الموسوعة الحديثية


- سألْتُ عبدَ اللهِ بنَ عبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهما عن قولِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ لموسى صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 40]، فسألْتُه عن الفُتونِ؟ فقال: استأنِفِ النَّهارَ يا ابنَ جُبيرٍ؛ فإنَّ لها حديثًا طويلًا. قال: فغدوْتُ على ابنِ عبَّاسٍ لأنتجِزَ ما وَعَدني مِن حديثِ الفُتونِ، فقال: تذاكَرَ فِرعونُ وجُلساؤُه ما كان اللهُ عَزَّ وجَلَّ وعَدَ إبراهيمَ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن أنْ يجعَلَ في ذُرِّيتَه أنبياءَ ومُلوكًا؛ فقال بعضُهم: إنَّ بني إسرائيلَ لينتظِرونَ ذلك ما يشُكُّون فيه، وقد كانوا يظنُّونَ أنَّه يُوسفُ بنُ يعقوبَ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ، فلمَّا هلَكَ قالوا: ليس هكذا كان، إنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ وعَدَ إبراهيمَ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. قال فِرعونُ: فكيف تَرَونَ؟ فائْتَمَروا، واجتمَعوا أمْرَهم على أنْ يبعَثَ رِجالًا بالشِّفارِ، يَطُوفون في بني إسرائيلَ، فلا يَجِدون مولودًا ذكَرًا إلَّا ذَبَحوه، ففَعَلوا ذلك، فلمَّا أنْ رَأَوا أنَّ الكبارَ في بني إسرائيلَ يموتونَ بآجالِهم، والصِّغارَ يُذْبَحونَ، قالوا: أتوشِكونَ أنْ تُفْنوا بني إسرائيلَ، فتَصيروا إلى أنْ تُباشِروا مِن الأعمالِ والخدمةِ الَّتي كانوا يَكْفُونكم؟ فاقْتُلوا عامًا كلَّ مولودٍ ذكرٍ، فيقِلَّ نَباتُهم، ودَعُوا عامًا، فلا تَقْتلوا منهم أحدًا، فيشِبَّ الصِّغارُ مكانَ مَن يموتُ مِن الكبارِ، فإنَّهم لنْ يَكْثروا بمَن تَسْتحيون، فتخافوا مُكاثرتَهم إياكم، ولنْ يَفْنَوا بمَن تقتُلونَ، فتحتاجونَ إليهم، فأجْمَعوا أمْرَهم على ذلك، فحمَلَت أُمُّ موسى بهارونَ عليهما السَّلامُ العامَ الَّذي لا يُذْبَحُ فيه الغِلمانُ، فولدَتْه عَلانيةً، فلمَّا كان مِن قابلٍ حمَلَتْ بمُوسى عليه السَّلامُ، فوقَعَ في قلْبِها مِن الهَمِّ والحزنِ. فذلك مِن الفُتونِ يا ابنَ جُبيرٍ، ما دخَلَ عليه في دهو بَطْنِ أُمِّه ممَّا يُرادُ به، فأوحَى اللهُ تعالى إليها: {وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7]، وأمَرَها أنْ إذا ولَدَتْ أنْ تجعَلَه في تابوتٍ، ثمَّ تُلْقِيه في اليمِّ ، فلمَّا ولَدَت فعَلَت ذلك به، فألْقَته في اليمِّ ، فلمَّا توارى عنها ابنُها أتاها الشَّيطانُ، فقالت في نفْسِها: ما فعَلْتُ بابني؟! لو ذُبِحَ لبِثَ عندي فرأيْتُه وكفَّنْتُه، كان أحَبَّ إليَّ مِن أنْ أُلْقِيَه بيدي إلى دوابِّ البحرِ وحِيتانِه، وانتهى الماءُ به حتَّى أرفَأَ به عند فُرْضَةُ مُسْتَقى جواري امرأةِ فِرعونَ ، فلمَّا رأيْنَه أخذْنَه، فهمَمْنَ أنْ يفتحْنَ التَّابوتَ، فقالت بعضُهنَّ: إنَّ في هذا مالًا، وإنَّا إنْ فتحْناه لم تُصدِّقْنا امرأةُ الملِكِ بما وجَدْنا فيه، فحمَلْنَه بهيئةٍ لم يُحرِّكْنَ منه شيئًا، دفعْنَه إليها، فلمَّا فتحَتْه رأتْ فيه غُلامًا، فأُلْقِيَ عليه منها محبَّةٌ لم تُلْقَ مثْلُها على البشَرِ قطُّ، وأصبَحَ فُؤَادُ أُمِّ موسى فارغًا مِن ذِكْرِ كلِّ شَيءٍ إلَّا مِن ذِكْرِ مُوسى عليه السَّلامُ، فلمَّا سمِعَ الذَّابِحونَ بأمْرِه أقبلوا بشِفارِهم إلى امرأةِ فرعونَ ليذبَحُوه -وذلك مِن الفُتونِ يا ابنَ جُبيرٍ- فقالت للذَّبَّاحينَ: أقِرُّوه؛ فإنَّ هذا الواحدَ لا يَزيدُ في بني إسرائيلَ حتَّى آتِيَ فِرعونَ فأسْتَوْهِبَه منه، فإنْ وهَبَه لي كنْتُم قد أحسنْتُم وأجمَلْتُم ، وإنْ أمَرَ بذبْحِه لم أَلُمْكم، فأتَتْ به فرعونَ، فقالت: قُرَّةُ عينٍ لي ولك، قال فِرعونُ: يكونُ لك، فأمَّا لي فلا حاجةَ لي في ذلك. قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: والَّذي أحلِفُ به، لو أقَرَّ فِرعونُ بأنْ يكونَ له قُرَّةَ عينٍ كما أقَرَّت امرأتُه، لهداهُ اللهُ به كما هدى به امرأتَه، ولكنَّ اللهَ حرَمَه ذلك. فأرسَلَتْ إلى مَن حولَها، مِن كلِّ امرأةٍ لها لبنٌ، تختارُ لها ظِئرًا، فجعَلَ كلَّما أخذَتْه امرأةٌ منهنَّ، فترُضِعُه، لم يَقْبَلْ ثَدْيَها، حتَّى أشفَقَت عليه امرأةُ فِرعونَ أنْ يَمتنِعَ مِن اللَّبنِ فيموتَ، فأحْزَنَها ذلك، فأمرَتْ به، فأُخْرِجَ إلى السُّوقِ وتجمَّعَ النَّاسُ، تَرْجو أنْ تجِدَ له ظِئرًا يأخُذُ منها، فلم يَقْبَلْ، وأصبَحَتْ أُمُّ موسى والهةً، فقالت لأُخْتِه: قُصِّيه -يعني: أثَرَهُ- واطْلُبِيه، هل تسمعينَ له ذِكْرًا؟ أحيٌّ ابْني أمْ قد أكلَتْه الدَّوابُّ؟ ونسِيَت ما كان اللهُ عَزَّ وجَلَّ وعَدَها فيه، فبَصُرتْ به أختُه عن جُنُبٍ وهم لا يَشعُرونَ، والجُنُبُ: أنْ يبصِرَ الإنسانُ إلى الشَّيءِ البعيدِ وهو إلى جَنْبِه لا يشعُرُ به، فقالت مِن الفرحِ حين أعياهم الظُّؤارتُ: أنا {أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص: 12]، فأخَذُوها فقالوا: ما يُدريك ما نُصْحُهم له؟ هل يعرِفونَه؟ حتَّى شكُّوا في ذلك -فذلك مِن الفُتونِ يا ابنَ جُبيرٍ- فقالت: نصيحَتُهم له وشفقَتُهم عليه رغبةً في صِهر الـمَلِك، ورجاءَ مَنفعتِه، فأرْسَلوها، فانطلَقَتْ إلى أُمِّها فأخبرتْها الخبرَ، فجاءتْ أُمُّه، فلمَّا وضعَتْه في حِجْرِها، نزَا إلى ثَدْيِها، فمَصَّه حتَّى امتلَأَ جَنباهُ رِيًّا، وانطلَقَ البشيرُ إلى امرأةِ فرعونَ: أنْ قد وجَدْنا لابْنِك، فأرسَلَتْ إليها، فأُوتِيتْ بها وبه، فلمَّا رأت ما يصنَعُ، قالت لها: امْكُثي عندي؛ تُرْضِعي ابني هذا، فإنِّي لم أحجِبْه شيئًا قطُّ، فقالت أُمُّ مُوسى: لا أستطيعُ أنْ أدَعَ بيتي وولدي، فيَضيعَ، فإنْ طابتْ نفْسُك أنْ تُعْطِيَنه، فأذهَبَ به إلى مَنْزلي، فيكونَ معي لا آلوهُ خيرًا، فعلْتُ، وإلَّا فإنِّي غيرُ تاركةٍ بيتي وولدي، وذكَرَت أُمُّ مُوسى عليه السَّلامُ ما كان اللهُ عَزَّ وجَلَّ وعَدَها، فتعاسَرَت على امرأةِ فرعونَ، وأيقنَتْ بأنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ يُنْجِزُ موعودَه، فرجَعَتْ إلى بيتِها بابنِها مِن يومِها، فأنبَتَه اللهُ نباتًا حسنًا، وحفِظَه لِمَا قد قَضى فيه، فلم يزَلْ بنو إسرائيلَ وهم في ناحيةِ القريةِ مُمْتنعينَ يَمْتنعونَ به مِن السُّخرةِ ما كان فيهم. فلمَّا تَرعرَعَ قالت امرأةُ فرعونَ لأُمِّ مُوسى: أريدُ أنْ تُرِيني ابني، فوعَدَتْها يومًا تُرِيها فيه إيَّاه، فقالتِ امرأةُ فِرعونَ لخُزَّانِها، وظُؤورتِها، وقَهارِمَتِها: لا يَبْقينَّ أحدٌ منكم إلَّا استقبَلَ ابني اليومَ بهَديَّةٍ وكَرامةٍ؛ لِأَرى ذلك فيه، وأنا باعثةٌ أمينًا يُحْصِي ما يصنَعُ كلُّ إنسانٍ منكم، فلم تَزَلِ الهدايا والكرامةُ والنِّحلةُ، تَستقبِلُه مِن حينِ خرَجَ مِن بيتِ أُمِّه إلى أنْ دخَلَ على امرأةِ فرعونَ، فلمَّا دخَلَ عليها بجَّلَتْه، وأكرمَتْه، وفرِحَت به، وأعجَبَها، ونحَلَت أُمَّه؛ لحُسْنِ أثَرِه، ثمَّ قالت: لآتيَنَّ به فِرعونَ ، فليَنْحَلَنَّه، وليُكْرِمَنَّه، فلمَّا دخَلَتْ به عليه، جعَلَه في حِجْرِه، فتناوَلَ مُوسى لِحيةَ فرعونَ، فمَدَّها إلى الأرضِ، فقال الغواةُ مِن أعداءِ اللهِ لفرعونَ: ألَا ترى إلى ما وعَدَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ إبراهيمَ نَبِيَّه عليه السَّلامُ أنَّه يرِثُك، ويَعْلوك، ويصرَعُك، فأرسَلَ إلى الذَّبَّاحينَ، وذلك مِن الفُتونِ يا ابنَ جُبيرٍ، بعدَ كلِّ بلاءٍ ابتُلِيَ به، أو أُرِيدَ به فُتونًا. فجاءت امرأةُ فِرعونَ تَسْعى إلى فرعونَ، فقالت: ما بدا لك في هذا الغلامِ الَّذي وهَبْتَه لي؟ قال: ألَا تَرَيْنَه يزعُمُ أنَّه يصرَعُني ويَعْلوني؟ قالت: اجْعَلْ بيني وبينك أمرًا تعرِفُ فيه الحقَّ؛ ائْتِ بجَمْرتينِ ولُؤلؤتَينِ، فقَرِّبْهما إليه، فإنْ بطَش باللُّؤلؤتَينِ واجتنَبَ الجَمْرتينِ، عرَفْتَ أنَّه يعقِلُ، وإنْ تَناوَلَ الجَمْرتَينِ ولم يُرِدِ اللُّؤلؤتَينِ، علِمْتَ أنَّ أحدًا لا يُؤثِرُ الجَمرتينِ على اللُّؤلؤتينَ وهو يعقِلُ، فقُرِّبَ ذلك إليه، فتناوَلَ الجَمرتَينِ، فانْتَزَعوهما مِن يَدِه، وخافت أنْ يحرِقَا يدَيْه، فقالت المرأةُ: ألَا ترى؟! فصرَفَه اللهُ عنه بعدما كان قد هَمَّ به، وكان الله عَزَّ وجَلَّ بالغًا فيه أمْرَه. فلمَّا بلَغَ أشُدَّه وصار مِن الرِّجالِ، لم يكُنْ أحدٌ مِن آلِ فِرعونَ يخلُصُ إلى أحدٍ مِن بني إسرائيلَ معه بظُلمٍ، ولا يخرُجُ حتَّى امْتَنعوا كلَّ الامتناعِ. فبينما مُوسى عليه السَّلامُ يَمْشي في ناحيةِ المدينةِ، إذ هو برجُلينِ يَقْتتلانِ؛ أحدُهما فرعونيٌّ، والآخرُ إسرائيليٌّ، فاستغاثَه الإسرائيليُّ على الفرعونيِّ، فغضِبَ مُوسى عليه السَّلامُ غضبًا شديدًا؛ لأنَّه تناوَلَ وهو يعلَمُ منزلةَ مُوسى عليه السَّلامُ مِن بَني إسرائيلَ، وحِفْظَه لهم، لا يعلَمُ النَّاسُ إلَّا إنَّما ذلك مِن الرَّضاعِ إلَّا أُمُّ مُوسى، إلَّا أنْ يكونَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ أَطْلَعَ مُوسى عليه السَّلامُ مِن ذلك على ما لم يُطْلِعْ عليه غيرَه. فوكَزَ مُوسى عليه السَّلامُ الفرعونيَّ، فقتَلَه، وليس يراهما أحدٌ إلَّا اللهُ عَزَّ وجَلَّ، فقال مُوسى عليه السَّلامُ حين قتَلَ الرَّجلَ: هذا مِن عمَلِ الشَّيطانِ؛ إنَّه عدُوٌّ مُضِلٌّ مُبينٌ، ثمَّ قال: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ}، إلى قولِه: {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص: 16]. {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص: 18] الأخبارَ، فأُتِيَ فِرعونُ فقيلَ: إنَّ بني إسرائيلَ قد قتَلَتْ رجُلًا مِن آلِ فرعونَ، فخُذْ لنا بحَقِّنا، ولا تُرخِّصْ لهم، فقال: ابْغُوني قاتِلَه ومَن شهِدَ عليه؛ فإنَّ الملِكَ وإنْ كان صَفْوُه مع قومِه، لا يستقيمُ له أنْ يُقِيدَ بغيرِ بيِّنةٍ، ولا ثَبَتٍ، فانْظُروا في عِلْمِ ذلك آخُذْ لكم بحَقِّكم، فبينا هم يَطوفونَ لا يَجِدونَ شيئًا، إذا موسى عليه السَّلامُ قد رأى في الغدِ ذلك الإسرائيليَّ يقتُلُ رجُلًا مِن آلِ فرعونَ آخرَ، فاستغاثَه الإسرائيليُّ على الفرعونيِّ، فصادَفَ مُوسى عليه السَّلامُ قد ندِمَ على ما كان منه، فكَرِهَ الَّذي رأى، فغضِبَ الإسرائيليُّ وهو يُريدُ أنْ يبطِشَ بالفرعونيِّ، فقال للإسرائيليِّ -لِمَا فعَلَ أمسِ واليومَ-: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} [القصص: 18]. فنظَرَ الإسرائيليُّ إلى مُوسى عليه السَّلامُ بعدما قال له ما قال، فإذا هو غضبانُ كغضَبِه بالأمسِ الَّذي قتَلَ به الفرعونيَّ، فخاف أنْ يكونَ بعدما قال له: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} إيَّاه أراد، ولم يكُنْ أراده، إنَّما أراد الفرعونيَّ، فخاف الإسرائيليُّ، فحاجَزَ الفرعونيَّ، فقال: {يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ} [القصص: 19]؟ وإنَّما قال ذلك؛ مخافةَ أنْ يكون إيَّاهُ أراد مُوسى عليه السَّلامُ أنْ يقتُلَه، فتنازَعَا. فانطلَقَ الفرعونيُّ إلى قومِه، فأخبَرَهم بما سمِعَ مِن الإسرائيليِّ مِن الخبرِ حين يقولُ: {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ} [القصص: 19]، فأرسَلَ فرعونُ الذَّبَّاحينَ ليقتُلوا موسى عليه السَّلامُ، فأخَذَ رُسلُ فرعونَ الطَّريقَ الأعظمَ يَمْشون على هَيئتِهم يطلُبونَ مُوسى عليه السَّلامُ، وهم لا يخافونَ أنْ يفوتَهم، فجاء رجُلٌ مِن شِيعَةِ مُوسى عليه السَّلامُ مِن أَقْصى المدينةِ، فاختصَرَ طريقًا قريبًا حتَّى سبَقَهم إلى موسى عليه السَّلامُ فأخْبَرَه. فذلك مِن الفُتونِ يا ابنَ جُبيرٍ. فخرَجَ مُوسى عليه السَّلامُ مُتوجِّهًا نحوَ مدينَ لم يلْقَ بلاءً قبلَ ذلك، وليس له علمٌ بالطَّريقِ إلَّا حُسْنَ الظَّنِّ بربِّه عَزَّ وجَلَّ، فإنَّه قال: {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص: 22]. {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} إلى {تَذُودَانِ} [القصص: 23]، يعني بذلك: حابستَينِ غنَمَهما، فقال لهما: ما خطْبُكما مُعتزلتَينِ لا تَسْقيانِ مع النَّاسِ؟ قالتا: ليس لنا قُوَّةٌ نُزاحِمُ القومَ، وإنَّما ننتظِرُ فُضولَ حياضِهم، فسقى لهما، فجعَلَ يغرِفُ بالدَّلْوِ ماءً كثيرًا، حتَّى كانتا أوَّلَ الرِّعاءِ فراغًا، فانصرَفَتا بغنَمِهما إلى أبيهما، وانصرَفَ موسى عليه السَّلامُ، فاستظَلَّ بشجرةٍ، وقال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24]، فاستنكَرَ أبوهما سُرعةَ صُدورِهما بغنَمِهما حُفَّلًا بطانًا ، فقال: إنَّ لكما اليومَ لشأنًا، فأخبَرَتَاه بما صنَعَ موسى عليه السَّلامُ، فأمَرَ إحداهما أنْ تَدْعُوَه له، فأتَتْ موسى عليه السَّلامُ فدَعَتْه، فلمَّا كلَّمَه قال: {لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 25]، ليس لفِرعونَ ولا لقومِه علينا سُلطانٌ، ولسْنا في مَمْلكتِه. قال: فقالت إحداهما: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26]، فاحتمَلَتْه الغَيرةُ على أنْ قال: وما يُدريكِ ما قُوَّتُه؟ وما أمانَتُه؟ قالت: أمَّا قُوَّتُه: فما رأيْتُ في الدَّلوِ حين سَقى لنا، لم أرَ رجُلًا قطُّ في ذلك المَسْقى أقوى منه، وأمَّا أمانَتُه: فإنَّه نظَرَ إليَّ حين أقبلْتُ إليه وشَخَصْتُ له، فلمَّا علِمَ إنِّي امرأةٌ، صوَّبَ رأْسَه لم يرفَعْه، ولم ينظُرْ إليَّ حتَّى بلَّغْتُه رِسالتَك، ثمَّ قال لي: امشِي خلفي، وانْعَتي لي الطَّريقَ، لم يفعَلْ هذا إلَّا وهو أمينٌ، فسُرِّيَ عن أبيها وصدَّقَها، وظَنَّ به الَّذي قالت له. فقال له: هل لك {أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ}، إلى قوله: {مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص: 27]، ففعَلَ، فكانت على نَبِيِّ اللهِ موسى عليه السَّلامُ ثمانيَ سنينَ واجبةً، وكانت سنتانِ عِدَةً منه، فقَضَى اللهُ عَزَّ وجَلَّ عنه عِدَتَه فأتمَّها عشْرًا. قال سَعيدٌ: فلَقِيَني رجُلٌ مِن أهلِ النَّصرانيَّةِ مِن عُلمائِهم، فقال: هلْ تَدْري أيَّ الأجلينِ قضى مُوسى عليه السَّلامُ؟ قلْتُ: لا، وأنا يومئذٍ لا أدري، فلقِيتُ ابنَ عبَّاسٍ، فذكَرْتُ ذلك له، فقال: أمَا علِمْتَ أنَّ ثمانيًا كانت على نبيِّ اللهِ عليه السَّلامُ واجبةً، لم يكُنْ نبيُّ اللهِ ليَنْقُصَ منها شيئًا، وتعلَمُ أنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ كان قاضيًا عن مُوسى عليه السَّلامُ عِدَتَه الَّتي وعَدَ، فإنَّه قضى عشْرَ سنينَ. فلقِيتُ النَّصرانيَّ، فأخبَرْتُه بذلك، فقال: الَّذي سألْتَه فأخبَرَك أعلَمُ منك بذلك؟ قلْتُ: أجلْ، وأَولى. فلمَّا سار مُوسى عليه السَّلامُ بأهلِه كان مِن أمْرِ النَّارِ ما قَصَّ اللهُ عليك في القُرآنِ، وأمْرِ العصا ويَدِه، فشكا إلى ربِّه عَزَّ وجَلَّ ما يتخوَّفُ مِن آلِ فرعونَ في القتيلِ، وعُقدةَ لسانِه، فآتاهُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ سُؤْلَه، وحَلَّ عُقدةً مِن لسانِه، وأوحى اللهُ عَزَّ وجَلَّ إلى هارونَ عليه السَّلامُ، وأمَرَه أنْ يلقاهُ، واندفَعَ مُوسى عليه السَّلامُ بعصاهُ، حتَّى لقِيَ هارونَ عليه السَّلامُ، وانطلَقَا جميعًا إلى فرعونَ، فأقاما حِينًا على بابِه لا يُؤْذَنُ لهما، فقالا: إنَّا رسولَا ربِّك، قال: فمَن ربُّكما يا موسى؟ فأخبراهُ بالَّذي قَصَّ اللهُ عَزَّ وجَلَّ عليك في القُرآنِ، قال: فما تُريدانِ؟ وذكَّرَه القتيلَ، واعتذَرَ بما قد سمِعْتَ، وقال: أريدُ أنْ تُؤمِنَ باللهِ، وأنْ تُرْسِلَ معي بني إسرائيلَ، فأبى عليه، وقال: ائتِ بآيةٍ إنْ كنْتَ مِن الصَّادقينَ، فألقى عصاه فإذا هي حيَّةٌ عظيمةٌ، فازعةٌ، فاغرةٌ فاها، مُسرعةٌ إلى فرعونَ، فلمَّا رآها فِرعونُ قاصدةً إليه خافها، فاقتحَمَ عن سَريرِه، واستغاثَ بمُوسى عليه السَّلامُ أنْ يكُفَّها عنه، ففعَلَ، ثمَّ أخرَجَ يَدَه مِن جَيْبِه، فرآها بيضاءَ مِن غيرِ سُوءٍ، يعني: مِن غيرِ برَصٍ ، فرَدَّها، فعادت إلى لونِها الأوَّلِ. فاستشارَ الملَأَ حولَه فيما رأى، فقالوا له: {هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ} [طه: 63] الآيةَ، والمُثْلى: مُلْكُهم الَّذي هم فيه والعيشُ. فأَبَوا على مُوسى عليه السَّلامُ أنْ يُعْطُوه شيئًا ممَّا طلَبَ، وقالوا له: اجمَعْ لهما السَّحرةَ؛ فإنَّهم بأرضِك كثيرٌ، حتَّى نغلِبَ سِحْرَهما، وأرسَلَ في المدائنِ، فحُشِرَ له كلُّ ساحرٍ مُتعالمٍ، فلمَّا أَتَوا على فرعونَ، قالوا: ما يعمَلُ هذا السَّاحرُ؟ قالوا: يعمَلُ الحيَّاتِ، قالوا: فلا واللهِ ما أحدٌ في الأرضِ يعمَلُ السِّحرَ والحيَّاتِ والحبالَ والعِصِيَّ الَّذي نعمَلُ، فما أجْرُنا إنْ نحن غلَبْنا؟ قال لهم: أنتم أقاربي وخاصَّتي، وأنا صانعٌ إليكم كلَّ شَيءٍ أحببتم، فتَواعَدوا يومَ الزِّينةِ وأنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى. قال سعيدٌ: فحدَّثني ابنُ عبَّاسٍ: أنَّ يومَ الزِّينةِ اليومُ الَّذي أظهَرَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ فيه مُوسى عليه السَّلامُ على فِرعونَ والسَّحرةِ هو يومُ عاشوراءَ. فلمَّا اجتمعوا في صَعيدٍ، قال النَّاسُ بعضُهم لبعضٍ: انطَلِقوا، فنتخبَّرْ هذا الأمْرَ، {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء: 40]، يعنون مُوسى وهارونَ عليهما السَّلامُ؛ استهزاءً بهما، فقالوا: يا موسى -لِقُدْرتِهم في أنفُسِهم بسِحْرِهم- إمَّا أنْ تُلْقِيَ، وإمَّا أنْ نكونَ نحن المُلْقينَ، قال: بل ألْقُوا. {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء: 44]، فرأى مُوسى عليه السَّلامُ مِن سِحْرِهم ما أوجَسَ في نفْسِه خِيفةً، فأوحى اللهُ عَزَّ وجَلَّ إليه: أنْ ألْقِ عصاك، فلمَّا ألقاها، صارت ثُعبانًا عظيمًا فاغرةً فاها، فجُعِلَتِ العِصِيُّ بدَعوةِ مُوسي عليه السَّلامُ تلتبِسُ بالحبالِ، حتَّى صارتْ جُرُزًا إلى الثُّعبانِ تَدخُل فيه، حتَّى ما أبقَتْ عصًا ولا حبلًا إلَّا ابتلعَتْه. فلمَّا عرَفَ السَّحرةُ ذلك، قالوا: لو كان هذا سِحرٌ لم يَبلُغْ مِن سِحرِنا كلَّ هذا، ولكنَّه أمْرٌ مِن اللهِ، آمنَّا باللهِ ربِّنا وما جاء به مُوسى عليه السَّلامُ، ونتوبُ إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ ممَّا كنَّا عليه. وكسَرَ اللهُ ظهْرَ فِرعونَ في ذلك الموطنِ وأشياعِه، وأظهَرَ الحقَّ، وبطَلَ ما كانوا يعمَلونَ، فغُلِبوا هنالك وانقَلَبوا صاغِرينَ. وامرأةُ فِرعونَ بارزةٌ مُتبذِّلَةٌ تَدْعو بالنَّصرِ لمُوسى عليه السَّلامُ على فِرعونَ ، فمَن رآها مِن آلِ فرعونَ ظَنَّ أنَّها إنَّما تبذَّلَتْ للشفقةِ على فِرعونَ وأشياعِه، وإنَّما كان حُزْنُها وهمُّها لمُوسى عليه السَّلامُ. فلمَّا طال مُكْثُ مُوسى عليه السَّلامُ لمواعيدِ فِرعونَ الكاذبةِ، كلَّما جاءه بآيةٍ وعَدَه عندها أنْ يُرْسِلَ معه بني إسرائيلَ، فإذا مضَتْ أخلَفَ موعِدَه، وقال: هل يستطيعُ ربُّك أنْ يصنَعَ غيرَ هذا؟ فأرسَلَ اللهُ عليه وعلى قومِه الطُّوفانَ، والجرادَ، والقُمَّلَ ، والضَّفادعَ، آياتٍ مُفصَّلاتٍ، كلُّ ذلك يَشْكو إلى موسى عليه السَّلامُ، ويطلُبُ إليه أنْ يكُفَّها عنه، ويُواثِقُه على أنْ يُرسِلَ معه بني إسرائيلَ، فإذا كَفَّ ذلك عنه، أخلَفَ موعِدَه ونكَثَ عهدَه. فأُمِرَ موسى عليه السَّلامُ بالخُروجِ بقومِه، فخرَجَ بهم ليلًا، فلمَّا أصبَحَ فرعونُ ورأى أنَّهم قد مَضَوا، أرسَلَ في المدائنِ حاشرينَ، فتبِعَهم بجُنودٍ عظيمةٍ كثيرةٍ، وأوحى اللهُ عَزَّ وجَلَّ إلى البحرِ: أنْ إذا ضرَبَك مُوسى بعصاهُ، فانفرِقْ له اثنتَيْ عشْرةَ فِرقةً، حتَّى يجوزَ موسى عليه السَّلامُ ومَن معه، ثمَّ الْتَئَمَ على مَن بقِيَ بعدُ مِن فرعونَ وأشياعِه، فنسِيَ مُوسى عليه السَّلامُ أنْ يضرِبَ البحرَ بالعصا، فانْتَهى إلى البحرِ وله قصيفٌ؛ مخافةَ أنْ يَضرِبَه موسى عليه السَّلامُ، وهو غافِلٌ، فيصيرَ عاصيًا اللهَ عَزَّ وجَلَّ. فلمَّا تراءى الجَمْعانِ وتقارَبَا، قال أصحابُ موسى: إنَّا لمُدْرَكونَ، افعَلْ ما أمرَكَ به ربُّك عَزَّ وجَلَّ؛ فإنَّك لم تكذِبْ ولم تُكْذَبْ، فقال: وعَدَني ربِّي عَزَّ وجَلَّ إذا أتيْتُ البحرَ، انفرَقَ لي اثنتيْ عشْرةَ فِرقةً حتَّى أُجاوزَه، ثمَّ ذكَرَ بعدَ ذلك العصا، فضرَبَ البحرَ بعصاه حين دنا أوائلُ جُندِ فرعونَ مِن أواخرِ جُندِ مُوسى عليه السَّلامُ، فانفرَقَ البحرُ كما أمَرَه اللهُ عَزَّ وجَلَّ، وكما وُعِدَ مُوسى عليه السَّلامُ، فلمَّا أنْ جاوَزَ موسى عليه السَّلامُ وأصحابُه البحرَ، ودخَلَ فِرعونُ وأصحابُه، الْتَقى عليهم البحرُ كما أُمِرَ. فلمَّا جاوَزَ مُوسى عليه السَّلامُ البحرَ، قال أصحابُه: إنَّا نخافُ ألَّا يكونَ فِرعونُ قد غرِقَ، فلا نُؤمِنُ بهلاكِه، فدعا ربَّه عَزَّ وجَلَّ، فأخرَجَه له ببدنه حتَّى استيْقَنوا بهلاكِه. ثمَّ مَرُّوا بعدَ ذلك {عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]، إلى {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 139]، قد رأيتُمْ مِن العِبَرِ، وسمِعْتُم ما يَكْفيكم، ومَضَى. فأنزَلَهم مُوسى عليه السَّلامُ منزلًا، ثمَّ قال لهم: أطيعوا هارونَ عليه السَّلامُ؛ فإنِّي قد استخلفْتُه عليكم، وإنِّي ذاهبٌ إلى ربِّي عَزَّ وجَلَّ، وأجَّلَهم ثلاثينَ يومًا أنْ يَرجِعَ إليهم فيها، فلمَّا أتى ربَّه وأراد أنْ يُكلِّمَه ثلاثينَ يومًا، وقد صامهنَّ: ليلَهنَّ ونهارَهنَّ، وكرِهَ أنْ يُكلِّمَ ربَّه عَزَّ وجَلَّ ورِيحُ فَمِه رِيحُ فَمِ الصَّائمِ، فتناوَلَ مُوسى عليه السَّلامُ مِن نباتِ الأرضِ شيئًا فمضَغَه، فقال له ربُّه عَزَّ وجَلَّ حين لقاه: لِمَ أفطرْتَ؟ -وهو أعلَمُ بالَّذي كان- قال: يا ربِّ، إنِّي كرِهْتُ أنْ أُكلِّمَك إلَّا وفَمِي طيِّبُ الرِّيحِ، قال: أوما علِمْتَ يا مُوسى أنْ رِيحَ فَمِ الصَّائمِ أطيبُ عندي مِن رِيحِ المِسْكِ؟ ارجِعْ حتَّى تصومَ عشْرًا ثمَّ ائْتِني، ففعَلَ مُوسى عليه السَّلامُ ما أُمِرَ به. فلمَّا رأى قومُ مُوسى عليه السَّلامُ أنَّه لم يرجِعْ إليهم للأجَلِ ساءَهم ذلك، وكان هارونُ عليه السَّلامُ قد خطَبَهم، فقال لهم: خرجْتُم مِن مِصْرَ ولقومِ فرعونَ عندي عواري وودائعُ، ولكم فيهم مثلُ ذلك، وأنا أرى أنْ تحتَسِبوا ما لكم عندهم، ولا أحلَّ لكم وديعةً اسْتُودِعْتُمُوها، ولا عاريَّةً، ولسنا برادِّين إليهم شيئًا مِن ذلك، ولا مُمْسِكيه لأنفُسِنا، فحفَرَ حفيرًا، وأمَرَ كلَّ قومٍ عليهم شَيءٌ مِن ذلك؛ مِن متاعٍ أو حِليةٍ أنْ يَقْذِفوه في ذلك الحفيرِ، ثمَّ أوقَدَ عليه النَّارَ، فأحرَقَه، فقال: لا يكونُ لنا، ولا لهم. وكان السَّامريُّ رجلًا مِن قومٍ يَعْبُدون البقرَ جيرانٍ لهم، ولم يكُنْ مِن بني إسرائيلَ، فاحتملَ مع مُوسى عليه السَّلامُ وبني إسرائيلَ حين احْتملوا، فقُضِيَ له أنْ رأى أثرًا، فأخَذَ منه بقبْضَتِه، فمَرَّ بهارونَ، فقال له هارونُ عليه السَّلامُ: يا سامريُّ، ألَا تُلْقي ما في يدَيْك؟ وهو قابضٌ عليه لا يَراه أحدٌ طوالَ ذلك، فقال: هذه قبْضةٌ مِن أثرِ الرَّسولِ الَّذي جاوَزَ بكم البحرَ، ولا أُلْقيها لشَيءٍ إلَّا أنْ تَدْعُوَ اللهَ إذا ألقيْتُها أنْ تكونَ ما أُرِيدُ، فألْقاها، ودعا اللهَ هارونُ عليه السَّلامُ، فقال: أريدُ أنْ يكونَ عِجْلًا، واجتمَعَ ما كان في الحُفرةِ مِن متاعٍ له، أو حِلْيةٍ، أو نحاسٍ، أو حديدٍ، فصار عِجْلًا أجوفَ ليس فيه رُوحٌ، له خُوارٌ. قال ابنُ عبَّاسٍ: لا واللهِ ما كان له صوتٌ قطُّ، إنَّما كانت الرِّيحُ تدخُلُ مِن دُبُرِه وتخرُجُ مِن فَمِه، فكان ذلك الصَّوتُ مِن ذلك. فتفرَّقَ بنو إسرائيلَ فِرَقًا؛ فقالت فِرقةٌ: يا سامريُّ، ما هذا فأنت أعلَمُ به؟ قال: هذا ربُّكم عَزَّ وجَلَّ، ولكنَّ مُوسى عليه السَّلامُ أضَلَّ الطَّريقَ. وقالت فِرقةٌ: لا نُكذِّب بهذا حتَّى يرجِعَ إلينا مُوسى، فإنْ كان ربَّنا لم نكُنْ ضيَّعْناه وعجَزْنا فيه حِينَ رأيْناه، وإنْ لم يكُنْ ربَّنا، فإنَّا نتَّبِعُ قولَ مُوسى عليه السَّلامُ. وقالت فِرقةٌ: هذا عمَلُ الشَّيطانِ، وليس بربِّنا، ولا نُؤْمِنُ، ولا نُصدِّقُ. وأُشْرِبَ فِرقةٌ في قُلوبِهم التَّصديقَ بما قال السَّامريُّ في العجلِ، وأعْلَنوا التَّكذيبَ، فقال لهم هارونُ عليه السَّلامُ: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ} [طه: 90]، وإنَّ ربَّكم ليس هكذا، قالوا: فما بالُ مُوسى عليه السَّلامُ؛ وعَدَنا ثلاثينَ يومًا ثمَّ أخلَفَنا، فهذه أربعونَ قد مَضَت؟! فقال سُفهاؤُهم: أخطَأَ ربَّه، فهو يطلُبُه ويتبَعُه. فلمَّا كلَّمَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ مُوسى عليه السَّلامُ وقال له ما قال، أخبَرَه بما لقِيَ قومُه بعده. {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} [طه: 86]، وقال لهم ما سمِعْتُم في القُرآنِ وأخَذَ برأْسِ أخِيه، وألْقى الألواحَ مِن الغضَبِ، ثمَّ عذَرَ أخاه بعُذْرِه، واستغفَرَ له، وانصرَفَ إلى السَّامريِّ، فقال له: ما حمَلَك على ما صنعْتَ؟ قال: قبَضْتُ قبضةً مِن أثرِ الرَّسولِ وفطِنْتُ لها، وعُمِّيَت عليكم، فقَذفْتُها؛ وكذلك سوَّلَت لي نَفْسي. قال: {اذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ} إلى قولِه: {نَسْفًا} [طه: 97]، ولو كان إلهًا لم يُخْلَصْ إلى ذلك منه. فاستيقَنَ بنو إسرائيلَ بالفتنةِ، واغْتَبَطَ الَّذين كان رأيُهم فيه مثلَ رأيِ هارونَ عليه السَّلامُ، فقالوا بجماعتِهم لمُوسى عليه السَّلامُ: سَلْ لنا ربَّك عَزَّ وجَلَّ أنْ يفتَحَ لنا بابَ توبةٍ نصنَعُها؛ فيُكَفِّرَ عنَّا ما عمِلْنا، فاختارَ موسى عليه السَّلامُ قومَه سبعينَ رجُلًا لذلك -لا يأْلُو الخيرَ- خيارَ بني إسرائيلَ، ومَن لم يُشْرِكْ في العجلِ. فانطلَقَ بهم ليسأَلَ لهم التَّوبةَ، فرجَفَتْ بهم الأرضُ، فاستحيا نبيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ من قومِه ووفْدِه حين فُعِلَ بهم ما فُعِلَ، فقال: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} [الأعراف: 155]، وفيهم مَن قد كان اللهُ عَزَّ وجَلَّ اطَّلَعَ على ما أُشْرِبَ قلبُه من حُبِّ العجلِ وإيمانِه به؛ فلذلك رجَفَت بهم الأرضُ. فقال: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156] إلى: {فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157]، فقال: رَبِّ سألْتُك التَّوبةَ لقومي، فقلْتَ: إنَّ رحمتي كتبْتُها لقومٍ غيرِ قومي، فليتَكَ أخَّرْتَني حين تُخْرِجُني حيًّا في أُمَّةِ ذلك الرَّجلِ المرحومةِ، فقال اللهُ له: إنَّ توبتَهم أنْ يقتُلَ كلُّ رجُلٍ منهم مَن لقِيَ مِن والدٍ أو ولدٍ، فيقتُلَه بالسَّيفِ لا يُبَالي مَن قتَلَ في ذلك الموطنِ، وتاب أولئك الَّذين كان خفِيَ على موسى وهارونَ عليهما السلام ما اطَّلَعُ اللهُ عليهم من ذُنوبِهم، فاعتَرَفوا بها، وفعَلوا ما أُمِروا، وغفَرَ اللهُ للقاتِلِ والمقتولِ. ثمَّ سار بهم مُوسى عليه السَّلامُ مُتوجِّهًا نحوَ الأرضِ المُقدَّسةِ، وأخَذَ الألواحَ بعدما سكَتَ عنه الغضبُ، وأمَرَهم بالَّذي أُمِرَ به أنْ يُبَلِّغَهم من الوظائفِ، فثقُلَ ذلك عليهم، وأبَوا أنْ يُقِرُّوا بها، فنتَقَ اللهُ عليهم الجبلَ كأنَّه ظُلَّةٌ، ودنا منهم حتَّى خافوا أنْ يقَعَ عليهم، فأخَذُوا الكتابَ بأيمانِهم وهم يَصْغُون ينظُرونَ إلى الجبلِ والأرضِ، والكتابُ بأيديهم وهم يَنظُرونَ إلى الجبلِ؛ مخافةَ أنْ يقَعَ عليهم، ثمَّ مَضَوا إلى الأرضِ المُقدَّسةِ، فوَجَدوا مدينةَ قومٍ جبَّارينَ خَلْقُهم مُنْكرٌ، وذكَرَ من ثِمارِهم أمرًا عجَبًا من عِظَمِها، فقالوا: يا موسى، إنَّ فيها قومًا جبَّارينَ لا طاقةَ لنا بهم، ولا ندخُلُها ما داموا فيها، فإنْ يَخْرجوا منها فإنَّا داخِلونَ، قال رجُلانِ من الَّذين يَخافونَ مِن الجبَّارينَ: آمنَّا بمُوسى عليه السَّلامُ، فخرَجَا إليه، فقالا: نحنُ أعلَمُ بقومِنا، إنْ كنتُمْ إنَّما تَخافونَ ما رأيتُمْ من أجسامِهم وعدَدِهم، فإنَّهم لا قُلوبَ لهم، ولا مَنعةَ عندهم، فادْخُلوا عليهم البابَ، فإذا دخلْتُموه فإنَّكم غالِبونَ. ويقولُ أناسٌ: إنَّهما من قومِ مُوسى عليه السَّلامُ. وزعَمَ سعيدُ بنُ جُبيرٍ أنَّهما من الجبَّارينَ آمَنَا بمُوسى، بقولِه: {مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ} [المائدة: 23]: إنَّما عَنى بذلك: مِن الَّذين يَخافونَ بني إسرائيلَ. {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]، فأغْضَبوا مُوسَى عليه السَّلامُ، فدعا عليهم، وسمَّاهم فاسقينَ، ولم يدْعُ عليهم قبلَ ذلك؛ لِمَا رأى منهم من المعصيةِ وإساءتِهم حتَّى كان يومئذٍ، فاستجابَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ له، فسمَّاهم كما سمَّاهم مُوسى عليه السَّلامُ فاسقينَ، فحرَّمَها عليهم أربعينَ سَنةً يَتِيهون في الأرضِ؛ يُصْبِحون كلَّ يومٍ، فيَسِيرونَ ليس لهم قرارٌ، ثمَّ ظلَّلَ عليهم الغمامَ في التِّيهِ، وأنزَلَ عليهم المَنَّ والسَّلوى، وجعَلَ لهم ثيابًا لا تَبْلى ، ولا تتَّسِخُ، وجعَلَ بين ظَهرِهم حَجرًا مُربَّعًا، وأمَرَ مُوسى عليه السَّلامُ فضرَبَه بعصاهُ، فانفجَرَ منه اثنتا عشْرةَ عينًا، في كلِّ ناحيةٍ ثلاثةُ أعينٍ، وأعلَمَ كلَّ سِبْطٍ عينَهم الَّتي يَشْربون منها، فلا يَرْتحِلونَ من مَنزلٍ إلَّا وجدوا ذلك الحجرَ منهم بالمكانِ الَّذي كان منه أمسِ.
خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح
الراوي : عبدالله بن عباس | المحدث : البوصيري | المصدر : إتحاف الخيرة المهرة الصفحة أو الرقم : 6/234
التخريج : أخرجه النسائي في ((السنن الكبرى)) (11263)، وأبو يعلى (2618)، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (66) بنحوه.
التصنيف الموضوعي: تفسير آيات - سورة طه فتن - الصبر عند الفتن
|أصول الحديث

أصول الحديث:


السنن الكبرى للنسائي- الرسالة (10/ 172)
11263- أخبرنا عبد الله بن محمد، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا أصبغ بن زيد، حدثنا القاسم بن أبي أيوب، أني سعيد بن جبير، قال: سألت عبد الله بن عباس عن قول الله عز وجل لموسى عليه السلام: {وفتناك فتونا} [طه: 40]، فسألته عن الفتون ما هو؟ قال: استأنف النهار يا ابن جبير، فإن لها حديثا طويلا، فلما أصبحت غدوت على ابن عباس لأنتجز منه ما وعدني من حديث الفتون، فقال: تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله عز وجل وعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا، فقال بعضهم: إن بني إسرائيل ينتظرون ذلك ما يشكون فيه، وكانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب عليهما السلام، فلما هلك قالوا: ليس هكذا كان وعد إبراهيم عليه السلام، فقال فرعون: فكيف ترون؟ فائتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالا معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه، ففعلوا ذلك، فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم، والصغار يذبحون قالوا: توشكون أن تفنوا بني إسرائيل، فتصيروا أن تباشروا من الأعمال والخدمة الذي كانوا يكفونكم، فاقتلوا عاما كل مولود ذكر، فيقل نباتهم، ودعوا عاما فلا تقتلوا منهم أحدا، فينشأ الصغار مكان من يموت من الكبار، فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم فتخافوا مكاثرتهم إياكم، ولن يفنوا بمن تقتلون وتحتاجون إليهم، فأجمعوا أمرهم على ذلك، فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان، فولدته علانية آمنة، فلما كان من قابل حملت بموسى، فوقع في قلبها الهم والحزن، وذلك من الفتون يا ابن جبير، ما دخل عليه في بطن أمه مما يراد به، فأوحى الله جل ذكره إليها أن {لا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين} [القصص: 7] فأمرها إذا ولدت أن تجعله في تابوت وتلقيه في اليم، فلما ولدت فعلت ذلك، فلما توارى عنها ابنها أتاها الشيطان، فقالت في نفسها: ما فعلت بابني، لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان أحب إلي أن ألقيه إلى دواب البحر وحيتانه، فانتهى الماء به حتى أوفى به عند فرضة مستقى جواري امرأة فرعون، فلما رأينه أخذنه فهممن أن يفتحن التابوت، فقال بعضهن: إن في هذا مالا، وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة الملك بما وجدنا فيه، فحملنه كهيئته لم يخرجن منه شيئا حتى دفعنه إليها، فلما فتحته رأت فيه غلاما، فألقي عليها منه محبة لم يلق منها على أحد قط {وأصبح فؤاد أم موسى فارغا} [القصص: 10] من ذكر كل شيء إلا من ذكر موسى، فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه، وذلك من الفتون يا ابن جبير، فقالت لهم: أقروه، فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل، حتى آتي فرعون فأستوهبه منه، فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم، وإن أمر بذبحه لم ألمكم، فأتت فرعون فقالت: {قرة عين لي ولك} فقال فرعون: يكون لك، فأما لي فلا حاجة لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي يحلف به لو أقر فرعون أن يكون له قرة عين كما أقرت امرأته لهداه الله كما هداها، ولكن الله حرمه ذلك)) فأرسلت إلى من حولها إلى كل امرأة لها لبن تختار له ظئرا، فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل على ثديها، حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت، فأحزنها ذلك، فأمرت به فأخرج إلى السوق ومجمع الناس ترجو أن تجد له ظئرا تأخذه منها، فلم يقبل، فأصبحت أم موسى والها، فقالت لأخته: قصي أثره واطلبيه، هل تسمعين له ذكرا، أحي ابني أم أكلته الدواب، ونسيت ما كان الله وعدها فيه، فبصرت به أخته عن جنب- والجنب: أن يسمو بصر الإنسان إلى الشيء البعيد وهو إلى ناحية لا يشعر به- فقالت من الفرح حين أعياهم الظئورات: أنا {أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون} [القصص: 12] فأخذوها فقالوا: ما يدريك ما نصحهم؟ هل تعرفونه؟ حتى شكوا في ذلك- وذلك من الفتون يا ابن جبير- فقالت: نصيحتهم له، وشفقتهم عليه، رغبتهم في صهر الملك ورجاء منفعة الملك، فأرسلوها فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر، فجاءت أمه، فلما وضعته في حجرها ثوى إلى ثديها فمصه حتى امتلأ جنباه ريا، وانطلق البشراء إلى امرأة فرعون يبشرونها أن قد وجدنا لابنك ظئرا، فأرسلت إليها فأتت بها وبه، فلما رأت ما يصنع قالت: امكثي ترضعي ابني هذا، فإني لم أحب شيئا حبه قط، قالت أم موسى: لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي فيضيع، فإن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهب به إلى بيتي فيكون معي، لا آلوه خيرا فعلت، فإني غير تاركة بيتي وولدي، وذكرت أم موسى ما كان الله وعده، فتعاسرت على امرأة فرعون، وأيقنت أن الله منجز موعوده، فرجعت إلى بيتها من يومها، فأنبته الله نباتا حسنا، وحفظ لما قد قضى فيه، فلم يزل بنو إسرائيل وهم في ناحية القرية ممتنعين من السخرة والظلم ما كان فيهم، فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأم موسى: أزيريني ابني، فوعدتها يوما تزيرها إياه فيه، وقالت امرأة فرعون لخازنها وقهارمتها: لا يبقين أحد منكم إلا استقبل ابني اليوم بهدية وكرامة، لأرى ذلك فيه، وأنا باعثة أمينا يحصي كل ما يصنع كل إنسان منكم، فلم تزل الهدايا والكرامة والنحل تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون، فلما دخل عليها نحلته وأكرمته، وفرحت به، ونحلت أمه بحسن أثرها عليه، ثم قالت: لآتين فرعون فلينحلنه وليكرمنه، فلما دخلت به عليه جعله في حجره، فتناول موسى لحية فرعون فمدها إلى الأرض، قال الغواة من أعداء الله لفرعون: ألا ترى ما وعد الله إبراهيم نبيه، إنه زعم أن يربك ويعلوك ويصرعك؟ فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه- وذلك من الفتون يا ابن جبير- بعد كل بلاء ابتلي به وأريد به فتونا، فجاءت امرأة فرعون تسعى إلى فرعون فقالت: ما بدا لك في هذا الغلام الذي وهبته لي؟ فقال: ألا ترينه، إنه يزعم سيصرعني ويعلوني، قالت: اجعل بيني وبينك أمرا يعرف فيه الحق، ائت بجمرتين ولؤلؤتين فقربهن إليه، فإن بطش باللؤلؤ واجتنب الجمرتين عرفت أنه يعقل، وإن تناول الجمرتين، ولم يرد اللؤلؤتين علمت أن أحدا لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يعقل، فقرب ذلك إليه فتناول الجمرتين، فنزعوهما منه مخافة أن يحرقا يديه، فقالت المرأة: ألا ترى؟ فصرفه الله عنه بعد ما كان قد هم به، وكان الله بالغا فيه أمره، فلما بلغ أشده وكان من الرجال لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة، امتنعوا كل الامتناع، فبينما موسى عليه السلام يمشي في ناحية المدينة إذا هو برجلين يقتتلان، أحدهما فرعوني والآخر إسرائيلي، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، فغضب موسى عليه السلام غضبا شديدا، لأنه تناوله وهو يعلم منزله من بني إسرائيل، وحفظه لهم، لا يعلم الناس إلا أنما ذلك من الرضاع إلا أم موسى، إلا أن يكون الله سبحانه أطلع موسى عليه السلام من ذلك على ما لم يطلع عليه غيره، ووكز موسى الفرعوني فقتله، وليس يراهما أحد إلا الله عز وجل والإسرائيلي، فقال موسى حين قتل الرجل: {هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين} [القصص: 15] ثم قال: {رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم} [القصص: 16] فأصبح في المدينة خائفا يترقب الأخبار، فأتي فرعون فقيل له: إن بني إسرائيل قتلوا رجلا من آل فرعون، فخذ لنا بحقك، ولا ترخص لهم، فقال: ابغوني قاتله من شهد عليه، فإن الملك وإن كان صفوه مع قومه لا يستقيم له أن يقيد بغير بينة ولا ثبت، فاطلبوا لي علم ذلك آخذ لكم بحقكم، فبينما هم يطوفون لا يجدون ثبتا إذا موسى من الغد قد رأى ذلك الإسرائيلي يقاتل رجلا من آل فرعون آخر، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، فصادف موسى قد ندم على ما كان منه، وكره الذي رأى، فغضب الإسرائيلي وهو يريد أن يبطش بالفرعوني، فقال للإسرائيلي لما فعل أمس واليوم: إنك لغوي مبين، فنظر الإسرائيلي إلى موسى عليه السلام، بعدما قال له ما قال، فإذ هو غضبان كغضبه بالأمس الذي قتل فيه الفرعوني فخاف أن يكون بعدما قال له: إنك لغوي مبين أن يكون إياه أراد، ولم يكن أراده وإنما أراد الفرعوني، فخاف الإسرائيلي وقال: يا موسى، أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس، وإنما قال له مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله، فتتاركا وانطلق الفرعوني فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر حين يقول: أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس، فأرسل فرعون الذباحين ليقتلوا موسى، فأخذ رسل فرعون الطريق الأعظم يمشون على هيئتهم يطلبون موسى، وهم لا يخافون أن يفوتهم، فجاء رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة، فاختصر طريقا حتى سبقهم إلى موسى، فأخبره الخبر- وذلك من الفتون يا ابن جبير- فخرج موسى متوجها نحو مدين لم يلق بلاء قبل ذلك، وليس له علم إلا حسن ظنه بربه تعالى، فإنه قال: {عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون، ووجد من دونهم امرأتين تذودان} [القصص: 23] يعني بذلك حابستين عنهما، فقال لهما: ما خطبكما معتزلتين لا تسقيان مع الناس؟ فقالتا: ليس لنا قوة نزاحم القوم، وإنما ننتظر فضول حياضهم، فسقى لهما، فجعل يغترف في الدلو ماء كثيرا، حتى كان أول الرعاء، وانصرفتا بغنمهما إلى أبيهما، وانصرف موسى عليه السلام، فاستظل بشجرة وقال: {رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير} [القصص: 24] واستنكر أبوهما سرعة صدورهما بغنمهما حفلا بطانا، فقال: إن لكما اليوم لشأنا، فأخبرتاه بما صنع موسى، فأمر إحداهما أن تدعوه، فأتت موسى فدعته، فلما كلمه، قال: لا تخف نجوت من القوم الظالمين، ليس لفرعون ولا لقومه علينا سلطان، ولسنا في مملكته، فقالت إحداهما: يا أبت استأجره، إن خير من استأجرت القوي الأمين، فاحتملته الغيرة على أن قال لها: ما يدريك ما قوته وما أمانته؟ قالت: أما قوته، فما رأيت منه في الدلو حين سقى لنا لم أر رجلا قط أقوى في ذلك السقي منه، وأما الأمانة، فإنه نظر إلي حين أقبلت إليه، وشخصت له، فلما علم أني امرأة صوب رأسه فلم يرفعه حتى بلغته رسالتك، ثم قال لي: امشي خلفي، وانعتي لي الطريق، فلم يفعل هذا الأمر إلا وهو أمين، فسري عن أبيها وصدقها، وظن به الذي قالت، فقال له: هل لك {أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين} [القصص: 27] ففعل، فكانت على نبي الله موسى ثماني سنين واجبة وكانت سنتان عدة منه، فقضى الله عنه عدته فأتمها عشرا، قال سعيد: فلقيني رجل من أهل النصرانية من علمائهم، قال: هل تدري أي الأجلين قضى موسى؟ قلت: لا، وأنا يومئذ لا أدري، فلقيت ابن عباس فذكرت ذلك له فقال: أما علمت أن ثمانيا كانت على نبي الله واجبة، لم يكن نبي الله صلى الله عليه وسلم لينقص منها شيئا، وتعلم أن الله كان قاضيا عن موسى عدته التي وعده فإنه قضى عشر سنين، فلقيت النصراني فأخبرته ذلك، فقال: الذي سألته فأخبرك أعلم منك بذلك، قلت: أجل وأولى، فلما سار موسى بأهله كان من أمر الناس والعصا ويده ما قص الله عليك في القرآن، فشكا إلى الله سبحانه ما يتخوف من آل فرعون في القتيل، وعقدة لسانه، فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير الكلام، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون، يكون له ردءا، ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه، فآتاه الله سؤله وحل عقدة من لسانه، وأوحى الله إلى هارون وأمره أن يلقاه، فاندفع موسى بعصاه حتى لقي هارون عليه السلام، فانطلقا جميعا إلى فرعون فأقاما على بابه حينا لا يؤذن لهما، ثم أذن لهما بعد حجاب شديد، فقالا: إنا رسولا ربك، قال: فمن ربكما؟ فأخبراه بالذي قص الله عليك في القرآن، قال: فما تريدان؟ وذكره القتيل فاعتذر بما قد سمعت قال: أريد أن تؤمن بالله وترسل معي بني إسرائيل، فأبى عليه وقال: ائت بآية إن كنت من الصادقين، فألقى عصاه فإذا هي حية عظيمة فاغرة فاها مسرعة إلى فرعون، فلما رآها فرعون قاصدة إليه خافها، فاقتحم عن سريره واستغاث بموسى أن يكفها عنه، ففعل ثم أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء، يعني من غير برص، ثم ردها فعادت إلى لونها الأول، فاستشار الملأ حوله فيما رأى، فقالوا له: هذان ساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى، يعني ملكهم الذي هم فيه والعيش، فأبوا على موسى أن يعطوه شيئا مما طلب وقالوا له: اجمع لهما السحرة، فإنهم بأرضك كثير حتى يغلب سحرك سحرهما، فأرسل في المدائن فحشر له كل ساحر متعالم، فلما أتوا فرعون قالوا: بم يعمل هذا الساحر؟ قالوا: يعمل بالحيات، قالوا: فلا والله ما أحد في الأرض يعمل بالسحر بالحيات والحبال والعصي الذي نعمل، وما أجرنا إن نحن غلبنا؟ قال لهم: أنتم أقاربي وخاصتي، وأنا صانع إليكم كل شيء أحببتم، فتواعدوا يوم الزينة، وأن يحشر الناس ضحى، قال سعيد: فحدثني ابن عباس أن يوم الزينة اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون والسحرة، هو يوم عاشوراء، فلما اجتمعوا في صعيد قال الناس بعضهم لبعض: انطلقوا فلنحضر هذا الأمر، لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين، يعنون موسى وهارون استهزاء بهما، فقالوا يا موسى- لقدرتهم بسحرهم- إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين، قال: بل ألقوا، {فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون} [الشعراء: 44] فرأى موسى من سحرهم ما أوجس في نفسه خيفة، فأوحى الله إليه أن ألق عصاك، فلما ألقاها صارت ثعبانا عظيما فاغرة فاها، فجعلت العصا تلبس بالحبال حتى صارت جرزا على الثعبان تدخل فيه، حتى ما أبقت عصا ولا حبلا إلا ابتلعته، فلما عرف السحرة ذلك قالوا: لو كان هذا سحرا لم يبلغ من سحرنا كل هذا، ولكنه أمر من الله، آمنا بالله وبما جاء به موسى، ونتوب إلى الله مما كنا عليه، فكسر الله ظهر فرعون في ذلك الموطن وأتباعه، وظهر الحق وبطل ما كانوا يعملون {فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين} [الأعراف: 119] وامرأة فرعون بارزة تدعو الله بالنصر لموسى على فرعون وأشياعه، فمن رآها من آل فرعون ظن أنها إنما ابتذلت للشفقة على فرعون وأشياعه، وإنما كان حزنها وهمها لموسى، فلما طال مكث موسى بمواعد فرعون الكاذبة، كلما جاءه بآية وعده عندها أن يرسل معه بني إسرائيل، فإذا مضت أخلف موعده وقال: هل يستطيع ربك أن يصنع غير هذا؟ فأرسل الله عز وجل على قومه {الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات} [الأعراف: 133] كل ذلك يشكو إلى موسى ويطلب إليه أن يكفها عنه، ويوافقه على أن يرسل معه بني إسرائيل، فإذا كف ذلك عنه أخلف موعده ونكث عهده، حتى أمر موسى بالخروج بقومه، فخرج بهم ليلا، فلما أصبح فرعون فرأى أنهم قد مضوا أرسل في المدائن حاشرين، فتبعه بجنود عظيمة كثيرة، وأوحى الله تعالى إلى البحر: إذا ضربك عبدي موسى بعصاه فانفرق اثنتي عشرة فرقة حتى يجاوز موسى ومن معه، ثم التق على من بقي بعد من فرعون وأشياعه، فنسي موسى أن يضرب البحر بالعصا، فانتهى إلى البحر وله قصيف مخافة أن يضربه موسى بعصاه وهو غافل فيصير عاصيا لله، فلما تراءى الجمعان تقاربا، قال قوم موسى: إنا لمدركون، افعل ما أمرك به ربك، فإنه لم يكذب، ولم تكذب، قال: وعدني ربي إذا أتيت البحر انفرق اثنتي عشرة فرقة حتى أجاوزه، ثم ذكر بعد ذلك العصا، فضرب البحر بعصاه حين دنا أوائل جند فرعون من أواخر جند موسى، فانفرق البحر كما أمره ربه، وكما وعد موسى، فلما أن جاز موسى وأصحابه كلهم البحر، ودخل فرعون وأصحابه، التقى عليهم البحر كما أمر، فلما جاوز موسى البحر قال أصحابه: إنا نخاف ألا يكون فرعون غرق، ولا نؤمن بهلاكه، فدعا ربه فأخرجه له ببدنه حتى استيقنوا هلاكه، ثم مروا بعد ذلك {على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون} [الأعراف: 138] قد رأيتم من العبر، وسمعتم ما يكفيكم، ومضى فأنزلهم موسى منزلا وقال لهم: أطيعوا هارون فإني قد استخلفته عليكم، فإني ذاهب إلى ربي، وأجلهم ثلاثين يوما أن يرجع إليهم فيها، فلما أتى ربه أراد أن يكلمه في ثلاثين يوما، وقد صامهن ليلهن ونهارهن، وكره أن يكلم ربه وريح فيه ريح فم الصائم، فتناول موسى من نبات الأرض شيئا فمضغه، فقال له ربه حين أتاه: لم أفطرت؟، وهو أعلم بالذي كان، قال: يا رب، إني كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب الريح، قال: أوما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم أطيب من ريح المسك؟ ارجع فصم عشرا ثم ائتني، ففعل موسى عليه السلام ما أمره به، فلما رأى قوم موسى أنه لم يرجع إليهم في الأجل ساءهم ذلك، وكان هارون قد خطبهم وقال: إنكم خرجتم من مصر ولقوم فرعون عندكم عواري وودائع، ولكم فيهم مثل ذلك، وأنا أرى أن تحتسبوا ما لكم عندهم، ولا أحل لكم وديعة استودعتموها ولا عارية، ولسنا برادين إليهم شيئا من ذلك، ولا ممسكيه لأنفسنا، فحفر حفيرا وأمر كل قوم عندهم من ذلك من متاع أو حلية أن يقذفوه في ذلك الحفير، ثم أوقد عليه النار فأخرجه، فقال: لا يكون لنا ولا لهم، وكان السامري من قوم يعبدون البقر جيران لبني إسرائيل، ولم يكن من بني إسرائيل، فاحتمل مع موسى وبني إسرائيل حين احتملوا، فقضي له أن رأى أثرا فأخذ منه قبضة، فمر بهارون، فقال له هارون عليه السلام: يا سامري، ألا تلقي ما في يدك؟ وهو قابض عليه لا يراه أحد طوال ذلك، فقال: هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر، فلا ألقيها بشيء إلا أن تدعو الله إذا ألقيت أن يكون ما أريد، فألقاها ودعا له هارون، فقال: أريد أن تكون عجلا، فاجتمع ما كان في الحفرة من متاع أو حلية أو نحاس أو حديد، فصار عجلا أجوف ليس فيه روح له خوار، قال ابن عباس: لا والله، ما كان له صوت قط، إنما كانت الريح تدخل من دبره وتخرج من فيه، فكان ذلك الصوت من ذلك، فتفرق بنو إسرائيل فرقا، فقالت فرقة: يا سامري، ما هذا وأنت أعلم به؟ قال: هذا ربكم، ولكن موسى أضل الطريق، فقالت فرقة: لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى، فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه وعجزنا فيه حين رأينا، وإن لم يكن ربنا فإنا نتبع قول موسى، وقالت فرقة: هذا عمل الشيطان، وليس بربنا، ولن نؤمن به ولا نصدق، وأشرب فرقة في قلوبهم الصدق بما قال السامري في العجل، وأعلنوا التكذيب به، فقال لهم هارون: يا قوم إنما فتنتم به، وإن ربكم الرحمن، هكذا قالوا: فما بال موسى وعدنا ثلاثين يوما ثم أخلفنا؟ هذه أربعون قد مضت، فقال سفهاؤهم: أخطأ ربه، فهو يطلبه ويتبعه، فلما كلم الله موسى عليه السلام، وقال له ما قال، أخبره بما لقي قومه من بعده، فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا، قال لهم ما سمعتم في القرآن، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، وألقى الألواح من الغضب، ثم إنه عذر أخاه بعذره له، فانصرف إلى السامري فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: قبضت قبضة من أثر الرسول، وفطنت إليها، وعميت عليكم، فقذفتها {وكذلك سولت لي نفسي قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا} [طه: 96] ولو كان إلها لم نخلص إلى ذلك منه، فاستيقن بنو إسرائيل بالفتنة واغتبط الذين كان رأيهم فيه مثل رأي هارون، فقالوا لجماعتهم: يا موسى، سل لنا ربك أن يفتح لنا باب توبة نصنعها، فيكفر عنا ما عملنا، فاختار موسى قومه سبعين رجلا لذلك، لا يألوا الخير، خيار بني إسرائيل ومن لم يشرك في العجل، فانطلق بهم يسأل لهم التوبة، فرجفت بهم الأرض، واستحيا نبي الله صلى الله عليه وسلم من قومه ومن وفده حين فعل بهم ما فعل، فقال: {لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا} [الأعراف: 155] وفيهم من كان الله اطلع منه على ما أشرب قلبه من حب العجل وإيمان به، فلذلك رجفت بهم الأرض، فقال: {رحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل} [الأعراف: 156] فقال: يا رب، سألتك التوبة لقومي فقلت: إن رحمتي كتبتها لقوم غير قومي، فليتك أخرتني حتى تخرجني في أمة ذلك الرجل المرحومة، فقال له: إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم كل من لقي من والد وولد، فيقتله بالسيف لا يبالي من قتل في ذلك الموطن، ويأتي أولئك الذين كان خفي على موسى وهارون واطلع الله من ذنوبهم فاعترفوا بها، وفعلوا ما أمروا، وغفر الله للقاتل والمقتول، ثم سار بهم موسى صلى الله عليه وسلم متوجها نحو الأرض المقدسة، وأخذ الألواح بعدما سكت عنه الغضب، فأمرهم بالذي أمر به أن يبلغهم من الوظائف، فثقل ذلك عليهم، وأبوا أن يقروا بها، فنتق الله عليهم الجبل كأنه ظلة، ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم، فأخذوا الكتاب بأيمانهم وهم مصطفون ينظرون إلى الجبل والكتاب بأيديهم، وهو من وراء الجبل مخافة أن يقع عليهم، ثم مضوا حتى أتوا الأرض المقدسة، فوجدوا مدينة فيها قوم جبارون، خلقهم خلق منكر، وذكر من ثمارهم أمرا عجيبا من عظمها، فقالوا: يا موسى إن فيها قوما جبارين لا طاقة لنا بهم، ولا ندخلها ما داموا فيها، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون، قال رجلان من الذين يخافون- قيل ليزيد: هكذا قرأه؟ قال: نعم- من الجبارين: آمنا بموسى وخرجا إليه فقالوا: نحن أعلم بقومنا، إن كنتم إنما تخافون من ما رأيتم من أجسامهم وعددهم فإنهم لا قلوب لهم، ولا منعة عندهم، فادخلوا عليهم الباب، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون، ويقول أناس: إنهما من قوم موسى، فقال الذين يخافون بنو إسرائيل: {قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} [المائدة: 24] فأغضبوا موسى عليه السلام، فدعا عليهم وسماهم فاسقين، ولم يدع عليهم قبل ذلك، لما رأى منهم من المعصية وإساءتهم، حتى كان يومئذ فاستجاب الله تعالى له، وسماهم كما سماهم موسى: فاسقين، فحرمها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض، يصبحون كل يوم فيسيرون ليس لهم قرار، ثم ظلل عليهم الغمام في التيه، وأنزل عليهم المن والسلوى، وجعل لهم ثيابا لا تبلى ولا تتسخ، وجعل بين أظهرهم حجرا مربعا، وأمر موسى فضربه بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، في كل ناحية ثلاثة أعين، وأعلم كل سبط عينهم التي يشربون منها، فلا يرتحلون من منقلة إلا وجدوا ذلك الحجر بالمكان الذي كان فيه بالأمس، رفع ابن عباس هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وصدق ذلك عندي أن معاوية سمع ابن عباس حدث هذا الحديث فأنكر عليه أن يكون الفرعوني الذي أفشى على موسى أمر القتيل الذي قتل، فقال: كيف يفشي عليه ولم يكن علم به ولا ظهر عليه إلا الإسرائيلي الذي حضر ذلك؟ فغضب ابن عباس، فأخذ بيد معاوية فانطلق به إلى سعد بن مالك الزهري فقال له: يا أبا إسحاق، هل تذكر يوما حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتيل موسى الذي قتل من آل فرعون؟ آلإسرائيلي أفشى عليه أم الفرعوني؟ قال: أنما أفشى عليه الفرعوني، ما سمع من الإسرائيلي شهد على ذلك وحضره

[مسند أبي يعلى الموصلي] (5/ 10)
2618- حدثنا أبو خيثمة، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا أصبغ بن زيد الجهني، حدثنا القاسم بن أبي أيوب، حدثنا سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قول الله تعالى: {وفتناك فتونا} [طه: 40] سألته عن الفتون ما هو؟ قال: استأنف النهار يا ابن جبير فإن لها حديثا طويلا، فلما أصبحت غدوت إلى ابن عباس لأنتجز منه ما وعدني من حديث الفتون، فقال: تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم من أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا، فقال بعضهم: إن بني إسرائيل لينتظرون ذلك ما يشكون فيه، وقد كانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب، فلما هلك قالوا: ليس كذلك، إن الله عز وجل وعد إبراهيم، قال فرعون: فكيف ترونه؟ فأتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالا معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل، فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه، ففعلوا ذلك، فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم، والصغار يذبحون، قالوا: يوشك أن تفنوا بني إسرائيل، فتصيرون إلى أن تباشروا من الأعمال التي كانوا يكفونكم، فاقتلوا عاما كل مولود ذكر، فيقل نباتهم، ودعوا عاما فلا يقتل منهم أحد، فينشأ الصغار مكان من يموت من الكبار، فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم فتخافوا مكاثرتهم إياكم، ولن يفنوا بمن تقتلون فتحتاجون إلى ذلك، فأجمعوا أمرهم على ذلك فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان، فولدته علانية آمنة، فلما كان من قابل حملت بموسى فوقع في قلبها الهم والحزن- وذلك من الفتون يا ابن جبير- ما دخل منه في قلب أمه مما يراد به، فأوحى الله تبارك وتعالى إليها {ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين} [القصص: 7] وأمرهم إذا ولدت أن تجعله في تابوت، ثم تلقيه في اليم، فلما ولدت فعلت ذلك به، فلما توارى عنها ابنها أتاها الشيطان، فقالت في نفسها: ما صنعت بابن، لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان أحب إلي من أن ألقيه بيدي إلى زفرات البحر وحيتانه، فانتهى الماء به حتى انتهى به فرضة مستقى جواري امرأة فرعون، فلما رأينه أخذنه، فهممن أن يفتحن التابوت، فقال بعضهن: إن في هذا مالا وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة الملك بما وجدنا فيه، فحملنه بهيئته لم يحركن منها شيئا حتى دفعنه إليها، فلما فتحته رأت فيه غلاما فألقي عليه منها محبة لم تجد مثلها على أحد من البشر قط، فأصبح فؤاد أم موسى فارغا من ذكر كل شيء إلا من ذكر موسى [ص:12] فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه- وذلك من الفتون يا ابن جبير- فقالت لهم: اتركوه، فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل حتى آتي فرعون فأستوهبه منه، فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم، وإن أمر بذبحه لم ألمكم، فأتت به فرعون، فقالت: قرة عين لي ولك، قال فرعون: يكون لك، فأما لي فلا حاجة لي في ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي أحلف به، لو أقر فرعون بأن يكون له قرة عين كما أقرت امرأته لهداه الله به كما هدى امرأته، ولكن حرمه ذلك)) فأرسلت إلى من حولها من كل امرأة لها لبن لتختار له ظئرا، فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل ثديها حتى أشفقت عليه امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت، فأحزنها ذلك، فأخرج إلى السوق ومجمع الناس ترجو أن تجد له ظئرا يأخذ منها فلم يقبل، فأصبحت أم موسى والهة، فقالت لأخته: قصيه قصي أثره واطلبيه، هل تسمعين له ذكرا؟ أحي ابني أم قد أكلته الدواب، ونسيت ما كان الله وعدها فيه، فبصرت به أخته، عن جنب وهم لا يشعرون- والجنب أن يسمو بصر الإنسان إلى الشيء البعيد وهو إلى جنبه لا يشعر به- فقالت من الفرح حين أعياهم الظؤار: أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون، فأخذوها فقالوا: ما يدريك ما نصحهم له؟ هل تعرفونه؟ حتى شكوا في ذلك- وذلك من الفتون يا ابن جبير- فقالت: نصيحتهم له وشفقتهم عليه رغبة في صهر الملك ورجاء منفعته، فأرسلوها، فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر، فجاءت أمه، فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها فمصه حتى امتلأ جنباه ريا وانطلق البشير إلى امرأة فرعون يبشرها أن قد وجدنا لابنك ظئرا، فأرسلت إليها، فأتيت بها وبه، فلما رأت ما يصنع بها، قالت لها: امكثي عندي ترضعين ابني هذا، فإني لم أحب حبه شيئا قط، فقالت أم موسى: لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي فنضيع، فإن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهب به إلى بيتي فيكون معي لا آلوه خيرا، وإلا فإني غير تاركة بيتي وولدي، وذكرت أم موسى ما كان الله عز وجل وعدها، فتعاسرت على امرأة فرعون وأيقنت أن الله منجز وعده، فرجعت إلى بيتها بابنها، فأصبح أهل القرية مجتمعين يمتنعون من السخرة والظلم ما كان فيهم، قال: فلما ترعرع، قالت امرأة فرعون لأم موسى: أريد أن تريني ابني، فوعدتها يوما تريها إياه، فقالت امرأة فرعون لخزانها وقهارمتها وظئورتها: لا يبقين أحد منكم إلا استقبل ابني اليوم بهدية وكرامة لأرى ذلك فيه، وأنا باعثة أمينا يحصي كل ما يصنع كل إنسان منكم، فلم تزل الهدايا والكرامة والنحل تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن أدخل على امرأة فرعون، فلما دخل عليها بجلته وأكرمته وفرحت به وأعجبها، وبجلت أمه بحسن أثرها عليه، ثم قالت: لآتين به فرعون فليبجلنه وليكرمنه، فلما دخلت به عليه جعلته في حجره، فتناول موسى لحية فرعون فمدها إلى الأرض، فقال الغواة أعداء الله لفرعون: ألا ترى إلى ما وعد الله إبراهيم نبيه أنه يربك ويعلوك ويصرعك؟ فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه- وذلك من الفتون يا ابن جبير- بعد كل بلاء ابتلي، وأربك به فتونا فجاءت امرأة فرعون تسعى إلى فرعون، فقالت: ما بدا لك في هذا الغلام الذي وهبته لي؟ قال: ترينه يزعم أنه يصرعني ويعلوني، قالت: اجعل بيني وبينك أمرا تعرف الحق فيه ائت بجمرتين ولؤلؤتين فقربهن إليه، فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين عرفت أنه يعقل، وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين علمت أن أحدا لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يعقل، فقرب ذلك، فتناول الجمرتين فانتزعوهما من يده مخافة أن تحرقاه، فقالت المرأة: ألا ترى؟ فصرفه الله عنه بعدما كان قد هم به، كان الله عز وجل بالغا فيه أمره، فلما بلغ أشده وكان من الرجال لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة حتى امتنعوا كل الامتناع فبينما موسى في ناحية المدينة إذا هو برجلين يقتتلان أحدهما فرعوني والآخر إسرائيلي، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، فغضب موسى غضبا شديدا لأنه تناوله وهو يعلم منزلة موسى من بني إسرائيل وحفظه لهم لا يعلم الناس أنما ذلك من الرضاع إلا أم موسى، إلا أن يكون الله أطلع موسى من ذلك على ما لم يطلع عليه غيره، فوكز موسى الفرعوني فقتله وليس يراهما أحد إلا الله والإسرائيلي، فقال موسى حين قتل الرجل: {هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين} [القصص: 15] ثم قال: {رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم} [القصص: 16] وأصبح في المدينة خائفا يترقب الأخبار، فأتي فرعون فقيل له: إن بني إسرائيل قتلوا رجلا من آل فرعون فخذ لنا حقنا ولا ترخص لهم، فقال: ابغوني قاتله ومن يشهد عليه، فإن الملك وإن كان صفوه مع قوم لا يستقيم له أن يقيد بغير بينة ولا ثبت، فاطلبوا لي علم ذلك آخذ لكم بحقكم، فبينما هم يطوفون لا يجدون ثبتا إذا موسى قد رأى من الغد ذلك الإسرائيلي يقاتل رجلا من آل فرعون آخر، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، فصادف موسى قد ندم على ما كان منه، فكره الذي رأى لغضب الإسرائيلي وهو يريد أن يبطش بالفرعوني، فقال للإسرائيلي- لما فعل أمس واليوم- {إنك لغوي مبين} [القصص: 18] فنظر الإسرائيلي إلى موسى حين قال له ما قال فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس، فخاف أن يكون إياه أراد وما أراد الفرعوني، ولم يكن أراده إنما أراد الفرعوني فخاف الإسرائيلي فحاجز الفرعوني، وقال: {يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس} [القصص: 19] وإنما قال ذلك مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله، وتنازعا وتطاوعا، وانطلق الفرعوني إلى قومه فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر حين يقول: {أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس} [القصص: 19] فأرسل فرعون الذباحين ليقتلوا موسى، فأخذ رسل فرعون الطريق الأعظم يمشون على هيئتهم يطلبون لموسى وهم لا يخافون أن يفوتهم إذ جاء رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة فاختصر طريقا قريبا حتى يسبقهم إلى موسى فأخبره الخبر، وذلك من الفتون يا ابن جبير فخرج موسى متوجها نحو مدين لم يلق بلاء قبل ذلك وليس له بالطريق علم إلا حسن ظنه بربه عز وجل فإنه قال: {عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان} [القصص: 23] يعني بذلك حابستين غنمهما، فقال لهما: ما خطبكما معتزلتين لا تسقيان مع الناس؟ قالتا: ليس لنا قوة نزاحم القوم، وإنما ننتظر فضول حياضهم، فسقى لهما، فجعل يغرف في الدلو ماء كثيرا حتى كان أول الرعاء فراغا، فانصرفتا بغنمهما إلى أبيهما، وانصرف موسى فاستظل بشجرة، فقال: {رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير} [القصص: 24] فاستنكر أبوهما سرعة صدورهما بغنمهما حفلا بطانا، فقال: إن لكما اليوم لشأنا، فأخبرتاه بما صنع موسى، فأمر إحداهما تدعوه له، فأتت موسى فدعته، فلما كلمه قال: {لا تخف نجوت من القوم الظالمين} [القصص: 25] ليس لفرعون ولا لقومه علينا سلطان، ولسنا في مملكته، قال: {قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين} [القصص: 26] فاحتملته الغيرة على أن قال: وما يدريك ما قوته وما أمانته؟ قالت: أما قوته، فما رأيت منه في الدلو حين سقى لنا، لم أر رجلا أقوى في ذلك السقي منه، وأما أمانته، فإنه نظر إلي حين أقبلت إليه وشخصت له، فلما علم أني امرأة صوب رأسه ولم يرفعه ولم ينظر إلي حتى بلغته رسالتك، ثم قال: امشي خلفي، وانعتي لي الطريق فلم يفعل هذا الأمر إلا وهو أمين، فسري عن أبيها فصدقها وظن به الذي قالت، فقال له: هل لك {أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين} [القصص: 27] ففعل فكانت على نبي الله موسى صلى الله عليه وسلم ثمان سنين واجبة، وكانت سنتان عدته منه، فقضى الله عنه عدته فأتمها عشرا قال سعيد: فلقيني رجل من أهل النصرانية من علمائهم، فقال: هل تدري أي الأجلين قضى موسى؟ قلت: لا، وأنا يومئذ لا أدري، فلقيت ابن عباس فذكرت ذلك له، فقال: أما علمت أن ثمانيا كان على موسى واجبة ولم يكن نبي الله لينقص منها شيئا ويعلم أن الله قاض عن موسى عدته التي وعد، فإنه قضى عشر سنين، فلقيت النصراني فأخبرته ذلك، فقال: الذي سألته فأخبرك أعلم منك بذلك، قال: قلت أجل، وأولى فلما سار موسى بأهله كان من أمر النار والعصا ويده ما قص الله عليك في القرآن فشكا إلى ربه تبارك وتعالى ما يتخوف من آل فرعون في القتل وعقد لسانه، فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون له ردءا ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه، فآتاه الله سؤله وحل عقدة من لسانه، فأوحى الله إلى هارون وأمره أن يلقاه فاندفع موسى بعصاه حتى لقي هارون، فانطلقا جميعا إلى فرعون، فأقاما على بابه حينا لا يؤذن لهما، ثم أذن لهما بعد حجاب شديد، فقالا: {إنا رسولا ربك} [طه: 47] قال: {فمن ربكما يا موسى} [طه: 49] فأخبره بالذي قص الله عليك في القرآن، قال: فما تريد، وذكره القتيل فاعتذر بما قد سمعت، وقال: إني أريد أن تؤمن بالله وترسل معي بني إسرائيل فأبى عليه ذلك، وقال: ائت بآية إن كنت من الصادقين، فألقى عصاه فإذا هي حية عظيمة فاغرة فاها مسرعة إلى فرعون، فلما رآها فرعون قاصدة إليه خافها فاقتحم، عن سريره واستغاث بموسى أن يكفها عنه ففعل، ثم أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء- يعني من غير برص- ثم ردها فعادت إلى لونها الأول، فاستشار الملأ حوله فيما رأى، فقالوا له: {إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى} [طه: 63] يعني ملكهم الذي هم فيه والعيش- فأبوا أن يعطوه شيئا مما طلب، وقالوا له: اجمع لنا السحرة فإنهم بأرضك كثير حتى يغلب سحرهم سحرهما، فأرسل في المدينة، فحشر له كل ساحر متعالم، فلما أتوا فرعون قالوا: بم يعمل هذا الساحر؟ قالوا: يعمل بالحيات، قالوا: فلا والله ما أحد في الأرض يعمل السحر بالحيات والعصي الذي نعمل، فما أجرنا إن نحن غلبنا؟ فقال لهم: إنكم أقاربي وخاصتي، فأنا صانع إليكم كل ما أحببتم، فتواعدوا يوم الزينة {وأن يحشر الناس ضحى} [طه: 59] قال سعيد: حدثني ابن عباس أن يوم الزينة اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون والسحرة، وهو يوم عاشوراء، فلما اجتمعوا في صعيد، قال الناس بعضهم لبعض: انطلقوا فلنحضر هذا الأمر {لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين} [الشعراء: 40] يعنون موسى وهارون- استهزاء بهما، فقالوا: يا موسى- لقدرتهم بسحرهم- {إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين} [الأعراف: 115] قال: بل ألقوا {فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون} [الشعراء: 44] فرأى موسى من سحرهم ما أوجس في نفسه خيفة، فأوحى الله تبارك وتعالى إليه {أن ألق عصاك} [الأعراف: 117] فلما ألقاها صارت ثعبانا عظيما فاغرة فاها، فجعلت العصي بدعوة موسى تلبس بالحبال حتى صارت جرزا إلى الثعبان تدخل فيه، حتى ما أبقت عصا ولا حبلا إلا ابتلعته، فلما عرف السحرة ذلك قالوا: لو كان هذا سحرا لم يبلغ من سحرنا هذا، ولكنه أمر من أمر الله تبارك وتعالى آمنا بالله وبما جاء به موسى ونتوب إلى الله عز وجل مما كنا عليه، وكسر الله ظهر فرعون في ذلك الموطن وأشياعه، وأظهر الحق {وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين} [الأعراف: 118] وامرأة فرعون بارزة متبذلة تدعو الله بالنصر لموسى على فرعون، فمن رآها من آل فرعون ظن أنها ابتذلت للشفقة على فرعون وأشياعه، وإنما كان حزنها وهمها لموسى فلما طال مكث موسى لمواعيد فرعون الكاذبة، كلما جاءه بآية وعده عندها أن يرسل بني إسرائيل، فإذا مضت أخلف مواعيده، وقال: هل يستطيع ربك أن يصنع غير هذا، فأرسل الله عليه وعلى قومه الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات، كل ذلك يشكو إلى موسى ويطلب إليه أن يكفها عنه، ويوافقه أن يرسل معه بني إسرائيل، فإذا كف ذلك عنه أخلف موعده ونكث عهده، حتى أمر بالخروج بقومه، فخرج بهم ليلا، فلما أصبح فرعون ورأى أنهم قد مضوا، أرسل في المدائن حاشرين، يتبعهم بجنود عظيمة كثيرة، فأوحى الله إلى البحر أن إذا ضربك عبدي موسى بعصاه فانفرق اثني عشر فرقا حتى يجوز موسى ومن معه، ثم التق على من بقي بعده من فرعون وأشياعه، فنسي موسى أن يضرب البحر بالعصا فانتهى إلى البحر وله قصيف مخافة أن يضربه موسى بعصاه وهو غافل فيصير عاصيا فلما تراءى الجمعان وتقاربا، قال قوم موسى {إنا لمدركون} [الشعراء: 61] افعل ما أمرك ربك، فإنك لن تكذب ولن تكذب، فقال: وعدني إذا أتيت البحر أن يفرق لي اثني عشر فرقا حتى أجاوزه، ثم ذكر بعد ذلك العصا، فضرب البحر بعصاه فانفرق له حين دنا أوائل جند فرعون من أواخر جند موسى، فانفرق البحر كما أمره ربه، وكما وعد موسى، فلما أن جاوز موسى وأصحابه كلهم، ودخل فرعون وأصحابه التقى عليهم كما أمر الله، فلما أن جاور موسى البحر قالوا: إنا نخاف أن لا يكون فرعون غرق فلا نؤمن بهلاكه، فدعا ربه، فأخرجه له ببدنه حتى استيقنوا بهلاكه، ثم مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم {قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون} [الأعراف: 138] قد رأيتم من العبر، وسمعتم ما يكفيكم، ومضى فأنزلهم موسى منزلا، ثم قال لهم: أطيعوا هارون، فإني قد استخلفته عليكم وإني ذاهب إلى ربي، وأجلهم ثلاثين يوما أن يرجع إليهم، فلما أتى ربه أراد أن يكلمه في ثلاثين وقد صامهن ليلتين ونهارهن، كره أن يكلم ربه ويخرج من فمه ريح فم الصائم، فتناول موسى شيئا من نبات الأرض فمضغه، فقال له ربه حين أتاه أفطرت؟ وهو أعلم بالذي كان، قال: رب كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب الريح، قال: أوما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك، ارجع حتى تصوم عشرا ثم ائتني ففعل موسى ما أمر به، فلما رأى قوم موسى أنه لم يرجع إليهم للأجل، قال: ساءهم ذلك، وكان هارون قد خطبهم، فقال: إنكم خرجتم من مصر ولقوم فرعون عوار وودائع ولكم فيها مثل ذلك، وأنا أرى أن تحتسبوا مالكم عندهم، ولا أحل لكم وديعة ولا عارية، ولسنا برادين إليهم شيئا من ذلك ولا ممسكيه لأنفسنا، فحفر حفيرا وأمر كل قوم عندهم شيء من ذلك من متاع أو حلية أن يقذفوه في ذلك الحفير، ثم أوقد عليه النار فأحرقه، فقال: لا يكون لنا ولا لهم، وكان السامري رجلا من قوم يعبدون البقر جيران لهم، ولم يكن من بني إسرائيل، فاحتمل مع موسى وبني إسرائيل حين احتملوا، فقضي له أن رأى أثرا، فأخذ منه قبضة، فمر بهارون، فقال له هارون: يا سامري، ألا تلقي ما في يدك وهو قابض عليه لا يراه أحد طوال ذلك، قال: هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر، فلا ألقيها بشيء إلا أن تدعو الله إذا ألقيها أن يكون ما أريد فألقاه، فدعا له هارون، وقال أريد أن أكون عجلا، فاجتمع ما كان في الحفرة من متاع أو حلية أو نحاس أو حديد فصار عجلا أجوف ليس فيه روح له خوار، قال ابن عباس: ولا والله ما كان له صوت قط، إنما كانت الريح تدخل من دبره وتخرج من فيه، وكان ذلك الصوت من ذلك، فتفرق بنو إسرائيل فرقا، فقالت فرقة: يا سامري، ما هذا؟ فأنت أعلم به، قال: هذا ربكم، ولكن موسى أضل الطريق، وقالت فرقة: لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى، فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه وعجزنا فيه حين رأيناه، وإن لم يكن ربنا، فإنا نتبع قول موسى، وقالت فرقة: هذا عمل الشيطان وليس بربنا ولا نؤمن به ولا نصدق، وأشرب فرقة في قلوبهم التصديق بما قال السامري في العجل، وأعلنوا التكذيب به، فقال لهم هارون: {يا قوم إنما فتنتم به، وإن ربكم الرحمن} [طه: 90] ليس هكذا، قالوا: فما بال موسى وعدنا ثلاثين يوما ثم أخلفنا، هذه أربعون قد مضت، فقال سفهاؤهم: أخطأ ربه فهو يطلبه ويتبعه فلما كلم الله موسى وقال له ما قال أخبره بما لقي قومه من بعده، {فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا} [طه: 86] فقال لهم ما سمعتم في القرآن {وأخذ برأس أخيه يجره إليه} [الأعراف: 150] وألقى الألواح، ثم إنه عذر أخاه واستغفر له، وانصرف إلى السامري، فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: قبضت قبضة من أثر الرسول وفطنت لها وعميت عليكم فقذفتها {وكذلك سولت لي نفسي قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا} [طه: 96] ولو كان إلها لم تخلص إلى ذلك منه فاستيقن بنو إسرائيل، واغتبط الذين كان رأيهم فيه مثل رأي هارون، وقالوا جماعتهم لموسى: سل لنا ربك أن يفتح لنا باب توبة نصنعها فتكفر ما عملنا، فاختار قومه سبعين رجلا لذلك لإتيان الجبل ممن لم يشرك في العجل، فانطلق بهم ليسأل لهم التوبة فرجفت بهم الأرض، فاستحيا نبي الله من قومه ووفده حين فعل بهم ما فعل، فقال {رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا} [الأعراف: 155] وفيهم من كان الله اطلع على ما أشرب من حب العجل إيمانا به فلذلك رجفت بهم الأرض، فقال {رحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل} [الأعراف: 156] فقال: رب سألتك التوبة لقومي فقلت: إن رحمتك كتبتها لقوم غير قومي، فليتك أخرتني حتى تخرجني حيا في أمة ذلك الرجل المرحومة، فقال الله عز وجل له: إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم كل من لقي من والد وولد فيقتله بالسيف لا يبالي من قتل في ذلك الموطن، ويأتي أولئك الذين خفي على موسى وهارون ما اطلع الله عليه من ذنوبهم واعترفوا بها، وفعلوا ما أمروا به فغفر الله للقاتل والمقتول، ثم سار بهم موسى متوجها نحو الأرض المقدسة وأخذ الألواح بعدما سكت عنه الغضب، فأمرهم بالذي أمر به أن يبلغهم من الوظائف، فثقل ذلك عليهم وأبوا أن يقروا بها فنتق الله عليهم الجبل كأنه ظلة، ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم فأخذوا الكتاب بأيمانهم وهم مصغون إلى الجبل والأرض والكتاب بأيديهم وهم ينظرون إلى الجبل مخافة أن يقع عليهم، ثم مضوا حتى أتوا الأرض المقدسة، فوجدوا فيها مدينة فيها قوم جبارون خلقهم خلق منكر، وذكروا من ثمارهم أمرا عجيبا من عظمها، فقالوا: {يا موسى إن فيها قوما جبارين} [المائدة: 22] لا طاقة لنا بهم، ولا ندخلها ما داموا فيها {فإن يخرجوا منها فإنا داخلون} [المائدة: 22] {قال رجلان من الذين يخافون} [المائدة: 23] الجبارين آمنا بموسى، فخرجا إليه، فقالا: نحن أعلم بقومنا، إن كنتم إنما تخافون مما ترون من أجسامهم وعدتهم فإنهم لا قلوب لهم ولا منعة عندهم، فادخلوا عليهم الباب {فإذا دخلتموه فإنكم غالبون} [المائدة: 23] ويقول ناس: إنهما من قوم موسى، وزعم عن سعيد بن جبير أنهما من الجبابرة آمنا بموسى، يقول: {من الذين يخافون} [المائدة: 23] إنما عنى بذلك الذين يخافهم بنو إسرائيل {قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} [المائدة: 24] فأغضبوا موسى فدعا عليهم وسماهم فاسقين ولم يدع عليهم قبل ذلك لما رأى منهم من المعصية وإساءتهم، حتى كان يومئذ، فاستجاب الله له فسماهم كما سماهم موسى فاسقين، وحرمها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض، يصبحون كل يوم فيسيرون ليس لهم قرار، ثم ظلل عليهم الغمام في التيه، وأنزل عليهم المن والسلوى، وجعل لهم ثيابا لا تبلى ولا تتسخ، وجعل بين ظهورهم حجرا مربعا، وأمر موسى فضربه بعصاه {فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا} [البقرة: 60] في كل ناحية ثلاثة أعين، وأعلم كل سبط عينهم التي يشربون منها لا يرتحلون من منقلة إلا وجد ذلك الحجر فيهم بالمكان الذي كان فيه بالأمس. رفع ابن عباس هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصدق ذلك عندي، أن معاوية، سمع ابن عباس، حدث هذا الحديث فأنكره عليه أن يكون الفرعوني هذا الذي أفشى على موسى أمر القتيل الذي قتل، قال: فكيف يفشي عليه ولم يكن علم به ولا ظهر عليه إلا الإسرائيلي الذي حضر ذلك وشهده، فغضب ابن عباس، وأخذ بيد معاوية فذهب به إلى سعد بن مالك الزهري فقال: يا أبا إسحاق، هل تذكر يوم حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتيل موسى الذي قتله من آل فرعون الإسرائيلي أفشى عليه أم الفرعوني؟ فقال: إنما أفشى عليه الفرعوني بما سمع من الإسرائيلي الذي شهد ذلك وحضره.

[شرح مشكل الآثار] (1/ 60)
66- كما قد حدثنا علي بن شيبة، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا الأصبغ بن زيد، حدثنا القاسم بن أبي أيوب، حدثني سعيد بن جبير، قال سألت ابن عباس عن قوله تعالى لموسى: {وفتناك فتونا} [طه: 40] فسألته عن الفتون، ما هو؟ قال: (( استأنف النهار يا ابن جبير فإن لها حديثا طويلا)) فلما أصبحت غدوت إليه لأنتجز منه ما وعدني فذكر عنه ما ذكر عنه في حديثه إلى أن ذكر قول موسى لفرعون: (( أريد أن تؤمن بالله تعالى وترسل معي بني إسرائيل وأن فرعون أبى عليه ذلك فقال: ائت بآية إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي حية عظيمة فاغرة فاها قاصدة مسرعة إلى فرعون فلما رآها فرعون قاصدة إليه خافها فاقتحم عن سريره واستغاث بموسى أن يكفها عنه ففعل , ثم أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء من غير برص , ثم ردها فعادت إلى لونها الأول)) , ثم ساق الحديث حتى بلغ (( ذكر مكث موسى لمواعيد فرعون الكاذبة كلما جاءه بآية وعده عندها أن يرسل معه بني إسرائيل فإذا مضت أخلف موعده وقال: هل يستطيع ربك أن يصنع غير هذا؟ فأرسل الله عليه وعلى قومه الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، آيات مفصلات كل ذلك يشكو إلى موسى ويطلب إليه أن يكفها عنه ويوافقه على أن يرسل معه بني إسرائيل فإذا كف ذلك عنه نكث عهده وأخلف حتى أمر موسى عليه السلام بالخروج بقومه فخرج بهم ليلا فلما أصبح فرعون ورآهم قد مضوا أرسل في المدائن حاشرين فتبعهم جند عظيمة كثيرة وأوحى الله إلى البحر إذا ضربك عبدي موسى بعصاه فانفرق اثنتي عشرة فرقة حتى يجوز موسى ومن معه ثم التقم على من بقي من فرعون وأشياعه ثم ذكر ما كان من الله تعالى مما أهلك به فرعون وقومه من الغرق حتى بلغ إلى ما كان من الله تعالى فيما كان منه في قوم موسى عليه السلام , وأنه نتق عليهم الجبل كأنه ظلة ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم)). ثم ذكر ما بعد ذلك في حديثه الذي ذكرنا حتى بلغ إلى موضع تحريم الله تعالى على من حرم من القوم الذين سماهم موسى قبل ذلك فاسقين ثم ابتلاهم بما ابتلاهم به من التيه في الأرض التي ابتلاهم بالتيه فيها أربعين سنة يتيهون في الأرض فيصبحون كل يوم فيسيرون ليس لهم قرار , ثم ظلل عليهم الغمام في التيه وأنزل عليهم المن والسلوى وجعل لهم ثيابا لا تبلى ولا تتسخ وجعل بين ظهرانيهم حجرا مربعا وأمر تعالى موسى فضربه بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا في كل ناحية ثلاثة أعين وأعلم كل سبط عينهم التي يشربون ولا يرتحلون من منقلة إلا وجدوا ذلك الحجر منهم بالمكان الذي كان منهم بالأمس رفع ابن عباس هذا الحديث إلى النبي عليه السلام قال أبو جعفر: فكان ما في هذا الحديث من الآيات التسع سبع آيات كانت من الله تعالى قبل تغريقه فرعون وقومه في البحر وهي عصا موسى ويده وإرساله على فرعون وقومه الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ومنها ما بعد تغريقه فرعون وقومه ما قد ذكرناه في هذا الحديث من نتقه الجبل على من نتقه ومن التيه الذي ابتلى به من ابتلاه ومما كان منه تعالى في ذلك من تظليله عليهم الغمام في التيه وإنزاله عليهم المن والسلوى ومما جعل لهم من الثياب التي لا تبلى ولا تتسخ ومما جعل بين ظهرانيهم من الحجر الموصوف في هذا الحديث ومما كان من موسى فيه من ضربه إياه بعصاه حتى انفجرت منه اثنتا عشرة عينا من كل واحدة منه ثلاثة أعين وإعلامه كل سبط عينهم التي يشربون ومن أنهم كانوا لا يرحلون من منقلة إلا وجدوا ذلك الحجر منهم بالمكان الذي كانوا منه بالأمس والله أعلم ما الآيتان الباقيتان بعد السبع الآيات التي كانت قبل تغريق فرعون وقومه من هذه الأشياء وصار هذا الحديث مرفوعا إلى النبي عليه السلام. ثم اعتبرنا ما يروى عمن قدرنا عليه ممن قد روي عنه في ذلك شيء هل هو موافق لما رويناه عن ابن عباس عن النبي عليه السلام وعن صفوان في ذلك فوجدنا أحمد بن داود حدثنا قال: حدثنا إسماعيل بن سالم , أخبرنا هشيم , أخبرنا منصور , عن الحسن , ومغيرة , عن الشعبي في قوله تعالى: {تسع آيات بينات} [الإسراء: 101] قال: (( الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، ويده وعصاه والسنون ونقص من الثمرات)) ووجدنا أحمد قد حدثنا قال: حدثنا موسى بن إسماعيل , حدثنا ابن المبارك , عن إسماعيل , عن أبي صالح وعكرمة مثله. ووجدنا عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم قد حدثنا قال: حدثنا الفريابي , حدثنا إسرائيل , عن أبي يحيى , عن مجاهد مثله وكانت الآيات المذكورات في حديث ابن عباس وفي أحاديث من ذكرناه معه من التابعين نذارات وتخويفات ووعيدات وكانت الآيات هي العلامات قال الله تعالى: {وجعلنا ابن مريم وأمه آية} [المؤمنون: 50] وقال: {وجعلنا الليل والنهار آيتين} [الإسراء: 12] فكانت تلك الآيات حججا على الخلق ; لأنهم يعلمون أنها لا تكون إلا من عند الله تعالى , وأنالمخلوقين عاجزون عنها فيعقلون مع ذلك أن الله إذا لم يكن منهم الرجوع إلى أمره مما جاءهم به من أجله معاقبهم ومعذبهم والآيات أيضا فقد تكون عبادات. ومن ذلك ما ذكره الله تعالى عن عبده ونبيه زكريا عليه السلام من قوله: {رب اجعل لي آية} [آل عمران: 41] ومن قول الله تعالى له: {آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا} [آل عمران: 41] في أحد الموضعين اللذين ذكر ذلك فيهما في كتابه وفي الموضع الآخر منهما {قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا} [مريم: 10] فكان تصحيح ما في حديث ابن عباس وما في حديث صفوان في ذلك إنما في حديث صفوان هو على الآيات التي تعبدوا بها وكان ما في حديث ابن عباس هو الآيات التي أوعدوا بها وخوفوها وأنذروا بها إن لم يعملوا ما تعبدوا به ما قد بينه لهم على لسان رسوله عليه السلام فصح ذلك ما في الحديثين جميعا وعقلنا عن رسول الله عليه السلام أن مراده بما في أحدهما غير مراده بما في الآخر منهما , والله نسأله التوفيق. وسأل سائل فقال: فيما قد رويته عن ابن عباس , وعن صفوان ما قد وقفنا به على أن الله تعالى قد كان آتى نبيه موسى عليه السلام ثماني عشرة آية في كل واحد من الحديثين اللذين رويتهما منه تسع آيات وإنما في الآية التي ذكرت هذين الحديثين من أجلها إيتاؤه إياه تسع آيات وهي قوله: {ولقد آتينا موسى تسع آيات} [الإسراء: 101] ولم يذكر فيها من الآيات أكثر من ذلك فالحاجة بنا من بعد إلى الوقوف على التسع الآيات المذكورات فيها ما هي قائمة فكان جوابنا في ذلك بتوفيق الله وعونه أن في الآية التي تلاها قوله تعالى: {فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا} [الإسراء: 101] فعقلنا بذلك أن موسى إنما كان جاء بني إسرائيل بما كان الله تعالى تعبدهم به حينئذ لا بما سواه ; ولأنه ليس من أرسل إلى قوم بما تعبدوا به يأتيهم بنذارات ولا وعيدات ولا تخويفات وإنما يأتيهم بما أرسل به إليهم لا بما سواه فإن أجابوه إلى ذلك وقبلوه منه اكتفى بذلك منهم وحملهم عليه وغني بذلك عما سواه من النذارات والتخويفات ومن الوعيدات , فلما قابله فرعون لما جاءهم بها بما قابله به فيهم من حبسهم ودعواه ربوبيتهم بما حكاه الله تعالى عنه من قوله لهم: {ما علمت لكم من إله غيري} [القصص: 38] , ومن قوله لموسى لما قال له ما قد ذكرنا فيما قد رويناه من حديث الفتون في هذا الباب لما جاءه هو وأخوه هارون عليهما السلام من قوله لما سأله عما يريد فقال له موسى: تؤمن بالله تعالى وترسل معي بني إسرائيل ومن قول فرعون عند ذلك: {فأت بآية إن كنت من الصادقين} [الشعراء: 154] فجاءه موسى من الآيات بما جاءه به مما قد رويناه في هذا الباب من التخويفات والنذارات والوعيدات فلما عتا عن ذلك وتمادى في كفره وفي إباءته على موسى ما دعا بني إسرائيل إليه جاءه من الله حقيقة وعيده فأهلكه وقومه الذين اتبعوه بما أهلكهم به مما ذكره تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله محمد عليه السلام فيما رويناه من حديث الفتون عن ابن عباس وفيما ذكرناه من ذلك ما قد بان به ما الآيات التسع من الثماني عشرة الآية التي ذكرنا وإنما كان قصدنا في هذا الجواب إلى حديث ابن جبير عن ابن عباس في الفتون دون حديث عكرمة مولاه عنه اللذين رويناهما في هذا الباب ; لأن الذي في حديث ابن جبير هي التي خوف بها موسى فرعون وأوعده بها حين لم يؤمن ولم يجبه إلى إرسال بني إسرائيل معه وحديث عكرمة في تحقيق الآيات التسع المرادات بقوله: {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات} [الإسراء: 101] , وذلك مما قد دفعه حديث صفوان عن رسول الله عليه السلام ; لأن حديث صفوان هذا مخرجه تفسير قوله تعالى: {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات} [الإسراء: 101] كما مخرج حديث عكرمة عن ابن عباس أن تلك الآيات هي الآيات التي ذكرها في حديثه عنه فضاد ذلك حديث صفوان وليس لأحد مع رسول الله عليه السلام حجة ولأن معقولا , أن الذي في حديث عكرمة هذا محال ; لأن فيه المجيء بالنذارات والوعيدات والتخويفات قبل المجيء بالشريعة التي تكون هذه الأشياء عند إباءتها , والله نسأله التوفيق.