(تنس) مدينةٌ تقع بالقُربِ من مليانة بينهما بحرُ ميلان، أسَّسَها وبناها البحريونَ من أهل الأندلس، وهي مُسَوَّرة حصينة، وبعضُها على جبلٍ وقد أحاط به السُّور، وبعضُها في سهلِ الأرض، وهي قديمةٌ، ويشرب أهلُها من عينٍ عذبة تُعرَفُ بعين عبدالسلام، وبها فواكِهُ وخِصبٌ وإقلاعٌ وانحطاط، ولها أقاليمُ وأعمالٌ ومزارِعُ. أصبحت تنس جمهورية مستقلَّةً مع قدوم قبيلة السَّواد العربية.
بدَأت المطالَبةُ في باكستانَ بتَقسيم باكستانَ الشرقيةِ (بنغلادش حاليًّا) عن باكستانَ الغربيةِ (باكستان الحالية)، وكان شَيخ مُجيب الرحمن (مُيوله اشتراكيةٌ) في باكستانَ الشرقيةِ هو الداعيَ إلى هذا الانفصالِ، وكان مِن المؤيِّدين أيضًا لهذا الانفصالِ ذو الفقار علي بوتو الشِّيعي، وأيَّد الأمريكانُ هذا التَّيار بمِثل ما أيَّدوا به مُجيب الرحمن، إضافةً إلى أنَّ الرئيسَ يحيى خان الشِّيعي أوعَز للشِّيعة بتَأْييد ذي الفقارِ هذا، وكان هذا الانفصالُ لصالِح الهندِ بالدَّرجة الأولى؛ لأن باكستانَ الدَّولةُ الوحيدةُ القادرة على التَّصدِّي لها في المنطقةِ، تفجَّر العصيانَ المسلَّح في باكستانَ الشرقيةِ، وارتُكِبت أبشعُ الجرائمِ، وسُلِبت المحلاتُ التِّجارية، وحُرِّق الناسُ وهم أحياءٌ، وهُتِكت الأعراضُ! فبدَأت الحربُ الثالثةُ بين باكستانَ والهندِ على طُول الجبهات في الشَّرْق والغرب، وكانت الهندُ قد عقَدت حِلفًا مع رُوسيا؛ لضَمان عدَمِ تدخُّل الصينِ، وكان على الهندِ أن تَرمِيَ بكلِّ ثقلِها على الجبهةِ الشرقيةِ؛ لتَنْتهي منها، فدفَعت باثنتيْ عشْرةَ فرقةً من المشاةِ وعِدَّةِ ألويةٍ مِن المدرَّعات؛ لتَقتحِمَ حُدود باكستانَ الشرقيةِ، وكان عددُ الجنود يَزيد على 240 ألف جُنديٍّ، ومعهم دبَّابات رُوسية ذاتُ مدافعَ ثقيلةٍ، بالإضافة للطائراتِ الرُّوسية، وهكذا تقدَّمت الهِند في الجبْهة الشرقيةِ برًّا وبحرًا، وكان في المقابلِ الدفاعُ الباكستانيُّ يَزيد عن ثمانينَ ألف مُقاتِل بدون طيرانٍ، ومع عدَم وُصول الإمدادات وانحصارِها من أكثرَ مِن جهةٍ، اندَحَرت القوات الباكستانيةُ، ثم استسْلَمت باكستانُ الشرقيةُ، وبدَأت الإبادةُ الجماعيةُ والمذابحُ الرهيبةُ؛ فقُتِل العلماءُ والناسُ، ومَثَّلوا بالجُثَث، وأُعلِنَ عن قِيام دَولة بنغلادش، فتسلَّم رئاسةَ الدولة نصرُ الإسلام، وغدا الجيشُ الباكستاني في الجناح الشرقيِّ كلِّه أسيرًا، ووقَّع قائدُه الجنرال نيازي وَثيقةَ الاستسلام، وأعلَنَ مَندوب بنغلاديش في بَيروت جلال الدين أحمد أنَّ دَولتَه ستَقوم على أساسٍ عَلْماني، وأمَّا على الجبهة الغربيةِ فلم تَستطِع الهندُ تحقيقَ الكثيرِ، ثم خرَج قرارٌ من الجمعية العُمومية بوقْفِ إطلاق النارِ ورَغم مُوافَقة باكستانَ على القرارِ، استمرَّت الهندُ في العُدوان إلى أن توقَّف القِتالُ في 29 شوَّال 1391هـ / 17 ديسمبر 1971م.
هو شَيخُ الآدابِ، أبو العلاء أَحمدُ بن عبدِ الله بن سُليمانَ المَعَرِّي التَّنوخي الشاعر، اللُّغويُّ، صاحبُ الدَّواوين والمُصَنَّفات في الشِّعرِ واللُّغةِ، المشهور بالزَّندقَةِ، وُلِدَ سنة 363هـ, وأصابهُ جُدَري وله أربعُ سِنين أو سَبع، فذَهبَ بَصرهُ، وقال الشِّعْرَ وله إحدى أو ثنتا عشرة سَنة، ودخلَ بغداد سنةَ تِسعٍ وتسعين وثلاثمائة، فأقام بها سنةً وسبعةَ أَشهُر، ثم خَرجَ منها طَريدًا مُنهزِمًا، لمَّا عَزَم الفُقهاءُ على أَخذِه ببَعضِ أَشعارهِ الدَّالةِ على فِسْقِه، هَرَب ورَجَع إلى بَلدِه، ولَزِمَ مَنزِلَه فكان لا يَخرُج منه، وسَمَّى نَفسَه: رَهينَ المَحْبَسَينِ لذلك ولِذهابِ بَصرِه, وقد كان المَعَرِّي غايةً في الذَّكاءِ المُفرِط، ومَكَثَ المَعَرِّي خمسًا وأربعين سنةً من عُمُرِه لا يأكلُ اللَّحمَ ولا اللَّبَنَ ولا البَيْضَ، ولا شيئًا مِن حَيوانٍ، على طَريقَةِ البَراهِمَة الفَلاسِفَة، ويُقال: "إنَّه اجتَمَع بِراهبٍ في بَعضِ الصَّوامِع في مَجيئِه من بَعضِ السَّواحِل آواهُ اللَّيلَ عنده، فشَكَّكَهُ في دِينِ الإسلام" فكان لا يَتَقَوَّتُ إلَّا بالنَّباتِ وغَيرِه، وأَكثرُ ما كان يأكلُ العَدسَ، ويَتَحَلَّى بالدِّبْسِ وبالتِّينِ، وكان لا يأكل بِحَضرَةِ أَحدٍ، ويقول: أَكْلُ الأعمى عَورةٌ وسَترُه واجب. قال ابنُ كَثيرٍ: "كان ذَكِيًّا ولم يكن زَكِيًّا، وله مُصنفاتٌ كَثيرةٌ أَكثرُها في الشِّعْرِ، وفي بَعضِ أَشعارِه ما يَدلُّ على زَندَقتِه، وانحِلالِه مِن الدِّين، ومن الناسِ مَن يَعتَذِر عنه ويقول: إنَّه إنمَّا كان يقول ذلك مُجونًا ولَعِبًا، ويقول بلِسانِه ما ليس في قَلبِه، وقد كان باطنُه مُسلِمًا"، قال أبو الوفاء ابن عَقيلٍ شيخُ الحنابلة: "مِن العجائبِ أنَّ المَعَرِّي أَظهرَ ما أَظهرَ مِن الكُفرِ الباردِ، وسَقَطَ مِن عُيونِ الكُلِّ، ثم اُعتُذِرَ بأن لِقَولهِ باطِنًا، وأنَّه مُسلمٌ في الباطنِ، فلا عَقلَ له ولا دِينَ، لأنَّه تَظاهَر بالكُفرِ وزَعَم أنَّه مُسلمٌ في الباطنِ، وهذا عَكسُ قضايا المُنافِقين والزَّنادِقة، حيث تَظاهَروا بالإسلامِ وأَبطَنوا الكُفرَ، فهل كان في بلادِ الكُفَّارِ حتى يحتاج إلى أن يُبطِنَ الإسلام، فلا أَسخَف عَقلًا ممَن سَلكَ هذه الطَّريقَة التي هي أَخَسُّ مِن طَريقةِ الزَّنادِقة والمُنافِقين، إذا كان المُتَدَيِّن يَطلُب نَجاةَ الآخِرةِ، والزِّنديق يَطلُب النَّجاةَ في الدُّنيا، وهو جَعلَ نَفسَه عُرضةً لإهلاكِها في الدنيا حين طَعَنَ في الإسلامِ في بلادِ الإسلامِ، وأَبطَن الكُفرَ، وأَهلكَ نَفسَه في المَعادِ، فلا عَقلَ له ولا دِينَ" قال ابنُ الجوزيُّ: "وقد رَأيتُ لأبي العَلاءِ المَعَرِّي كِتابًا سَمَّاهُ (الفُصول والغايات)، يُعارض به السِّور والآيات، وهو كَلامٌ في نِهايةِ الرَّكَّةِ والبُرودةِ، فسبحان مَن أَعمَى بَصرَهُ وبَصيرتَهُ، وقد ذَكرهُ على حُروفِ المُعجَم في آخرِ كِلماتِه"، قال ابنُ كَثيرٍ: "وقد أَورَد ابنُ الجوزي من أَشعارِه الدَّالَّةِ على استِهتارِه بِدِينِ الإسلامِ أَشياءً كَثيرةً تَدُلُّ على كُفرِه؛ بل كلُّ واحدةٍ مِن هذه الأشياءِ تَدُلُّ على كُفرِه وزَندقَتِه وانحِلالِه، وقد زَعمَ بعضُهم أنَّه أَقلَع عن هذا كُلِّه وتاب منه وأنَّه قال قَصيدةً يَعتذِر فيها مِن ذلك كُلِّه، ويَتنَصَّل منه، ومنهم مَن قال: بل كلُّ ذلك مَدسوسٌ عليه مِن قِبَلِ حُسَّادِه وَهُم كُثُر. بل أَلَّفَ ابنُ العديم كِتابًا في الدِّفاعِ عنه، وللمَعَرِّي (دِيوانُ اللُّزومِيَّات)، و(سِقْطُ الزَّنْدِ) و(رِسالةُ الغُفران)"، قال الباخرزي: "أبو العلاء ضَريرٌ ما له ضَريبٌ، طال في ظِلِّ الإسلامِ آناؤهُ، ورَشَحَ بالإلحاد إناؤهُ، وعندنا خَبرُ بَصرِه، والله العالم بِبَصيرَتِه والمُطَّلِع على سَريرَتِه، وإنمَّا تَحدَّثت الأَلسُنُ بإساءتِه بكِتابِه الذي عارَضَ به القُرآنَ، وعَنْوَنَهُ: (الفُصولُ والغايات في مُحاذاةِ السُّوَرِ والآيات)", وقال غَرسُ النِّعمَة محمدُ بن هلالِ بن المُحسِن بن إبراهيمَ الصابئ عنه: "له شِعْرٌ كَثيرٌ، وأَدَبٌ غَزيرٌ، ويُرمَى بالإلحادِ، وأَشعارُه دَالَّةٌ على ما يُتَّهَمُ به" قال أبو زكريا التِّبريزي: "لمَّا قَرأتُ على أبي العَلاءِ بالمَعَرَّةِ قوله:
تَناقُضٌ ما لنا إلَّا السُّكوتُ له
وأن نَعوذُ بمولانا مِن النَّارِ
يَدٌ بِخَمسِ مِئٍ مِن عَسْجَدٍ وُدِيَت
ما بالُها قُطِعَت في رُبعِ دِينارِ؟
سَألتُه، فقال: هذا كَقولِ الفُقهاءِ: عِبادَةٌ لا يُعقَل مَعناها". قال الذَّهبيُّ: لو أراد ذلك؛ لقال: تَعَبُّد، ولَمَا قال: تَناقُض, ولِمَا أَردَفهُ ببَيتٍ آخرَ يَعترِض على رَبِّه, وبإسنادي قال السَّلفيُّ: إن كان قاله مُعتَقِدًا مَعناهُ، فالنَّارُ مَأْواهُ، وليس له في الإسلامِ نَصيبٌ". تُوفِّي في المَعَرَّةِ مَعَرَّةِ النُّعمانِ، وفيها دُفِنَ عن عُمُرٍ 86 عامًا.
في هذه الحادثةِ العظيمةِ رأى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الأنبياءَ، ورأى سِدرةَ المُنتهى وغيرَ ذلك مِنَ الآياتِ العظيمةِ، وفيها فُرِضتْ الصَّلواتُ الخمسُ، وهو أمرٌ تتَّفِقُ عليه رِواياتُ الصَّحيحينِ، وقد كذَّبتْ قُريشٌ وقوعَ حادثةِ الإسراءِ والمِعراجِ، وهذا أمرٌ اتَّفقتْ عليه رِواياتُ الصَّحيحينِ أيضًا، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"لقد رأيتُني في الحِجْرِ وقُريشٌ تسألُني عن مَسْرايَ، فسألَتني عن أشياءَ مِن بيتِ المَقدسِ لم أُثْبِتْها، فكُرِبْتُ كُربةً ما كُرِبْتُ مِثلَهُ قَطُّ». قال: " فرفعهُ الله لي أنظرُ إليه، ما يسألوني عن شيءٍ إلَّا أنبأتُهم به، وقد رأيتُني في جماعةٍ مِنَ الأنبياءِ، فإذا موسى قائمٌ يُصلِّي، فإذا رجلٌ ضَرْبٌ، جَعْدٌ كأنَّه مِن رجالِ شَنُوءَةَ، وإذا عيسى ابنُ مريمَ عليه السَّلامُ قائمٌ يُصلِّي، أقربُ النَّاسِ به شَبَهًا عُروةُ بنُ مَسعودٍ الثَّقفيُّ، وإذا إبراهيمُ عليه السَّلامُ قائمٌ يُصلِّي، أَشْبَهُ النَّاسِ به صاحبُكم - يعني نَفْسَهُ - فحانتِ الصَّلاةُ فأَمَمْتُهُم، فلمَّا فَرَغْتُ مِنَ الصَّلاةِ قال قائلٌ: يا محمَّدُ، هذا مالكٌ صاحبُ النَّارِ، فَسلِّمْ عليه، فالتفَتُّ إليه، فبدأَني بالسَّلامِ ".
سار السليطين- وهو الأذفونش مَلِكُ طليطلة وأعمالِها، وهو مِن مُلوك الجلالقة، نوعٌ من الفرنج- في أربعينَ ألفَ فارسٍ إلى مدينةِ قُرطُبةَ، فحَصَرَها، وهي في ضَعفٍ وغَلاءٍ، فبَلَغَ الخبَرُ إلى عبدِ المؤمن وهو في مراكش، فجَهَّزَ عَسكرًا كثيرًا، وجعَلَ مُقَدَّمَهم أبا زكرياء يحيى بن يرموز، ونفَذَهم إلى قُرطُبةَ، فلَمَّا قَرُبوا منها لم يَقدِروا أن يلقَوا عسكَرَ السليطين في الوطاءِ، وأرادوا الاجتماعَ بأهلِ قُرطُبةَ ليَمنَعوها لخَطَرِ العاقبةِ بعد القتال، فسَلَكوا الجِبالَ الوَعْرةَ والمضايقَ المُتشَعِّبةَ، فساروا نحوَ خمسة وعشرين يومًا في الوَعرِ في مسافة أربعةِ أيَّامٍ في السَّهلِ، فوصلوا إلى جَبَلٍ مُطِلٍّ على قرطبة، فلمَّا رآهم السليطين وتحَقَّقَ أمرَهم رحَلَ عن قُرطُبةَ، فلما رحل الفرنجُ خرَجَ منها أميرُها لوَقتِه وصَعِدَ إلى ابنِ يرموز، وقال له: انزِلوا عاجلًا وادخُلوا البلد؛ ففعلوا، وباتوا فيها، فلما أصبحوا من الغَدِ رأوا عَسكَرَ السليطين على رأسِ الجَبَلِ الذي كان فيه عَسكَرُ عبد المؤمن، فقال لهم أبو الغمر: "هذا الذي خِفتُه عليكم؛ لأني عَلِمتُ أنَّ السليطين ما أقلَعَ إلَّا طالبًا لكم، فإنَّ مِن المَوضِعِ الذي كان فيه إلى الجَبَلِ طَريقًا سهلةً، ولو لَحِقَكم هناك لنال مرادَه منكم ومِن قُرطُبةَ"، فلمَّا رأى السليطين أنَّهم قد فاتوه عَلِمَ أنَّه لم يَبقَ له طَمَعٌ في قُرطُبةَ، فرحل عائدًا إلى بلادِه، وكان حَصرُه لقُرطُبةَ ثلاثةَ أشهُرٍ.
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى توقَّعت إنجلترا بدءَ مستعمراتها في طلب الاستقلال، فأخذت تظهِرُ اللينَ، وأبدت استعدادَها للموافقة، وأوحت إلى سعد زغلول ورفاقه بالتحرك، فبدأ في عقد اجتماعات ولقاءات أسفرت عن طلب الاستقلالِ، وتم تشكيلُ وفد للسفر إلى الخارج لعرض القضية على العالم، وتشكَّل هذا الوفد من سعد زغلول، وعلي شعراوي، وعبد العزيز فهمي، وطلبوا مقابلةَ المندوب السامي البريطاني «وينجت» وطلبوا منه السماح لهم بالسفر إلى إنجلترا؛ لعرض طلباتهم باستقلال مصر، فرفض المندوبُ ذلك الطلب، فاستعدَّ سعد زغلول ورفاقُه إلى السفر إلى جهة أخرى، وهي باريس؛ وذلك لعرض قضية مصر على مؤتمر الصلح، فاعتبرت إنجلترا هذا تمردًا منهم، فألقت القبضَ عليهم، ومعهم آخرون، منهم: محمد محمود، وحمد الباسل، وإسماعيل صدقي، ثم ما لبثت أن أفرجت عنهم، فلما لم يحقِّقْ هذا القبضُ الهدفَ منه -ألا وهو أن يُتوَّجَ هؤلاء زعماءَ جُددًا لمصر- وكان مصطفى كامل وخليفته محمد فريد ما زالا يمثِّلان الزعامة الوطنية للمصريين، قامت إنجلترا بالقبضِ عليهم مرة أخرى ونفيِهم إلى مالطة. وعندما وصلت أخبار النفي للشعب المصري ثار ثورةً عارمة يملؤها الإحساسُ بالعدوان والطغيان الصليبي الذي أرهق المصريين لسنوات طويلة، وبدأت الثورةُ يوم 7 جمادى الآخرة 9 مارس بتظاهُرِ طلبة كلية الحقوق والهندسة والزراعة والطب والتجارة، وتصدى الجنودُ الإنجليز للمظاهرات، وأوقعوا عددًا كبيرًا من القتلى والجرحى. امتدت الثورةُ بعد ذلك لتشمل جميعَ شرائح وقطاعات الشعب المصري من محامين وعمال وموظفين وصحفيين ونساء، وتحوَّلت من ثورة سِلمية إلى ثورة عنيفة وقعت خلالها أعمالُ تخريب وسلب ونهب، ونجحت الثورةُ في تحقيق أهدافها الخفيَّة، وأصبح سعد زغلول هو زعيمَ الأمة المتحَدِّث باسمها؛ ليبدأ فصلًا جديدًا في مصرَ تختفي فيه الشعاراتُ والهُوية الإسلامية، وتحلَّ محلَّها الوطنيةُ والقوميَّةُ!!
هو أبو محمَّد الحَجَّاجُ بن يُوسُف الثَّقَفي، قائِدٌ أُمَوِيٌّ، داهِيَة، سَفَّاك، خَطِيب، وُلِدَ وَنَشأَ في الطَّائِف، وانْتَقَل إلى الشَّام فلَحِقَ بِرَوْحِ بن زِنْباع نائِب عبدِ الملك بن مَرْوان فكان في عِدادِ شُرْطَتِه، ثمَّ ما زال يَظهَر حتَّى قَلَّدَهُ عبدُ الملك أَمْرَ عَسْكَرِهِ, ثمَّ أَصبَح والِيًا على العِراق مِن قِبَل عبدِ الملك بن مَرْوان، أَصلَح البِلادَ في العِراق واعْتَنَى بها، وازْدَهَرَت في عَصرِه التِّجارَة والصِّناعَة، وكان مَعروفًا بالظُّلْمِ، وسَفْكِ الدِّماء، وانْتِقاص السَّلَف، وتَعَدِّي حُرُماتِ الله بأَدْنَى شُبْهَة، وقد أَطْبَقَ أَهلُ العِلْم بالتَّارِيخ والسِّيَر على أَنَّه كان مِن أَشَدِّ النَّاس ظُلْمًا، وأَسْرَعِهم للدَّمِ الحَرامِ سَفْكًا، ولم يَحفَظ حُرْمَةَ رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم في أَصحابِه، ولا وَصِيَّتَه في أَهلِ العِلْم والفَضْل والصَّلاح مِن أَتْباعِ أَصحابِه. وكان جَبَّارًا عَنيدًا. قالت أَسماءُ بِنتُ أبي بَكْرٍ رضي الله عنها للحَجَّاجِ: إنَّ رَسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم حَدَّثَنا «أنَّ في ثَقِيفٍ كَذَّابًا ومُبِيرًا». فأمَّا الكَذَّابُ فقد رَأَيْناهُ -تَعْنِي المُخْتار- وأمَّا المُبِيرُ فأَنت هو. والمُبِيرُ: المُهْلِك، الذي يُسْرِف في إِهْلاكِ النَّاس. نَشأَ الحَجَّاجُ شابًّا لَبِيبًا فَصيحًا بَليغًا حافِظًا للقُرآن، وكان يُكْثِر تِلاوَةَ القُرآن، ويَتَجَنَّب المَحارِم، ولم يَشْتَهِر عنه شَيءٌ مِن التَّلَطُّخ بالفُروج، وإن كان مُتَسَرِّعًا في سَفْكِ الدِّماءِ، كان فيه سَماحَةً بإعطاءِ المالِ لِأَهلِ القُرآن، فكان يُعطي على القُرآن كَثيرًا، ولمَّا مات لم يَتْرُك فيما قِيلَ إلَّا ثلاثمائة دِرْهَم. بَلَغَ ما قَتَل الحَجَّاجُ صَبْرًا مائة ألف وعشرين ألف، قال عنه الذهبي: "نَسُبُّهُ ولا نُحِبُّه؛ بل نُبْغِضُه في الله؛ فإنَّ ذلك مِن أَوْثَقِ عُرَى الإيمان, وله حَسَنات مَغْمورة في بَحْرِ ذُنوبِه، وأَمْرُهُ إلى الله. وله تَوْحِيد في الجُمْلَة، ونُظَراء مِن ظَلَمَةِ الجَبابِرَة والأُمَراء" لمَّا حَضَرتُه الوَفاةُ اسْتَخْلَف على الصَّلاةِ ابنَه عبدَ الله، واسْتَخْلَف على حَربِ الكوفَة والبَصْرَة يَزيدَ بن أبي كَبْشَة، وعلى خَراجِهِما يَزيدَ بن أبي مُسلِم، فأَقَرَّهُما الوَليدُ بعدَ مَوتِه، ولم يُغَيِّر أَحَدًا مِن عُمَّالِ الحَجَّاج.
لمَّا بلغَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أربعَ عشرةَ سنةً أو خمسَ عشرةَ سنةً هاجت حربُ الفِجارِ بين قُريشٍ ومَن معها مِن كِنانةَ وبين قَيسِ عَيلانَ، وهو من أعظمِ أيَّامِ العربِ، وكان الذي أهاجَها: أنَّ عُروةَ الرَّحَّالَ بنَ عتبة بن ربيعةَ أجارَ لَطيمةً للنُّعمانِ بن المنذرِ، فقال له البَرَّاضُ بنُ قيسٍ -أحدُ بني ضَمْرةَ بنِ بكرِ بنِ عبدِ مناةَ بنِ كنانةَ-: أتُجيرُها على كِنانةَ؟! قال: نعم، وعلى الخَلقِ. فخَرَجَ عُروةُ الرَّحَّالُ وخَرَج البَرَّاضُ يَطلُبُ غَفْلَتَه حتى إذا كان بِتَيْمَنَ ذي ظِلالٍ بالعاليةِ غَفَلَ عُروةُ؛ فوَثَب عليه البَرَّاضُ فقَتَله في الشَّهرِ الحَرامِ؛ فلذلك سُمِّي الفِجارَ؛ فأتى آتٍ قُريشًا فقال: إنَّ البَّرَّاضَ قد قَتَل عُروةَ وهو في الشَّهرِ الحَرامِ بعُكاظٍ، فارتَحَلوا وهوازِنُ لا تشعُرُ، ثم بلغهمُ الخبرُ فاتَّبَعوهم فأدركوهم قبل أن يدخلوا الحرمَ، فاقتتلوا حتى جاء الليلُ ودخلوا الحرمَ فأمسَكَت عنهم هوازِنُ ثم الْتَقَوا بعد هذا اليومِ أيَّامًا عديدةً والقومُ يتساندون، وعلى كلِّ قَبيلٍ من قُريشٍ وكِنانةَ رئيسٌ منهم، وعلى كل قَبيلٍ من قيسٍ رئيسٌ منهم. وشَهِد رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعضَ أيَّامِهم، وهو يومُ النَّخلةِ، وكان لرسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومئذٍ أربعَ عشرةَ سنةً. ويُقالُ: عِشرون سَنةً.
وبعد مُنصَرَفِهم منه في ذي القِعدةِ كان حِلفُ الفُضولِ، وسببُه: أنَّ رجلًا من زَبيدٍ من أهلِ اليمن باع سلعةً من العاصِ بن وائلٍ السَّهميِّ فمَطَله بالثَّمنِ؛ فصَعِدَ أبا قُبَيسٍ وصاح وذَكَر ظِلامَتَه. فعَقَدت قُريشٌ حِلفَ الفُضولِ لنُصرةِ المظلوم، وقد شَهِد النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هذا الحِلفَ معهم.
استمَرَّت المقاومة في موريتانيا ولم تهدأ رغمَ سُقوطِ الدولة العثمانية، ورغْم استطاعة الفرنسيين بَسْطَ سيطرتهم ونفوذِهم على البلاد بسبَبِ تفوُّقِهم العسكري في الرجال والسلاح. وفي أثناء أحداثِ الحرب العالمية الثانية بدأت بوادِرُ الدعوة للاستقلال بالظهور؛ إذ برز حزبان هما: حزب الاتحاد الوطني، وحزب منظمات الشباب. بعد ذلك انحصرت مطالِبُ الحزبين بالمطالبة بالاستقلال المباشر، فتوحَّدا في حزب واحد عام 1367هـ وهو حزب التفاهم الموريتاني، إلَّا أن الانقسامَ عاد من جديد فظهر حزب التفاهم الموريتاني بزعامة أحمد بن حرمة بابانا. وحزب الاتحاد التقدمي الموريتاني بزعامة المختار أنجاي. وأجريت انتخاباتٌ عامة لاختيار نائب في الجمعية الوطنية الفرنسية بباريس (حسب نص دستور فرنسا على أن يكون أعضاء مجلس الجمعية الوطنية من الوحدات الإقليمية) ففاز المختارُ أنجاي بالنيابة في عام 1376 هـ. أما أحمد بن حرمة فقد غادر موريتانيا ليعيشَ في المغرب بعد عودة الملك محمد الخامس من المنفى. بعد ذلك زادت المطالبةُ بالاستقلال؛ فعُقِد في منتصف عام 1379 /1958 مؤتمَرٌ في عاصمة مالي باماكو. وكان من مقرراته ضرورةُ اعتراف فرنسا بحق تقرير المصير؛ إذ كانت تخشى اندلاع الثورات كما حدث في الجزائر. فأصدر رئيس وزراء فرنسا «غي موليه» قانونَ الإصلاح الإداري عام 1376 / 1957 والذي نصَّ على إجراء انتخابات في كلِّ إقليم؛ لاختيار جمعية عامة تتولى تشكيل الحكومة. وفي 21 شوال 1376ه / 20 أيار 1957 تشكَّلت أولُ حكومة ذات استقلال ذاتي في موريتانيا. وأوجدت السلطاتُ الفرنسية نظامًا خاصًا أسمته استقلالًا داخليًّا؛ حيث عَيَّنَت إلى جانب الحاكم العام شخصًا موريتانيًّا اسمه نائب رئيس المجلس، وكانت الحكومةُ صوريَّةً.
قام أهل بلبيس بالحضور إلى الشيخ وشكَوا إليه محمد بيك الألفي وظُلم أتباعه، فذهب الشيخ الشرقاوي للأزهر وجمع المشايخ وقفَّلوا أبواب الجامع، وذلك بعدما خطب مراد بيك وإبراهيم بيك، وفعلوا مثل ذلك اليوم الثاني، وأمروا الناسَ بغلق الأسواق والحوانيت، ثمَّ ركبوا مع جمعٍ كبير من العامَّةِ إلى بيت الشيخ السادات، وازدحم الناسُ فحضر الدفتردار أيوب بيك، فقالوا له إنَّ مرادهم هو رفعُ الظلم والجَور، وتطبيقُ العدل وإقامة الشرع وإبطال الحوادث والمكوس المبتدعة، فقال: الدفتردار: إن ذلك لا يمكِنُ لأنَّه يضيِّقُ على معيشة المماليك، فقيل له: هذا ليس بعذرٍ عند الله ولا عند الناسِ، ولا داعي للإكثارِ مِن النفقات وشراء المماليك، ثم عاد المشايخ إلى الأزهر ومعهم أهل الأطراف وباتوا في المسجد، وأرسل إبراهيم بيك يشجعهم وأرسل إلى أيوب بيك يخوِّفه عاقبة الأمر، فأجاب إلى جميع ما ذكروه إلَّا شيئين: ديوان بولاق، وطلب المنكسر من الجامكية، وما عدا ذلك من المكوس والحوادث والظلم فيُرفع، ثم اجتمع الأمراءُ وأرسلوا إلى المشايخ، فحضر الشيخ الشرقاوي والبكري والنقيب والسادات، ودار الكلام بينهم والتزموا بما شرطه العلماءُ عليهم وانعقد الصلحُ على أن يدفعوا سبعمائة وخمسين كيسًا موزعة وأن يرسِلوا غلال الحرمين ويَصرِفوا غلالَ الشون وأموال الرزق، ويُبطلوا المظالم المحدَثة والتفاريدَ والمكوس ما عدا بولاق، وأن يكفُّوا أتباعهم عن مدِّ أيديهم إلى أموالِ الناس وأن يسيروا في الناس سيرةً حسنة، وكتب حجَّةً بذلك وفرمن عليها الباشا، وختم عليها إبراهيم بيك وأيوب بيك، وانجَلَت الفتنة، ولكنَّ الحالَ لم يدُمْ أكثر من شهر حتى عاد ما كان على ما كان وزيادة.
بعد عزل باي تونس إبراهيم الشريف اجتمع أهل الحل والعقد من العلماء وأكابر العسكر بتونس، فنصبوا ديوانًا لتولية من يصلح للقيام بأمر الخلق، فلم يجدوا أصلح من حسين باي بن علي الحسيني، فجددوا بيعته وأبقوه على ما هو عليه من ولايته؛ لِما يعلمون من شفقته وعطفه وحسن عهده وسلامة صدره من المكر والحقد والغدر، ولِما جبله الله عليه من اللين والرفق وحسن التدبير والسياسة، ففرح الخلقُ عامة من أهل تونس وأوطانها وعجمها وعربها وبلدانها بتوليته، وسُقِط في يد أهل الفساد ما كانوا يتمنون، وازداد أهل الخير فرحًا به؛ لِما كانوا منه يرتقبون، وكان عفيف البطن من المسكرات، والفرج من الفواحش والمنكرات، فاستقامت أحواله وانتظمت آماله، وسَعِدت رعيته بسعده، ودافع عنهم بجِدِّه وجهده، وبتوليه انتهى عهد المراديين في تونس، وبدأ عهد البايات الحسينيين، والذي استمر إلى عهد الاستعمار الحديث وتمكين الحبيب أبي رقيبة من رئاسة تونس.
لَمَّا قُتِلَ الذين كانوا يمُدُّون الزنجَ بالميرة، وقُطِعَت تلك الإمدادات واشتَدَّ الحصار على الزنج، ولَمَّا فرغ الموفَّقُ من شأن مدينة صاحبِ الزنج، وهي المختارة، واحتاز ما كان بها من الأموالِ وقَتَل من كان بها من الرجال، وسَبى من وجد فيها من النِّساء والأطفال، وهرب صاحِبُ الزنج عن حومةِ الحرب والجِلاد، وسار إلى بعضِ البلاد طريدًا شريدًا بشَرِّ حال؛ عاد الموفَّق إلى مدينتِه المُوفَّقيَّة مُؤيَّدًا منصورًا، وقَدِمَ عليه لؤلؤة غلام أحمد بن طولون مُنابذًا لسيِّده سميعًا مطيعًا للمُوَفِّق، وكان ورودُه عليه في ثالث المحرم من هذه السنة، فأكرمه وعَظَّمه وأعطاه وخَلَع عليه وأحسَنَ إليه، وبعثه طليعةً بين يديه لقتالِ صاحب الزنج، وركِبَ الموفَّق في الجيوش الكثيفة الهائلة وراءه، فقصدوا الخبيث وقد تحصَّنَ ببلدة أخرى، فلم يزل به محاصِرًا له حتى أخرجه منها ذليلًا، واستحوذ على ما كان بها من الأموالِ والمغانم، ثمَّ بعث السرايا والجيوشَ وراء حاجِبِ صاحب الزنج، فأسروا عامَّة من كان معه من خاصَّته وجماعتِه، منهم سليمان بن جامع، فاستبشر الناسُ بأسره وكبَّرُوا الله وحَمِدوه؛ فرحًا بالنصر والفتح، وحمل الموفَّقُ بمن معه حملةً واحدة على أصحابِ الخبيث فاستحَرَّ فيهم القتل، وما انجلت الحربُ حتى جاء البشيرُ بقتل صاحب الزنج في المعركةِ، وأُتي برأسِه مع غلامِ لؤلؤة الطولوني، فلما تحقَّق الموفَّق أنَّه رأسُه بعد شهادة الأمراء الذين كانوا معه من أصحابِه بذلك، خَرَّ ساجدًا لله، ثم انكفأ راجعًا إلى الموفَّقيَّة، ورأسُ الخبيثِ يُحمَلُ بين يديه، وسليمانُ معه أسير، فدخل البلدَ وهو كذلك، وكان يومًا مشهودًا، وفرح المسلمون بذلك في المغارب والمشارق، ثم جيء بأنكلاني ولد صاحب الزنج، وأبان بن علي المهلبي مُسَعِّر حربِهم مأسورينِ، ومعهم قريبٌ من خمسة آلاف أسير، فتم السرورُ وهرب قرطاس الذي رمى الموفَّق بصدره بذلك السَّهم إلى رامهرمز، فأُخِذَ وبُعِثَ به إلى الموفَّق فقتله أبو العباس أحمد بن الموفَّق، واستتاب مَن بقي من أصحابِ صاحب الزنج وأمَّنَهم الموفَّق، ونادى في الناس بالأمان، وأن يرجِعَ كُلُّ من كان أُخرِجَ من دياره بسبَبِ الزنج إلى أوطانِهم وبلدانهم، ثم سار إلى بغداد وقَدَّمَ ولده أبا العباس بين يديه، ومعه رأسُ الخبيث يُحمَلُ لِيَراه الناس، فدخلها لثنتي عشرة ليلةً بقيت من جمادي الأولى من هذه السنة، وكان يومًا مشهودًا، وانتهت أيامُ صاحب الزنج المُدَّعي الكذَّاب- قبَّحه الله- واسمُه محمد بن علي، وقد كان ظهورُه في يوم الأربعاء لأربعٍ بَقِين من رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين، وكان هلاكُه يوم السبت لليلتين خلتا من صفر سنة سبعين ومائتين، وكانت دولته أربع عشرة سنة وأربعة أشهر وستة أيام، ولله الحمدُ والمنَّة، وقد قيل في انقضاء دولة الزنجِ وما كان من النصرِ عليهم أشعارٌ كثيرة.
لمَّا فَرغَ السُّلطانُ طُغرلبك مِن أَمرِ أَخيهِ إبراهيمَ ينال عاد يَطلُب العِراقَ، فأَرسلَ إلى البساسيري وقُريشٍ في إعادةِ الخَليفةِ إلى دارهِ على أن لا يَدخُل طُغرلبك العِراقَ، ويَقنَع بالخُطبةِ والسِّكَّةِ، فلم يُجِب البساسيري إلى ذلك، فرَحلَ طُغرلبك إلى العِراقِ، فانحَدرَ حَرَمُ البساسيري وأَولادُه، ورَحلَ أَهلُ الكَرخِ بنِسائِهم وأَولادِهم في دِجلةَ وعلى الظَّهرِ، وكان دُخولُ البساسيري وأَولادِه بغداد سادِسَ ذي القعدةِ سَنةَ خمسين وأربعمائة، وخَرَجوا منها سادِسَ ذي القعدة سَنةَ إحدى وخمسين وأربعمائة، ووَصلَ طُغرلبك إلى بغداد، ثم قام طُغرلبك على إعادةِ الخَليفةِ إلى بغداد، ثم اعتَذرَ من الخَليفةِ على التَّأَخُّرِ وقال: أنا أمضي خَلفَ هذا الكَلبِ -يعني البساسيري- وأَقصُدُ الشَّامَ، وأَفعلُ في حَقِّ صاحبِ مِصر ما أُجازي به فِعلَه. وقَلَّدَهُ الخَليفةُ بِيَدهِ سَيفًا، وعَبَرَ السُّلطانُ إلى مُعسكَرهِ، وكانت السَّنَةُ مُجْدِبَةً، ولم يَرَ النَّاسُ فيها مَطرًا.
نزلت صاعقة على هلال المئذنة تجاه الحجرة النبوية، ثم على سطح المسجد، فاحترق بنارِها المسجِدُ الشريف النبوي؛ سَقفُه، وحواصلُه، وخزائِنُ كتُبِه، وربعاته، ولم يبقَ من قناطره وأساطينه إلَّا اليسيرُ، وكانت آيةً من آيات الله تعالى.، وصعدت الرأس إلى الريس- وكان من أهل العلم - بالمئذنة فاحترق، واحترق في الحرم عالمٌ آخر خرج من بيته لطلب ولدِه، وصل الخبرُ من المدينة المشرَّفة بمحضر يكتتب بالكائنة التي اتفقت بالمدينة من الحريق الأعظم، فحصل عند الناس بذلك باعثٌ شديدٌ. وأخذ السلطان في الاهتمام بشأن هذا الحادث والاجتهاد في القيام ببناء المسجد الشريف النبويِّ، ثم عَمِل بتقدير النفقة عليه، فكانت نحوًا من مائة ألف دينار. ثم بُني بعد ذلك وأُعيد أحسَنَ ما كان، وبُنِيت القبَّة المعظَّمة على القبر الشريف بعد إحكام بناء القبر أيضًا، وعُمِلت المقصورة الهائلة النادرة، وكانت هذه من أجلِّ المباني وأعظمِها.
زادت الفِتنةُ بين شِيعَةٍ مِن أَهلِ الكَرخِ وغَيرهِم مِن أَهلِ السُّنَّةِ، وكان ابتِداؤُها أواخرَ سَنَةِ أربعٍ وأربعين في ذي القعدة، فلمَّا كان الآن عَظُمَ الشَّرُّ، واطَّرَحَت المُراقبَة للسُّلطان، واختَلطَ بالفَريقينِ طوائفُ مِن الأتراكِ، فلمَّا اشتَدَّ الأمرُ اجتمع القُوَّادُ واتَّفَقوا على الرُّكوبِ إلى المَحالِّ، وإقامةِ السِّياسةِ بأهلِ الشَّرِّ والفَسادِ، وأَخَذوا مِن الكَرخِ إِنسانًا عَلويًّا وقَتلوهُ، فَثارَ نِساؤُه، ونَشَرْنَ شُعورَهُنَّ واسْتَغَثْنَ، فتَبِعَهُنَّ العامَّةُ من أهلِ الكَرخِ، وجَرى بينهم وبين القُوَّاد ومن معهم من العامَّةِ قِتالٌ شَديدٌ، وطَرحَ الأتراكُ النَّارَ في أَسواقِ الكَرخ، فاحتَرقَ كَثيرٌ منها، وأَلحَقَتها بالأرضِ، وانتَقَل كَثيرٌ من الكَرخِ إلى غَيرِها من المَحالِّ، ونَدِمَ القُوَّادُ على ما فَعلوهُ، وأَنكرَ الخَليفةُ القائمُ بأَمرِ الله ذلك، وصَلُحَ الحالُ، وعاد النَّاسُ إلى الكَرخِ، بعد أن استَقرَّت القاعدةُ بالدِّيوان بِكَفِّ الأتراكِ أَيديَهم عنهم.