: نَخافُ عليك من استِمدادِه. فقال: رَعْيُ الجِمالِ خَيرٌ مِن رَعْيِ الخَنازيرِ". فرَدَّ على الأدفونش يَتهدَّدهُ و يَتَوعَّدهُ, ثم اتَّفقَ المُعتَمِدُ بن عبَّاد صاحِبُ أشبيلية والمُتوكِّلُ بن الأَفطَس صاحِبُ بطليموس وعبدُالله بن بلقين أَميرُ غِرناطة، على إرسالِ وَفْدٍ من القُضاةِ والأَعيانِ إلى يُوسفَ بن تاشفين يَدعونَهُ إلى الحُضورِ إلى الأندلسِ لِقِتالِ النَّصارَى ويَستَنصِرونَه على ألفونسو السادس، فلمَّا استَجابَ ابنُ تاشفين لِطَلَبِهم إرسال أَرسلَ رِسالةً إلى ألفونسو يَدعوهُ فيها إلى الإسلامِ أو الجِزيَةِ أو الحَربِ، فاختارَ الحَربَ.