الموسوعة الحديثية


- عن سلمانَ الخيرِ، أنه قال: لمَّا سأل الحواريُّونَ عيسى ابنَ مريمَ عليه السَّلامُ المائدةَ، كرِهَ ذلك جدًّا، وقال: اقنَعوا بما رزقكُمُ اللهُ في الأرضِ، ولا تسألوا المائدةَ مِنَ السَّماءِ؛ فإنها إنْ نزلتْ عليكم كانتْ آيةً من ربِّكم، وإنما هلَكَتْ ثمودُ حينَ سألوا نبيَّهم آيةً؛ فابتُلوا بها حتى كان بَوارُهم فيها، فأبَوْا إلَّا أن يأتيَهم بها؛ فلذلك قالوا: {نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا...} [المائدة: 113] الآيةَ، فلمَّا رأى عيسى عليه السَّلامُ أنْ قد أبَوْا إلَّا أنْ يدعوَ لهم بها، قام فألقى عنه الصُّوفَ، ولبِسَ الشَّعرَ الأسودَ وجُبَّةً من شعرٍ وعَباءةً من شَعرِ، وتوضَّأَ واغتسَلَ ودخل مُصلَّاهُ ، فصلَّى ما شاء اللهُ، فلمَّا قضى صلاتَه قام قائمًا مُستقبِلَ القِبلةِ، وصَفَّ قدمَيْهِ حتى استويتا، فألصَقَ الكعبَ بالكعبِ، وحاذى الأصابعَ، ووضع يدَه اليمنى على اليسرى فوقَ صدرِهِ، وغضَّ بصرَه، وطأطأ رأسَه خشوعًا، ثم أرسل عينَيْهِ بالبكاءِ، فما زالتْ دموعُه تَسيلُ على خدَّيْهِ، وتقطُرُ من أطرافِ لحيتِه، حتى ابتلَّتِ الأرضُ حِيَالِ وجهِهِ؛ من خشوعِهِ، فلمَّا رأى ذلك دعا اللهَ، فقال: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة: 114]؛ فأنزل اللهُ عليهم سُفْرةً حمراءَ بينَ غَمامتَيْنِ؛ غَمامةٍ فوقَها، وغَمامةٍ تحتَها، وهم ينظرونَ إليها في الهواءِ مُنْقَضَّةً من فَلَكِ السَّماءِ تَهْوي إليهم، وعيسى عليه السَّلامُ يبكي؛ خوفًا للشروطِ التي أخذها اللهُ عليهم فيها؛ أنه يُعذِّب مَن يكفُرُ بها منهم بعدَ نزولِها عذابًا لم يُعذِّبْه أحدًا مِنَ العالَمينَ، وهو يدعو اللهَ مِن مكانِه، ويقولُ: اللَّهمَّ اجعلْها رحمةً، إلهي لا تجعلْها عذابًا، إلهي كم مِن عجيبةٍ سألتُكَ فأعطيتَني، إلهي اجعلْنا لك شكَّارينَ، إلهي أعوذُ بك أنْ تكونَ أنزلتَها غضبًا وجزاءً، إلهي اجعلْها سلامةً وعافيةً، ولا تجعلْها فتنةً ومَثُلَةً، فما زال يدعو حتى استقرَّتِ السُّفرةُ بين يدَيْ عيسى عليه السَّلامُ والحواريِّينَ، وأصحابُه حولَه يجدونَ رائحةً طيِّبةً لم يجدوا فيما مضى رائحةً مِثلَها قطُّ، وخرَّ عيسى عليه السَّلامُ والحواريُّونَ للهِ سُجَّدًا؛ شكرًا بما رزقهم مِن حيثُ لم يحتسِبوا، وأراهم فيه آيةً عظيمةً ذاتَ عَجَبٍ وعِبرةٍ، وأقبلتِ اليهودُ ينظرونَ؛ فرأَوْا أمرًا عجيبًا أورثهم كَمَدًا وغمًّا، ثم انصرَفوا بغيظٍ شديدٍ، وأقبل عيسى عليه السَّلامُ والحواريُّونَ وأصحابُه حتى جلَسوا حولَ السُّفرةِ، فإذا عليها مِنديلٌ مُغطًّى، قال عيسى عليه السَّلامُ: مَن أجرؤُنا على كشفِ المِنديلِ عن هذه السُّفرةِ، وأوثقُنا بنفسِه، وأحسنُنا بلاءً عند ربِّه، فَلْيكشِفْ عن هذه الآيةِ حتى نراها ونحمَدَ ربَّنا، ونذكُرَ باسمِه، ونأكُلَ من رزقِه الذي رزقَنا، فقال الحواريُّونَ: يا رُوحَ اللهِ وكلمتَهُ، أنتَ أَوْلانا بذلك، وأحقُّنا بالكشفِ عنها؛ فقام عيسى عليه السَّلامُ واستأنَفَ وضوءًا جديدًا، ثم دخل مُصلَّاهُ ، فصلَّى لذلك رَكَعاتٍ، ثم بكى بكاءً طويلًا، ودعا اللهَ أنْ يأذَنَ له في الكشفِ عنها، ويجعلَ له ولقومِه فيها بركةً ورزقًا، ثم انصرَفَ فجلَسَ إلى السُّفرةِ، وتناوَلَ المِنديلَ وقال: بسمِ اللهِ خيرِ الرازقينَ، وكشف عَنِ السُّفرةِ، فإذا هو عليها سمكةٌ ضخمةٌ مشويةٌ ليس عليها بواسيرُ، وليس في جوفِها شوكٌ، يسيلُ السَّمْنُ منها سيلًا قد نُضِّدَ حولَها بُقولٌ من كلِّ صِنفٍ غيرِ الكُرَّاثِ، وعند رأسِها خلٌّ، وعند ذَنَبِها مِلحٌ، وحولَ البُقولِ الخمسةِ أرغِفةٌ على واحد منها زيتونٌ، وعلى الآخَرِ تَمَراتٌ، وعلى الآخَرِ خمسُ رُمَّاناتٍ، فقال شمعونُ رأسُ الحواريِّينَ لعيسى عليه السَّلامُ: يا رُوحَ اللهِ وكلمتَهُ، أمِنْ طعامِ الدُّنيا هذا أم من طعامِ الجنَّةِ، فقال: أَمَا آنَ لكم أنْ تَعتبِروا بما تَرَوْنَ مِنَ الآياتِ ، وتنتهوا عن تنقيرِ المسائلِ؟ ما أخوَفَني عليكم أن تُعاقَبوا في سببِ هذه الآيةِ، فقال شمعونُ: وإلهِ إسرائيلَ، ما أردتُ بها سؤالًا يا بنَ الصِّدِّيقةِ، فقال عيسى عليه السَّلامُ: ليس شيءٌ ممَّا ترَوْنَ مِن طعامِ الجنَّةِ ولا مِن طعامِ الدُّنيا، إنما هو شيءٌ ابتدَعه اللهُ في الهواءِ بالقدرةِ العاليةِ القاهرةِ، فقال له: كُنْ؛ فكان أسرعَ من طَرْفةِ عينٍ، فكُلوا ممَّا سألتُمُ اللهَ واحمَدوا عليه ربَّكم يُمِدَّكم منه ويَزِدْكم؛ فإنه بديعٌ قادرٌ شاكرٌ، فقالوا: يا رُوحَ اللهِ وكلمتَهُ، إنَّا نُحِبُّ أنْ تُرِيَنا آيةً في هذه الآيةِ، فقال عيسى عليه السَّلامُ: سُبحانَ اللهِ! أَمَا اكتفَيْتُم بما رأيتُم في هذه الآيةِ حتى تسألوا فيها آيةً أخرى؟! ثم أقبل عيسى عليه السَّلامُ على السَّمكةِ، فقال: يا سمكةُ، عودي بإذنِ اللهِ حيَّةً كما كنتِ؛ فأحياها اللهُ بقدرتِهِ، فاضطربتْ وعادتْ بإذنِ اللهِ حيَّةً طريَّةً تَلَمَّظَ كما يتلمَّظُ الأسدُ، تدورُ عيناها، لها بصيصٌ، وعادتْ عليها بواسيرُها؛ ففزِعَ القومُ منها وانحازوا، فلمَّا رأى عيسى عليه السَّلامُ ذلك منهم قال: ما لكم تسألونَ الآيةَ، فإذا أراكموها ربُّكم كرِهتموها؟! ما أخوَفَني عليكم أنْ تُعاقَبوا بما تصنعونَ! يا سمكةُ، عودي بإذنِ اللهِ كما كنتِ؛ فعادتْ بإذنِ اللهِ مشويَّةً كما كانتْ في خلقِها الأوَّلِ، فقالوا لعيسى عليه السَّلامُ: كُنْ أنتَ يا رُوحَ اللهِ الذي تبدأُ الأكلَ منها، ثم نحنُ بَعدُ، فقال عيسى عليه السَّلامُ: مَعاذَ اللهِ مِن ذلك، يبدأُ بالأكلِ مَن طلَبَها، فلمَّا رأى الحواريُّونَ وأصحابُهم امتناعَ نبيِّهم منها، خافوا أن يكونَ نزولُها سَخْطَةً، وفي أكلِها مَثُلَةً؛ فتحامَوْها، فلمَّا رأى ذلك عيسى عليه السَّلامُ دعا لها الفقراءَ والزَّمْنى، وقال: كُلوا من رزقِ ربِّكم ودعوةِ نبيِّكم، واحمَدوا اللهَ الذي أنزلها لكم؛ فيكون مهنؤُها لكم وعقوبتُها على غيرِكم، وافتتِحوا أكلَكم بسمِ اللهِ، واختِموه بحمدِ اللهِ؛ ففعلوا، فأكَلَ منها ألفٌ وثلاثُمئةِ إنسانٍ بينَ رجلٍ وامرأةٍ يَصدُرونَ عنها كلُّ واحدٍ منهم شبعانُ يتجشَّأُ، ونظَرَ عيسى عليه السَّلامُ والحواريُّونَ، فإذا ما عليها كهيئتِهِ إذْ أُنزِلَتْ مِنَ السَّماءِ، لم يَنْتَقِصْ منها شيءٌ، ثم إنها رُفِعَتْ إلى السَّماءِ وهم ينظرونَ، فاستغنى كلُّ فقيرٍ أكَلَ منها، وبَرِئَ كلُّ زَمِنٍ أكَلَ منها، فلَمْ يزالوا أغنياءَ صِحاحًا حتَّى خرَجوا مِنَ الدُّنيا، وندِمَ الحواريُّونَ وأصحابُهم الذين أبَوْا أن يأكُلوا منها نَدامةً سالتْ منها أشفارُهم، وبَقِيَتْ حسرتُها في قلوبِهم إلى يومِ المماتِ، قال: فكانَتِ المائدةُ إذا نزلتْ بعدَ ذلك أقبلتْ بنو إسرائيلَ إليها مِن كلِّ مكانٍ يسعَوْنَ، يُزاحِمُ بعضُهم بعضًا؛ الأغنياءُ والفقراءُ، والصِّغارُ والكِبارُ والأصِحَّاءُ والمرضى، يركَبُ بعضُهم بعضًا، فلمَّا رأى ذلك جعلها نوائبَ تنزِلُ يوما ولا تنزِلُ يومًا، فلَبِثوا في ذلك أربعينَ يومًا تنزِلُ عليهم غِبًّا عِندَ ارتفاعِ الضُّحى، فلا تزالُ موضوعةً يؤكَلُ منها، حتى إذا قاموا ارتفعتْ عنهم بإذنِ اللهِ إلى جوِّ السماءِ وهم ينظرونَ إلى ظِلِّها في الأرضِ حتى تَوارى عنهم، قال: فأوحى اللهُ إلى نبيِّهِ عيسى عليه السَّلامُ أَنِ اجْعلْ رزقي في المائدةِ لليتامى والفقراءِ والزَّمْنى، دونَ الأغنياءِ مِنَ الناسِ، فلمَّا فعَلَ ذلك ارتابَ بها الأغنياءُ مِنَ الناسِ، وغَمَطوا ذلك، حتَّى شكُّوا فيها في أنفسِهم وشكَّكوا فيها النَّاسَ، وأذاعوا في أمرِها القبيحَ والمنكَرِ، وأدرَكَ الشيطانَ منهم حاجتَهُ، وقذَفَ وَسواسَهُ في قلوبِ المُرتابينَ حتَّى قالوا لعيسى عليه السَّلامُ: أخبِرْنا عَنِ المائدةِ ونزولِها مِنَ السَّماءِ أحقٌّ؟ فإنه قَدِ ارتابَ بها بشَرٌ مِنَّا كثيرٌ، فقال عيسى عليه السَّلامُ: هلَكْتُم وإلهِ المسيحِ، طلبتُمُ المائدةَ إلى نبيِّكم أنْ يطلُبَها لكم إلى ربِّكم، فلمَّا أنْ فعَلَ وأنزلَها عليكم رحمةً ورزقًا، وأراكم فيها الآياتِ والعِبَرَ كذَّبْتم بها وشكَّكْتم فيها؛ فأَبشِروا بالعذابِ، فإنه نازلٌ بكم إلَّا أنْ يرحمَكُمُ اللهُ، وأوحى اللهُ إلى عيسى عليه السَّلامُ: إني آخِذُ المُكذِّبينَ بشرطي، فإني مُعذِّبٌ منهم مَن كفَرَ بالمائدةِ بعدَ نُزولِها عذابًا لا أُعذِّبُه أحدًا مِنَ العالَمينَ، قال: فلمَّا أمسى المُرتابونَ بها، وأخذوا مَضاجِعَهم في أحسنِ صورةٍ مع نسائِهم آمِنينَ، فلما كان في آخِرِ اللَّيلِ مسَخَهُمُ اللهُ خنازيرَ؛ فأصبَحوا يتَّبِعونَ الأقذارَ في الكُناساتِ.
خلاصة حكم المحدث : غريب جدا
الراوي : عبدالرحمن بن مل النهدي أبو عثمان | المحدث : ابن كثير | المصدر : تفسير القرآن العظيم الصفحة أو الرقم : 3/223
التخريج : أخرجه الحكيم الترمذي في ((نوادر الأصول)) (142) بنحوه، ابن أبي حاتم في ((التفسير)) (7017) مختصرا ببعضه.
التصنيف الموضوعي: أدعية وأذكار - أذكار الطعام أطعمة - ما جاء في المائدة أنبياء - عيسى تفسير آيات - سورة المائدة فضائل النبي وصفته ودلائل النبوة - معجزات النبي
| أحاديث مشابهة |أصول الحديث

أصول الحديث:


تفسير ابن كثير (معتمد)
(3/ 228) وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا جعفر بن علي فيما كتب إلي، حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، حدثني أبو عبد الله عبد القدوس بن إبراهيم بن عبيد الله بن مرداس العبدري -مولى بني عبد الدار-عن إبراهيم بن عمر، عن وهب بن منبه، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان الخير، أنه قال: لما سأل الحواريون عيسى ابن مريم المائدة، كره ذلك جدا، وقال: اقنعوا بما رزقكم الله في الأرض، ولا تسألوا المائدة من السماء؛ فإنها إن نزلت عليكم كانت آية من ربكم، وإنما هلكت ثمود حين سألوا نبيهم آية فابتلوا بها حتى كان بوارهم فيها، فأبوا إلا أن يأتيهم بها؛ فلذلك قالوا: {قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا} [المائدة: 113] الآية. فلما رأى عيسى أن قد أبوا إلا أن يدعو لهم بها، قام فألقى عنه الصوف، ولبس الشعر الأسود وجبة من شعر وعباءة من شعر، وتوضأ واغتسل، ودخل مصلاه، فصلى ما شاء الله، فلما قضى صلاته قام قائما مستقبل القبلة، وصف قدميه حتى استويا، فألصق الكعب بالكعب، وحاذى الأصابع، ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره، وغض بصره، وطأطأ رأسه خشوعا، ثم أرسل عينيه بالبكاء، فما زالت دموعه تسيل على خديه وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض حيال وجهه من خشوعه، فلما رأى ذلك دعا الله، فقال: {اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء} [المائدة: 114]. فأنزل الله عليهم سفرة حمراء بين غمامتين، غمامة فوقها، وغمامة تحتها، وهم ينظرون إليها في الهواء منقضة من فلك السماء تهوي إليهم، وعيسى يبكي خوفا للشروط التي أخذها الله عليهم فيها أنه يعذب من يكفر بها منهم بعد نزولها عذابا لم يعذبه أحدا من العالمين، وهو يدعو الله من مكانه، ويقول: اللهم اجعلها رحمة، إلهي لا تجعلها عذابا، إلهي كم من عجيبة سألتك فأعطيتني، إلهي اجعلنا لك شكارين، إلهي أعوذ بك أن تكون أنزلتها غضبا وجزاء، إلهي اجعلها سلامة وعافية، ولا تجعلها فتنة ومثلة. فما زال يدعو حتى استقرت السفرة بين يدي عيسى والحواريين، وأصحابه حوله يجدون رائحة طيبة لم يجدوا فيما مضى رائحة مثلها قط، وخر عيسى والحواريون لله سجدا شكرا بما رزقهم من حيث لم يحتسبوا، وأراهم فيه آية عظيمة ذات عجب وعبرة، وأقبلت اليهود ينظرون، فرأوا أمرا عجيبا أورثهم كمدا وغما، ثم انصرفوا بغيظ شديد، وأقبل عيسى والحواريون وأصحابه حتى جلسوا حول السفرة، فإذا عليها منديل مغطى، قال عيسى: من أجرؤنا على كشف المنديل عن هذه السفرة وأوثقنا بنفسه وأحسننا بلاء عند ربه فليكشف عن هذه الآية حتى نراها ونحمد ربنا ونذكر باسمه ونأكل من رزقه الذي رزقنا؟ فقال الحواريون: يا روح الله وكلمته، أنت أولانا بذلك وأحقنا بالكشف عنها. فقام عيسى عليه السلام واستأنف وضوءا جديدا، ثم دخل مصلاه فصلى كذلك ركعات، ثم بكى بكاء طويلا، ودعا الله أن يأذن له في الكشف عنها، ويجعل له ولقومه فيها بركة ورزقا، ثم انصرف فجلس إلى السفرة، وتناول المنديل، وقال: باسم الله خير الرازقين، وكشف عن السفرة، فإذا عليها سمكة ضخمة مشوية ليس عليها بواسير، وليس في جوفها شوك، يسيل السمن منها سيلا، قد نضد حولها بقول من كل صنف غير الكراث، وعند رأسها خل، وعند ذنبها ملح، وحول البقول الخمسة أرغفة، على واحد منها زيتون، وعلى الآخر ثمرات، وعلى الآخر خمس رمانات. فقال شمعون رأس الحواريين لعيسى: يا روح الله وكلمته، أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الجنة؟ فقال: أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الآيات وتنتهوا عن تنقير المسائل؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا في سبب هذه الآية. فقال شمعون: وإله إسرائيل، ما أردت بها سؤالا يا ابن الصديقة. فقال عيسى عليه السلام: ليس شيء مما ترون من طعام الجنة ولا من طعام الدنيا؛ إنما هو شيء ابتدعه الله في الهواء بالقدرة العالية القاهرة، فقال له: كن، فكان أسرع من طرفة عين، فكلوا مما سألتم الله، واحمدوا عليه ربكم، يمدكم منه ويزدكم؛ فإنه بديع قادر شاكر. فقالوا: يا روح الله وكلمته، إنا نحب أن ترينا آية في هذه الآية، فقال عيسى: سبحان الله! أما اكتفيتم بما رأيتم في هذه الآية حتى تسألوا فيها آية أخرى؟! ثم أقبل عيسى عليه السلام على السمكة، فقال: يا سمكة، عودي بإذن الله حية كما كنت، فأحياها الله بقدرته، فاضطربت وعادت بإذن الله حية طرية تلمظ كما يتلمظ الأسد، تدور عيناها، لها بصيص، وعادت عليها بواسيرها، ففزع القوم منها وانحازوا، فلما رأى عيسى ذلك منهم قال: ما لكم تسألون الآية، فإذا أراكموها ربكم كرهتموها؟! ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا بما تصنعون! يا سمكة عودي بإذن الله كما كنت. فعادت بإذن الله مشوية كما كانت في خلقها الأول. فقالوا لعيسى: كن أنت يا روح الله الذي تبدأ الأكل منها، ثم نحن بعد. فقال عيسى: معاذ الله من ذلك، يبدأ بالأكل من طلبها. فلما رأى الحواريون وأصحابهم امتناع نبيهم منها خافوا أن يكون نزولها سخطة، وفي أكلها مثلة، فتحاموها. فلما رأى ذلك عيسى دعا لها الفقراء والزمنى، وقال: كلوا من رزق ربكم، ودعوة نبيكم، واحمدوا الله الذي أنزلها لكم؛ فيكون مهنؤها لكم وعقوبتها على غيركم، وافتتحوا أكلكم باسم الله، واختموه بحمد الله. ففعلوا، فأكل منها ألف وثلاث مئة إنسان، بين رجل وامرأة، يصدرون عنها كل واحد منهم شبعان يتجشأ. ونظر عيسى والحواريون فإذا ما عليها كهيئته إذ أنزلت من السماء لم ينتقص منها شيء. ثم إنها رفعت إلى السماء وهم ينظرون، فاستغنى كل فقير أكل منها، وبرئ كل زمن أكل منها، فلم يزالوا أغنياء صحاحا حتى خرجوا من الدنيا، وندم الحواريون وأصحابهم الذين أبوا أن يأكلوا منها ندامة سالت منها أشفارهم، وبقيت حسرتها في قلوبهم إلى يوم الممات. قال: فكانت المائدة إذا نزلت بعد ذلك أقبلت بنو إسرائيل إليها من كل مكان يسعون، يزاحم بعضهم بعضا، الأغنياء والفقراء، والصغار والكبار، والأصحاء والمرضى، يركب بعضهم بعضا. فلما رأى ذلك جعلها نوائب، تنزل يوما ولا تنزل يوما، فلبثوا في ذلك أربعين يوما تنزل عليهم غبا عند ارتفاع الضحى، فلا تزال موضوعة يؤكل منها، حتى إذا قاموا ارتفعت عنهم بإذن الله إلى جو السماء وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض حتى توارى عنهم. قال: فأوحى الله إلى نبيه عيسى عليه السلام: أن اجعل رزقي المائدة لليتامى والفقراء والزمنى دون الأغنياء من الناس. فلما فعل ذلك ارتاب بها الأغنياء من الناس، وغمطوا ذلك، حتى شكوا فيها في أنفسهم، وشككوا فيها الناس، وأذاعوا في أمرها القبيح والمنكر، وأدرك الشيطان منهم حاجته، وقذف وسواسه في قلوب المرتابين، حتى قالوا لعيسى: أخبرنا عن المائدة ونزولها من السماء، أحق؟ فإنه قد ارتاب بها بشر منا كثير. فقال عيسى عليه السلام: هلكتم وإله المسيح، طلبتم المائدة إلى نبيكم أن يطلبها لكم إلى ربكم، فلما أن فعل وأنزلها عليكم رحمة ورزقا، وأراكم فيها الآيات والعبر، كذبتم بها، وشككتم فيها! فأبشروا بالعذاب، فإنه نازل بكم إلا أن يرحمكم الله. وأوحى الله إلى عيسى: إني آخذ المكذبين بشرطي، فإني معذب منهم من كفر بالمائدة بعد نزولها عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين. قال: فلما أمسى المرتابون بها، وأخذوا مضاجعهم في أحسن صورة مع نسائهم آمنين، فلما كان في آخر الليل مسخهم الله خنازير، فأصبحوا يتبعون الأقذار في الكناسات.

نوادر الأصول للحكيم الترمذي (معتمد)
(1/ 221) ثنا بذلك: عمر بن أبي عمر، حدثنا عمار ابن هارون الثقفي، عن زكريا بن حكيم الحنظلي، عن علي ابن زيد بن جدعان، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي رضي الله عنه، قال: لما سألت الحواريون عيسى بن مريم -صلوات الله عليه- المائدة، قال: فوضع لباس الصوف، ولبس ثياب المسوح، وهو سربال من مسوح أسود، ولحاف أسود، فقام فألزق القدم بالقدم، وألزق العقب بالعقب، والإبهام بالإبهام، ووضع يده اليمنى على اليسرى، ثم طأطأ رأسه خاشعا لله، ثم أرسل عينيه يبكي، حتى جرى على لحيته، وجعل يقطر على صدره، ثم قال: {اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين}، قال الله: {إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين}. فنزلت سفرة حمراء مدورة بين غمامتين، غمامة من فوقها، والأخرى من تحتها، والناس ينظرون إليها، فقال عيسى عليه السلام: اللهم اجعلها رحمة، ولا تجعلها فتنة، إلهي أسألك من العجائب فتعطيني، فهبطت بين يدي عيسى عليه السلام، وعليها منديل مغطى، فخر عيسى ساجدا، والحواريون معه، وهم يجدون لها رائحة طيبة لم يكونوا يجدون قبل ذلك، فقال عيسى عليه السلام: أيكم أعبد لله عز وجل، وأجرأ على الله، وأوثق بالله، فليكشف عن هذه السفرة حتى نأكل منها، ونذكر اسم الله عليها، ونحمد الله عليها، فقال الحواريون: يا روح الله! أنت أحق بذلك، فقام عيسى -عليه الصلاة والسلام-، فكشف عنها، فإذا عليها سمكة مشوية ليس فيها شوك، يسيل سيلان الدسم، وقد نضد حولها من كل البقول ما خلا الكراث، وعند رأسها ملح وخل، وعند ذنبها خمسة أرغفة، على واحد منها خمس رمانات، وعلى الآخر تمرات، وعلى الآخر زيتون، فبلغ ذلك اليهود، فجاءوا غما وكمدا ينظرون إليه، فرأوا عجبا، فقال شمعون، وهو رأس الحواريين: يا روح الله! أمن طعام الدنيا، أم من طعام الجنة؟! فقال عيسى: أما افترقتم بعد عن هذه المسائل؟ ما أخوفني أن تعذبوا! قال شمعون: وإله إسرائيل! ما أردت بذلك سوءا، فقالوا: يا روح الله! لو كان مع هذه الآية آية أخرى؟ فقال عيسى عليه السلام: يا سمكة! احيي بإذن الله، فاضطربت السمكة طربا تبصبص عيناها، ففزع الحواريون، فقال عيسى: ما لي أراكم تسألون عن الشيء، فإذا أعطيتموه كرهتموه؟! ما أخوفني أن تعذبوا وقال: لقد نزلت من السماء، وما عليها طعام من الدنيا، ولا طعام من الجنة، ولكنه شيء ابتدعه الله عز وجل بالقدرة البالغة، فقال لها: كوني، فكانت. فقال عيسى: يا سمكة! عودي كما كنت، فعادت مشوبة كما كانت. فقال الحواريون: يا روح الله! كن أول من يأكل منها. فقال عيسى عليه السلام: معاذ الله! إنما يأكل منها من طلبها وسألها، فأبت الحواريون أن يأكلوا منها خشية أن تكون مثلة وفتنة، فلما رأى عيسى ذلك، دعا عليها الفقراء والمساكين، والمرضى والزمنى، والمجذومين والمقعدين والعميان، وأهل الماء الأصفر. فقال: كلوا من رزق ربكم، ودعوة نبيكم، واحمدوا الله عليه، وقال: يكون المهنأ لكم، والعذاب على غيركم، فأكلوا حتى صدروا عن شبع ألف وثلاث مئة يتجشؤون، فبرئ كل سقيم أكل منه، واستغنى كل فقير حتى الممات، فلما رأى ذلك الناس، ازدحموا عليه، فلم يبق صغير ولا كبير، ولا شيخ ولا شاب، ولا غني ولا فقير، إلا جاؤوا يأكلون منه، فضغط بعضهم بعضا. فلما رأى ذلك عيسى عليه السلام، جعلها نوائب بينهم، فكانت تنزل عليهم يوما، ولا تنزل يوما؛ كناقة ثمود، ترعى يوما، وتشرب يوما، فنزلت أربعين يوما، تنزل ضحى، فلا تزال هكذا حتى يفيء الفيء موضعه، فيأكل الناس منها حتى ترجع إلى السماء، والناس ينظرون إليها حتى توارى عنهم، فلما تم أربعون يوما، أوحى الله إلى عيسى عليه السلام: يا عيسى! اجعل مائدتي هذه للفقراء دون الأغنياء، فتمارى الأغنياء في ذلك، وعادوا الفقراء، وشكوا، وشككوا الناس. فقال الله: يا عيسى! إني آخذ بشرطي، فأصبح منهم ثلاثة وثلاثون خنزيرا يأكلون العذرة، يطلبونها في الأكناف بعد ما كانوا يأكلون الطعام الطيب، وينامون على الفرش اللينة، فلما رأى الناس ذلك، اجتمعوا حول عيسى عليه السلام، وجاءت الخنازير جثوا على ركبهم قدام عيسى، فجعلوا يبكون، والدموع تقطر منهم، فعرفهم عيسى، فجعل يقول: ألست بفلان؟ فيومئ برأسه، ولا يستطيع الكلام، فلبثوا كذلك سبعة أيام، ومنهم من يقول: أربعة أيام، ثم دعا الله أن يقبض أرواحهم، فأصبحوا لا يدرى كيف ذهبوا، الأرض ابتلعتهم، أو ما صنعوا!؟.

تفسير ابن أبي حاتم، الأصيل - مخرجا (4/ 1244)
7017 - أخبرنا جعفر بن علي المعروف بأبي الحواري , فيما كتب إلي , ثنا إسماعيل بن أبي أويس , حدثني أبو عبد الله عبد القدوس بن إبراهيم بن عبيد الله بن مرداس العبدري مولى بني عبد الدار الصنعاني , عن إبراهيم بن عمر , عن وهب بن منبه , عن أبي عثمان النهدي , عن سلمان الخير أنه قال: لما سأل الحواريون عيسى ابن مريم المائدة من السماء فإنها نزلت عليكم كانت آية من ربكم , وإنما هلكت ثمود حين سألوا نبيهم آية فابتلوا بها حتى كان بوارهم فيها , فأبوا إلا أن يأتيهم بها فلذلك قالوا: {نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين} [المائدة: 113]