تُوفيَ جورج حبش في العاصمة الأردنية عمَّانَ، والذي كان أحدَ أبرزِ قادة الثورة الفِلَسْطينية المعاصرة، وأحدَ مؤسِّسي حركة القوميِّين العرب، وُلد في مدينة "اللد" عامَ 1926م، لعائلةٍ من الروم الأرثوذوكس، وهاجَرَ في حرب 1948م من فِلَسْطينَ، درس في كلية الطب في الجامعة الأمريكية في بيروت، وتخرَّج فيها عامَ 1951 مُتخصِّصًا في طب الأطفال، فعمِل في العاصمة الأردنية عمَّانَ، والمخيَّماتِ الفِلَسْطينية، وفي عام 1952م عمِلَ على تأسيس حركة القوميِّين العرب، التي كان لها دورٌ في نشوءِ حَرَكاتٍ أُخرى في الوطن العربي، وظلَّ يعمَلُ في مجال دراسته حتى عام 1957م، فرَّ بعدَها من الأُردُنِّ إلى العاصمة السورية دِمَشق، وصدرت بحقِّه عدَّةُ أحكامٍ بين الأعوام 1958م، و1963م، انتقَلَ بعدَها من دِمَشْق إلى بيروتَ، وفي ديسمبر من عام 1967م أسَّس الجبهة الشعبية لتحرير فِلَسْطينَ، والتي قامت على مبادئ الماركسية اللينينية، أسَّسها مع مصطفى الزبري وآخرين، وظلَّ حبش أمينًا عامًّا لها حتى عام 2000م، حيث ترك موقعَه طوعًا، أو لمرضه ليخلفَه فيه مصطفى الزبري.
لمَّا نَقضَتْ قُريشٌ ومَن معها العهدَ الذين الذي بينهم وبين المسلمين في الحُديبيةِ عزَم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على المَسيرِ إليهم، أمَر النَّاسَ بالجِهازِ وأَعلمَهُم أنَّه سائِرٌ لمكَّةَ، وقال: (اللَّهمَّ خُذِ العُيونَ والأَخبارَ عن قُريشٍ حتَّى نَبْغَتَها في بِلادِها). وزِيادةٌ في الإخفاءِ والتَّعمِيَةِ بعَث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً قَوامُها ثَمانيةُ رِجالٍ، تحت قِيادةِ أبي قَتادةَ بنِ رِبْعِيٍّ، إلى بَطْنِ إِضَمٍ، فيما بين ذي خَشَبٍ وذي المَروَةِ، على ثلاثةِ بُرُدٍ مِنَ المدينةِ، في أوَّلِ هذا الشَّهرِ الكريمِ؛ لِيَظُنَّ الظَّانُ أنَّه صلى الله عليه وسلم يتَوَجَّهُ إلى تلك النَّاحيةِ، ولِتذهَبَ بذلك الأَخبارُ، وواصلت هذه السَّرِيَّةُ سَيْرَها حتَّى إذا وصلت حيثما أُمِرَتْ بلَغها أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خرَج إلى مكَّةَ، فسارت إليه حتَّى لَحِقْتُه.
كانت بِدايَة فَتْح الأَندَلُس بأن يُولْيان حاكِم الجَزيرَة الخَضْراء غَضِبَ مِن لُذْريق (رُودْريغُو) مَلِك الأَندَلُس فاتَّفَق مع موسى بن نُصَير على أن يَدُلَّه على عَوْراتِهم ويُدْخِلَه الأَندَلُس, فكَتَب موسى إلى الوَليد يَسْتَأْذِنُه في غَزْو الأَندَلُس, فكَتَب إليه الوَليدُ: خُضْها بِالسَّرايا، ولا تُغَرِّر بالمسلمين في بِحْرٍ شَديدِ الأَهوال. فكَتَب إليه موسى: إنَّه ليس بِبَحْرٍ مُتَّسِع، وإنَّما هو خَليجٌ يَبِينُ ما وَراءَه. فكَتَب إليه الوَليدُ: أن اخْتَبِرْها بالسَّرايا، وإن كان الأَمْرُ على ما حَكَيْتَ. فبَعَث موسى رَجُلًا مِن مَوالِيه يُقالُ له طَريف بن مالِك أبو زُرْعَة في أربعمائة رَجُل ومعهم مائة فَرَسٍ، وهو أوَّلُ مَن دَخَل الأَندَلُس مِن المسلمين، فسار في أربع سَفائِن، فخَرَج في جَزيرَة بالأَندَلُس، سُمِّيَت جَزيرَة طَريف لِنُزولِه فيها، ثمَّ أَغارَ على الجَزيرَة الخَضْراء، فأَصابَ غَنيمَةً كَثيرَة، ورَجَع سالمَّا. فلمَّا رأى النَّاسُ ذلك تَسَرَّعوا إلى الغَزْو.
هو العلامة، الحافظ، الأخباري أبو بكر، وقيل: أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن يسار بن خيار, القرشي, المدني, المطَّلِبي ولاءً، العلَّامة, الحافظ, الأخباري, صاحب "السيرة النبوية" وُلِدَ ابنُ إسحاق: سنةَ ثمانين. وقيل إنه رأى أنس بن مالك بالمدينة, انتقل من المدينة إلى بغداد وسكنَها، كان من أقدم المؤرخينَ، ومن أشهر مؤلَّفاته السيرةُ النبويَّة، وبها اشتُهِر، قيل: إنه ألَّفها بأمرٍ من المنصورِ، وقال الشافعي: إن النَّاسَ كلَّهم عيالٌ عليه في السيرة، قال أبو زرعة الدمشقي: "ابن إسحاق رجل قد اجتمع الكبراء من أهل العلم على الأخذ عنه، منهم: سفيان، وشعبة، وابن عيينة، والحمادان، وابن المبارك، وإبراهيم بن سعد, وروى عنه من القدماء: يزيد بن أبي حبيب، وقد اختبره أهل الحديث، فرأوا صدقا وخيرا، مع مدح ابن شهاب له". توفِّيَ في بغدادَ.
هو أبو بِشرٍ عَمرُو بنُ عُثمانَ بنِ قُنَبْرَ مَولى بني الحارثِ بنِ كعبٍ، قيل: مولى الرَّبيع بن زياد الحارثي البصري، ولُقِّبَ سيبويهِ لجَمالِه وحُمرةِ وَجنَتَيه، حتى كانتا كالتفَّاحتَين، وسيبويهِ في لغة فارس (رائحةُ التفاحِ)، وهو الإمامُ العلَّامة العَلَم، شيخُ النُّحاة من لدنْ زمانِه إلى زمانِنا هذا، والناسُ عِيالٌ على كتابِه المشهورِ في هذا الفنِّ المعروفِ باسمِ "كتابُ سِيبَويه"، وقد شُرِحَ شروحًا كثيرةً، وقلَّ من يحيطُ عِلمًا به، أخذ سيبويهِ العلمَ عن الخليلِ بنِ أحمدَ الفراهيديِّ ولازَمَه، و كان الخليلُ إذا جاءه سيبويهِ يقول: مرحبًا بزائرٍ لا يُمَلُّ"، وأخذ أيضًا عن عيسى بنِ عُمَر، ويونُسَ بنِ حَبيب، وأبي زيدٍ الأنصاريِّ، وأبي الخطَّابِ الأخفشِ الكبيرِ، وغيرهم، قَدِمَ مِن البصرةِ إلى بغدادَ أيَّامَ كان الكسائيُّ يؤدِّبُ الأمينَ بنَ الرَّشيدِ، وحصلت بينهم وَحشةٌ، فانصرف وعاد إلى بلادِ شيراز.
هو الحسَنُ بن هانئ بن صباح بن عبد الله، اشتهر بالشِّعرِ، ولكنَّه أدخل فيه ما يُستقذَرُ، حتى اتُّهِم، ذكروا له أمورًا كثيرة، ومُجونًا وأشعارًا مُنكَرة، وله في الخَمريَّات والقاذورات والتشبُّب بالمُردان والنِّسوان أشياءُ بِشَعةٌ شَنيعةٌ؛ فمِن النَّاسِ من يفَسِّقُه ويرميه بالفاحشةِ، ومنهم من يرميه بالزَّندقة، كان أبو نواس شاعِرَ الأمينِ بن الرشيد وأحدَ نُدَمائه، وقد قال في الأمين مدائِحَ حِسانًا، وقد وجده مسجونًا في حبسِ الرَّشيدِ مع الزَّنادقةِ، فأحضره وأطلقه وأطلق له مالًا، فجعله مِن نُدَمائه، ثمَّ حَبَسه مرَّةً أخرى في شُربِ الخَمرِ، وأطال حبسَه ثمَّ أطلَقَه وأخذ عليه العهدَ ألَّا يشرَبَ الخمرَ ولا يأتي الذُّكورَ من المردان، فامتثل ذلك، وكان لا يفعَلُ شيئًا من ذلك بعد ما استتابه الأمينُ، وتأدَّبَ على الكسائيِّ وقرأ عليه القرآنَ. كانت وفاته ببغداد، ودُفِنَ في مقابر الشونيزى في تل اليهود.
خرج بفلسطينَ المُبرقَعُ أبو حربٍ اليمانيُّ الذي زعَمَ أنَّه السُّفياني، فدعا بالأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المنكرِ أولًا، إلى أن قَوِيَت شَوكتُه، فادعى النبوَّةَ. وكان سببُ خُروجِه أن جنديًّا أراد النزولَ في داره، فمنَعَتْه زوجتُه، فضَرَبها الجنديُّ بسوطٍ فأثَّرَ في ذراعها، فلما جاء المُبرقَعُ شكَت إليه، فذهب إلى الجنديِّ فقَتَله وهَرَب، ولَبِسَ بُرقعًا لئلَّا يُعرَف، ونزل جبالَ الغَور مُبرقَعًا، وحَثَّ الناسَ على الأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر، فاستجاب له قومٌ مِن فلَّاحي القُرى، وقَوِيَ أمرُه، فسار لحَربِه رجاءُ الحضاريُّ- أحدُ قُوَّاد المعتَصِم- في ألفِ فارسٍ، وأتاه فوجَده في مائةِ ألفٍ، فعسكر بإزائِه ولم يجسِرْ على لقائِه. فلمَّا كان أوانُ الزِّراعةِ تفَرَّقَ أكثَرُ أصحابِه في فلاحتِهم وبَقِيَ في نحو الألفينِ، فواقعه عند ذلك رجاءُ الحضاريُّ المذكور، وأسَرَه وحبَسَه حتى مات خنقًا في آخِرِ هذه السَّنةِ.
هو أبو شُعَيب- وقيل: أبو جعفر- محمد بن نُصَير بن بكر النميري البصري، أحد نوَّاب الإمام المنتظَر عند الرافضة في فترة الغَيبة الصغرى. إليه تُنسَبُ الفرقةُ النصيرية، وهي من الفِرَق الباطنيةِ من غُلاة الشيعة، زعم ابنُ نصير هذا أنَّه الباب إلى الإمامِ الحسن العسكري، أي: أنَّه الإمام والمَرجِعُ من بعده، ثم ادَّعى ألوهيَّةَ علي بن أبي طالب، وأنه هو الذي أرسلَه للنَّاسِ رسولًا، قال بالتناسُخِ وأنَّ المؤمِنَ يتحَوَّلُ إلى سَبعِ مراحِلَ قبل أن يأخُذَ مكانه بين النجوم، وأما الشِّريرُ فيُنسَخ إلى نصراني أو يهودي أو مُسلم حتى يتخَلَّصَ من الكفرِ أو يتحَوَّلَ إلى كِلابٍ وبغال وحمير، وقيل: بل هؤلاء الذين لا يعبدون عليًّا، وإباحة المحارم، والخَمر، والنُّصيرية اليوم قبائِلُ موزعة غالِبُها في جبال العلويين في أطرافِ الساحل الغربي لسوريا، ولواء إسكندرون بتركيا وكردستان وإيران.
كان بنو شَيبانَ قد أفسدوا في الأرضِ وأخذوا يُغِيرونَ على المَوصِل وينهبون ويَسلبونَ، فتصدَّى لهم الخوارجُ وأهلُ الموصِلِ إلَّا أنهم هزموهم, فسار إليهم المعتَضِد، وقصدَ الموضِعَ الذي يجتمعونَ به من أرضِ الجزيرة، فلمَّا بلَغَهم قَصدُه جمعوا إليهم أموالَهم، فأغار عليهم وأوقعَ بهم، فقتَلَ منهم مقتلةً عظيمةً وغَرِقَ منهم خلقٌ كثيرٌ في الزابين – فروع أنهارٍ حَولَ الفُرات- وأخذ النِّساءَ والذراريَّ وغَنِم أهلُ العَسكرِ مِن أموالِهم ما أعجَزَهم حَملُه، وأخذَ مِن غَنَمِهم وإبلِهم ما كثُرَ في أيدي الناس حتى بِيعَت الشاةُ بدِرهَم والجَمَلُ بخَمسةِ دراهِمَ، وأَمَرَ بالنساءِ والذراريِّ أن يُحفَظوا حتى يحدروا إلى بغداد، ثم مضى المعتضِدُ إلى الموصِل، ثم إلى بلدٍ، ثم رجع إلى بغدادَ فلَقِيَه بنو شيبان يسألونَه الصَّفحَ عنهم وبذلوا له الرهائِنَ، فأخذ منهم خمسَمائة رجلٍ فيما قيل، ورجع المعتضِدُ يريد مدينة السَّلام.
هو عُبيدُ الله بنُ الحسَنِ بنِ دلَّال بن دلهم، المعروفُ بأبي الحسَن الكَرخيِّ، أحدُ مشايخ الحنفيَّة المشهورين، ولد سنة 260 وسكن بغدادَ ودرَّسَ فِقهَ أبي حنيفة وانتَهَت إليه رئاسةُ أصحابه في البلاد، وكان متعبِّدًا صبورًا على الفقرِ عزوفًا عمَّا في أيدي الناس، ولكنه كان رأسًا في الاعتزالِ، وقد سمع الحديثَ مِن إسماعيلَ بنِ إسحاق القاضي، وروى عنه حَيوةُ وابنُ شاهين، وأصابه الفالج في آخر عمره، فاجتمع عنده بعضُ أصحابه وتشاوروا فيما بينهم أن يكتُبوا إلى سيفِ الدولة بن حمدان ليساعِدَه بشَيءٍ يستعينُ به في مرضه، فلمَّا عَلِمَ بذلك رفع رأسَه إلى السَّماءِ وقال: " اللهمَّ لا تجعَلْ رزقي إلَّا مِن حيثُ عَوَّدْتني ". فمات عَقِبَ ذلك قبل أن يصِلَ إليه ما أرسَلَ به سيفُ الدولة، وهو عشرةُ آلاف درهم، فتصَدَّقوا بها بعد وفاته، وقد توفِّيَ عن ثمانينَ سنة.
غَرِقَ الجانبُ الشرقيُّ وبعضُ الغربيِّ من بغداد، وسَببُه أن دِجلَة زادت زِيادةً عَظيمةً، وانفَتَح القَوْرَجِ عند المُسَنَّاةِ المُعِزِّيَّةِ، وجاء في الليلِ سَيْلٌ عَظيمٌ، وطَفحَ الماءُ من البَرِّيَّةِ مع رِيحٍ شَديدةٍ، وجاء الماءُ إلى المنازِلِ من فَوق، ونَبعَ من البَلاليعِ والآبارِ بالجانبِ الشرقيِّ، وهَلَكَ خَلْقٌ كَثيرٌ تحت الهَدْمِ، وشُدَّت الزَّواريقُ تحتَ التَّاجِ خَوْفَ الغَرَقِ، وقام الخَليفةُ يَتَضرَّع ويُصلِّي، وعليه البُردَةُ، وبِيَدِه القَضيبُ، وأتى ايتكين السُّليمانيُّ من عُكبرا، فقال للوَزيرِ: إنَّ المَلَّاحِينَ يُؤذونَ الناسَ في المَعابِر فأَحضَرَهم، وتَهدَّدَهُم بالقَتْلِ، وأَمرَ بِأَخْذِ ما جَرَت به العادةُ، وأُقيمَت الخُطبةُ للجُمعةِ في الطَّيَّارِ -نوع من الزَّوارِق سَريع الجَرَيان- مَرَّتينِ، وغَرِقَ من الجانبِ الغربيِّ مَقبرةُ أَحمدَ بنِ حَنبل، ومَشهدُ بابِ التِّبْنِ، وتَهدَّم سُورُهُ، فأَطلَقَ شَرفُ الدولةِ ألفَ دِينارٍ تُصرَف في عِمارَتِه، ودَخلَ الماءُ من شَبابيكِ البيمارستان العَضُدِيِّ.
سار بَعضُ المُرابِطينَ مِن المُلَثَّمينَ إلى دكالة، فاجتمَعَ إليه قبائِلِها، وصاروا يُغيرُونَ على أعمالِ مَراكشَ، وعبدُ المؤمِنِ لا يلتَفِتُ إليهم، فلمَّا كَثُرَ ذلك منهم سار إليهم سنةَ أربعٍ وأربعين وخمسمئة، فلمَّا سَمِعَت دكالة بذلك انحشَروا كُلُّهم إلى ساحِلِ البَحرِ في مئتي ألف راجلٍ وعشرين ألفَ فارسٍ، وكانوا مَوصوفين بالشَّجاعةِ، وكان مع عبدِ المؤمِنِ من الجيوشِ ما يخرج عن الحَصرِ، وكان الموضِعُ الذي فيه دكالةُ كَثيرَ الحَجَرِ والحزونة، فكَمَنوا فيه كُمَناءَ ليَخرُجوا على عبدِ المؤمِنِ إذا سلكه، فمِن الاتِّفاقِ الحَسَنِ له أنَّه قَصَدَهم من غيرِ الجِهةِ التي فيها الكُمَناءُ، فانحَلَّ عليهم ما قَدَّروه، وفارقوا ذلك الموضِعَ، فأخذهم السَّيفُ، فدخلوا البَحرَ، فقُتِلَ أكثَرُهم، وغُنِمَت إبِلُهم وأغنامُهم وأموالُهم، وسُبِيَت نساؤُهم وذراريُّهم، فبِيعَت الجاريةُ الحَسناءُ بدراهِمَ يَسيرةٍ، وعاد عبدُ المؤمِنِ إلى مراكِشَ مُنتَصِرًا، وثبَت مُلكُه، وخافه الناسُ في جميعِ المَغرِبِ، وأذعَنوا له بالطَّاعةِ.
ابتدأت الفتنةُ بين التركمان والأكراد بديار الجزيرة والموصِل وديار بكر وخلاط والشام وشهرزور وأذربيجان، وقُتِلَ فيها من الخلقِ ما لا يحصى، ودامت عدةَ سِنينَ، وتقَطَّعَت الطرق، ونُهِبَت الأموال، وأُريقَت الدماء، وكان سَبَبُها أنَّ امرأة من التركمان تزوَّجَت بإنسانٍ تركماني، واجتازوا في طريقِهم بقلعة من الزوزان للأكراد، فجاء أهلُها وطلبوا من التركمان وليمةَ العرس، فامتنعوا من ذلك، وجرى بينهم كلامٌ صاروا منه إلى القتال، فنزل صاحِبُ تلك القلعة فأخذ الزوجَ فقَتَلَه، فهاجت الفِتنةُ، وقام التركمانُ على ساق، وقتلوا جمعًا كثيرًا من الأكرادِ، وثار الأكرادُ فقَتَلوا من التركمان أيضًا كذلك، وتفاقم الشرُّ ودام، ثم إن مجاهِدَ الدين قايماز، جمَعَ عنده جمعًا من رؤساءِ الأكراد والتركمان، وأصلح بينهم، وأعطاهم الخِلَع والثيابَ وغيرها، وأخرج عليهم مالًا جمًّا، فانقطعت الفتنةُ، وكفى اللهُ شَرَّها، وعاد الناسُ إلى ما كانوا عليه من الطُّمأنينةِ والأمانِ.
لَمَّا فَرَغ صلاحُ الدين من هزيمة الفرنجِ في حطِّين أقام بموضِعِه باقيَ يَومِه، وأصبحَ يومُ الأحد، فعاد إلى طبرية ونازلها، فأرسلت صاحبتُها تطلُبُ الأمانَ لها ولأولادها وأصحابِها ومالها، فأجابها إلى ذلك، فخرجت بالجميعِ، فوَفى لها، فسارت آمنةً، ثم أمر بالمَلِك وجماعةٍ مِن أعيان الأسرى فأُرسلوا إلى دمشق، وأمَرَ بمن أُسِرَ مِن الداوية والإسبتارية أن يُجمَعوا ليقتُلَهم، ثمَّ عَلِمَ أن مَن عنده أسيرٌ لا يسمَحُ به؛ لِما يرجوا من فِدائِه، فبذل في كل أسيرٍ مِن هذين الصِّنفينِ خمسينَ دينارًا مصرية، فأُحضِرَ عنده في الحال مائتا أسيرٍ منهم، فأمَرَ بهم فضُرِبَت أعناقهم، وإنَّما خَصَّ هؤلاء بالقتل لأنَّهم أشَدُّ شَوكةً مِن جميع الفرنج، فأراح الناسَ مِن شَرِّهم؛ وكتب إلى نائبه بدمشق ليقتُلَ مَن دخل البلد منهم سواءٌ كان له أو لغيره، ففعل ذلك.
في الوقتِ الذي خَرَجت فيه السفارة الثانية للمغول في 9 من ربيع الآخر 644 (24 من أغسطس 1246م) كانت هناك سفارة ثالثة خرجت في إثرِها، ضَمَّت رهبانًا من جماعة "الدومنيكان" وأوكلَت إليها مهمَّة مختلفة عن مهمَّة السفارتينِ السَّابقتَينِ، فقد أمَرَ البابا هذه السفارةَ أن تَصِلَ إلى أوَّلِ جيشٍ مغوليٍّ تُقابِلُه في فارس، وأن يحضَّ قائدَه على الامتناعِ عن نَهبِ النَّاِس، وبخاصَّةٍ النَّصارى منهم، وأن يعتَنِقَ النصرانيَّة، وأن يتوبَ عن خطاياه، فالتَقَت السِّفارةُ بجيشِ المغولِ في "تبريز" في 17 من المحرم 645 (24 من مايو 1247م) وكان ردُّ قائد الجيشِ المغولي أنَّ رسالة البابا أدَّت إليه النصيحةَ بعدم القتلِ، وأنَّه يرفُضُ دعوته إلى اعتناقِ النصرانية، وعلى البابا وملوكِ أوروبا أن يُعلِنوا خضوعَهم لسلطانِ المغول. ومِن ثمَّ لم تؤدِّ السفاراتُ الثلاث ما كان يطمَحُ له البابا من جذبِ المغول الوثنيِّين إلى النصرانيَّة ووقوفِهم معه ضِدَّ المسلمين.