لَمَّا توفِّيَ السري أميرُ مصرَ للمأمونِ، وليَ بعدَه ابنُه عُبيدالله، ولَّاه الجُندُ وبايعوه، ثم حدَّثَته نفسُه الخروجَ عن طاعة المأمونِ وجَمَع وحَشَد، فبلغ المأمونَ ذلك وطلب عبدَ الله بنَ طاهرٍ لقتالِه وقتالِ الخوارج بمصرَ، فسار إليه ابنُ طاهر فتهَّيأ عُبيد الله بن السري لحَربِه وعبَّأ جيوشَه وحفَرَ خندقًا عليه، ثم تقدَّم بعساكِرِه إلى خارج مصرَ والتقى مع عبد اللهِ بنِ طاهر وتقاتلا قتالًا شديدًا، وثبت كلٌّ من الفريقينِ ساعةً كبيرةً حتى كانت الهزيمةُ على عُبيد الله بن السري أميرِ مصر، وانهزم إلى جهةِ مِصرَ، وتَبِعَه عبد الله بن طاهر بعساكِرِه فحاصره عبدُ الله بن طاهر وضيَّقَ عليه حتى أباده وأشرف على الهلاكِ، فطلب عُبيد الله بن السري الأمانَ مِن عبد الله بن طاهر بشُروطِه، فأمَّنَه عبدُ الله بن طاهر بعد أمورٍ صَدَرت، فخرج إليه عُبيد الله بن السري بالأمانِ، وبذل إليه أموالًا كثيرةً، وأذعن له وسلَّمَ إليه الأمرَ.
كان صالحُ بنُ النضر الكناني من أهلِ بُست، قد ظهر بتلك الناحية يقاتِلُ الخوارج، وسمَّى أصحابَه المتطوِّعةَ، حتى قيل له: صالح المطوِّعي وصَحِبَه جماعةٌ؛ منهم: درهم بن الحسن، ويعقوب بن الليث, وغَلَبوا على سجستان، ثم أخرَجَهم عنها طاهرُ بن عبد الله أميرُ خراسان. وهلك صالح إثر ذلك، وقام بأمر المتطوِّعةِ دِرهمُ بن الحسن، فكَثُرَ أتباعه. وكان يعقوبُ بن الليث شهمًا، وكان دِرهَم مُضعفًا، واحتال صاحِبُ خراسان حتى ظَفِرَ بدرهم وحَبَسه ببغداد، فاجتمعت المتطوِّعةُ على يعقوب بن الليث، وملَّكوه أمْرَهم؛ لِمَا رأَوا من تدبيرِه، وحُسنِ سياستِه، وقيامِه بأمورهم، وقام بقتال الخوارجِ الشراةِ، وأتيح له الظَّفَرُ عليهم، وأثخن فيهم وخرَّبَ قُراهم، وكانت له شريةٌ في أصحابه لم تكن لأحدٍ قَبله، فحَسُنَت طاعتُهم له وعَظُمَ أمرُه، ومَلَك سجستانَ مُظهِرًا طاعةَ الخليفةِ وكاتِبِه، وقلَّدَه حرب الشراة، فأحسن الغَناءَ فيه وتجاوَزَه إلى سائر أبوابِ الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر, فاستبَدَّ يعقوبُ بالأمر، وضَبَط البلاد، وقَوِيَت شوكتُه وقصَدتْه العساكِرُ من كلِّ ناحية.
أقام أحمد بن طولون مسجدًا ضخمًا أنفق في بنائه 120 ألف دينار، وقد اهتمَّ بالأمور الهندسية في بنائه، ويُعَدُّ مسجد ابن طولون المسجِدَ الوحيدَ بمصرَ الذي غلَبَ عليه طرازُ سامِرَّاء؛ حيث المئذنةُ الملوية المُدرَّجة. وقام السلطان لاجين بإدخالِ بعض الإصلاحات فيه، وعيَّنَ لذلك مجموعةً من الصناع، كما أمر بصناعةِ ساعة فيه، فجُعِلَت قبةً فيها طيقانٌ صغيرة على عددِ ساعاتِ الليل والنهار وفتحة، فإذا مَرَّت ساعة انغلقت الطاقةُ التي هي لتلك الساعة وهكذا، ثم تعود كلَّ مرة ثانية. وفي عهد الأيوبيين أصبح جامع ابن طولون جامعةً تُدَرَّسُ فيه المذاهِبُ الفقهيَّة الأربعة، وكذلك الحديثُ والطِّبُّ، إلى جانب تعليم الأيتام, وكان أحمد بن طولون قد بنى قصره عند سَفحِ المقَطَّم، وأنشأ الميدانَ أمامه، وبعد أن انتهى من تأسيس مدينة القطائع، شَيَّد جامِعَه على جبل يشكر, وتمَّ بناؤه سنة 265ه، وهذا التاريخُ مُدَوَّن على لوحٍ رُخاميٍّ مُثبت على أحدِ أكتاف رُواق القبلة, والجامِعُ وإن كان ثالِثَ الجوامِعِ التي أُنشِئَت بمصر، يعَدُّ أقدَمَ جامِعٍ احتفظَ بتخطيطِه وكثيرٍ مِن تفاصيلِه المعماريَّة الأصليَّة.
هو شيخُ الفَلسفةِ الحَكيمُ أبو نصر محمَّدُ بنُ محمد بن طرخان بن أوزلغ التركي الفارابي المنطقيُّ، من كبار الفلاسفة، قال الذهبي: "أحدُ الأذكياء. له تصانيفُ مشهورة, من ابتغى الهُدى منها ضَلَّ وحار, منها تخرَّجَ ابنُ سينا, نسأل الله التوفيق". تعلَّم اليونانية, ولقِيَ متَّى بن يونس فأخذ عنه, وسار إلى حرَّان فلزم بها يوحنَّا بن جيلان النصراني فتعلَّمَ عليه المنطِقَ, وقد أحكم أبو نصرٍ العربيَّةَ بالعراقِ، رحل إلى دمشق ثم حلب، يُعتبَرُ مساويًا لأرسطو في الفلسفة، ويعتبِرُ البعض أنَّ الفارابي هو مترجِمٌ لِمَا كان عليه أرسطو، كما أنَّ له مُشاركةً في الطبِّ والموسيقى، وهو من اخترع آلةَ القانون الموسيقيَّة المعروفة اليوم، وكان يحِبُّ الوَحدةَ, وكان يتزهَّدُ زُهدَ الفلاسفة، ولا يحتفِلُ بملبسٍ ولا منزلٍ, أجرى عليه ابنُ حمدان في كلِّ يومٍ أربعة دراهم. من تصانيفِه: آراءُ أهل المدينة الفاضلة، وجوامع السياسة، والمدخل إلى صناعة الموسيقى، وغير ذلك من الكتُب، توفِّيَ في طريقه إلى عسقلان؛ حيث قتله اللصوصُ، فنُقِلَ إلى دمشق وصلَّى عليه سيفُ الدولة الحمداني، ودفن بظاهر دمشق عن عُمرٍ يناهز الثمانينَ.
هو نقيبُ العَلَويِّينَ، أبو الحسَنِ محمَّدُ بنُ الحُسَينِ بنِ موسى بنِ مُحمَّد بنِ إبراهيم بن موسى الكاظمِ الحُسيني المُوسَوي البغدادي الشِّيعي، الشاعِرُ المُفلِق، الذي يقالُ: إنَّه أشعَرُ قُرَيشٍ، قال ابنُ خَلِّكانَ: "هو أشعَرُ الطالبيِّينَ مَن مضى منهم ومَن غَبَر، على كثرةِ شُعَرائِهم المُفلِقينَ، ولو قُلتُ: إنَّه أشعَرُ قُرَيشٍ لم أُبعِدْ عن الصِّدقِ". وُلِدَ ببغداد سنة 359ه، وتعلَّمَ فيها وبرَعَ في اللُّغةِ والأدَبِ والفِقهِ، وابتدأ بنَظمِ الشِّعرِ وله عشرُ سنين، وكان مُفرِطَ الذَّكاءِ، ولَّاه بهاءُ الدَّولة البُويهيُّ نقابةَ الطَّالبيِّينَ وسَمَّاه الشَّريفَ الرَّضيَّ، كان أبوه يتولَّى نقابةَ نُقَباءِ الطَّالبيِّينَ، ويحكُمُ فيهم أجمعين، والنَّظَر في المظالم، ثمَّ رُدَّت هذه الأعمالُ كُلُّها إلى ولَدِه الرَّضِيِّ في سنة 388 وأبوه حيٌّ. له أشعارٌ وتصانيفُ، منها: معاني القرآن، ومجاز القرآن، وهو الذي وضَعَ كتابَ نَهجِ البَلاغةِ الذي فيه الخُطَبُ التي تُنسَبُ لعليِّ بن أبي طالبٍ رَضيَ الله عنه، له ديوانٌ في أربَعِ مُجَلَّدات, توفِّيَ ببغداد عن 47 عامًا في الخامِسِ مِن مُحَرَّم، وكانت جنازتُه مشهودةً، ودُفِنَ بداره بمسجِدِ الأنباريِّ.
بَعثَ ناصرُ الدولةِ حُسينُ بن حمدان الفقيه أبا جَعفرٍ محمدَ بن أحمدَ بن البُخاريِّ رَسولًا منه إلى السُّلطانِ ألب أرسلان، مَلِكِ العِراقِ، يَسألهُ أن يُسَيِّرَ إليه العَساكرَ لِيُقيمَ الدَّعوةَ العبَّاسيَّةَ بدِيارِ مصر، وتكون مصر له. فتَجَهَّزَ ألب أرسلان مِن خُراسان في عِساكرَ عَظيمةٍ، وبَعثَ إلى محمودِ بن ثمال بن صالحِ بن مرداس، صاحبِ حَلَب، أن يَقطعَ دَعوةَ المُستَنصِر ويُقيمَ الدَّعوةَ العبَّاسيَّة، فقُطِعَت دَعوةُ المُستَنصِر من حَلَب ولم تَعُد بعدَ ذلك. وانتهى ألب أرسلان إلى حَلَب في جُمادى الأُولى سَنةَ 463هـ وحاصَرَها شَهرًا، فخَرجَ إليه صاحبُها محمودُ بن ثمال بن صالحِ بن مرداس، فأَكرَمه وأَقَرَّهُ على وِلايَتِه. وأَخذَ يُريدُ المَسيرَ إلى دِمشقَ لِيَمُرَّ منها إلى مصر، وإذا بالخَبَرِ قد طَرَقَهُ أنَّ مُتَمَلِّكَ الرُّومِ قد قَطعَ بِلادَ أرمينية يُريدُ أَخْذَ خُراسان، فشَغَلهُ ذلك عن الشامِ ومصر ورَجعَ إلى بِلادِه؛ فواقَعَ جَمائِعَ الرُّومِ على خلاط وهَزمَهُم. وكان قد تَركَ طائفةً من عَسكرِه الأتراكِ ببلادِ الشامِ فامتَدَّت أَيدِيهم إليها ومَلَكَتْهَا كُلَّها، فخَرجَت عن أَيدِي الفاطِميِّين ولم تَعُد إليهم.
لمَّا جُرِحَ السُّلطانُ ألب أرسلان أَوصَى لابنِه ملكشاه، وكان معه، وأَمرَ أن يَحلِف له العَسكرُ، فحَلَفوا جَميعُهم، وكان المُتَوَلِّي للأَمرِ في ذلك نِظامُ المُلْكِ، وأَرسلَ ملكشاه إلى بغداد يَطلُب الخُطبةَ له، فخُطِبَ له على مَنابِرِها، وأَوصَى ألب أرسلان ابنَه ملكشاه أيضًا أن يُعطِي أَخاهُ قاروت بك بن داود أَعمالَ فارس وكرمان، وشَيئًا عَيَّنَهُ من المالِ، وأن يُزَوَّجَ بِزَوجَتِه، وكان قاروت بك بكرمان، وأَوصَى أن يُعطَى ابنَه إياز بن ألب أرسلان ما كان لأَبيهِ داودَ، وهو خمسمائة ألف دِينارٍ، وقال: كلُّ مَن لم يَرضَ بما أَوصَيتُ له فقاتِلُوهُ، واستَعينوا بما جَعلتُه له على حَربِه، وعاد ملكشاه من بِلادِ ما وراءَ النَّهرِ، فعَبرَ العَسكرُ الذي قَطعَ النَّهرَ في نَيِّفٍ وعشرين يومًا في ثلاثة أيامٍ، وقام بوِزارَةِ ملكشاه نِظامُ المُلْكِ، وزاد الأَجنادَ في مَعايِشِهم سبعَ مائةِ ألفِ دِينارٍ، وعادوا إلى خُراسان، وقَصَدوا نَيسابور، وراسَلَ ملكشاه جَماعةَ المُلوكِ أَصحابَ الأَطرافِ يَدعوهُم إلى الخُطبَةِ له والانقِيادِ إليه، وأَقامَ إياز أرسلان بِبَلخ وسار السُّلطانُ ملكشاه في عَساكرِه من نَيسابور إلى الرَّيِّ.
لما انتَزعَ المَلِكُ المُعَظَّمُ أتسز بن أوف الخوارزمي دِمشقَ من أَيدِي العُبيديِّين سَنةَ 468هـ، شَرعَ في بِناءِ هذا الحِصْنِ المَنيعِ بدِمشقَ وكان في مكانِ القَلعةِ -أَحَدِ أَبوابِ البَلدِ- بابٌ يُعرفُ ببابِ الحَديدِ، وهو البابُ المُقابلُ لدارِ رضوان، وقد ارتَفعَ بعضُ أَبرجتِها فلم يتَكامل حتى انتَزعَ مُلْكَ البَلدِ منه المَلِكُ المُظفَّرُ تاجُ المُلوكِ تتش بن ألب أرسلان السلجوقي، فأَكمَلَها وأَحسنَ عِمارَتَها، وابتَنَى بها دارَ رضوان للمُلْكِ، واستَمرَّت على ذلك البِناءِ في أيامِ نورِ الدِّين محمودِ بن زِنكي، فلمَّا كان المَلِكُ صَلاحُ الدِّينِ بن يُوسفَ بن أيوبَ الأيوبيُّ جَدَّدَ فيها شَيئًا، وابتَنَى له نائِبُه ابنُ مُقدَّمٍ فيها دارًا هائِلةً لمملكة للمَملكةِ، ثم إنَّ المَلِكَ العادلَ أخا صلاحِ الدِّينِ، اقتَسمَ هو وأولادُه أَبرجتَها، فبَنَى كلُّ مَلِكٍ منهم بُرْجًا منها جَدَّدَهُ وعَلَّاهُ وأَطَّدَهُ وأَكَّدَهُ، ثم جَدَّدَ المَلِكُ الظَّاهِرُ بِيبَرسُ منها البُرجَ الغربيَّ القِبليَّ، ثم ابتَنَى بعده في دَولةِ المَلِكِ الأَشرفِ خليلِ بن المنصورِ، نائِبُه الشُّجاعيُّ، الطارمةَ الشماليَّةَ والقُبَّةَ الزَّرقاءَ وما حولَها.
دَعا البابا أوربان الثاني إلى حَربٍ صَليبيَّةٍ ضِدَّ المسلمين واستَجابَ أُمراءُ أوربا لهذا النِّداءِ فأَوقَفوا الحُروبَ بينهم وأَعَدُّوا حَملَةً صَليبيَّةً مُنَظَّمَةً اشتَركَ فيها الدوق جودفري بويون أَميرُ مُقاطَعَةِ اللورين السُّفلَى، وأَخوهُ بودوان، وريمون أَميرُ تولوز، وبروفانس وبوهمند النورماندي أَميرُ تارانت، وابنُ أُختِه تانكرد، وروبير أَميرُ نورماندي وهو ابنُ وليم الفاتح، وصِهرُه اتيان أَميرُ مُقاطَعةِ بلوا وشارتر، وبَدَأوا بالمَسيرِ من مَدينةِ كولونيا إلى بِلادِ البَلقان. ونُفوسُهم تَسمُوا للوُصولِ للشامِ ثم بَيتِ المَقدِس مَسجِدِ أَنبِيائِهِم ومَطلَعِ دِينِهم، فتَتابَعوا إليه نِهايةَ القَرنِ الخامس الهِجريِّ، وتَواثَبوا على أَمصارِ الشامِ وحُصونِه وسَواحِلِه. ويُقال: "إنَّ المُستَنصِرَ العُبيديَّ هو الذي دَعاهُم لذلك وحَرَّضَهم عليه لِمَا رَجَى فيه مِن اشتِغالِ مُلوكِ السَّلجوقيَّةِ بأَمرِهِم، وإقامَتِهم سَدًّا بينه وبينهم عندما سَمَوا إلى مُلْكِ الشامِ ومصر" وقد ذَكَرَ السيوطيُّ في تاريخِ الخُلفاءِ: "أن صاحِبَ مصر لمَّا رأى قُوَّةَ السَّلجوقيَّةِ واستِيلائِهِم على الشامِ كاتَبَ الفِرنجَ يَدعوهُم إلى المَجيءِ إلى الشامِ لِيَملكُوها، وكَثُرَ النَّفيرُ على الفِرنجِ مِن كُلِّ جِهَةٍ"
سار السُّلطانُ سنجرُ بنُ ملكشاه إلى خوارِزمَ مُحاربًا لخوارزم شاه أتسز بن محمد. وسبَبُ ذلك أنَّ سنجر بلَغَه أنَّ أتسز يحَدِّثُ نَفسَه بالامتِناعِ عليه وتَرْكِ الخِدمةِ له، وأنَّ هذا الأمر قد ظهرَ على كثيرٍ مِن أصحابِه وأُمَرائِه، فأوجَبَ ذلك قَصْدَه وأخْذَ خوارزمَ منه، فجمَعَ سنجر عساكرَه وتوجَّه نَحوَه، فلمَّا قَرُبَ مِن خوارزم خرج خوارِزم شاه إليه في عساكِرِه، فلقيه مُقابِلًا وعَبَّأَ كلُّ واحدٍ منهما عساكِرَه وأصحابَه، فاقتَتَلوا، فلم يكُنْ للخوارزميَّةِ قُوَّةٌ بالسُّلطانِ، فلم يَثبُتوا، ووَلَّوا مُنهزمينَ، وقُتِلَ منهم خلقٌ كثيرٌ، ومَلَكَ سنجرُ خوارزمَ وأقطَعَها غياثَ الدين سليمان شاه ولدَ أخيه محمَّد، ورتَّبَ له وزيرًا وأتابكًا وحاجِبًا، وقرَّرَ قواعِدَه، وعادَ إلى مَرْوٍ في جمادى الآخرة مِن هذه السنة، فلمَّا فارق سنجر خوارزمَ عائدًا انتهَزَ خوارزم شاه الفُرصةَ فرجَعَ إليها، وكان أهلُها يَكرَهونَ العَسكَرَ السنجريَّ ويُؤثِرونَ عودةَ خوارزم شاه، فلمَّا عاد أعانوه على مِلْكِ البلدِ، ففارقهم سليمان شاه ومَن معه ورجَعَ إلى عَمِّه السُّلطانِ سنجر.
اجتَمعَ جَمْعٌ كَثيرٌ من الإسماعيليةِ من قهستان، بلغت عُدَّتُهم سَبعةَ آلافِ رَجلٍ ما بين فارسٍ وراجلٍ، وساروا يُريدون خُراسانَ لاشتِغالِ عَساكرِها بالأَتراكِ الغُزِّ، وقَصَدوا أَعمالَ خواف وما يُجاوِرُها، فلَقِيَهم الأَميرُ فرخشاه بن محمود الكاسانيُّ في جَماعةٍ من حَشَمِه وأَصحابِه، فعَلِمَ أنه لا طاقةَ له بهم، فتَرَكهُم وسار عنهم، وأَرسلَ إلى الأَميرِ محمدِ بن أنر، وهو مِن أَكابرِ أُمراءِ خُراسان وأَشْجَعِهِم، يُعرِّفُه الحالَ، وطلب منه المَسيرَ إليهم بعَسكَرِه ومَن قَدَرَ عليه من الأُمراءِ ليَجتَمِعوا عليه ويُقاتِلوهُم، فسار محمدُ بن أنر في جَماعةٍ من الأُمراءِ وكَثيرٍ من العَسكرِ، واجتَمَعوا هم وفرخشاه، وواقَعُوا الإسماعليةَ وقاتَلوهُم، وطالَت الحَربُ بينهم، ثم نَصَرَ الله المسلمين وانهَزَم الإسماعيليةُ، وكَثُرَ القَتلُ فيهم، وأَخَذَهُم بالسَّيفِ مِن كلِّ مَكانٍ، وهَلَكَ أَعيانُهم وسادَتُهم. بَعضُهم قُتِلَ، وبَعضُهم أُسِرَ، ولم يَسلَم منهم إلا القَليلُ الشَّريدُ، وخَلَت قِلاعُهم وحُصونُهم مِن حَامٍ ومانِعٍ، فلَولا اشتِغالُ العَساكرِ بالغُزِّ الأَتراكِ (التُّركمان) لكانوا مَلَكوها بلا تَعَبٍ ولا مَشَقَّةٍ، وأَراحُوا المسلمين منهم، ولكن لله أَمْرٌ هو بالِغُه.
استقرَّت القاعدة بين مظفر الدين بن زين الدين، صاحب إربل وبين جلال الدين بن خوارزم شاه وبين الملك المعظَّم، صاحب دمشق، وبين صاحِبِ آمد، وبين ناصر الدين، صاحب ماردين، ليقصِدوا البلادَ التي بيد الأشرف، ويتغلَّبوا عليها، ويكون لكُلٍّ منهم نصيبٌ، فبادر مظفر الدين إلى الموصِل, وأمَّا جلال الدين فإنَّه قد شُغِلَ بعصيان نائبه ببلاد كرمان، فانفسخ جميعُ ما كانوا عزموا عليه إلَّا أن مظفر الدين سار من إربل ونزل على جانب الزابن ولم يمكِنْه العبور إلى بلد الموصل, وكان بدرُ الدين قد أرسل من الموصل إلى الأشرف، وهو بالرقَّة، يستنجده ويطلُبُ منه أن يحضُرَ بنفسه الموصِلَ ليدفع مظفر الدين، فسار منها إلى حرَّان، ومن حران إلى دنيسر، فخربَ بلد ماردين وأهله تخريبًا ونهبًا, وأما المعظَّم، صاحب دمشق، فإنه قصد بلادَ حِمص وحماة، وأرسل إلى أخيه الأشرف ليرحلَ عن ماردين وحلب، على أن يعودَ كُلٌّ منهم إلى بلده. فرحل الأشرفُ عن ماردين، ورحل المعظَّم عن حمص وحماة، ورحل مظفَّر الدين عن الموصل.
قام أبو زكريا الحفصي على رأس حملةٍ ضَخمةٍ قَدَّرَها بعض المؤرخين بستين ألف مقاتل، فدخل تلمسان، وأجبر واليها يغمراسن على الدخول في طاعتِه، والخُطبةِ باسمه، كما أدخل في طاعتِه القبائِلَ العربية والبربريَّة في المناطق المحيطة. وكان من أثر ازدياد قُوَّته واتساع نفوذه أن هادنه بنو مرين في المغرب الأقصى، وأقيمت الخطبةُ باسمه في عددٍ كبيرٍ مِن بلاد الأندلس التي لم تقع في براثن الأسبانِ، واحتفظت بحرِّيَّتها واستقلالها مثل: بلنسية، وإشبيلية، وشريش، وغرناطة, وبسبب هذه البيعات التي انثالت على أبي زكريا من سائر الجهاتِ وحَدَّثَته نفسه بالتوثُّب على كرسي خلافةِ الموحِّدين بمراكش وغَصَّ بنو عبد المؤمن بمكانه وعَظُم عليهم استبدادُه ثم طَمَعُه في كرسيِّهم، وقرارة عزهم مع أنه ما كان إلا جدولًا مِن بَحرِهم وفرعًا من دوحتِهم، والأمر كله لله. وأصبحت الدولة الحفصيَّة التي قام عليها مرهوبةَ الجانب، تسعى الدول الأوروبية إلى كسب وُدِّها، خاصةً التي تربطها بها مصالحُ اقتصاديَّةٌ وسياسية، فعقد مع البندقية، وبيزة، وجنوة معاهدات صداقة وسلامة. وقد ظلَّ أبو زكريا متوفرًا على شؤون الدولة حتى توفي سنة 647.
أغار التتارُ على حلَب فلَقِيَهم صاحِبُها حسامُ الدين العزيزي، والمنصورُ صاحِبُ حماة، والأشرَفُ صاحِبُ حمص، وكانت الوَقعةُ شماليَّ حِمصَ قَريبًا من قَبرِ خالد بن الوليدِ، والتتار في ستة آلاف، والمسلمون في ألف وأربعمائة، فهزمهم الله عز وجل، وقتل المسلمونَ أكثَرَهم، فرجع التتار إلى حلب فحصروها أربعةَ أشهُر وضيَّقوا عليها الأقوات، وقَتَلوا من الغرباء خلقًا صبرًا، والجيوش الذين كسروهم على حمص مُقيمونَ لم يرجعوا إلى حلب بل ساقوا إلى مِصرَ، فتلقاهم الملك الظاهِرُ في أبَّهة السلطنة وأحسنَ إليهم، وبَقِيَت حلب محاصرة لا ناصِرَ لها في هذه المدة، ولكن سلم الله سبحانه وتعالى بتجهيز الظاهرِ بيبرس جيشًا إلى حلب ليطرُدَ التتار عنها، فلما وصل الجيشُ إلى غزة كتب الفرنجُ إلى التتار ينذِرونَهم، فرحلوا عنها مسرعينَ واستولى على حلب جماعةٌ من أهلها، فصادروا ونهبوا وبلغوا أغراضَهم، وقَدِمَ إليهم الجيش الظاهري فأزال ذلك كُلَّه، وصادروا أهلَها بألف ألف وستمائة ألف، ثم قَدِمَ الأمير شمس الدين آقوش التركي من جهة الظاهرِ فتسلم البلد فقطع ووصَل، وحكَمَ وعَدَل.
كان صاحِبُ مكَّة الأمير حميضة بن أبي نمي الحسني، قد قصد مَلِكَ التتر خربندا لينصُرَه على أهل مكة فساعده الروافِضُ هناك وجَهَّزوا معه جيشًا كثيفًا من خراسان، فلما مات خربندا بطل ذلك بالكلية، وعاد خميصة خائبًا خاسئًا. وفي صحبته أميرٌ من كبار الروافض من التتر يقال له الدلقندي، وقد جمع لخميصة أموالًا كثيرة ليقيم بها الرَّفضَ في بلاد الحجاز، فوقع بهما الأميرُ محمد بن عيسى أخو مهنا، وقد كان في بلاد التتر أيضًا ومعه جماعة من العرب، فقهرهما ومن كان معهما، ونهب ما كان معهما من الأموال وحضرت الرجالُ، وبلغت أخبارُ ذلك إلى الدولة الإسلامية فرَضِيَ عنه الملك الناصِرُ وأهل دولته، وغسل ذلك ذَنبَه عنده، فاستدعى به السلطانُ إلى حضرته فحضر سامعًا مطيعًا، فأكرمه نائِبُ الشام، فلما وصل إلى السلطانِ أكرمه أيضًا، ثم إنه استفتى الشيخَ تقي الدين بن تيميَّةَ، وكذلك أرسل إليه السلطانُ يسأله عن الأموالِ التي أخذت من الدلقندي، فأفتاهم أنها تُصرَفُ في المصالح التي تقَوِّي المسلمين؛ لأنها كانت مُعَدَّة لعنادِ الحَقِّ ونُصرةِ أهل البدعة على السُّنَّة.