الموسوعة الحديثية


- سألتُ عبدَ اللهِ بنَ عباسٍ عن قولِ اللهِ عزَّ وجلَّ لموسى عليهِ السلامُ : وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا، فسألتُهُ عن الفُتُونِ ما هوَ ؟ قال : استأنِفِ النهارَ يا ابنَ جبيرٍ فإنَّ لها حديثًا طويلًا : فلمَّا أصبحتُ غدوتُ إلى ابنِ عباسٍ لأنتجزَ منهُ ما وعدني من حديثِ الفُتُونِ، فقال : تذاكَرَ فرعونُ وجلساؤُهُ ما كان اللهُ وعدَ إبراهيمَ عليهِ السلامُ أن يجعلَ في ذريتِهِ أنبياءَ وملوكًا، فقال بعضهم : إنَّ بني إسرائيلَ ينتظرونَ ذلك، ما يَشُكُّونَ فيهِ، وكانوا يظنُّونَ أنَّهُ يوسفُ بنُ يعقوبَ، فلمَّا هلك قالوا : ليس هكذا كان وعدُ إبراهيمَ، فقال فرعونُ : فكيف تَرَوْنَ ؟ فائتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعثَ رجالًا معهم الشِّفَارُ، يطوفونَ في بني إسرائيلَ، فلا يجدونَ، مولودًا ذكرًا إلا ذبحوهُ، ففعلوا ذلك، فلمَّا رَأَوْا أنَّ الكبارَ من بني إسرائيلَ يموتونَ بآجالهم، والصغارَ يُذْبَحُونَ، قالوا : يُوشِكُ أن تُفْنُوا بني إسرائيلَ، فتصيروا أن تُبَاشِرُوا من الأعمالِ والخدمةِ التي كانوا يَكْفُونَكُمْ، فاقتلوا عامًا كلَّ مولودٍ ذكرٍ، فيَقِلُّ أبناؤهم، ودعوا عامًا فلا تقتلوا منهم أحدًا، فيَشِبُّ الصغارُ مكان من يموتُ من الكبارِ، فإنَّهم لن يكثروا بمن تستحيونَ منهم فتخافوا مكاثرتهم إياكم، ولن يَفْنَوا بمن تقتلونَ وتحتاجونَ إليهم. فأَجْمَعُوا أمرهم على ذلك. فحملتْ أمُّ موسى بهارونَ في العامِ الذي لا يُذْبَحُ فيهِ الغلمانُ، فولدتْهُ علانيةً آمنةً. فلمَّا كان من قابلٍ حملتْ بموسى عليهِ السلامُ، فوقع في قلبها الهمُّ والحزنُ، وذلك من الفُتُونِ يا ابنَ جبيرٍ ما دخل عليهِ في بطنِ أُمِّهِ ، ممَّا يُرادُ بهِ. فأوحى اللهُ إليها أن : وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. فأمرها إذا ولدتْ أن تجعلَهُ في تابوتٍ ثم تُلْقِيهِ في اليمِّ . فلمَّا ولدتْ فعلتْ ذلك، فلمَّا تَوارَى عنها ابنها أتاها الشيطانُ، فقالت في نفسها : ما فعلتُ بابني، لو ذُبِحَ عندي فواريتُهُ وكفَّنتُهُ كان أحبُّ إليَّ من أن أُلْقِيهِ إلى دوابِّ البحرِ وحيتانِهِ. فانتهى الماءُ بهِ حتى أوفى بهِ عند فُرْضَةِ مُسْتَقَى جواري امرأةِ فرعونَ فلمَّا رأينَهُ أخذنَهُ فهممن أن يفتحْنَ التابوتَ فقال بعضهنَّ : إنَّ في هذا مالًا، وإنَّا إن فتحناهُ لم تُصَدِّقنا امرأةُ المَلِكِ بما وجدنا فيهِ، فحملنَهُ كهيئتِهِ لم يُخْرِجْنَ منهُ شيئًا حتى رفعنَهُ إليها. فلمَّا فتحتْهُ رأتْ فيهِ غلامًا، فأُلْقِي عليهِ منها محبةً لم يُلْقِ منها على أحدٍ قطُّ، وأصبحَ فؤادُ أمِّ موسى فارغًا من ذِكْرِ كلِّ شيٍء، إلا من ذِكْرِ موسى. فلمَّا سمع الذبَّاحونَ بأمرِهِ، أقبلوا بشِفَارِهِمْ إلى امرأةِ فرعونَ ليذبحوهُ : وذلك من الفُتُونِ يا ابنَ جبيرٍ، فقالت لهم : أَقِرُّوهُ فإنَّ هذا الواحدَ لا يزيدُ في بني إسرائيلَ حتى آتي فرعونَ فأستوهبُهُ منهُ، فإن وهبَهُ لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم ، وإن أمرَ بذبحِهِ لم أَلُمْكُمْ. فأتت فرعونَ فقالت قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ. فقال فرعونُ : يكونُ لكَ. فأمَّا لي فلا حاجةَ لي فيهِ : فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : والذي يُحْلَفُ بهِ لو أَقَرَّ فرعونُ أن يكونَ قرَّةَ عينٍ لهُ، كما أَقَرَّتْ امرأتُهُ، لهداهُ اللهُ كما هداها، ولكن حَرَمَهُ ذلك. فأرسلتْ إلى من حولها، إلى كلِّ امرأةٍ لها لبنٌ لتختارَ لهُ ظِئْرًا، فجعل كلَّما أخذتْهُ امرأةٌ منهنَّ لتُرْضِعَهُ لم يُقْبِلْ على ثديها حتى أشفقتِ امرأةُ فرعونَ أن يمتنعَ من اللبنِ فيموتَ، فأحزنها ذلك، فأمرتْ بهِ فأُخْرِجَ إلى السوقِ ومجمعِ الناسِ، ترجو أن تجدَ لهُ ظِئْرًا تأخذُهُ منها، فلم يُقْبِلْ، وأصبحتْ أمُّ موسى والهًا، فقالت لأختِهِ : قُصِّي أَثَرَهُ واطلبيهِ، هل تسمعينَ لهُ ذِكْرًا، أحيٌّ ابني أم قد أكلتْهُ الدوابُّ ؟ ونَسِيَتْ ما كان اللهُ وعدها فيهِ، فبصرتْ بهِ أختُهُ عن جُنُبٍ وهم لا يشعرونَ – والجُنُبُ : أن يَسْمُو بصرُ الإنسانِ إلى شيٍء بعيدٍ، وهو إلى جنبِهِ، وهو لا يشعرُ بهِ – فقالت من الفرحِ حينَ أعياهم الظؤراتُ : أَنَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ. فأخذوها فقالوا ما يُدريكِ ؟ وما نُصْحُهُمْ لهُ ؟ هل يعرفونَهُ ؟ حتى شَكُّوا في ذلك، وذلك من الفُتُونِ يا ابنَ جبيرٍ. فقالت : نُصْحُهُمْ لهُ وشفقتهم عليهِ رغبتهم في ظؤرةِ الملكِ، ورجاءَ منفعةِ الملكِ. فأرسلوها فانطلقتْ إلى أُمِّهَا، فأخبرتها الخبرَ. فجاءت أُمُّهُ، فلمَّا وضعتْهُ في حجرها نَزَا إلى ثديها فمَصَّهُ، حتى امتلأَ جنباهُ رِيًّا، وانطلقَ البُشَراءُ إلى امرأةِ فرعونَ يُبَشِّرونها : أن قد وجدنا لابنكِ ظِئْرًا. فأرسلتْ إليها، فأتتْ بها وبهِ، فلمَّا رأت ما يصنعُ بها قالت : امْكُثِي تُرْضِعِي ابني هذا، فإني لم أُحِبَّ شيئًا حُبَّهُ قطُّ. قالت أمُّ موسى : لا أستطيعُ أن أدعَ بيتي وولدي فيضيعُ، فإن طابت نفسكَ أن تُعطينِيهِ فأذهبُ بهِ إلى بيتي، فيكونُ معي لا آلوهُ خيرًا فعلتُ، وإلا فإني غيرُ تاركةٍ بيتي وولدي. وذكرتْ أمُّ موسى ما كان اللهُ وعدها فيهِ، فتعاسرتْ على امرأةِ فرعونَ ، وأيقنَتْ أنَّ اللهَ مُنْجِزٌ وعدَهُ، فرجعتْ بهِ إلى بيتها من يومها، وأنبتَهُ اللهُ نباتًا حسنًا، وحَفِظَهُ لما قد قضى فيهِ. فلم يزل بنو إسرائيلَ، وهم في ناحيةِ القريةِ، ممتنعينَ من السخرةِ والظلمِ ما كان فيهم، فلمَّا ترعرعَ قالت امرأةُ فرعونَ لأمِّ موسى : أَتُرِيني ابني ؟ فوَعَدَتْهَا يومًا تُرِيها إياهُ فيهِ، وقالت امرأةُ فرعونَ لخازنها وظؤرها وقَهَارِمَتِهَا لا يَبْقِيَنَّ أحدٌ منكم إلا استقبلَ ابني اليومَ بهديةٍ وكرامةٍ لأرى ذلك، وأنا باعثةٌ أمينًا يًحْصِي ما يصنعُ كلُّ إنسانٍ منكم، فلم تزلِ الهدايا والنِّحَلُ والكرامةُ تستقبلُهُ من حينِ خرج من بيتِ أُمِّهِ إلى أن دخل على امرأةِ فرعونَ ، فلمَّا دخل عليها نَحَلَتْهُ وأكرمتْهُ، وفرحت بهِ، ونَحَلَتْ أُمَّهُ لحُسْنِ أثرها عليهِ، ثم قالت : لآتِيَنَّ بهِ فرعونَ فليَنْحَلَنَّهُ وليُكْرِمَنَّهُ، فلمَّا دخلت بهِ عليهِ جعلَهُ في حجرِهِ، فتناولَ موسى لِحْيَةَ فرعونَ يَمُدُّها إلى الأرضِ، فقال الغواةُ من أعداءِ اللهِ لفرعونَ : ألا ترى ما وعد اللهُ إبراهيمَ نبيَّهُ، إنَّهُ زعم أن يرثِكَ ويعلوكَ ويصرعكَ، فأرسلَ إلى الذَّبَّاحينَ ليذبحوهُ. وذلك من الفُتُونِ يا ابنَ جبيرٍ بعد كلِّ بلاءٍ ابْتُلِيَ بهِ، وأُريدَ بهِ. فجاءت امرأةُ فرعونَ فقالت : ما بدا لك في هذا الغلامِ الذي وهبتَهُ لي ؟ فقال : ألا تَرَيْنَهُ يزعمُ أنَّهُ يصرعني ويعلوني. فقالت : اجعلْ بيني وبينك أمرًا يُعْرَفُ فيهِ الحقُّ، ائتِ بجمرتيْنِ ولؤلؤتيْنِ، فقرِّبْهُنَّ إليهِ، فإن بطشَ باللؤلؤتيْنِ واجتنبْ الجمرتيْنِ فاعرفْ أنَّهُ يَعْقِلْ وإن تناولَ الجمرتيْنِ ولم يَرُدَّ اللؤلؤتيْنِ علمتَ أنَّ أحدًا لا يُؤْثِرُ الجمرتيْنِ على اللؤلؤتيْنِ وهو يَعْقِلُ، فقَرَّبَ إليهِ، فتناولَ الجمرتيْنِ، فانتزعهما منهُ مخافةَ أن يحرقا يدَهُ، فقالت امرأةُ فرعونَ : ألا ترى ؟ فصرفَهُ اللهُ عنهُ بعد ما كان قد همَّ بهِ، وكان اللهُ بالغًا فيهِ أمرَهُ. فلمَّا بلغ أَشُدَّهُ وكان من الرجالِ، لم يكن أحدٌ من آلِ فرعونَ يخلصُ إلى أحدٍ من بني إسرائيلَ معهُ بظلمٍ ولا سخرةٍ، حتى امتنعوا كلَّ الامتناعِ، فبينما موسى عليهِ السلامُ يمشي في ناحيةِ المدينةِ، إذ هو برجليْنِ يقتتلانِ، أحدهما فرعونيٌّ والآخرُ إسرائيليٌّ، فاستغاثَهُ الإسرائيليُّ على الفرعونيِّ، فغضب موسى غضبًا شديدًا، لأنَّهُ تناولَهُ وهو يعلمُ منزلتَهُ من بني إسرائيلَ وحِفْظِهِ لهم، لا يعلمُ الناسُ إلا أنما ذلك من الرضاعِ، إلا أمُّ موسى، إلا أن يكون اللهُ أطلعَ موسى من ذلك على ما لم يُطْلِعْ عليهِ غيرُهُ. فوكزَ موسى الفرعونيَّ، فقتلَهُ وليس يراهما أحدٌ إلا اللهُ عزَّ وجلَّ والإسرائيليُّ، فقال موسى حين قتلَ الرجلَ : هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ. ثم قال : رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، فأصبحَ في المدينةِ خائفًا يترقَّبُ الأخبارَ، فأُتِيَ فرعونُ، فقيل لهُ : إنَّ بني إسرائيلَ قتلوا رجلًا من آلِ فرعونَ فخُذْ لنا بحَقِّنَا ولا تُرَخِّصْ لهم. فقال : أبغوني قاتِلَهُ، ومن يشهدُ عليهِ، فإنَّ الملكَ وإن كان صَفْوُهُ مع قومِهِ لا يستقيمُ لهُ أن يُقِيدَ بغيرِ بينَةٍ ولا ثَبْتٍ، فاطلبوا لي عِلْمَ ذلك آخُذُ لكم بحقكم. فبينما هم يطوفونَ ولا يجدون ثَبْتًا، إذا بموسى من الغدِ قد رأى ذلك الإسرائيليَّ يُقاتِلُ رجلًا من آلِ فرعونَ آخرَ، فاستغاثَهُ الإسرائيليُّ على الفرعونيِّ، فصادف موسى قد ندم على ما كان منهُ وكَرِهَ الذي رأى، فغضب الإسرائيليُّ وهو يريدُ أن يبطشَ بالفرعونيِّ، فقال للإسرائيليِّ لما فعل بالأمسِ واليومَ : إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ. فنظر الإسرائيليُّ إلى موسى بعد ما قال لهُ ما قال، فإذا هو غضبانٌ كغضبِهِ بالأمسِ الذي قتلَ فيهِ الفرعونيَّ فخاف أن يكون بعدما قال له إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ أن يكونَ إياهُ أرادَ، ولم يكن أرادَهُ، وإنَّما أرادَ الفرعونيَّ، فخاف الإسرائيليُّ وقال : يا موسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ وإنما قالَهُ مخافةَ أن يكون إياهُ أراد موسى ليقتلَهُ، فتتاركا وانطلقَ الفرعونيُّ فأخبرهم بما سمع من الإسرائيليِّ من الخبرِ حين يقولُ أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ فأرسل فرعونُ الذَّبَّاحينَ ليقتلوا موسى، فأخذ رُسُلُ فرعونَ في الطريقِ الأعظمِ يمشونَ على هيئتهم يطلبونَ موسى وهم لا يخافون أن يفوتهم، فجاء رجلٌ من شيعةِ موسى من أقصى المدينةِ فاختصرَ طريقًا حتى سبقهم إلى موسى فأخبرَهُ، وذلك من الفُتُونِ يا ابنَ جبيرٍ. فخرج موسى مُتَوَجِّهًا نحوَ مَدْيَنَ لم يَلْقَ بلاءً قبل ذلك، وليس لهُ بالطريقِ علمٌ إلا حُسْنُ ظنِّهِ بربهِ عزَّ وجلَّ فإنَّهُ قال عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ، وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ يعني بذلك حابستيْنِ غنمهما فقال لهما : ما خطبكما معتزلتيْنِ لا تسقيانِ مع الناسِ ؟ قالتا : ليس لنا قوةٌ نُزاحِمُ القومَ وإنما ننتظرُ فُضُولَ حياضهم، فَسَقَى لهما فجعل يغترفُ في الدَّلْوِ ماءً كثيرًا حتى كان أولَ الرُّعَاءِ، فانصرفتا بغنمهما إلى أبيهما وانصرف موسى عليهِ السلامُ فاستظَلَّ بشجرةٍ وقال رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ واستنكرَ أبوهما سرعةَ صدورهما بغنمهما حُفَّلًا بِطَانًا فقال : إنَّ لكما اليومَ لشأنًا، فأخبرتاهُ بما صنع موسى، فأمر إحداهما أن تدعوهُ، فأتتْ موسى فدعتْهُ فلمَّا كلَّمَهُ قال لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ليس لفرعونَ ولا لقومِهِ علينا سلطانٌ، ولسنا في مملكتِهِ، فقالت إحداهما : يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ، إِنَّ خَيْرَ مِنَ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ فاحتملتْهُ الغِيرَةُ على أن قال لها : ما يُدْرِيكِ ما قوتُهُ وما أمانتُهُ ؟ قالت : أما قُوَّتُهُ فما رأيتُ منهُ في الدَّلْوِ حين سقى لنا، لم أَرَ رجلًا قطُّ أقوى في ذلك السَّقْيِ منهُ، وأما الأمانةُ فإنَّهُ نظر إلي حينِ أقبلتْ إليهِ وشَخَصَتْ لهُ، فلمَّا علم أني امرأةٌ صَوَّبَ رأسَهُ فلم يرفعْهُ حتى بَلَّغْتُهُ رسالتكَ، ثم قال لي : امشي خلفي وانْعُتِي لي الطريقَ، فلم يفعل هذا إلا وهو أمينٌ، فسُرِّيَ عن أبيها وصدَّقها وظَنَّ بهِ الذي قالت، فقال لهُ : هل لكَ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ففعل فكانت على نبيِّ اللهِ موسى ثماني سنينَ واجبةً وكانت سَنَتَانِ عِدَةً منهُ فقضى اللهُ عنهُ عِدَتَهُ فأَتَمَّها عشرًا. قال سعيدٌ هو ابنُ جبيرٍ : فلَقِيَنِي رجلٌ من أهلِ النصرانيةِ من علمائهم قال : هل تدري أيُّ الأجلَيْنِ قضى موسى ؟ قلتُ : لا، وأنا يومئذٍ لا أدري، فلقيتُ ابنَ عباسٍ فذكرتُ ذلك لهُ فقال : أما علمتَ أنَّ ثمانيًا كانت على نبيِّ اللهِ واجبةً لم يكن لنبيٍّ أن يَنْقُصَ منها شيئًا، ويعلمُ أنَّ اللهَ كان قاضيًا عن موسى عِدَتَهُ التي وعدَهُ فعِدَتُهُ التي وعدَهُ فإنَّهُ قضى عشرَ سنينَ، فلقيتُ النصرانيَّ فأخبرتُهُ ذلك فقال : الذي سألتَهُ فأخبركَ أعلمُ منكَ بذلك قلتُ : أجل وأَوْلَى. فلمَّا سار موسى بأهلِهِ كان من أمرِ النارِ والعصا ويدِهِ ما قَصَّ اللهُ عليك في القرآنِ، فشكا إلى اللهِ تعالى ما يَتَخَوَّفُ من آلِ فرعونَ في القتيلِ وعُقْدَةِ لسانِهِ، فإنَّهُ كان في لسانِهِ عُقْدَةً تمنعُهُ من كثيرٍ من الكلامِ، وسأل ربهُ أن يُعِينَهُ بأخيهِ هارونَ يكونُ لهُ رِدْءًا ويتكلَّمُ عنهُ بكثيرٍ مما لا يُفْصِحُ بهِ لسانُهُ، فآتاهُ اللهُ سُؤْلَهُ وحلَّ عقدةً من لسانِهِ وأوحى اللهُ إلى هارونَ وأَمَرَهُ أن يلقاهُ، فاندفع موسى بعصاهُ حتى لَقِيَ هارونَ عليهما السلامُ فانطلقا جميعًا إلى فرعونَ فأقاما على بابِهِ حينًا لا يُؤْذَنُ لهما، ثم أُذِنَ لهما بعد حجابٍ شديدٍ فقالا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ قال : فمن ربكما ؟ فأخبرَهُ بالذي قَصَّ اللهُ عليكَ في القرآنِ، قال : فما تريدانِ ؟ وذَكَّرَهُ القتيلَ فاعتذرَ بما قد سمعتَ، قال : أريدً أن تُؤْمِنَ باللهِ وتُرْسِلَ معيَ بني إسرائيلَ، فأَبَى عليهِ وقال ائْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فألقى عصاهُ فإذا هي حيَّةٌ تسعى عظيمةٌ فاغِرَةٌ فاها مسرعةٌ إلى فرعونَ ، فلمَّا رآها قاصدةً إليهِ خافها فاقتحمَ عن سريرِهِ واستغاثَ بموسى أن يَكُفَّهَا عنهُ ففعلَ، ثم أخرج يدَهُ من جيبِهِ فرآها بيضاءَ من غيرِ سوءٍ يعني من غيرِ بَرَصٍ ثم رَدَّهَا فعادت إلى لونها الأولِ، فاستشار الملأَ حولَهُ فيما رأى، فقالوا لهُ : هَذَانِ سَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى يعني مُلْكَهُمْ الذي هم فيهِ والعيشِ، وأَبَوْا على موسى أن يُعْطُوهُ شيئًا ممَّا طلبَ، وقالوا لهُ : اجمعْ لهما السحرةَ فإنَّهم بأرضكَ كثيرٌ حتى تَغْلِبَ بسحركَ سحرهما، فأرسلَ إلى المدائنِ فحُشِرَ لهُ كلُّ ساحرٍ متعالمٍ، فلمَّا أَتَوْا فرعونَ قالوا : بم يعملُ هذا الساحرُ ؟ قالوا : يعمل بالحَيَّاتِ، قالوا : فلا واللهِ ما أَحَدٌ في الأرضِ يعملُ بالسحرِ بالحَيَّاتِ والحبالِ والعِصِيِّ الذي نعملُ، وما أَجْرُنَا إن نحنُ غَلَبْنَا ؟ قال لهم : أنتم أقاربي وخاصَّتي، وأنا صانعٌ إليكم كلَّ شيٍء أحببتم، فتواعدوا يومَ الزينةِ وأنْ يُحْشَرَ الناسُ ضحىً، قال سعيدُ بنُ جبيرٍ : فحدَّثني ابنُ عباسٍ أنَّ يومَ الزينةَ الذي أظهرَ اللهُ فيهِ موسى على فرعونَ والسحرةَ هو يومُ عاشوراءَ. فلمَّا اجتمعوا في صعيدٍ واحدٍ قال الناسُ بعضهم لبعضٍ : انطلقوا فلنحضر هذا الأمرَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ يعنون موسى وهارونَ استهزاءً بهما، فقالوا : يا موسى لقدرتهم بسحرهم إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ، قَالَ: بَلْ أَلْقُوا فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ فرأى موسى من سحرهم ما أوجسَ في نفسِهِ خيفةً، فأوحى اللهُ إليهِ أن أَلْقِ عصاكَ، فلمَّا ألقاها صارت ثعبانًا عظيمةً فاغِرَةً فاها، فجعلتِ العِصِيُّ تلتبسُ بالحبالِ حتى صارت جَزَرًا إلى الثعبانِ، تدخلُ فيهِ، حتى ما أبقت عصًا ولا حبالًا إلا ابتلعتْهُ، فلمَّا عرفتِ السحرةُ ذلك قالوا، لو كان هذا سحرًا لم يبلغ من سحرنا كلَّ هذا، ولكنَّهُ أمرٌ من اللهِ عزَّ وجلَّ، آمَنَّا باللهِ وبما جاء بهِ موسى، ونتوبُ إلى اللهِ ممَّا كُنَّا عليهِ، فكسرَ اللهُ ظهرَ فرعونَ في ذلك الموطنِ وأشياعِهِ، وظَهَرَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ وامرأةُ فرعونَ بارزةٌ متبذلةٌ تدعو اللهَ بالنصرِ لموسى على فرعونَ وأشياعِهِ، فمن رآها من آلِ فرعونَ ظنَّ أنَّها إنما ابتُذِلَتْ للشفقةِ على فرعونَ وأشياعِهِ، وإنَّما كان حزنها وهَمُّها لموسى. فلمَّا طال مُكْثُ موسى بمواعيدِ فرعونَ الكاذبةِ، كلَّما جاء بآيةٍ وعدَهُ عندها أن يُرْسِلَ معهُ بني إسرائيلَ، فإذا مَضَتْ أخلفَ موعدَهُ وقال : هل يستطيعُ ربكَ أن يصنعَ غيرَ هذا ؟ فأرسلَ اللهُ على قومِهِ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقَمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ، كلُّ ذلك يشكو إلى موسى ويطلبُ إليهِ أن يَكُفَّها عنهُ، ويُوَاثِقُهُ على أن يُرْسِلَ معهُ بني إسرائيلَ، فإذا كَفَّ ذلك عنهُ أخلفَ موعدَهُ، ونكث عهدَهُ. حتى أمرَ اللهُ موسى بالخروجِ بقومِهِ فخرج بهم ليلًا، فلمَّا أصبح فرعونُ ورأى أنهم قد مَضَوْا أَرْسَلَ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ، فتبعَهُ بجنودٍ عظيمةٍ كثيرةٍ، وأوحى اللهُ إلى البحرِ : إذا ضربكَ عبدي موسى بعصاهُ فانفلِقْ اثنتيْ عشرةَ فِرْقَةً، حتى يجوزَ موسى ومن معهُ، ثم التَقِ على من بَقِيَ بعد من فرعونَ وأشياعِهِ. فنسيَ موسى أن يضربَ البحرَ بالعصا وانتهى إلى البحرِ ولهُ قصيفٌ، مخافةَ أن يضربَهُ موسى بعصاهُ وهو غافلٌ فيصيرُ عاصيًا للهِ. فلمَّا تراءى الجَمْعَانِ وتقاربا قال أصحابُ موسى : إِنَّا لَمُدْرَكُونَ، افعلْ ما أمركَ بهِ ربكَ، فإنَّهُ لم يَكْذِبْ ولم تَكْذِبْ. قال : وعدني أن إذا أتيتُ البحرَ انْفَرَقَ اثنتيْ عشرةَ فِرْقَةً، حتى أُجَاوِزُهُ : ثم ذكر بعد ذلك العصا فضرب البحرَ بعصاهُ حين دنا أوائلُ جُنْدِ فرعونَ من أواخرِ جُنْدِ موسى، فانفرقَ البحرُ كما أمرَهُ ربهُ وكما وعد موسى فلمَّا أن جاز موسى وأصحابُهُ كلُّهم البحرَ، ودخل فرعونُ وأصحابُهُ، التقى عليهم البحرُ كما أُمِرَ فلمَّا جاوزَ موسى البحرَ قال أصحابُهُ : إنَّا نخافُ أن لا يكون فرعونُ غَرِقَ ولا نُؤْمِنُ بهلاكِهِ. فدعا ربهُ فأخرجَهُ لهُ ببدنِهِ حتى استيقنوا بهلاكِهِ. ثم مَرُّوا بعد ذلك عَلَى قَوْمٍ يَعْكِفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قد رأيتم من العِبَرِ وسمعتم ما يكفيكم ومضى. فأنزلهم موسى منزلًا وقال : أطيعوا هارونَ فإني قد استخلفتُهُ عليكم، فإني ذاهبٌ إلى ربي. وأَجَّلَهُمْ ثلاثينَ يومًا أن يرجعَ إليهم فيها، فلمَّا أتى ربهُ وأرادَ أن يُكَلِّمَهُ في ثلاثينَ يومًا وقد صامهُنَّ ليلهُنَّ ونهارهُنَّ، وكَرِهَ أن يُكَلِّمَ ربهُ وريحُ فيهِ، ريحُ فمِ الصائمِ، فتناولَ موسى من نباتِ الأرضِ شيئًا فمضغَهُ، فقال لهُ ربهُ حين أتاهُ : لم أفطرتَ ؟ وهو أعلمُ بالذي كان : قال : يا ربِّ، إني كرهتُ أن أُكَلِّمَكَ إلا وفَمِي طَيِّبُ الرِّيحِ. قال : أوما علمتَ يا موسى أنَّ رِيحَ فمِ الصائمِ أطيبُ من ريحِ المِسْكِ، ارجع فصُمْ عشرًا ثم ائتني. ففعل موسى عليهِ السلامُ ما أُمِرَ بهِ، فلمَّا رأى قومُ موسى أنَّهُ لم يرجع إليهم في الأَجَلِ، ساءهم ذلك : وكان هارونُ قد خطبهم وقال : إنَّكم قد خرجتم من مصرَ، ولقومِ فرعونَ عندكم عَوَارِيَ وودائعُ، ولكم فيهم مثلُ ذلك ولا ممسكيهِ لأنفسنا، فحفرَ حفيرًا، وأمر كلَّ قومٍ عندهم من ذلك من متاعٍ أو حِلْيَةٍ أن يقذفوهُ في ذلك الحفيرِ، ثم أوقدَ عليهِ النارَ فأحرقَهُ، فقال : لا يكونُ لنا ولا لهم. وكان السامريُّ من قومٍ يعبدونَ البقرَ، جيرانٌ لبني إسرائيلَ، ولم يكن من بني إسرائيلَ، فاحتملَ مع موسى وبني إسرائيلَ حينَ احتملوا، فقضى لهُ أن رأى أَثَرًا فقبضَ منهُ قبضةً، فمرَّ بهارونَ، فقال لهُ هارونُ عليهِ السلامُ : يا سامريُّ، ألا تُلْقِي ما في يدكَ ؟ وهو قابضٌ عليهِ، لا يراهُ أحدٌ طُوَالَ ذلكَ، فقال : هذهِ قبضةٌ من أَثَرِ الرسولِ الذي جاوزَ بكمُ البحرَ، ولا أُلْقِيهَا لشيٍء إلا أن تدعو اللهَ إذا ألقيتُهَا أن يكونَ ما أُريدُ. فألقاها، ودعا لهُ هارونُ، فقال : أُريدُ أن يكونَ عِجْلًا. فاجتمعَ ما كان في الحفيرةِ من متاعٍ أو حِلْيَةٍ أو نحاسٍ أو حديدٍ، فصار عِجْلَا أجوفَ ، ليس فيهِ روحٌ، ولهُ خُوَارٌ قال ابنُ عباسٍ : لا واللهِ، ما كان لهُ صوتٌ قطُّ، إنَّما كانت الريحُ تدخُلُ في دُبُرِهِ وتخرجُ من فيهِ، فكان ذلك الصوتَ من ذلكَ. فتفرَّقَ بنو إسرائيلَ فِرَقًا، فقالت فِرْقَةٌ : يا سامريُّ، ما هذا ؟ وأنتَ أعلمُ بهِ. قال : هذا ربكم، ولكن موسى أَضَلَّ الطريقَ. وقالت فِرْقَةٌ : لا نُكَذِّبُ بهذا حتى يرجعَ إلينا موسى، فإن كان ربنا لم نكن ضَيَّعْنَاهُ وعجزنا فيهِ حين رأيناهُ، وإن لم يكن ربنا فإنَّا نَتَّبِعُ قولَ موسى، وقالت فِرْقَةٌ : هذا عملُ الشيطانِ، وليس بربنا ولا نُؤْمِنُ بهِ ولا نُصَدِّقُ، وأُشْرِبَ فِرْقَةٌ في قلوبهم الصدقَ بما قال السامريُّ في العِجْلِ، وأعلنوا التكذيبَ بهِ، فقال لهم هارونُ : يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ، وَإِنَّ رَبَّكَمُ الرَّحْمَنُ. قالوا : فما بالُ موسى وعدنا ثلاثينَ يومًا ثم أخلفنا ؟ هذهِ أربعونَ يومًا قد مضتْ ؟ وقال سفهاؤهم : أخطأَ ربُّهُ فهو يطلبُهُ ويَتْبَعُهُ. فلمَّا كلَّمَ اللهُ موسى وقال لهُ ما قال : أَخْبَرَهُ بما لَقِيَ قومُهُ من بعدِهِ، فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا فقال لهم ما سمعتم في القرآنِ، وأخذ برأسِ أخيهِ يَجُرُّهُ إليهِ، وألقى الألواحَ من الغضبِ، ثم إنَّهُ عذرَ أخاهُ بعذرِهِ، واستغفرَ لهُ، وانصرفَ إلى السامريِّ فقال لهُ : ما حملكَ على ما صنعتَ ؟ قال : قَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ، وفطنتُ لها وعميتْ عليكم، فقذفتها وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا، ولو كان إلهًا لم يُخْلَصْ إلى ذلك منهُ، فاستيقنَ بنو إسرائيلَ بالفتنةِ، واغتُبِطَ الذين كان رأيهم فيهِ مثلَ رأي هارونَ، فقالوا لجماعتهم : يا موسى، سَلْ لنا ربكَ أن يفتحَ لنا بابَ توبةٍ نصنعها، فيُكَفِّرْ عنَّا ما عملنا. فاختارَ موسى قومَهُ سبعينَ رجلًا لذلك، لا يَأْلُو الخيرَ، خيارَ بني إسرائيلَ، ومن لم يُشْرِكْ في العِجْلِ، فانطلقَ بهم يسألُ لهمُ التوبةَ، فرجفتْ بهمُ الأرضَ، فاستحيا نبيُّ اللهِ من قومِهِ ومن وفدِهِ حين فُعِلَ بهم ما فُعِلَ، فقال : ربِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا وفيهم من كان اطَّلَعَ اللهُ منهُ على ما أُشْرِبَ قلبُهُ من حُبِّ العِجْلِ وإيمانٍ بهِ فلذلك رجفتْ بهمُ الأرضُ فقال : رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فقال : يا ربِّ سألتُكَ التوبةَ لقومي، فقلتَ : إنَّ رحمتي كتبتُهَا لقومٍ غيرِ قومي فليتَكَ أَخَّرْتَنِي حتى تُخْرِجَنِي في أُمَّةِ ذلك الرجلِ المرحومةِ، فقال لهُ : إنَّ توبتهم أن يَقْتُلَ كلُّ رجلٍ منهم من لَقِيَ من والدٍ وولدٍ فيقتلُهُ بالسيفِ ولا يُبَالِي من قتلَ في ذلك الموطنِ وتاب أولئكَ الذين كان خَفِيَ على موسى وهارونَ واطَّلَعَ اللهُ من ذنوبهم فاعترفوا بها وفعلوا ما أُمِرُوا وغفرَ اللهُ للقاتلِ والمقتولِ. ثم سار بهم موسى عليهِ السلامُ مُتَوَجِّهًا نحوَ الأرضِ المقدسةِ، وأخذ الألواحَ بعد ما سكتَ عنهُ الغضبُ فأمرهم بالذي أُمِرَ بهِ أن يُبَلِّغَهُمْ من الوظائفِ، فثَقُلَ ذلك عليهم وأَبَوْا أن يُقِرُّوا بها، فنَتَقَ اللهُ عليهمُ الجبلَ كأنَّهُ ظُلَّةٌ ودنا منهم حتى خافوا أن يقعَ عليهم فأَخَذُوا الكتابَ بأيمانهم وهم مُصْغُونَ ينظرونَ إلى الجبلِ والكتابُ بأيديهم، وهم من وراءِ الجبلِ مخافةَ أن يقعَ عليهم، ثم مَضَوْا حتى أَتَوْا الأرضَ المقدسةَ فوجدوا مدينةً فيها قومٌ جَبَّارُونَ خَلْقُهُمْ خَلْقٌ مُنْكَرٌ، وذكروا من ثمارهم أمرًا عجيبًا من عِظَمِهَا، فقالوا : يا موسى إنَّ فيها قومًا جَبَّارِينَ لا طاقةَ لنا بهم، ولا ندخلها ماداموا فيها، فإن يخرجوا منها فإنَّا داخلونَ، قال رجلانِ من الذينَ يخافونَ قيل ليزيدٍ : هكذا قرأَهُ ؟ قال : نعم، من الجَبَّارِينَ آمَنَّا بموسى، وخرجا إليهِ فقالوا : نحنُ أعلمُ بقومنا إن كنتم إنَّما تخافونَ ما رأيتم من أجسامهم وعددهم فإنَّهم لا قلوبَ لهم ولا مَنَعَةَ عندهم فادخلوا عليهمُ البابَ فإذا دخلتموهُ فإنَّكم غالبونَ، ويقولُ أُناسٌ : إنَّهم من قومِ موسى، فقال الذينَ يخافونَ بنو إسرائيلَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ فأغضبوا موسى فدعا عليهم وسمَّاهم فاسقينَ، ولم يَدْعُ عليهم قبلَ ذلك، لِمَا رأى منهم المعصيةَ وإساءتهم حتى كان يومئذٍ، فاستجاب اللهُ لهُ وسمَّاهم كما سمَّاهم فاسقينَ، فحرَّمَهَا عليهم أربعينَ سَنَةً يتيهونَ في الأرضِ، يُصْبِحُونَ كلَّ يومٍ فيسيرونَ ليس لهم قرارٌ ثم ظَلَّلَ عليهمُ الغمامَ في التِّيهِ وأنزلَ عليهمُ المَنَّ والسلوى وجعل لهم ثيابًا لا تَبْلَى ولا تَتَّسِخُ، وجعل بين ظهرانيهم حَجَرًا مُرَبَّعًا وأمرَ موسى فضربَهُ بعصاهُ فانفجرتْ منهُ اثنتا عشرةَ عينًا في كلِّ ناحيةٍ ثلاثُ أعينٍ، وأعلمَ كلَّ سِبْطٍ عَيْنُهُمُ التي يشربونَ منها فلا يرتحلونَ من مَنْقَلَةٍ إلا وجدوا ذلك الحَجَرَ معهم بالمكانِ الذي كان فيهِ بالأمسِ
خلاصة حكم المحدث : موقوف وكأنه تلقاه ابن عباس رضي الله عنه مما أبيح نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار أو غيره
الراوي : سعيد بن جبير | المحدث : ابن كثير | المصدر : تفسير القرآن العظيم الصفحة أو الرقم : 5/279
التخريج : أخرجه الطبري في ((جامع البيان)) (16/ 64)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (8302) بلفظه مطولا..
التصنيف الموضوعي: أنبياء - معجزات أنبياء - موسى أنبياء - هارون تفسير آيات - سورة القصص تفسير آيات - سورة طه
| أحاديث مشابهة |أصول الحديث

أصول الحديث:


تفسير ابن كثير - ت السلامة (5/ 285)
: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا أصبغ بن زيد، حدثنا القاسم بن أبي أيوب، أخبرني سعيد بن جبير، قال: سألت عبد الله بن ‌عباس عن قول الله، عز وجل، لموسى، عليه السلام: (‌وفتناك ‌فتونا) ‌فسألته ‌عن ‌الفتون ما هو؟ فقال: استأنف النهار يا بن جبير، فإن لها حديثا طويلا. فلما أصبحت غدوت إلى ابن ‌عباس لأنتجز منه ما وعدني من حديث الفتون، فقال: تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم، عليه السلام أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا، فقال بعضهم: إن بني إسرائيل ينتظرون ذلك، ما يشكون فيه وكانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب، فلما هلك قالوا: ليس هكذا كان وعد إبراهيم، فقال فرعون: فكيف ترون؟ فائتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالا معهم الشفار، يطوفون في بني إسرائيل، فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه. ففعلوا ذلك، فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم، والصغار يذبحون، قالوا: يوشك أن تفنوا بني إسرائيل، فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي كانوا يكفونكم، فاقتلوا عاما كل مولود ذكر، فيقل أبناؤهم ودعوا عاما فلا تقتلوا منهم أحدا، فيشب الصغار مكان من يموت من الكبار؛ فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم فتخافوا مكاثرتهم إياكم، ولم يفنوا بمن تقتلون وتحتاجون إليهم، فأجمعوا أمرهم على ذلك.

تفسير الطبري (16/ 64)
: حدثني العباس بن الوليد الآملي، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا أصبغ بن زيد الجهني، قال: أخبرنا القاسم بن أبي أيوب، قال: ثني سعيد بن جبير، قال: سألت عبد الله بن ‌عباس عن قول الله لموسى: {‌وفتناك ‌فتونا}. ‌فسألته ‌عن ‌الفتون ما هي؟ فقال لي: استأنف النهار يا بن جبير؛ فإن لها حديثا طويلا. قال: فلما أصبحت غدوت على ابن ‌عباس لأنتجز منه ما وعدنى. قال: فقال ابن ‌عباس: تذاكر فرعون وجلساؤه ما وعد الله إبراهيم أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا، فقال بعضهم: إن بنى إسرائيل ينتظرون ذلك وما يشكون، ولقد كانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب. فلما هلك قالوا: ليس هكذا كان الله وعد إبراهيم. فقال فرعون: فكيف ترون؟ قال: فأتمروا بينهم، وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالا معهم الشفار يطوفون في بنى إسرائيل، فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه، فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم، وأن الصغار يذبحون، قالوا: توشكون أن تفنوا بنى إسرائيل، فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي كانوا يكفونكم، فاقتلوا عاما كل مولود ذكر، فيقل أبناؤهم، ودعوا عاما لا تقتلوا منهم أحدا، فتشب الصغار مكان من يموت من الكبار، فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم، فتخافون مكاثرتهم إياكم، ولن يقلوا بمن تقتلون. فأجمعوا أمرهم على ذلك، فحملت أم موسى بهارون في العام المقبل الذي لا يذبح فيه الغلمان، فولدته علانية آمنة، حتى إذا كان العام المقبل حملت بموسى، فوقع في قلبها الهم والحزن، وذلك من الفتون يا بن جبير؛ مما دخل عليه في بطن أمه مما يراد به، فأوحى الله إليها {ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين} [القصص: 7]. وأمرها إذا ولدته أن تجعله في تابوت، ثم تلقيه في اليم، فلما ولدته فعلت ما أمرت به، حتى إذا توارى عنها ابنها أتاها إبليس، فقالت في نفسها: ما صنعت بابني، لو ذبح عندى فواريته وكفنته كان أحب إلي من أن ألقيه بيدى إلى حيتان البحر ودوابه. فانطلق به الماء حتى أوفى به عند فرضة مستقى جوارى آل فرعون، فرأينه فأخذنه، فهممن أن يفتحن الباب، فقال بعضهن لبعض: إن في هذا مالا، وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة فرعون بما وجدنا فيه. فحملنه كهيئته لم يحركن منه شيئا، حتى دفعنه، إليها، فلما فتحته رأت فيه الغلام، فألقى عليه منها محبة لم يلق مثلها منها على أحد من الناس، {وأصبح فؤاد أم موسى فارغا} [القصص: 10]. من ذكر كل شيء إلا من ذكر موسى. فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا إلى امرأة فرعون بشفارهم يريدون أن يذبحوه - وذلك من الفتون يا بن جبير - فقالت للذباحين: انصرفوا عنى. فإن هذا الواحد لا يزيد في بنى إسرائيل، فآتى فرعون فأستوهبه إياه، فإن وهبه لى كنتم قد أحسنتم وأجملتم، وإن أمر بذبحه لم ألمكم. فلما أتت به فرعون قالت: {قرت عين لي ولك} [القصص: 9]. قال فرعون: يكون لك، [فأما أنا فلا حاجة لي فيه. فقال [رسول الله صلى الله عليه وسلم]: "والذي يحلف] به، لو أقر فرعون أن يكون له قرة عين كما أقرت به، لهداه الله به كما هدى به امرأته، ولكن الله حرمه ذلك". فأرسلت إلى من حولها من كل أنثى لها لبن لتختار له ظئرا، فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل ثديها، حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت، فحزنها ذلك، فأمرت به فأخرج إلى السوق مجمع الناس ترجو أن تصيب له ظئرا يأخذ منها، فلم يقبل من أحد، وأصبحت أم موسى، فقالت لأخته: قصيه واطلبيه، هل تسمعين له ذكرا، أحي ابنى، أو قد أكلته دواب البحر وحيتانه؟ ونسيت الذي كان الله وعدها، فبصرت به أخته عن جنب وهم لا يشعرون، فقالت من الفرح حين أعياهم الظئورات: أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون. فأخذوها وقالوا: وما يدريك ما نصحهم له، هل يعرفونه، حتى شكوا في ذلك - وذلك من الفتون يا بن جبير - فقالت: نصحهم له وشفقتهم عليه، رغبتهم في ظئورة الملك، ورجاء منفعته. فتركوها، فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر، فجاءت، فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها حتى امتلأ جنباه، فانطلق البشراء إلى امرأة فرعون يبشرونها أن قد وجدنا لابنك ظئرا. فأرسلت إليها، فأتيت بها وبه. فلما رأت ما يصنع بها قالت: امكثى عندى ترضعين ابنى هذا، فإنى لم أحب حبه شيئا قط. قال: فقالت: لا أستطيع أن أدع بيتى وولدى فيضيع، فإن طابت نفسك أن تعطينيه، فأذهب به إلى بيتى، فيكون معى لا آلوه خيرا، فعلت، وإلا فإني غير تاركة بيتى وولدى. وذكرت أم موسى ما كان الله وعدها، فتعاسرت على امرأة فرعون، وأيقنت أن الله عز وجل منجز وعده، فرجعت بابنها إلى بيتها من يومها، فأنبته الله نباتا حسنا، وحفظه لما قضى فيه، فلم يزل بنو إسرائيل وهم مجتمعون في ناحية المدينة يمتنعون به من الظلم والسخرة التي كانت فيهم، فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأم موسى: أزيريني ابنى. فوعدتها يوما تزيرها إياه فيه، فقالت لحواضنها وظئورتها وفهارمتها: لا يبقين أحد منكم إلا استقبل ابنى بهدية وكرامة ليرى ذلك، وأنا باعثة أمينة تحصى كل ما يصنع كل إنسان منكم. فلم تزل الهدية والكرامة والتحف تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون، فلما دخل عليها نحلته وأكرمته، وفرحت به، وأعجبها ما رأت من حسن أثرها عليه، وقالت: انطلقن به إلى فرعون، فلينحله وليكرمه. فلما دخلن به عليه جعلنه في حجره، فتناول موسى لحية فرعون حتى مدها، فقال عدو من أعداء الله: ألا ترى ما وعد الله إبراهيم أنه سيصرعك ويعلوك. فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه، وذلك من الفتون يا بن جبير، بعد كل بلاء ابتلى به وأريد به. فجاءت امرأة فرعون تسعى إلى فرعون، فقالت: ما بدا لك في هذا الصبي الذي قد وهبته لى؟ قال: ألا ترينه يزعم أنه سيصرعنى ويعلونى! فقالت: أجعل بينى وبينك أمرا تعرف فيه الحق؛ ائت بجمرتين ولؤلؤتين، فقربهن إليه، فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين علمت أنه يعقل، وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين، فاعلم أن أحدا لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يعقل. فقرب ذلك إليه، فتناول الجمرتين، فنزعوهما منه مخافة أن تحرقا يده، فقالت المرأة: ألا ترى! فصرفه الله عنه بعد ما كان قد هم به، وكان الله بالغا فيه أمره. فلما بلغ أشده وكان من الرجال، لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة، حتى امتنعوا كل امتناع، فبينما هو يمشى ذات يوم في ناحية المدينة، إذ هو برجلين يقتتلان؛ أحدهما من بنى إسرائيل، والآخر من آل فرعون، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، فغضب موسى واشتد غضبه؛ لأنه تناوله وهو يعلم منزلة موسى من بني إسرائيل، وحفظه لهم، ولا يعلم الناس إلا أنما ذلك من قبل الرضاعة غير أم موسى، إلا أن يكون الله أطلع موسى موسى من ذلك على ما لم يطلع عليه غيره، فوكز موسى الفرعوني فقتله، وليس يراهما أحد إلا الله والإسرائيلي، فقال موسى حين قتل الرجل: {هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين}. ثم قال: {رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم} [القصص: 15، 16]. فأصبح في المدينة. خائفا يترقب الأخبار، فأتى فرعون، فقيل له: إن بني إسرائيل قد قتلوا رجلا من آل فرعون، فخذ لنا بحقنا ولا ترخص لهم في ذلك. فقال: ابغونى قاتله ومن يشهد عليه؛ لأنه لا يستقيم أن نقضى بغير بينة ولا ثبت. فطلبوا له ذلك، فبينما هم يطوفون لا يجدون ثبتا، إذ مر موسى من الغد، فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونيا، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، فصادف موسى وقد ندم على ما كان منه بالأمس، وكره الذي رأى، فغضب موسى فمد يده وهو يريد أن يبطش بالفرعوني، فقال للإسرائيلي لما فعل بالأمس واليوم: {إنك لغوي مبين} [القصص 18]. فنظر الإسرائيلي إلى موسى بعد ما قال [ما قال]، فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس الذي قتل فيه الفرعوني، فخاف أن يكون بعد ما قال له: {إنك لغوي مبين}. أن يكون إياه أراد، ولم يكن أراده، إنما أراد الفرعوني، فخاف الإسرائيلي، فحاجز الفرعوني فقال: {ياموسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس} [القصص: 19]. وإنما قال ذلك مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله، فتتاركا، فانطلق الفرعوني إلى قومه، فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخير حين يقول: {أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس}. فأرسل فرعون إلى الذباحين، فسلك موسى الطريق الأعظم، فطلبوه وهم لا يخافون أن يفوتهم، وكان رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة، فاختصر طريقا قريبا حتى سبقهم إلى موسى، فأخبره الخبر، وذلك من الفتون يابن جبير.

[تاريخ دمشق - لابن عساكر] (61/ 81)
: أنبأنا أبو بكر أحمد بن المظفر بن الحسن بن سوسن وأخبرني أبو طاهر محمد بن محمد السنجي عنه أنا أبو علي الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن الحسن نا محمد بن جعفر ابن محمد الآدمي القارئ من لفظه أنا أبو بكر أحمد بن عبيد الله صاحب النرسي أنا يزيد بن هارون سنة إحدى ومائتين أنا أصبغ بن زيد الوراق الجهني حدثني القاسم بن أبي أيوب حدثني سعيد بن جبير قال سألت عبد الله بن ‌عباس عن قول الله لموسى " ‌وفتناك ‌فتونا " ‌فسألته ‌عن ‌الفتون ما هو فقال استأنف النهار بابن جبير فإن لها حديثا طويلا فلما أصبحت غدوت على ابن ‌عباس لأنجز ما وعدني من حديث الفتون فقال تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم من أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا فقال بعضهم إن بني إسرائيل لينتظرون ذلك ما يشكون فيه وقد كانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب فلما ملك قالوا ليس هكذا كان الله وعد إبراهيم قال فرعون فكيف ترون فأمروا جميعا أمرهم على أن يبعث رجالا منهم السفار يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه ففعلوا ذلك فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم والصغار يذبحون قالوا توشكون أن تفنوا بني إسرائيل فتصيروا أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي كانوا يكفونكم فأقبلوا على كل مولود ذكر فيقتل عامهم ودعوا عاما فلا تقتلوا منهم أحدا فيشب الصغار مكان من يموت من الكبار فإنهم لن يكثروا بمن يستحيوا منهم فتخافوا مكاثرتهم إياكم ولن يفنوا بمن تقتلون فيحتاجون إليهم فأجمعوا أمرهم على ذلك فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان فولدته علانية أمه فلما كان من قابل حملت بموسى فوقع في قلبها الهم والحزن وذلك من الفتون يا ابن جبير ما دخل عليه في بطن أمه مما يراد به فأوحى الله إليها لا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين وأمرها إذا ولدت أن تجعله في تابوت ثم تلقيه في البحر فلما ولدته فعلت ذلك به فلما توارى عنها ابنها ناجاها الشيطان فقالت في نفسها ما فعلت بابني لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان أحب إلي من أن ألقيه بيدي إلى حيتان البحر ودوابه فانتهى الماء به حتى أوفى به عند فرضه مستقى جواري امرأة فرعون فلما رأينه أخذنه فهممن أن يفتحن التابوت فقال بعضهن إن في هذا مالا وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة الملك بما وجدنا فيه فحملنه كهيئته لم يحركن منه شيئا حتى دفعنه إليها فلما فتحته رأت غلاما فألقى الله عليه منه محبة لم يلق مثلها على أحد من البشر و " أصبح فؤاد أم موسى فارغا " من ذكر كل شئ إلا من ذكر موسى فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه وذلك من الفتون يا ابن جبير فقال لهم أقروه فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل حتى آتي فرعون فاستوهبته منه فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم وإن أمر بذبحه لم ألمكم فأتت فرعون فقالت " قرة عين لي ولك " قال فرعون يكون لك فأما أنا فلا حاجة لي في ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نحلف به لو أقر فرعون بأن يكون له قرة عين كما أقرت امرأته لهداه الله به كما هداها ولكن الله حرمه ذلك فأرسلت إلى من حولها لكل امرأة لها لبن تختار له ظئرا فجعل كلما أخذ ثدي امرأة منهن ليرضعه لم يقبل ثديها حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع عن اللبن فيموت وأحزنها ذلك وأمرت به فأخرج إلى السوق وتجمع الناس ترجو أن تجد له ظئرا تأخذه منها فلم يقبل فأصبحت أم موسى والها فقالت " لأخته قصيه " قصي أثره واطلبيه حتى تسمعين له ذكرا أحي ولدي أو قد أكلته الدواب ونسيت الذي كان وعدها فيه " فبصرت به " أخته " عن جنب وهم لا يشعرون " والجنب أن يسمو بصر الإنسان إلى الشئ البعيد وهو إلى جنبه لا يشعر به فقالت من الفرح حين أعياهم الظؤارات أنا " أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون " فأخذوها وقالوا لها ما يدريك ما نصحهم له هل تعرفونه حتى شكوا في ذلك وذلك من الفتون يا ابن جبير قالت نصحهم له وشفقتهم عليه لرغبتهم في صهر الملك ورجاء منعته فأرسلوها فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر فجاءت أمه فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها فمصه حتى امتلأ جنباه ريا وانطلق البشير إلى امرأة فرعون يبشرونها إنا قد وجدنا لابنك ظئرا فأرسلت إليها فأتيت بها فلما رأت ما يصنع بها قالت فامكثي عندي ترضعين ابني هذا فإني لم أحب حبه شيئا قط قالت أم موسى لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي فيضيع فإن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهب به إلى بيتي فيكون معي لا آلوه خيرا فعلت وإلا فإني غير تاركة بيتي وولدي وذكرت أم موسى ما كان الله وعدها فيه فتعاسرت على امرأة فرعون وأيقنت أن الله منجز وعده فرجعت إلى بيتها بابنها من يومها فأنبته الله نباتا حسنا وحفظه لما قد قضى فيه فلم يزل بنو إسرائيل وهم في ناحية القرية مجتمعين يمتنعون به من السخرة والظلم ما كان فيهم فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأم موسى أريني ابني فوعدتها يوما تريها فقالت امرأة فرعون لخزانها وظؤرتها وقهار متها لا يبقى أحد منكم اليوم إلا استقبل ابني بهدية وكرامة لأرى ذلك فيه وأنا باعثة أمينا يحصي ما يصنع كل إنسان منكم فلم تزل الهدايا والكرامة والنحل تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل بيت امرأة فرعون فلما دخل عليها نحلته وأكرمته وفرحت به وأعجبها ونحلت أمه لحسن أثرها عليه ثم قالت لآتين به فرعون فلينحلنه وليكرمنه فلما دخل به عليه جعله في حجره فتناول موسى لحية فرعون فمدها إلى الأرض فقال الغواة من اعأداء الله لفرعون ألا ترى ما وعد الله إبراهيم نبيه أنه يذلك ويعلوك ويصرعك فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه وذلك من الفتون يا ابن جبير بعد كل بلاء ابتلي به أو أريد به فتونا فجاءت امرأة فرعون تسعى إلى فرعون فقالت ما بدا لك في هذا الغلام الذي وهبته لي قال ألا ترينه يزعم أنه سيصرعني وسيعلوني فقالت اجعل بيني وبينك أمرا تعرف فيه الحق ائت بجمرتين ولؤلؤتين فقربهن إليه فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين عرفت أنه يعقل وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين علمت أن أحدا لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يعقل فقرب إليه ذلك فتناول الجمرتين فانتزعوها منه وخافت أن يحرقا يديه فقالت المرأة ألا ترى فصرفه الله عنه بعدما كان قد هم به وكان الله بالغا فيه أمره فلما بلغ أشده وكان من الرجال لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة حتى امتنعوا كل الامتناع فبينا موسى يمشي في ناحية المدينة إذا هو برجلين يقتتلان أحدهما فرعوني والآخر إسرائيلي فاستغاثه الاسرائيلي على الفرعوني فغضب موسى غضبا شديدا لأنه تناوله وهو يعلم منزلة موسى من بني إسرائيل وحفظه لهم لا يعلم الناس إلا إنما ذلك من الرضاع إلا أم موسى إلا أن يكون الله أطلع موسى من ذلك على ما لم يطلع عليه غيره فوكز موسى الفرعوني فقتله وليس يراهما أحد إلا الله والإسرائيلي فقال موسى حين قتل الرجل " هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين " " قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم " فأصبح في المدينة خائفا يترقب الأخبار فأتي فرعون فقيل له إن بني إسرائيل قتلوا رجلا من آل فرعون فخذ لنا بحقنا ولا ترخص لهم قال ابغوني قاتله وبمن يشهد عليه فإن الملك وإن كان صفوة مع قومه لا يستقيم له أن يقتل بغير بينة ولا ثبت فاطلبوا علم ذلك آخذ لكم بحقكم فبينا هم يطوفون ولا يجدون شيئا إذا موسى قد رأى من الغد ذلك الاسرائيلي يقاتل رجلا من آل فرعون آخر فاستغاثه الاسرائيلي على الفرعوني فصادف موسى قد ندم على ما كان منه فكره الذي رأى فغضب الاسرائيلي فهم بعد أن يبطش بالفرعوني فقال للاسرائيلي لما فعل بالأمس واليوم " إنك لغوي مبين " فنظر الإسرائيلي إلى موسى بعدما قال فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس الذي قتل به الفرعوني فخاف أن يكون بعدما قال " إنك لغوي مبين " أن يكون إياه أراد ولم يكن أراده وإنما أراد الفرعوني فخاف الإسرائيلي فحاجر الفرعوني فقال " يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس " وإنما قال ذلك مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله فتتاركا وانطلق الفرعوني إلى قومه فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر حين يقول " أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس " فأرسل فرعون الذباحين ليقتلوا موسى فأخذ رسل فرعون في الطريق الأعظم يمشون على هينتهم يطلبون موسى وهم يخافون أن يفوتهم وجاء رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة فاختصر طريقا قريبا حتى سبقهم إلى موسى فأخبره الخبر وذلك من الفتون يا ابن جبير فخرج موسى متوجها نحو مدين لم يلق بلاء مثل ذلك وليس له بالطريق علم إلا حسن ظنه بربه قال " عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان " جالستان يعني بذلك حابستين غنهما فقال لهما " ما خطبكما " معتزلتين لا تسقيان مع الناس قالتا ليس لنا قوة نزاحم القوم وإنما ننتظر فضول حياضهم فسقى لهما فجعل يغترف في الدلو ماء كثيرا حتى كان أول الرعاء فراغا فانصرفتا بغنمهما إلى أبيهما فانصرف موسى فاستظل بشجرة وقال " رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير " فاستنكر أبوهما سرعة صدورهما بغنمهما حفلا بطانا فقال إن لكما اليوم لشأنا فأخبرتاه بما صنع موسى فأمر إحداهما أن تدعوه له فأتت موسى فدعته فلما كلمه قال " لا تخف نجوت من القوم الظالمين " لا لفرعون ولا لقومه علينا سلطان ولسنا في شئ من مملكته قال فقالت إحداهما " يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين " فاحتملته الغيرة على أن قال وما يدريك ما قوته وما أمانته قالت أما قوته فما رأيت منه في الدلو حين يسقي لنا لم أر رجلا قط أقوى في ذلك السقي منه وأما أمانته فإنه نظر حين أقبلت إليه وقد شخصت له فلما علم أني امرأة صوب رأسه فلم يرفعه ولم ينظر إلي حتى بلغت رسالتك ثم قال امش خلفي وانعتي لي الطريق فلم يفعل هذا إلا وهو أمين فسرى عن أبيها وصدقها وظن به الذي قالت فقال له هل لك " أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين " ففعل فكانت على نبي الله موسى صلى الله عليه وسلم ثمان سنين واجبة وكانت سنتان عدة منه فقضى الله عنه عدته وأتمها عشرا قال سعيد فلقيني رجل من أهل النصرانية من علمائهم فقال هل تدري أي الأجلين قضى موسى قلت لا وأنا يومئذ لا أدري فلقيت ابن عباس فذكرت ذلك له فقال أما علمت أن ثمانيا كانت على نبي الله صلى الله عليه وسلم واجبة لم يكن نبي الله لينقص منها شيئا وتعلم أن الله كان قاضيا عن موسى عدته التي وعد فإنه قضى عشر سنين فلقيت النصراني فأخبرته ذلك فقال الذي سألته فأخبرك أعلم منك بذلك قلت أجل وأولى فلما سار موسى بأهله كان من شأنه ما قص الله عليه في القرآن وأمر العصا ويده فشكا إلى ربه ما يتخوف من آل فرعون في القتيل وعقدة لسانه فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير الكلام فسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون له ردأ يتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه فآتاه الله سؤله وحل عقدة من لسانه وأوحى الله إلى هارون يأمره أن يلقاه فاندفع موسى بعصاه حتى لقي هارون فانطلقا جميعا إلى فرعون فأقاما على بابه حينا لا يؤذن لهما ثم أذن لهما بعد حجاب شديد فقالا " إنا رسولا ربك " قال " فمن ربكما يا موسى " فأخبراه بالذي قص الله عليك في القرآن قال فما تريدان وذكره القتيل فاعتذر بما قد سمعت قال أريد أن تؤمن بالله وأن ترسل معي بني إسرائيل قال فأبى عليه ذلك وقال " ائت بآية إن كنت من الصادقين " فألقى عصاه فإذا هي حية عظيمة فاغرة فاها مسرعة إلى فرعون فلما رآها فرعون قاصدة إليه خافها فاقتحم عن سريره واستغاث بموسى أن يكفها عنه ففعل ثم أخرج يده من جيبه أو قال من جبته فرآها " بيضاء من غير سوء " يعني من غير برص ثم ردها فعادت إلى لونها الأول فاستشار الملأ حوله فيما رأى فقالوا " إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى " يعني ملكهم الذي هم فيه والعيش فأبوا على موسى أن يعطوه شيئا مما طلب وقالوا له اجمع لهما السحرة فإنهم بأرضك كثير تغلب بسحرهم سحرهما فأرسل إلى المدائن فحشر له كل ساحر متعالم فلما أتوا فرعون قالوا ما يعمل هذا الساحر قالوا يعمل الحيات قالوا فلا والله ما أحد في الأرض من يعمل بالسحر وبالحيات والحبال والعصي الذي نعمل فما أجرنا إن نحنغلبناه قال لهم أنتم أقاربي وخاصتي وأنا صانع إليكم كل شئ أحببتم فتواعدوا " يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى " قال سعيد فحدثني ابن عباس أن يوم الزينة الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون والسحرة وهو يوم عاشوراء قال فلما اجتمعوا في صعيد قال الناس بعضهم لبعض انطلقوا فلنحضر هذا الأمر لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين يعنون موسى وهارون فاستهزئ بهما فقالوا يا موسى بعد تريثهم بسحرهم " إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين " " قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم " " وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون " فرأى موسى من سحرهم ما أوجش في نفسه خيفة فأوحى الله إليه " أن ألق عصاك " فلما ألقاها صارت ثعبانا عظيما فاغرة فاها فجعلت العصي تدعو موسى بأسرها وبالحبال حتى صارت جرزا إلى الثعبان حتى يدخل منه ما أبقى عصا ولا حبلا إلا ابتلعته فلما عرف السحرة ذلك قالوا لو كان هذا سحرا لم يبلغ من سحرنا كل هذا ولكنه أمر من الله آمنا بالله وبما جاء به موسى ونتوب إلى الله مما كنا عليه فكسر الله ظهر فرعون عند ذلك الموطن وأشياعه وأظهر الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك " وانقلبوا صاغرين وألقي السحرة ساجدين " وامرأة فرعون بارزة متبذلة تدعو الله بالنصر لموسى على فرعون وأشياعه فمن رآها من آل فرعون ظن أنها لما ابتذلت شفقة على فرعون وأشياعه وإنما كان خوفها وهمها لموسى فلما طال مكث موسى صلى الله عليه وسلم لمواعيد فرعون الكاذبة كلما جاءه بآية كذبه ووعده عندها أن يرسل معه بني إسرائيل فإذا مضت أخلف موعده وقال هل يستطيع ربك أن يفعل غير هذا فأرسل الله عليه وعلى قومه الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات كل ذلك يشكو إلى موسى ويطلب إليه أن يكفها عنه ويوافقه على أن يرسل معه بني إسرائيل فإذا كف ذلك عنه أخلف موعده ونكث عهده حتى أمر موسى بالخروج بقومه فخرج بهم ليلا فلما أصبح فرعون ورأى أنهم قد مضوا أرسل " في المدائن حاشرين " فاتبعهم بجنود عظيمة كثيرة فأوحى الله إلى البحر أن إذا ضربك عبدي موسى بعصاه فتفرق له اثنتي عشرة فرقة حتى يجوز موسى ومن معه ثم التق على من بقي بعد من فرعون وأشياعه فنسي موسى أن يضرب البحر بالعصا فانتهى البحر وله قصيف مخافة أن يضربه موسى بعصاه وهو غافل فيصير عاصيا لله " فلما تراءى الجمعان " وتقاربا قال قوم " موسى إنا لمدركون " افعل ما أمرك به ربك فإنك لم تكذب ولم يكذب فقال وعدني ربي أني إذا أتيت البحر انفرق لي اثنتي عشر فرقة حتى أجاوزه ثم ذكر بعد ذلك العصا فضرب البحر فانفرق له حتى دنا أوائل جند فرعون من أواخر جند موسى فتفرق البحر كما أمره الله فيه وكما وعد موسى فلما أن جاز موسى وأصحابه البحر كلهم ودخل فرعون وأصحابه التقى البحر كما أمر فلما أن جاوز موسى البحر قال أصحابه إنا نخاف أن لا يكون فرعون غرق ولا نؤمن بهلاكه فدعا ربه فأخرجه لهم ببدنه حتى استيقنوا بهلاكه ثم مروا بعد ذلك على قوم يعكفون على أصنام لهم " قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون " قد رأيتم من العبر وسمعتم بما يكفيكم ومضى فأنزلهم موسى منزلا ثم قال لهم أطيعوا هارون فإني قد استخلفته عليكم وإني ذاهب إلى ربي وأجلهم ثلاثين يوما أن يرجع إليهم فيها فلما أتى ربه فأراد أن يكلمه في ثلاثين يوما وقد صامهن ليلهن ونهارهن كره أن يكلم ربه وريح فمه ريح فم الصائم فتناول موسى من نبات الأرض شيئا فمضغه فقال له ربه حين أتاه لم أفطرت وهو أعلم بالذي كان قال يا رب إني كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب الريح قال وما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك حتى يصوم عشرا ثم ائتني ففعل موسى ما أمر به فلما رأى قوم موسى أنه لم يرجع إليهم للأجل ساءهم ذلك وكان هارون قد خطبهم فقال إنكم خرجتم من مصر ولقوم فرعون عندكم عوار وودائع ولكم فيهم مثل ذلك وإني أرى أن تخمسوا ما لكم عندهم ولا أحل لكم وديعة استودعتموها ولا عارية ولسنا برادي إليهم شيئا من ذلك ولا ممسكيه لأنفسنا فحفر حفيرا وأمر كل من عنده شئ من ذلك من متاع أو حلية أن يدفنوه في تلك الحفيرة ثم أوقد عليه النار فأحرقه فقال لا يكون لا لنا ولا لهم وكان السامري من قوم يعبدون البقر جير أن لهم ولم يكن من بني إسرائيل فاحتمل مع موسى وبني إسرائيل حين احتملوه فقضى له أن رأى أثر الرسول فأخذ منه قبضة فمر بهارون فقال له هارون يا سامري ألا تلقي ما في يدك وهو قابض عليه لا يراه أحد طوال ذلك فقال هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر فلا القيها لشئ إلا أن تدعو الله إذا ألقيتها ما أريد أن يكون فألقاها ودعا له هارون فقال أريد أن يكون عجلا فاجتمع ما كان في الحفيرة من متاع أو حلية أو نحاس أو حديد فصار عجلا أجوف ليس فيه روح له خوار قال ابن عباس لا والله ما كان له صوت قط إنما كان الريح يدخل من دبره ويخرج من فيه وكان ذلك الصوت من ذلك فتفرق بنو إسرائيل فرقا فقالت فرقة يا سامري ما هذا فأنت أعلم به قال هذا ربكم ولكن موسى ضل الطريق فقالت فرقة لا نكذب بهذا " حتى يرجع إلينا موسى " فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه ولا عجزنا عنه حين رأيناه وإن لم يكن ربنا فإنا نتبع قول موسى وقالت فرقة هذا عمل الشيطان وليس بربنا ولا نؤمن به ولا نصدق به وأشرب فرقة في قلوبهم التصديق بما قال السامري في العجل وأعلنوا أنا لا نكذب به فقال " لهم هارون " " يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن " ليس هكذا قالوا فما بال موسى وعدنا ثلاثين ليلة ثم أخلفنا فهذه أربعون قد مضت وقال سفاؤهم أخطأ ربه فهو يطلبه ويتبعه فلما كلم الله موسى وقال له ما قال وأخبره بما لقي قومه " فرجع إلى قومه غضبان أسفا " فقال لهم ما سمعتم في القرآن " وأخذ برأس أخيه يجره إليه " " وألقى الألواح " من الغضب ثم إنه عذر أخاه فعذره واستغفر له وانصرف إلى السامري فقال له ما حملك على ما صنعت قال قبضت " قبضة من أثر الرسول " وفطنت لها وعميت عليكم فقذفتها " وكذلك سولت لي نفسي قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى الهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا " ولو كان إلها لم يخلص إلى ذلك منه فاستيقن بنو إسرائيل بالفتنة واغتبط الذين كان رأيهم فيه مثل رأي هارون وقالوا بجماعتهم لموسى سل لنا ربك أن يفتح باب توبة نصنعها ونكفر عنا ما عملنا فاختار " موسى قومه سبعين رجلا " لذلك لا يألو الخير خيار بني إسرائيل ومن لم يشرك في العجل فانطلق بهم ليسأل لهم التوبة فرجفت بهم الأرض فاستحيا نبي الله صلى الله عليه وسلم من قومه ووفده حين فعل بهم ما فعل ف " قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا " وفيهم من كان الله اطلع على ما أشرب في قلبه من حب العجل وإيمانا به فلذلك رجفت بهم الأرض فقال رحمة ربي " وسعت كل شئ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل " فقال يا رب سألتك التوبة لقومي فقلت إن رحمتك كتبتها لقوم غير قومي فليتك أخرتني حتى تخرجني في أمة ذلك الرجل المرحومة فقال الله له إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم كل من لقي من ولد أو والد فيقتله بالسيف لا يبالي من قتل في ذلك الموطن وثاب أولئك الذين كان خفي على موسى وهارون ما اطلع الله عليه من ذنوبهم فاعترفوا بها وفعلوا ما أمروا به فغفر الله للقاتل والمقتول وسار موسى بهم متوجها نحو الأرض المقدسة و " أخذ الألواح " بعد ما سكت عنه الغضب وأمرهم بالذي أمرهم أن يبلغهم من الوظائف فثقل ذلك عليهم وأبوا أن يقروا بها فشق الله عليهم الجبل " كأنه ظلة " ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم فأخذوا الكتاب بأيمانهم وهم مصغون برؤوسهم ينظرون إلى الجبل وإلى الأرض والكتاب بأيديهم وهم ينظرون إلى الجبل مخافة أن يقع عليهم ثم مضوا حتى أتوا الأرض المقدسة فوجدوا مدينة فيها قوم جبارون خلقهم خلقا منكرة ذكر من ثمارهم أمرا عجبا من عظمها فقالوا " يا موسى إن فيها قوما جبارين " لا طاقة لنا بهم ولا " ندخلها أبدا ما داموا فيها " " فإن يخرجوا منها فإنا داخلون قال رجلان من الذين يخافون " من الجبارين آمنا بموسى قال يزيد هكذا قرأ ابن عباس " من الجبارين آمنا بموسى " وخرجا إليه فقالا نحن أعلم بقومنا إن كنتم إنما تخافون ما رأيتم من أجسامهم وعددهم فإنهم لا قلوب لهم ولا منعة عندهم فادخلوا " عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون " ويقول إناس إنهم من قوم موسى وزعم سعيد بن جبير أنهما من الجبارين آمنا ى يقول " من الذين يخافون " إنما أعني بذلك من الذين يخافهم بنو إسرائيل " قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون " فأغضبوا موسى فدعا عليهم فسماهم قوما فاسقين ولم يدع عليهم قبل ذلك لما رأى منهم من المعصية وإساءتهم حتى كان يومئذ فاستجاب الله له وسماهم كما سماهم موسى فاسقين فحرمها " عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض " يصبحون كل يوم فيسيرون ليس لهم قرار ثم ظلل عليهم الغمام في التيه وأنزل عليهم المن والسلوى وجعل لهم ثيابا لا تبلى ولا تتسخ وجعل بين ظهرانيهم حجرا مربعا وأمر موسى فضربه بعصاه فانفجرت منه اثنتي عشرة عينا في كل ناحية ثلاثة أعين وأعلم كل سبط عينهم التي يشربون منها فلا يرتحلون من منقلة إلا وجدوا ذلك الحجر منهم بالمكان الذي كان منه بالأمس رفع ابن عباس هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصدق ذلك عندي أن معاوية سمع ابن عباس حدث هذا الحديث فأنكره عليه أن يكون الفرعوني هو الذي أفشى على موسى أمر القتيل الذي قتل وقال كيف يفشي عليه ولم يكن علم به ولا ظهر عليه إلا الإسرائيلي الذي حضر ذلك وشهده فغضب ابن عباس فأخذ بيد معاوية فانطلق به إلى سعد بن مالك الزهري فقال يا أبا إسحاق هل تذكر يوم حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتيل موسى الذي قتل من آل فرعون الإسرائيلي أفشى عليه أو الفرعوني فقال إنما أفشى عليه الفرعوني ما سمع من الإسرائيلي الذي شهد عليه وحضره