كان أَوَّلَهم محمدُ خوارزم شاه بن أنوشتكين، وكان أنوش تكين مَملوكًا لِرَجلٍ من غرشتان ولذلك قِيلَ له: أنوش تكين غرشه، فاشتَراهُ منه أَميرٌ من السَّلجوقيَّة اسمُه بلكابل، وكان أنوشتكين حَسَنَ الطَّريقةِ فكَبُرَ وعَلَا مَحِلُّهُ، وصار أنوشتكين مُقَدَّمًا مَرجُوعًا إليه، ووُلِدَ له محمد خوارزم شاه المذكور، فرَبَّاهُ والِدُه أنوشتكين وأَحسَنَ تَأدِيبَه، فانتَشَأ محمدٌ عارِفًا أَدِيبًا، وتَقدَّم بالعِنايَةِ الأَزَلِيَّةِ، واشتُهِرَ بالكِفايَةِ وحُسْنِ التَّدبيرِ، فلمَّا قَدِمَ الأَميرُ داذا الحبشيُّ إلى خُراسان وهو مِن أُمراءِ بركيارق؛ كان قد أَرسلَهُ بركيارق لِتَهدِئَةِ أَمرِ خُراسان؛ بسَببِ فِتنَةٍ كانت قد وَقعَت فيها من الأَتراكِ، قُتِلَ فيها النائِبُ علي خوارزم، فوَصلَ داذا وأَصلحَ أَمرَ خوارزم، واستَعملَ على خوارزم في هذه السَّنَةِ محمدَ بن أنوشتكين المذكورَ، ولَقَّبَهُ خوارزم فقَصَرَ محمدٌ أَوقاتَهُ على مَعْدَلَةٍ يَنشُرُها ومَكْرَمَةٍ يَفعلُها، وقَرَّبَ أَهلَ العِلمِ والدِّينِ، فَعَلَا مَحِلُّهُ وعَظُمَ ذِكرُه، ثم أَقَرَّهُ السُّلطانُ سنجر على وِلايَةِ خوارزم، وعَظُمَت مَنزِلَةُ محمد خوارزم شاه المذكور عند السُّلطانِ سنجر، ولمَّا تُوفِّي خوارزم شاه محمد، وَلِيَ بعدَه ابنُه أطسز فمَدَّ غِلالَ الأَمنِ وأَفاضَ العَدلَ.
لَمَّا قُتِلَ المَلِكُ الأشرَفُ صلاحُ الدين خليلُ بن قلاوون بالقُربِ مِن تروجة، وعدى الأميرُ زين الدين كتبغا والأمراء، اجتمَعَ بهم الأميرُ علم الدين سنجر الشجاعي ومن كان بالقاهرةِ والقلعة من الأمراء الصالحيَّة والمنصورية، وقرَّروا سلطنةَ الناصر محمد بن قلاوون وأحضروه وعُمُرُه تسعُ سنين سوى أشهر في يومِ السبت سادس عشر المحرم وأجلَسوه على سريرِ السلطنة، ورتَّبوا الأمير زين الدين كتبغا نائب السلطنة عِوَضًا عن بيدرا، والأميرَ علم الدين سنجر الشجاعي وزيرًا ومدبرًا عِوَضًا عن ابن السلعوس، والأميرَ حُسام الدين لاجين الرومي الأستادار أطابكَ العساكر، والأميرَ رُكنَ الدين بيبرس الجاشنكير أستادارا، والأميرَ ركن الدين بيبرس الدوادار دوادارًا، وأعطِيَ إمرةَ مائة فارس وتقدمة ألف، وجعل إليه أمر ديوان الإنشاء في المكاتَباتِ والأجوبة والبريد، وأنفق في العسكرِ وحَلَفوا فصار كتبغا هو القائِمَ بجميع أمورِ الدولة، وليس للمَلِكِ الناصِرِ مِن السلطنة إلا اسمُ المَلِك من غيرِ زيادةٍ على ذلك، وسكن كتبغا بدارِ النيابة من القلعةِ، وجعل الخوانَ يُمَدُّ بين يديه.
هو سليمان باشا أحد ولاة العراق, وكان من المماليك، وكان من عُتقاء محمد بك الدفتري الربيعي، واسمه سليمان آغا. ولِدَ في عام 1137هـ، وصار واليًا للبصرة، ثم نُقل واليًا على بغداد عام 1194هـ/1780م، وعُرِف بعد توليه ولاية بغداد باسم سليمان الكبير, وقد عُرِف عصرُه باسم العصر الذهبي لفترة حكم المماليك في العراق, في أواخر سنوات حكم سليمان باشا الكبير بدأت هجَمات أتباع دولة الدرعية، وكانوا يُغيرون على تخوم العراق, فكَلف بمحاربتِهم، فأرسل حملتين لمحاربةِ أتباع دولة الدرعية في الأحساء عام 1217هـ/ 1802م، وأرسل حملةً ثالثة ضِدَّهم في منطقةِ القصيم. توفِّيَ سليمان باشا الكبير في بغدادَ عن عمر ناهز الثمانين عامًا، حيث مَرِض واشتَدَّ مَرَضُه فاستدعى كبارَ المسؤولين وشاورهم في أمرِ ولاية بغداد مِن بَعدِه، ثمَّ عَهِدَ بولايتها إلى معاوِنِه علي باشا وهو زوج ابنته، وأوصاهم بطاعتِه وامتثال أمرِه وبذَلَ لهم النصيحة، وتوفِّيَ ليلة السبت 8 ربيع الثاني، ودفن في مقبرة مشهد وشُيِّع بموكب رسمي، ودفِنَ يوم السبت قبل صلاة الظهرِ.
أمر حمد بن يحيى أمير شقراء وناحية الوشم على أهل بلد شقرا أن يحفِروا خندقَ بلَدِهم، وكانوا قد بدؤوا في حَفرِه وقتَ حملة طوسون، فلمَّا صارت المصالحةُ تركوه فقاموا في حَفرِه أشَدَّ القيام واستعانوا فيه بالنِّساءِ والولدان لحَملِ الماء والطعامِ، حتى جعلوه خندقًا عميقًا واسعًا وبَنَوا على شفيرِه جدارًا من جهة السورِ، ثم ألزمَهم كل رجل غني يشتري من الحنطةِ بعَدَدٍ معلومٍ من الريالات خوفًا أن يطول عليهم الحصارُ، فاشتروا من الطعام شيئًا كثيرًا، ثم أمر على النخيلِ التي تلي الخندقَ والقلعة أن تُشذبَ عسبانها ولا يبقى إلا خوافيها، ففعلوا ذلك وهم كارهون، وذلك لأنَّ أهل هذه البلد هم المشارُ إليهم في نجد، والمشهورون بالمساعدة للشيخ والإمامِ عبد العزيز ومَن بَعدَهم، وكثيرًا ما يلهجُ بهم الباشا إبراهيم في مجالِسِه بذكرِهم، فخاف الأمير حمد على بلدِهم من الروم، فألزمهم ذلك فكانت العاقبةُ أنَّ اللهَ سَلَّم بلادهم من الروم بسَبَبِ الخندق، وحَمِدوا الله على ذلك، وصالحهم الباشا على ما يريدون، وصاحِبُ الطعام الذي اشتراه على عشرةِ آصُع باع خمسة، وسَلِمت النخيل المشذوبة من القَطعِ في الحربِ دون غيرها؛ لأنها ما تستُرُ عن الرصاص.
في عام 1924 ألَّف الدكتور عبد الرحمن الشهبندر بدمشق حزبًا سياسيًّا سمَّاه حزب الشعب، وتولى رئاسته، وأطلق على نفسِه لقب الزعيم، وأخذ يعمَلُ في تنظيم العمل السياسي ويدعو إلى الوَحدة العربية، ويطالِبُ بإلغاء الانتداب، وإقامة جمهورية سورية في نطاق الاتحاد مع جميع البلدان العربية المستقِلَّة؛ ولتحقيق ذلك بدأ الدكتور عبد الرحمن الشهبندر الاتصالَ بزعماء ووجهاء المدن السورية يحثُّهم على الثورة ضِدَّ الاستعمار الفرنسي ويشحَذُ هِمَمهم ويعزِّز شعورهم الوطني، ويطلب منهم بدء الكفاح المسلَّح لنيل الاستقلال، وتحقيق الحلم الوطني العربي بإقامة الجمهورية السورية العربية، وقد جاءت الثورةُ السورية الكبرى كرَدِّ فعلٍ على السياسات الدكتاتورية العسكرية التي اتبعَتْها السلطات الفرنسية الاستعمارية، والمتمثِّلة في تمزيق سوريا إلى عدَّة دويلات، وإلغاء الحريات، وملاحقة الوطنيين، وإثارة النزعات الطائفية، ومحاربة الثقافة والطابع العربي للبلاد، ومحاولة إحلال الثقافة الفرنسية، بالإضافة إلى رفضِ سُلُطات الانتداب عَقْدَ اتفاق مع القوى الوطنية السورية لوضع برنامج زمني لاستقلال سوريا، انطلقت ثورة سوريا الكبرى في 29 ذي الحجة الموافق 21 تموز / يوليو، وانضَمَّ تحت لوائها عددٌ من المجاهدين من مختَلِف مناطق سوريا ولبنان والأردن، ومنهم دروز الجبل، وقد شَهِدت سوريا خمسًا وثلاثين ثورة قبل الثورة الكبرى، وقُتِلَ في تلك الثورات ما يقرُبُ من خمسة آلاف جندي فرنسي، وكان الدروز غائبين تمامًا عن كل تلك الثورات 35 ثورة، وبعد وفاة سليم الأطرش حاكِمِ جبل الدروز وتعيين حاكم فرنسي بدلًا عنه ناقضين اتفاقَهم مع زعماء الجبل الذين نفاهم الجنرال سراي بعد ذلك، فتمرد الدروز ووقعت معركةُ المزرعة؛ مما اضطر سراي أن يدخُلَ في مفاوضات مع الدروز لوقف القتال وإطلاق سراح الزعماء، ثم اتصل أعضاءُ حزب الشعب بزعماء الدروز في الجبل وقرَّروا التعاونَ للدفاع عن استقلال البلاد، وحثَّ الدكتور عبد الرحمن الشهبندر زعيمَ الدروز الجديدَ سلطانَ الأطرش على التقدُّم نحو دمشق ضِدَّ السلطات الفرنسية، فاشتعلت المعارِكُ حول دمشق وغوطتها والجبل وقراه، فأرسلت فرنسا الجنرالَ جاملان وعيَّنوه قائدًا عامًّا لجيش الشرق، فزحف نحو الجبل ولم يستطِع احتلال عاصمة الجبل السوداء، ثم نشبت ثورة حماة في تشرين الأول 1925م وانتشرت إلى دمشق وعمَّت أنحاء سوريا، وقُصفت قوات فرنسا في دمشق بعد أن اتَّسع نطاق حرب العصابات، فأطلق الفرنسيون نيرانَ مدافِعِهم وقنابل طائراتِهم على دمشق وأسواقها وأحيائها أيامًا وشهورًا خلال الثورة، واشتركت في هذه الثورة جميعُ الطوائف بما فيهم البدوُ، إلَّا أنَّ بعضَ الطوائف لم تشترك بالثورة، مثل النصيريين وسكان سنجق إسكندرون، وأغلبهم نصيرية، وكانت القواتُ الفرنسية تستعين في إخماد الثورات على الأقليات الذين جنَّدَتْهم للثورة، كالأرمن وبعض الشراكسة وبعض البدو الذين كان لهم ثأرٌ مع الدروز، ولكِنْ في أواخر أيام الثورة انضمَّ الدروز إلى السلطات الفرنسية تحت لواء قيادتهم عبد الغفار الأطرش ومتعب الأطرش، وتطوعوا في الجيش الفرنسي وأجهزة الأمن الفرنسية، وقد كانوا قبل ذلك في اللجنة العليا للثورة السورية التي أعلن المجاهِدونَ حَلَّها بعد هذه الخيانة، وأمَّا عموم النصارى فكان غالِبُهم وقف موقف المتفَرِّج، غير الذين كانوا يعملون في أجهزة الأمنِ الفرنسي، وكان النصارى في دمشق يضعون على منازلهم أقمشةً بيضاء عليها صليبٌ أحمر لِيَعرِفَ الطيارون أنها بيوت للنصارى فلا يقصِفونها، وأما الغوطة فقد كانت ملجأً للمجاهدين، فقام الفرنسيون بإحراق معظَمِ بساتينها، وفرضت السلطاتُ الفرنسية غراماتٍ مالية على الأهالي فوق القَصفِ العشوائي الذي استنكرته القناصِلُ، وهاجر كثيرٌ من أهل دمشق إلى بيروت ومصر وغيرها، واستمر مسلسل العنف والدمار إلى أيار 1926م، ثم حدثت مفاوضاتٌ مع بعض المسؤولين السوريين بَقِيَت قرابة التسعة أشهر، لكِنْ دون نتيجة، فعادت سياسةُ العنف والقصف والنهب للأحياء كما كانت.
كان لسقوط بيت المقدس في أيدي المسلمين سنة642 هـ (1244م) صدى كبير في أوروبا فأخذت أوروبا تجَهِّزُ لحملة صليبيةٍ جديدةٍ كبيرةٍ هي الحملةُ الصليبية السابعة للاستيلاءِ على مصر, حيثُ إنهم أدركوا بعد هزيمةِ حَملتِهم الصليبية الخامسةِ على مصر، ثم هزيمتهم في معركة الحربيَّة عند غزة، وضياع بيت المقدس منهم، أنَّ مِصرَ هي التي تمثل مركزَ قُوَّة المسلمين وقلعة التصدِّي لطموحاتِهم في الاستيلاءِ على بيتِ المقدسِ والشَّرق, وكان لويس التاسع ملك فرنسا الذي عُرِفَ لاحقًا بالقديس لويس، من أشد المتحمِّسين لقيام تلك الحملة، فراح يروِّجُ لها في أنحاء أوروبا. خرج لويس التاسع قاصدًا الديار المصرية في جموعٍ عظيمة فسار عن بلاده بأموالٍ جزيلة وأُهبة عظيمة، وأرسى بعكَّا وانبثَّ أصحابُه في جميع بلاد الساحل. فلمَّا استراحوا جاؤوه حاشدينَ حافلين وساروا في البحرِ إلى دمياط ومَلَكوها بغيرِ تَعَب ولا قتالٍ؛ لأنَّ أهلَها لَمَّا بلَغَهم ما الفرنجُ عليه من القوة والكثرة والعُدَّة الكاملة هالهم أمرُهم فرحلوا عنها مخفِّين. فوصل إليها الفرنجُ ولَقُوها خالية عن المقاتلين مليئةً بالأرزاق والسِّلاح، فدخلوها وغَنِموا ما فيها من الأموال. وكان الملكُ الصالح أيوب بن الملك الكامل صاحبُ مصر يومئذ بالشَّامِ يحاصر مدينة حمص. فلمَّا سَمِعَ بمقدم الفرنج رحل عن حمصَ وسار مسرعًا إلى الديار المصرية ومرض في الطريقِ وعند وصوله إلى المنصورة وافاه مقدَّمو دمياط الذين أخلوها منهزمين، فلما قيل له ما صنعوا لأنَّهم فرُّوا عنها من غير أن يباشروا حربًا وقتالًا، عظم ذلك عليه فأمر بصَلبِهم وكانوا أربعة وخمسين أميرًا فصُلِبوا كما هم بثيابِهم ومناطِقِهم وخفافِهم. ثم مات من الغدِ في الخامس عشر من شعبان. وتولَّى تدبير المملكة الأمير عزُّ الدين المعروف بالتركمانيِّ، وهو أكبر المماليك الترك. وكان مرجعه في جميع ذلك ممَّا يعتمده من الأمور إلى حظيَّة الملك الصالح أيوب المسمَّاة شجرة الدرِ،ّ وكانت تركية داهيةَ الدَّهرِ لا نظير لها في النساءِ حُسنًا، وفي الرجال حزمًا. فاتفقا على تمليك الملك المعظم توران شاه بن الملك الصالح. وكان يومئذٍ بحِصن كيفا من ديارِ بكر, فسار إلى الدِّيار المصريَّة وبايعوه وحَلَفوا له وسَلَّموا إليه مُلكَ أبيه. وفي مطلع سنة 648 سيَّرَ لويس التاسع ألفي فارس نحو المنصورة ليجسَّ بهم ما عليه المصريون من القوَّة. فلَقِيَهم طرفٌ مِن عسكر المسلمينَ فاقتتلوا قتالًا ضعيفًا فانهزم المسلمون بين أيديهم فدخل الفرنجُ المنصورةَ ولم ينالوا منها نيلًا طائلًا؛ لأنهم حَصلوا في مضايق أزقَّتِها وكان العامَّةُ يقاتلونهم بالحِجارة والآجُرِّ والتراب وخيولهم الضَّخمة لم تتمكَّن من الجولان بين الدُّروبِ، وكان القائد لعسكر المسلمين فخر الدين عثمان المعروف بابن شيخ الشيوخ أحد الأمراء المصريين شيخًا كبيرًا، أحاط به الفرنجُ وهو في الحمام يصبغُ لحيَتَه فقتلوه هناك. وعادوا إلى لويس التاسع وأعلموه بما تمَّ لهم مع ذلك العسكر وبالمدينة. فزاد طمعه وطمَعُ من معه من البطارقة ظانِّينَ أنه إذا كان الالتقاء خارج الجدران بالصحراء لم يكن للمسلمين عليهم مقدرة. فعبَّى جيوشه وسار بهم طالبًا احتلال أرض مصر. فصبر المصريون إلى أن عبر الفرنج الخليجَ مِن النيل المسمى أشموم طناح وهو بين البرَّين: برِّ دمياط وبرِّ المنصورة. في ليلة الأربعاء الثالث من محرم رحل الفرنج بأسرِهم من منزلتهم وانحدرت مراكِبُهم في البحر قبالةَ المسلمين، فركب المسلمونَ أقفيَتَهم، بعد أن عَدَّوا برَّهم واتبعوهم، فطلع صباحُ نهار يوم الأربعاء وقد أحاط بهم المسلمون، وبَلَوا فيهم سيوفَهم، واستولوا عليهم قتلًا وأسرًا، وكان معظمُ الحرب في فارسكور، فبلغت عدة القتلى عشرةَ آلاف في قَولِ المقِلِّ، وثلاثين ألفًا في قولِ المكثر، وأُسِرَ من خيَّالة الفرنج ورجالتهم المقاتلة، وصناعهم وسُوقتِهم، ما يناهِزُ مائة ألف إنسان، وغَنِمَ المسلمون من الخيل والبغال والأموال ما لا يحصى كثرةً، واستُشهِدَ من المسلمين نحو مائة رجل، وأبلت الطائفةُ البحرية لاسيما بيبرس البندقداري في هذه النوبة بلاءً حسنًا، وبان لهم أثرٌ جميل، والتجأ الملك الفرنسيُّ وعِدَّة من أكابر قومه إلى تل المنية، وطلبوا الأمانَ فأمَّنهم الطواشي جمال الدين محسن الصالحي، ونزَلوا على أمانه، وأُخِذوا إلى المنصورة، فقُيِّد الملك الفرنسي بقيدٍ مِن حديدٍ واعتُقِلَ في دار القاضي فخر الدين إبراهيم بن لقمان كاتبِ الإنشاء، التي كان ينزل بها من المنصورةِ ووكَلَ بحفظه الطواشي صبيح المعظمي، واعتُقِلَ معه أخوه، وأجرى عليه راتبًا في كل يوم، وتقَدَّم أمر الملك المعظم توران شاه لسيف الدين يوسف بن الطودي أحد من وصل معه من بلاد الشرق بقَتلِ الأسرى من الفرنج، وكان سيفُ الدين يُخرِجُ كُلَّ ليلة منهم ما بين الثلاثمائة والأربعمائة ويَضرِبُ أعناقَهم ويرميهم في البحر، حتى فَنُوا بأجمعهم، ورحل السلطانُ من المنصورة، ونزل بفارسكور وضرب بها الدهليزَ السلطاني، وعَمِلَ فيه برجًا من خَشَبٍ.
سار عبدُ المؤمِن إلى مدينةِ فاس فنَزَل على جَبَلٍ مُطِلٍّ عليها، وحصَرَها تسعةَ أشهُرٍ، وفيها يحيى بنُ الصَّحراويَّة وعَسكَرُه الذين فَرُّوا مِن تلمسان، فلمَّا طال مُقامُ عبد المؤمِنِ عَمَد إلى نهرٍ يدخُلُ البَلَدَ فسَكَّرَه بالأخشابِ والترابِ وغيرِ ذلك، فمَنَعَه من دُخولِ البَلَدِ، وصار بحيرةً تَسيرُ فيها السُّفُنُ، ثمَّ أزال الحاجِزَ، فجاء الماءُ دَفعةً واحدةً فخَرَّبَ سُورَ البلد وكُلَّ ما يُجاوِرُ النَّهرَ مِن البَلَدِ، وأراد عبدُ المؤمِنِ أن يَدخُلَ البلَدَ فقاتَلَه أهلُه خارِجَ السُّورِ، فتعَذَّرَ دخولُ البلد، وكان بفاس عبدُ الله بنُ خيار الجياني عاملًا عليها وعلى جميعِ أعمالِها، فاتَّفَق هو وجماعةٌ مِن أعيانِ البَلَدِ، وكاتَبوا عبدَ المؤمِنِ في طَلَبِ الأمانِ لأهلِ فاس، فأجابَهم إليه، ففَتَحوا له بابًا من أبوابِها، فدخَلَها عَسكَرُه، وهَرَب يحيى بنُ الصَّحراويَّة، وكان فتْحُها آخِرَ سنة 540، وسار إلى طنجةَ ورتَّبَ عبدُ المؤمِنِ أمْرَ مدينةِ فاس، وأمَرَ فنُودِيَ في أهلِها: مَن تَرَك عنده سلاحًا وعِدَّةَ قِتالٍ، حَلَّ دَمُه، فحَمَلَ كُلُّ مَن في البَلَدِ ما عندهم من السِّلاحِ إليه، فأخَذَه منهم. ثم رجَعَ إلى مكناسة، ففعَلَ بأهلِها مثلَ ذلك، وقَتَل مَن بها مِن الفُرسانِ والأجناد. وأمَّا العسكَرُ الذي كان على تِلمسانَ فإنَّهم قاتلوا أهلَها، ونَصَبوا المجانيقَ وأبراجَ الخَشَبِ، وزَحَفوا بالدبَّاباتِ، وكان المُقَدَّمُ على أهلِها الفقيهُ عُثمان، فدام الحِصارُ نحوَ سَنةٍ، فلمَّا اشتَدَّ الأمرُ على أهلِ البَلَدِ اجتمَعَ جماعةٌ منهم وراسَلوا الموحِّدينَ أصحابَ عبدِ المؤمِنِ بغيرِ عِلمِ الفَقيهِ عُثمانَ، وأدخلوهم البَلَدَ، فلم يَشعُرْ أهلُه إلَّا والسَّيفُ يأخُذُهم، فقُتِلَ أكثَرُ أهلِه، وسُبِيَت الذريَّةُ والحريمُ، ونُهِبَ من الأموالِ ما لا يُحصى، ومِن الجواهِرِ ما لا تُحَدُّ قِيمَتُه، ومَن لم يُقتَلْ بِيعَ بأوكَسِ الأثمانِ، وكان عِدَّةُ القتلى مِئةَ ألفِ قَتيلٍ، وقيل: إنَّ عبدَ المُؤمِنِ هو الذي حَصَرَ تلمسان، وسار منها إلى فاس.
هو منطاش الأشرفي نسبةً إلى الأشرف شعبان بن حسين، كان اسمُه تمربغا، ويقال له أخو تمربيه، وكانت لتمربيه منزلةٌ من الأشرف، وتنقل منطاش إلى أنْ ولاه الظاهر برقوق نيابةَ السلطنة بملطية في سنة 788 فجمع كثيرًا من التركمان وأظهر العِصيانَ وانضوى إليه كثيرٌ مِن الأشرفيَّة الذين شَرَّدَهم برقوق لَمَّا تسَلْطَنَ في البلادِ، فلما بلغ الظاهِرَ ذلك جهَّزَ إليه عسكَرَ حلب مع أربعة أمراء من مقَدَّمي الألوف بالقاهرة، فانضوى منطاش إلى برهان الدين صاحب سيواس فحوصر، ثم آل الأمر إلى رجوع العسكر وقد فر منطاش، واتفق أنَّ الناصريَّ عصى على برقوق وكاتبَ نواب البلاد، فوافقوه فراسَلَ منطاش فجمع من أطاعَه، وحضر إلى حلب وذلك سنة 91 فجهَّزَه الناصري إلى حماة فمَلَكَها إلى أن قَدِمَ الناصري بالعسكر، فتوجهوا إلى القاهرة واستولى الناصريُّ على المملكة وأعاد السلطان حاجي، واستقر منطاش أميرًا كبيرًا، ثم استولى منطاش على المملكة، فطاش وكان أهوجَ كثيرَ العطايا، كما قيل نهابًا وهَّابًا، فاعتقل الناصِرَ والجوباني وغيرَهما بالإسكندرية، وفي غضون ذلك بعد دخول سنة 92 بلغه أن الظاهرَ برقوق خلَصَ مِن سجن الكرك وانضَمَّ إليه جماعة، فجهز العسكر وتوجَّه إلى جهته، فوقعت لهم الوقعة الشهيرة، فانهزم منطاش واحتوى الظاهِرُ على المملكةِ وعلى غالب من كان معه مِن رؤوس المملكة, وفي سنة 93 توجه منطاش من جهة العمق إلى أن وصل إلى قربِ دمشق، ولما لم يحصُلْ للعسكر السلطاني منه غَرَضٌ رجعوا إلى أوطانهم، ونازل منطاش دمشقَ فجَهَّزَ له الناصريُّ من هزمه، فتوجه إلى بلاد نعير فأقام عنده ثم راسَلَ الظاهِرُ نعيرًا في أمر منطاش واسترضاه ورَدَّ عليه إمرتَه، وأوسَعَ له في الوعدِ، فغدر بمنطاش وقَبَضَ عليه وجَهَّزَه إلى حلب فاعتقل بقلعَتِها إلى أن جاء الأمرُ بقَتلِه وتجهيز رأسِه، ففُعِلَ به ذلك في سنة 795 وطِيفَ برأسِه بالقاهرةِ، ثم عُلِّقَ على باب زويلة، وكان شجاعًا قَتَّالًا عاليَ الهِمَّة كثيرَ البَذلِ، أهلك جميعَ ما كان الظاهِرُ حَصَّلَه من الأموال في أيسَرِ مُدَّةٍ.
بعد سفر الإمام عبد الله بن سعود إلى مصر ارتحل إبراهيم باشا بنفسِه وحاشيتِه وقبوسه وقنبره ومدافِعِه من سمحان، ولم يلتزم الباشا بشروطِ الصُّلحِ التي نصَّت على عدمِ المساس بالبَلدةِ وأهلِها بسوءٍ, فنزل إبراهيم باشا في نخل تركي بن سعود المعروفِ بالعويسية أسفلَ الدرعية، وباقي عساكِرِه فَرَّقَها في نخيلِها وأطرافِها ودروبِها، وكان إبراهيم باشا بعث عساكِرَ مِن حاشيته وخَدَمِه وفَرَّقَهم في نواحي نجدٍ وأمَرَهم بهدمِ أسوار البلدان وحُصونِها، فنزلوا البلدانَ وهَدَموا الحُصونَ والأسوارَ، وصادروا أهلَها بخَراجِهم وعلَف الخيل وعليقها بالليل والنهار، وجمعوا ما فيها من الحِنطةِ والشَّعيرِ إلَّا ما قَلَّ، ثمَّ إن الباشا أخذ خَيلَ آل سعودٍ وشَوكةَ الحَربِ وما وجد عليه اسمَهم في بندُقٍ أو سَيفٍ، وأكثَرَت العساكِرُ مِن العَبَثِ في أسواقِ الدِّرعية بالضَّربِ والتسخيرِ لأهلِها، فكانوا يجمَعون الرِّجالَ من الأسواق، ويُخرِجونَهم من الدُّورِ ويَحمِلون على ظُهورِهم ما تَحمِلُه الحيوانات، فيُسَخِّرونهم لهَدمِ البيوت والدكاكين، ويحمِلون خشَبَها ويَكسِرونَه ويَرِدونَ لهم الماءَ ويَحمِلونَه ولا يَعرِفونَ لفاضلٍ فَضْلَه ولا لعالمٍ قَدْرَه، وصار السَّاقِطُ الخَسيسُ في تلك الأيام هو الرَّئيسَ. أقام الباشا في الدرعية نحو تسعة أشهر بعد المصالحةِ، وأمَرَ جميعَ آل سعود وأبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأبنائهم أن يرحَلوا من الدرعية إلى مصرَ، فارتحلوا منها بنسائِهم وذراريِّهم، ولم يبقَ منهم إلا من اختفى أو هرب، مِثلُ تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود، والشيخ علي بن حسين ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، هربا إلى قطر وعمان. ثم جاء الأمرُ من محمد علي باشا لابنه إبراهيم بهَدمِ الدرعية وتدميرِها، فأمر أهلَها أن يرحَلوا عنها ثمَّ أمر العسكرَ أن يهدموا دُورَها وقُصورَها ويَقطَعوا نَخْلَها وشجَرَها ولا يرحَموا صَغيرَها ولا كبيرَها، فابتدر العسكَرُ إلى هدمِها مُسرِعين، وهدموها وبَعضُ أهلِها فيها مقيمون، وأشعلوا النار في بيوتِها، وأخرجوا جميعَ من كان فيها من السكان، فتركوها خاليةً مِن السكان، وتفَرَّق أهلُها في النواحي والبلدانِ، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
جدَّ المهديُّ في تتبُّعِ الزنادقةِ، فأنشأ ديوانًا لمطاردتِهم, وكان المتولي أمرَ هذا الديوانِ عمر الكلواذي الذي صار يتتبَّعُ الزنادقةَ في سائرِ الآفاق فيستحضِرُهم ويقتلُ صبرًا بين يدي المهدي، فقتل عددًا كبيرًا، منهم الشَّاعرُ بشَّار بن بُرد، وأخذ يزيد بن الفيض كاتبَ المنصور، فأقَرَّ ولم يرجِعْ عمَّا يعتَقِدُه فحبسه، ثم هرب من الحَبسِ، فلم يَقدِر عليه.
بعث شاور إلى نور الدين محمود رسالةً مع شهاب الدين محمود، خال صلاح الدين الأيوبي، تتضمن أنه يحمل إليه مالًا في كل سنة من مصر مصانعةً؛ ليصرف عنه أسد الدين شيركوه، فأجاب نور الدين إلى ذلك، وأعطى شيركوه مدينة حمص وأعمالها زيادةً على ما كان بيده، وأمره بترك ذكر مصر، فأرسل شاور إليه كتابًا يشكر صنيعَه.
تحرَّك الأميرُ سعود بقواتِه غازيًا القطيفَ، وقام بمحاصرة سيهات وأخذها عَنوةً، ثم احتَلَّ بلدة عنك، ثم سار إلى القديح وأخذها عَنوةً، ثم أخذ العوامية وحاصَرَ الفرضة؛ لأن أهلَ القطيف هربوا إليها فصالَحَهم بثلاثة آلاف زر، وأزال جميعَ ما في القطيف من الأوثان والمتعبدات والكنائس، وأمر سعودٌ بحرق كُتُبِهم القبيحة بعد ما جمعوا منها حملًا.
هو أبو المعالي محمَّدُ بن علي بن عبد الواحد بن عبد الكريم، الزملكاني الأنصاري السماكي الدمشقي الشافعي قاضي قضاة دمشق، انتهت إليه رياسةُ المذهب تدريسًا وإفتاء ومناظرة، ويقالُ في نسبه السماكي نسبة إلى أبي دجانة سماك بن خَرشة، وُلِدَ ليلة الاثنين ثامن شوال 666، وسمع الكثير واشتغل على الشيخ تاج الدين الفزاري، وفي الأصولِ على القاضي بهاء الدين بن الزكي، وفي النحوِ على بدر الدين بن ملك وغيرهم، وكان من خصومِ شَيخِ الإسلام ابن تيمية؛ قال ابن كثير: "برع وحَصَّل وساد أقرانَه من أهل مذهبه، وحاز قَصَب السَّبقِ عليهم بذِهنِه الوقَّاد, وعبارتِه التي هي أشهى من كلِّ شيء مُعتاد، وخَطِّه الذي هو أنضَرُ مِن أزاهير الوِهاد، وقد درَّسَ بعِدَّة مدارس بدمشق، وباشر عِدَّةَ جِهات كبار، كنظر الخزانة، ونظر المارستان النوري، وديوان الملك السعيد بن الظاهر بيبرس، ووكالة بيت المال، له تعاليقُ على قطعة كبيرة من شرح المنهاج للنووي، ومجلَّد في الرد على الشيخ تقي الدين ابن تيمية في مسألة الطلاق، ومسألة زيارة القبور، وغير ذلك، وأما دروسُه في المحافل فلم أسمع أحدًا من الناس درَّس أحسن منه ولا أحلى من عبارته، وحُسن تقريره، وجودةِ احترازاته، وصِحَّة ذهنه وقوَّة قريحتِه وحُسن نَظْمه، وقد درَّسَ بالشاميَّة البرَّانية والعذراوية الجوَّانية والرواحية والمسرورية، فكان يعطي كلَّ واحدة منهن حقها بحيث كان يكاد ينسَخُ بكل واحد من تلك الدروس ما قبله مِن حُسنِه وفصاحته، ولا يهيلُه تَعدادُ الدروس وكثرة الفقهاء والفضلاء، بل كلما كان الجمعُ أكثَرَ والفضلاءُ أكبَرَ، كان الدرس أنضرَ وأبهر وأحلى وأنصح وأفصَحَ, ثم لما انتقل إلى قضاء حلب وما معه من المدارس العديدة عامله معاملةً مثلها، وأوسع بالفضيلةِ جميعَ أهلها، وسَمِعوا من العلوم ما لم يسمعوا هم ولا آباؤهم, ثم طُلب إلى الديار المصرية ليولَّى الشامية دار السنة النبويَّة فعاجلته المنيَّةُ قبل وصوله إليها، فمَرِضَ وهو سائر على البريد تسعةَ أيام، ثم عقب المرض بحراق الحِمامِ فقَبَضه هادمُ اللذات، وحال بينه وبين سائر الشَّهوات والإرادات، والأعمالُ بالنيَّات, وكان من نيَّتِه الخبيثة إذا رجع إلى الشَّامِ متَوَلِّيًا أن يؤذِيَ شيخَ الإسلام ابن تيمية فدعا عليه، فلم يبلغ أمَلَه ومُرادَه، فتوفِّيَ في سحر يوم الأربعاء سادس عشر شهر رمضان بمدينة بلبيس، وحُمِلَ إلى القاهرة ودُفِنَ بالقرافة ليلة الخميس جوار قبة الشافعي تغَمَّده الله برحمتِه"
هو أبو إسحاقَ، إسماعيلُ بنُ القاسم بن سويد العنزيُّ ولاءً، المشهورُ بأبي العتاهية، لقَّبَه بذلك الخليفةُ المهديُّ، ولِدَ في عين التمر سنة 130هـ، نشأ بالكوفة، قال الشِّعرَ سَجِيَّةً مِن نفسه، قَدِمَ بغداد على المهديِّ وقَرَّبه الرشيدُ، كان شاعرًا مُكثِرًا، وكان أوَّلَ أمرِه في الغَزلِ، ثم أخذ في شِعرِ الزُّهد والتقشُّف والوَرَع، توفِّي عن عمر يناهز الثمانين.
أظهر الإسماعيليَّةُ- ومقَدَّمُهم جلالُ الدين الإسماعيليُّ، تولى بعد أبيه, وقيل: إنه كان غير راضٍ عن ممارساتِ أبيه أعلى محمد وسياستِه العدوانيَّة- الانتِقالَ عن فعل المحرَّمات واستحلالِها، وأمَرَ بإقامة الصلواتِ وشرائِعِ الإسلامِ ببلادهم من خراسان والشام، وأرسل مقدُّمُهم رسلًا إلى الخليفة، وغيره من ملوك الإسلام، يخبِرُهم بذلك، وأرسل والدتَه إلى الحجِّ، فأُكرِمَت ببغدادَ إكرامًا عظيمًا، وكذلك بطريقِ مكَّةَ.