عن أبي موسى رضي الله عنه قال: بلغَنا مَخرجُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ونحن باليَمنِ، فخرَجْنا مُهاجرين إليه، أنا وأَخَوانِ لي أنا أَصغرُهم، أَحدُهما أبو بُردةَ، والآخرُ أبو رُهْمٍ -إمَّا قال: في بِضْعٍ، وإمَّا قال: في ثلاثةٍ وخمسين، أو اثنين وخمسين رجلًا مِن قومي- فرَكِبْنا سَفينةً، فأَلقَتْنا سَفينتُنا إلى النَّجاشيِّ بالحَبشةِ، ووافَقْنا جَعفرَ بنَ أبي طالبٍ وأصحابَه عنده، فقال جَعفرٌ: إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعَثنا هاهنا، وأمَرنا بالإقامةِ، فأقيموا معنا. فأَقمنا معه حتَّى قَدِمنا جميعا، فوافَقْنا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم حين افتَتَح خَيبرَ، فأَسهَم لنا -أو قال: فأعطانا منها- وما قَسَمَ لأحدٍ غاب عن فَتحِ خَيبرَ منها شيئًا، إلَّا لمن شَهِدَ معه، إلَّا أصحابَ سَفينتِنا مع جَعفرٍ وأصحابِه، قَسَمَ لهم معهم.
هو أبو محمد زيادةُ الله بن محمد بن الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب ولِيَ أفريقيَّة يوم وفاة أخيه أحمد أبو إبراهيم، في ذي القعدة، سنة 249هـ, وكان زيادة الله عاقلًا حليمًا حسَن السيرةِ جميلَ الأفعال، ذا رأيٍ ونجدة وجُودٍ وشجاعةٍ. وهو الثاني ممن اسمه زيادة الله في بني الأغلب، وهو ثامن أمراء الأغالبة بأفريقية، واستمَرَّت إمارته سنة وأيامًا، ثم تولى من بعده ابن أخيه محمد الثاني المعروف بأبي الغرانيق.
بينما كان الإمامُ تركي غازيًا في الشمال خرج مشاري بن عبد الرحمن من الرياض مغاضِبًا لخاله الإمام تركي بن عبد الله، فبحث عمَّن يَنصُرُه عند مطيرٍ ورؤساء أهل القصيم وعنزة، وأخيرًا شريف مكة محمد بن عون، فلم يجِدْ منهم من ناصره، فعاد إلى الرياض نادمًا سنة 1248هـ وطلب من خالِه العفو فعفا عن وأكرمه، وأسكنه في بيتٍ عنده، وحجز النَّاسَ عن زيارته.
في هذه السنة عمَّ البلاء وعظُمَ العزاء بجنكيزخان المسمى بتموجين وقيل (تمرجين) لعنه الله تعالى، ومن معه من التتر قبَّحهم الله أجمعين، واستفحل أمرُهم واشتد إفسادُهم من أقصى بلاد الصين إلى أن وصلوا بلاد العراق وما حولها حتى انتهوا إلى إربل وأعمالها، فمَلَكوا في سنة واحدة وهي هذه السنة سائر الممالك المشرق، وقهروا جميع الطوائفِ التي بتلك النواحي الخوارزمية والقفجاق والكرج واللان والخزر وغيرهم، وقتلوا في هذه السنة من طوائف المسلمين وغيرهم في بلدان متعددة ما لا يحَدُّ ولا يُوصَفُ، وبالجملة فلم يدخُلوا بلدًا إلا قتلوا جميعَ من فيه من المقاتلة والرجال، وكثيرًا من النساء والأطفال، وأتلفوا ما فيه بالنَّهبِ إن احتاجوا إليه، وبالحريق إن لم يحتاجوا إليه، حتى إنهم كانوا يجمعون الحريرَ الكثير الذي يعجزون عن حمله فيطلقون فيه النار وهم ينظرون إليه، ويخربون المنازل، وما عَجَزوا عن تخريبه يحرقونه، وأكثر ما يحرقون المساجد والجوامع، وكانوا يأخذون الأسارى من المسلمين فيقاتِلون بهم ويحاصِرون بهم، وإن لم ينصحوا في القتال قَتَلوهم. وقد بسط ابن الأثير في كامله خبرهم في هذه السنة بسطًا حسنًا مفصلًا، فقال: "لقد بقيت عدة سنين معرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها، كارهًا لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلًا وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهونُ عليه ذكرُ ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنت نسيًا منسيًّا، إلا أنني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيتُ أنَّ تَرْك ذلك لا يجدي نفعًا، فنقول: هذا فصلٌ يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الليالي والأيام عن مثلِها، عمت الخلائقَ وخَصَّت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالمَ منذ خلق الله آدمَ وإلى الآن، لم يُبتَلوا بمثلها لكان صادقًا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا يدانيها، ومن أعظم ما يذكرون من الحوادثِ ما فعل بختنصر ببني إسرائيل من القتل، وتخريب بيت المقدس، وما بيتُ المقدس بالنسبة إلى ما خرَّب هؤلاء الملاعين من البلاد؟ ولعلَّ الخلائق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقَرِضَ العالم، وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج، وأما الدجَّال فإنه يبقي على من اتَّبَعه، ويهلك من خالفه، وهؤلاء لم يُبقُوا على أحد، بل قتلوا الرجال والنساء والأطفال، وشَقُّوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنَّة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لهذه الحادثة التي استطار شررها، وعم ضررها، وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح، فإنَّ قومًا خرجوا من أطراف الصين، فقصدوا بلاد تركستان مثل كاشغر وبلاساغون، ثم منها إلى بلاد ما وراء النهر مثل سمرقند وبخارى وغيرهما، فيملكونها، ويفعلون بأهلها الأفاعيل، ثم تعبر طائفة منهم إلى خراسان فيفرغون منها ملكًا، وتخريبًا وقتلًا ونهبًا، ثم يجاوزونَها إلى الري وهمذان وبلد الجبل وما فيه من البلاد إلى حد العراق، ثم يقصِدون بلاد أذربيجان وأرانية ويخربونه، ويقتلون أكثَرَ أهلها ولم ينجُ منهم إلا الشريد النادر في أقل من سنة، هذا ما لم يسمع بمثله، ثم ساروا إلى دربند شروان فملكوا مدنَه، ولم يسلَمْ غير قلعته التي بها مُلكُهم، وعبَروا عندها إلى بلد اللان، واللكز ومن في ذلك الصقع من الأمم المختلفة، فأوسعوهم قتلًا ونهبًا وتخريبًا، ثم قصدوا بلاد قفجاق، وهم من أكثر الترك عددًا، فقتلوا كل من وقف لهم وهرب الباقون إلى الغياض وملكوا عليهم بلادهم، وسارت طائفة أخرى إلى غزنة وأعمالها، وما يجاورها من بلاد الهند وسجستان وكرمان، ففعلوا فيها مثل أفعال هؤلاء وأشد، هذا ما لم يطرق الأسماعَ مثلُه، فإن الإسكندر الذي اتفق المؤرخون على أنه ملك الدنيا لم يملِكْها في سنة واحدة، إنما ملَكَها في نحو عشر سنين، ولم يقتل أحدًا، بل رضي من الناس بالطاعة، وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض وأطيبه وأحسنه عمارة، وأكثره أهلًا وأعدلهم أخلاقًا وسيرة في نحو سنة، ولم يتَّفِق لأحد من أهل البلاد التي لم يطرقوها بقاء إلا وهو خائف مترقِّب وصولهم إليه. ثم إنهم لا يحتاجون إلى ميرة ومدد يأتيهم، فإنهم معهم الأغنام، والبقر، والخيل، وغير ذلك من الدواب، يأكلون لحومَها لا غير، وأما دوابهم التي يركبونها فإنها تحفِرُ الأرض بحوافرها، وتأكل عروقَ النبات لا تعرفُ الشعير، فهم إذا نزلوا منزلًا لا يحتاجون إلى شيءٍ مِن خارجه. وأمَّا ديانتهم، فإنهم يسجدون للشمسِ عند طلوعها، ولا يحرمون شيئًا، فإنهم يأكلون جميعَ الدواب، حتى الكلاب، والخنازير، وغيرها، ولا يعرفون نكاحًا بل المرأة يأتيها غيرُ واحد من الرجال، فإذا جاء الولدُ لا يَعرِف أباه. وإنما استقام لهم هذا الأمرُ لعدم المانع؛ لأن السلطان خوارزم شاه محمدًا كان قد قتل الملوك من سائر الممالك، واستقَرَّ في الأمور، فلما انهزم من التتر في العام الماضي وضَعُف عنهم وساقوا وراءه فهرب فلا يدرى أين ذهب، وهلك في بعض جزائر البحر، خلت البلادُ ولم يبق لها من يحميها؛ {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 44] وإلى الله تُرجَع الأمور."
استولى عماد الدين زنكي على جميع قلاع الأكراد الحميدية، منها قلاع العقر، وقلعة شوش، وغيرهما، وكان لما ملك الموصل أقرَّ صاحبها الأمير عيسى الحميدي على ولايتها وأعمالها، ولم يعترِضْه على شيء مما هو بيده، فلما حصر المسترشد بالله الموصل حضر عيسى هذا عنده، وجمع الأكراد عنده فأكثر، فلما رحل المسترشد بالله عن الموصل أمر زنكي أن تُحصَر قلاعهم، فحُصرت مدة طويلة وقُوتلت قتالًا شديدًا إلى أن مُلِكت هذه السنة، فاطمأنَّ إذًا أهل سواد الموصل المجاورون لهؤلاء القوم؛ فإنهم كانوا معهم في ضائقة كبيرة من نهب أموالهم وخراب البلاد، كما ملك قلاع الهكارية وكواشي، وحُكِي عن بعض العلماء من الأكراد ممن له معرفة بأحوالهم أن أتابك زنكي لما ملك قلاع الحميدية وأجلاهم عنها خاف أبو الهيجاء بن عبد الله صاحب قلعة أشب والجزيرة ونوشي، فأرسل إلى أتابك زنكي من استحلفه له، وحمل إليه مالًا، وحضر عند زنكي بالموصل فبقي مدة ثم مات، فدُفِن بتل توبة. ولَمَّا سار عن أشب إلى الموصل أخرج ولده أحمد بن أبي الهيجاء منها؛ خوفًا أن يتغلب عليها، وأعطاه قلعةَ نوشى، وأحمد هذا هو والد علي ابن أحمد المعروف بالمشطوب، من أكابر أمراء صلاح الدين بن أيوب بالشام، ولما أخرجه أبوه من أشب استناب بها كرديًّا يقال له باو الأرجي، فلما مات أبو الهيجاء سار ولده أحمد من نوشى إلى أشب ليملِكَها، فمنعه باو وأراد حفظها لولد صغير لأبي الهيجاء اسمه علي، فسار زنكي بعسكره فنزل على أشب وملكها.
هو أحمدُ بنُ يحيى بن إسحاق الراوندي نسبةً إلى راوند بلدةٍ مِن أصبهان، ولد عام 210, فيلسوف مجاهرٌ بالإلحاد، له مناظراتٌ ومجالسُ مع علماء الكلام، انفرد بمذاهِبَ نُقِلَت عنه في كتبه، كالقول بالحُلوليَّة، وتناسُخ رُوح الإله في الأئمَّة، وكان يلازِمُ الرافضةَ والملاحِدةَ، فإذا عوتِبَ قال: "أنا أريدُ أن أعرِفَ مذاهبَهم"، ثم كاشَفَ وناظَرَ، وصنَّف في الزندقة- لعنه اللهُ- قيل: إنَّ أباه كان يهوديًّا فأظهَرَ الإسلامَ، قال ابن حجر: "كان أوَّلًا مِن متكَلِّمي المعتَزِلة، ثم تزندقَ واشتَهَر بالإلحادِ" وقيل: إنه كان لا يستقِرُّ على مذهبٍ ولا يَثبُتُ على شيءٍ، ويقال: كان غايةً في الذكاءِ، قال الإمام أبو الفرج بن الجوزي: "كنتُ أسمع عنه بالعظائمِ، حتى رأيتُ له ما لم يَخطُرْ مِثلُه على قلبٍ" وهو أحدُ مشاهير الزنادقة، طلبه السلطانُ فهرب إلى ابن لاوي اليهودي بالأهواز، وصَنَّفَ عنده مصنَّفات، منها كتاب "الدامغ للقرآن" وضعه ليطعنَ به في القرآنِ، وفي النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم. ثمَّ لم يلبث إلَّا أيامًا حتى مرِضَ ومات, وكتابٌ في الرَّدِّ على الشريعةِ سمَّاه "الزمردة"، قال ابن عقيل: "عجبي كيف لم يُقتَلْ وقد صنَّف «الدامغ»" قال بعضُ اليهودِ للمُسلمينَ: لا يُفسِدَنَّ عليكم هذا كتابَكم، كما أفسَدَ أبوه علينا التوراةَ". واختُلِفَ في موته، فقيل: مات وهو عند اليهوديِّ، وقيل: بل صُلِبَ، عاش أكثَرَ مِن ثمانين سنة، فلا رَحِمَه الله. وجازاه بما يستحِقُّه.
لَمَّا رأى المحسِنُ ابن الوزير ابن الفرات انحلالَ أمورهم، أخذَ كلَّ مَن كان محبوسًا عنده من المصادَرينَ، فقتَلَهم؛ لأنَّه كان قد أخذ منهم أموالًا جليلةً، ولم يوصِلْها إلى المقتَدِر، فخاف أن يقرُّوا عليه. فكَثُر الإرجافُ على ابن الفرات، فكتب ابنُ الفراتِ إلى المقتَدِر يُعَرِّفُه ذلك، وأنَّ النَّاسَ إنَّما عادَوه لنُصحِه وشفَقتِه، وأخذ حقوقه منهم، فأنفذ المقتَدِرُ إليه يُسَكِّنُه ويطَيِّبُ قَلبَه, ثم ركبَ هو وولدُه إلى المقتدر، فأدخلَهما إليه فطيَّبَ قلوبَهما فخرجا من عنده هو وابنُه المحسن، فأمَّا المحسن فإنه اختفى، وأما الوزير فإنه جلس عامَّةَ نهاره يمضي الأشغالَ إلى الليل، ثم بات مفكِّرًا، فلما أصبح سَمِعَه بعضُ خَدَمِه ينشد: وأصبَحَ لا يدري وإن كان حازمًا... أقُدَّامُه خيرٌ له أم وراءَه. فلما أصبح الغدُ، وهو الثامن من ربيع الأول، وارتفع النهار أتاه نازوك وبليق في عِدَّة من الجند، فدخلوا إلى الوزيرِ، وهو عند الحرم، فأخرجوه حافيًا مكشوفَ الرأس، وأُخِذَ إلى دجلة، ثم حُمِلَ إلى مؤنسٍ المظَفَّر، ومعه هلال بن بدر، فاعتذر إليه ابنُ الفرات، وألان كلامه، فقال له: أنا الآن الأستاذُ، وكنتُ بالأمس الخائنَ الساعيَ في فساد الدولة، وأخرجتَني والمطرُ على رأسي ورؤوسِ أصحابي، (ولم تمهِلْني) ثمَّ سُلِّمَ إلى شفيع اللؤلؤي، فحُبِسَ عنده، وكانت مدَّة وَزارته عشرةَ أشهر وثمانية عشر يومًا، وأُخِذَ أصحابُه وأولاده ولم ينجُ منهم إلَّا المحسن، فإنه اختفى، وصودِرَ ابنُ الفرات على جملةٍ مِن المال مبلغها ألف ألف دينار.
هو أبو طاهرٍ سُلَيمانُ بنُ أبي سعيد الحسن الجَنّابي الهَجري القرمطيُّ، رئيس القرامطة- قبَّحه الله- كان أبوه يحِبُّه ويرجِّحُه للأمرِ مِن بعده، وأوصى: إن حَدَث به موتٌ، فالأمرُ إلى ابنِه سعيدٍ إلى أن يكبَرَ أبو طاهر، فيُعيد سعيدٌ إليه الأمر. فلما كان في سنةِ خمس وثلاثمائة سلَّمَ سعيدٌ الأمرَ إلى أخيه أبي طاهر، فاستجاب لأبي طاهرٍ خَلقٌ وافتتنوا به؛ بسبب أنَّه دلَّهم على كنوزٍ كان والده أطلَعَه عليها وحده، فوقَعَ لهم أنَّه عِلمُ غَيْبٍ، وقد استباح البصرةَ، وأخذ الحجيجَ، وفعَلَ العظائم، وأرعَبَ الخلائِقَ وكُثُرَت جموعُه، وتزلزل له الخليفةُ. وزعم بعضُ أصحابه أنه إلهٌ، ومنهم من زعم أنَّه المسيح، ومنهم مَن قالَ هو نبيٌّ. وقيل: هو المهديُّ، وقيل: هو الممهِّدُ للمهديِّ. وقد هَزَمَ جيشَ الخليفة المقتدي غيرَ مرَّة، ثمّ إنَّه قصد بغداد ليأخذها، فدفَعَ اللهُ شَرَّه. وقتل الحجيجَ حولَ الكعبة وفي جوفِها، وسَلَبَها كسوتَها، وأخذ بابَها وحِليَتَها، واقتلع الحجرَ الأسودَ مِن مَوضِعِه وأخذه معه إلى بلَدِه هَجَر، فمكث عنده من سنة 319 ثم مات- قبَّحه الله ولعَنَه- وهو عندَهم, ولم يردُّوه إلَّا سنة 339، ولَمَّا مات هذا القرمطي قام بالأمرِ مِن بعده إخوتُه الثلاثة، وهم أبو العباس الفضل، وأبو القاسم سعيد، وأبو يعقوب يوسف، بنو أبي سعيد الجنابي، وكان أبو العبَّاسِ ضعيفَ البدن مُقبِلًا على قراءة الكتب، وكان أبو يعقوبَ مُقبِلًا على اللهو واللعب، ومع هذا كانت كلمةُ الثلاثة واحدةً، لا يختلفون في شيءٍ وكان لهم سبعةٌ من الوزراء متَّفِقونَ أيضًا.
سارَ قُتيبةُ بن مُسلِم إلى بُخارَى مَرَّةً أُخرى, فأَرسَل مَلِكُها يَسْتَنْصِر مَن حَولَه، ولكنَّ قُتيبةَ اسْتَطاع فَتْحَها هذه المَرَّة، ولمَّا فَتَحَها اسْتَأْذَنه نَيْزَك طَرْخان في الرُّجوع إلى بِلادِه -وكان نَيْزَك قد أَسلَم وسُمِّيَ بعبدِ الله- فأَذِنَ له، فرَجَع إلى طُخارِستان، فعَصى وكاتَبَ مَن حَولَه، وجَمَع الجُموعَ، فزَحَف إليه قُتيبةُ، وانْتَصَر عليهم بعدَ قِتالٍ شَديدٍ وحَرْبٍ يَشيبُ لها الوَليد، وذلك أنَّ مُلوكَهم كانوا قد اتَّعَدوا مع نَيْزَك في العام الماضي أن يَجْتَمِعوا ويُقاتِلُوا قُتيبةَ، وأن لا يُوَلُّوا عن القِتال حتَّى يُخْرِجوا العَربَ مِن بِلادِهم، فاجْتَمَعوا اجْتِماعًا هائِلًا لم يَجْتَمِعوا مِثلَه في مَوْقِف، فكَسَرَهُم قُتيبةُ وقَتَلَ منهم أُمَمًا كَثيرَة، وَرَدَّ الأُمورَ إلى ما كانت عليه، ثمَّ لا يَزال يَتَتَبَّع نَيْزَك خان مَلِكَ التُّركِ الأَعظَم مِن إقْليم، إلى إقْليم، ومِن كَوْرَة إلى كَوْرَة، ومِن رِسْتاق إلى رِسْتاق، ولم يَزَل ذلك دَأْبُه حتَّى حَصَرَه في قَلعَةٍ هنالك شَهرَين مُتَتابِعَين، حتَّى نَفَذَ ما عند نَيْزَك خان مِن الأَطْعِمَة، وأَشرَف هو ومَن معه على الهَلاكِ، فبَعَث إليه قُتيبَة مَن جاء به مُسْتَأْمِنًا مَذْمومًا مَخْذولًا، فسَجَنَه عنده ومَن معه, فاسْتَشار قُتيبةُ الأُمَراء في قَتْلِه، فاخْتَلَفوا عليه، فقائِلٌ يقول: اقْتُلْهُ. وقائِلٌ يقول: لا تَقْتُلْهُ. فقال له بَعضُ الأُمَراء: إنَّك أَعْطَيْتَ اللهَ عَهْدًا أنَّك إن ظَفَرت به لتَقْتُلَنَّه، وقد أَمْكَنَك اللهُ منه، فقال قُتيبةُ: والله إن لم يَبْقَ مِن عُمُري إلَّا ما يَسَعُ ثلاثَ كَلِمَات لأَقْتُلَنَّه، ثمَّ قال: اقْتُلوه. فقُتِل، جَزاءَ غَدْرِه ونَقْضِه الصُّلْحَ.
بعث مَلِكُ الرُّوم بأسرى من المسلمينَ، ويسألُ المُفاداة بمن عنده وكان الذي قَدِمَ من قِبَل صاحب الروم رسولًا إلى المتوكِّلِ شَيخًا يُدعى أطرو بيليس، معه سبعةٌ وسبعون رجلًا من أسرى المسلمين أهداهم ميخائيل بن توفيل ملك الروم إلى المتوكِّلِ، فأنزل على شنيف الخادم، ثم وجَّه المتوكِّلُ نصر بن الأزهر مع رسولِ صاحِبِ الروم، فشخص في هذه السنة ولم يقَع الفداءُ إلَّا في سنة ستٍّ وأربعين.
لمَّا احْتَرَقت الكَعبةُ حين غَزا أهلُ الشَّامِ عبدَ الله بن الزُّبير أيَّام يَزيدَ تَرَكها ابنُ الزُّبير يُشَنِّع بذلك على أهلِ الشَّام، فلمَّا مات يَزيدُ واسْتَقَرَّ الأمرُ لابنِ الزُّبير شرَع في بِنائِها، فأَمَر بِهَدْمِها حتَّى أُلْحِقَت بالأرضِ، وكانت قد مالت حيطانُها مِن حِجارَةِ المَنْجنيقِ، وجَعَل الحَجَرَ الأسودَ عنده، وكان النَّاسُ يَطوفون مِن وراءِ الأساسِ، وضرَب عليها السُّورَ وأدخل فيها الحِجْرَ، واحْتَجَّ بأنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال لعائشةَ: (لولا حَدَثانُ عَهْدِ قَومِك بالكُفْرِ لرَدَدْتُ الكَعبةَ على أساسِ إبراهيمَ، وأَزيدُ فيها الحِجْرَ). فحفَر ابنُ الزُّبير فوجَد أساسًا أمثال الجِمالِ، فحَرَّكوا منها صَخرةً فبَرِقَت بارِقَة، فقال: أَقِرُّوها على أساسِها وبِنائِها، وجعَل لها بابَيْنِ يُدْخَل مِن أحدِهما ويُخْرَج مِن الآخر.
كانت سريَّةُ سالِمِ بنِ عُمَيرٍ رَضي اللهُ عنه إلى أبي عَفَكٍ اليَهوديِّ في شوَّالٍ على رأسِ عشرين شهرًا من مُهاجَرِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكان أبو عَفَكٍ من بني عمرِو بن عوفٍ شَيخاً كبيرًا قد بلغ عشرين ومئةَ سنةٍ، وكان يَهوديًّا، عَظيمَ الكُفرِ، شديدَ الطَّعنِ على المسلمين، قد امتَلَأ قلبُه بالحقدِ والحسدِ للمسلمين، وهو يرى الْتِفافَ الأوسِ والخزرجِ على نُصرةِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وازدادَ كيدُه بالإسلامِ وأهلِهِ بعد أنْ رَأى رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يزداد قوَّةً وتَمكينًا في المدينةِ وما حولَها بعد غزوةِ بدرٍ، فلم يُطِقْ لذلك صَبرًا، فأخذ يُنشِدُ الشِّعرَ يَهجو به رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ويُحرِّضُ على عداوَتِه، ويُسَفِّهُ رأيَ الأنصارِ لمُتابَعَتِهم رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومُناصَرَتِه.
فقال سالِمُ بنُ عُمَيرٍ وهو أحدُ البَكَّائين -أي: في غَزوةِ تَبوكَ- ومِمَّن شَهِد بَدرًا: "عليَّ نَذرٌ أن أقتُلَ أبا عَفَكٍ أو أموتَ دُونَه"، فأمهَلَ يَطلُبُ له غِرَّةً، حتى كانت ليلةٌ صائِفةٌ، فنام أبو عَفَكٍ بالفِناءِ، وسَمِعَ به سالِمُ بنُ عُميرٍ، فأقبَلَ فوَضَعَ السَّيفَ على كَبِدِه، ثم اعتَمَدَ عليه حتى خَشَّ في الفراشِ، وصاح عدوُّ اللهِ، فثاب إليه ناسٌ مِمَّن هم على قَولِه، فأدخَلوه منزلَه وقَبَروه.
وكان أبو عَفَكٍ مِمَّن نَجَم نِفاقُه حين قَتَلَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الحارِثَ بنُ سُويدِ بنِ الصَّامِتِ، وشَهِدَ سالِمٌ بَدرًا، وأُحدًا، والخَندَقَ، والمَشاهِدَ كُلَّها مع رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتوُفِّي في خِلافةِ مُعاويةَ بن أبي سُفيانَ رَضي اللهُ عنهما.
بعدَ أن قامَ ألفونسو السادسُ –أدفونش- بالاستِيلاءِ على طُليطلة بدأَ بتَهديدِ إشبيلية، فأَرسلَ كِتابًا لصاحِبِها المُعتَمِد بن عبَّاد قال فيه: "مِن الإمبراطورِ ذي الملتين المَلِكِ أدفونش بن شانجة، إلى المُعتَمِد بالله، سَدَّدَ الله آراءَه، وبَصَّرَهُ مَقاصِدَ الرَّشادِ. قد أَبصرتَ تَزَلزُلَ أَقطارِ طُليطلة، وحِصارَها في سالفِ هذه السِّنين، فأَسلَمتُم إخوانَكم، وعَطَّلتُم بالدَّعَةِ زَمانَكم، والحَذِرُ مَن أَيقظَ بالَه قبلَ الوُقوعِ في الحِبالَة. ولولا عَهدٌ سَلَفَ بيننا نَحفظُ ذِمامَه نَهَضَ العَزمُ، ولكنَّ الإنذارَ يَقطَع الأعذارَ، ولا يَعجَل إلَّا مَن يَخاف الفَوْتَ فيما يَرومُه، وقد حَمَّلنَا الرِّسالةَ إليك البرهانس، وعندَه مِن التَّسديدِ الذي يَلقَى به أَمثالَك، والعَقلِ الذي يُدَبِّر به بِلادَك ورِجالَك، ما أَوجَبَ استِنابَتَه فيما يَدِقُّ ويَجِلُّ". فلمَّا قَدِمَ الرَّسولُ أَحضرَ المُعتَمِدُ الأكابرَ، وقُرئ الكِتابُ، بَكَى أبو عبدِ الله بنُ عبدِ البَرِّ وقال: قد أَبصرَنا ببَصائِرِنا أن مآلَ هذه الأَموالِ إلى هذا، وأن مُسالَمَةَ اللَّعينِ قُوَّةٌ بلاده لبلاده، فلو تَضافَرنا لم نُصبِح في التلافِ تحتَ ذُلِّ الخِلافِ، وما بَقِيَ إلا الرُّجوعُ إلى الله والجِهادُ. وأمَّا ابن زيدون وابن لبون فقالا: الرَّأيُ مُهادَنتُه ومُسالمَتُه. فجَنَحَ المُعتَمِدُ إلى الحَربِ، وإلى استِمدادِ مَلِكِ البَربرِ ابنِ تاشفين، فقال جَماعةٌ: نَخافُ عليك من استِمدادِه. فقال: رَعْيُ الجِمالِ خَيرٌ مِن رَعْيِ الخَنازيرِ". فرَدَّ على الأدفونش يَتهدَّدهُ و يَتَوعَّدهُ, ثم اتَّفقَ المُعتَمِدُ بن عبَّاد صاحِبُ أشبيلية والمُتوكِّلُ بن الأَفطَس صاحِبُ بطليموس وعبدُالله بن بلقين أَميرُ غِرناطة، على إرسالِ وَفْدٍ من القُضاةِ والأَعيانِ إلى يُوسفَ بن تاشفين يَدعونَهُ إلى الحُضورِ إلى الأندلسِ لِقِتالِ النَّصارَى ويَستَنصِرونَه على ألفونسو السادس، فلمَّا استَجابَ ابنُ تاشفين لِطَلَبِهم إرسال أَرسلَ رِسالةً إلى ألفونسو يَدعوهُ فيها إلى الإسلامِ أو الجِزيَةِ أو الحَربِ، فاختارَ الحَربَ.
كان نَجمُ الدينِ أيوبُ نائِبَ بعلبك، وعلى قَلعَتِها رَجلٌ يُقالُ له الضَّحَّاكُ البِقاعيُّ، فكاتَبَ نَجمُ الدينِ نورَ الدينِ محمودًا، ولم يَزَل نورُ الدينِ يَتلَطَّف البِقاعيَّ حتى أَخَذَ منه القَلعةَ ثم استَدعَى نَجمَ الدينِ أيوبَ إليه بدمشق فأَقطَعَهُ إِقطاعًا حَسَنًا، وأَكرَمهُ. مِن أَجلِ أَخيهِ أَسَدِ الدينِ، فإنه كانت له اليَدُ الطُّولَى في فَتحِ دِمشقَ، وجَعلَ الأَميرَ شَمسَ الدولةِ بوران شاه بن نِجمِ الدينِ شِحْنَةَ دِمشقَ، ثم مِن بَعدِه جَعلَ أَخاهُ صَلاحَ الدينِ يُوسفَ هو الشِّحْنَةَ، وجَعلَهُ مِن خَواصِّهِ لا يُفارِقه حَضَرًا ولا سَفَرًا، لأنه كان حَسَنَ الشَّكلِ حَسَنَ اللَّعِبِ بالكُرَةِ، وكان نورُ الدينِ يُحِبُّ لَعِبَ الكُرَةِ لِتَمرينِ الخَيلِ وتَعلِيمِها الكَرَّ والفَرَّ.
كان الأفضلُ أمير الجيوش بمصر قد أنفذ مملوكًا لأبيه -لَقَبه سعد الدولة، ويعرف بالطواشي- إلى الشام لحرب الفرنج، فلقِيَهم بين الرملة ويافا، ومقَدَّم الفرنج يعرف ببغدوين، تصافوا واقتتلوا، فحملت الفرنج حملةً صادقة، فانهزم المسلمون، فلما كانت هذه الوقعة انهزم سعد الدولة، فتردى به فرسه فسقط ميتًا، وملك الفرنجُ خيمتَه وجميعَ ما للمسلمين. فأرسل الأفضلُ بعده ابنَه شرف المعالي في جمعٍ كثير، فالتقوا هم والفرنج بالقرب من الرملة، فانهزم الفرنج، وقُتِل منهم مقتلةٌ عظيمة، وعاد من سلم منهم مغلولين، فلما رأى بغدوين شدة الأمر، وخاف القتل والأسر؛ ألقى نفسه في الحشيش واختفى فيه، فلما أبعد المسلمون خرج منه إلى الرملة. وسار شرف المعالي بن الأفضل من المعركة، ونزل على قصر بالرملة، وبه سبعمائة من أعيان الفرنج، وفيهم بغدوين، فخرج متخفيًا إلى يافا، وقاتل ابن الأفضل من بقي من الفرنج خمسة عشر يومًا، ثم أخذهم، فقتل منهم أربعمائة صبرًا، وأسر ثلاثمائة إلى مصر. ثم اختلف أصحابُه في مقصدهم، فقال قوم: نقصِدُ بيت المقدس ونتملَّكُه، وقال قوم: نقصد يافا ونملكها، فبينما هم في هذا الاختلاف إذ وصل إلى الفرنج خلق كثير في البحر قاصدين زيارة البيت المقدس، فندبهم بغدوين للغزوِ معه، فساروا إلى عسقلان، وبها شرف المعالي فلم يكن يقوى بحربهم، فلطف الله بالمسلمين، فرأى الفرنجُ البحرية حصانة عسقلان، وخافوا البيات، فرحلوا إلى يافا، وعاد ولد الأفضل إلى أبيه، فسيَّرَ رجلًا يقال له تاج العجم في البر، وهو من أكبر مماليك أبيه، وجهز معه أربعة آلاف فارس، وسيَّر في البحر رجلًا يقال له القاضي ابن قادوس، في الأسطول على يافا، ونزل تاج العجم على عسقلان، فاستدعاه ابن قادوس إليه ليتفقا على حرب الفرنج، فقال تاج العجم: ما يمكنني أن أنزل إليك إلا بأمر الأفضل، ولم يحضر عنده ولا أعانه، فأرسل ابن قادوس إلى قاضي عسقلان وشهودها وأعيانها، وأخذ خطوطهم بأنه أقام على يافا عشرين يومًا، واستدعى تاج العجم فلم يأتِه ولا أرسل رجلًا، فلما وقف الأفضل على الحال أرسل من قبض على تاج العجم وأرسل رجلًا لقبه جمال الملك، فأسكنه عسقلان، وجعله متقَدِّم العساكِرِ الشامية.