الموسوعة الحديثية


- أنها لما فَطمتْ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ تكلَّم، قالت : سمعتُه يقول كلامًا عجيبًا : سمعتُه يقول : اللهُ أكبرُ كبيرًا، والحمدُ للهِ كثيرًا, وسبحانَ اللهِ بكرةً وأصيلًا ، فلما ترعرعَ كان يخرجُ فينظرُ إلى الصِّبيانِ يلعبون فيَجتنبُهم، فقال لي يومًا من الأيامِ : يا أُمَّاهُ ! ما لي لا أرى إخوتي بالنَّهارِ ؟ قلتُ : فدَتكَ نفسي، يرعَونَ غنمًا لنا فيروحون من ليلٍ إلى ليلٍ. فأسبل عينَيه فبكى، فقال : يا أُمَّاهُ ! فما أصنع هاهنا وحدي ؟ ابعثِيني معهم. قلتُ : أوَ تُحبُّ ذلك ؟ قال : نعم. قالت : فلما دهنَتْهُ، وكحَّلتهُ، وقمَّصتْهُ، وعمدتْ إلى خرزةِ جزعٍ يمانيَّةٍ فعُلِّقتْ في عُنُقهِ من العينِ. وأخذ عصا وخرج مع إخوتِه، فكان يخرجُ مسرورًا ويرجع مسرورًا، فلما كان يومًا من ذلك خرجوا يرعَون بهما لنا حول بيوتِنا، فلما انتصف النهارُ إذا أنا بابني ضمرةَ يعدو فزِعًا، وجبينُه يرشحُ قد علاه البهرُ باكيًا ينادي : يا أبتِ يا أبهْ ويا أمَّه ! الْحقَا أخي محمدًا، فما تلحقاه إلا ميتًا. قلتُ : وما قصتُه ؟ قال : بينا نحنُ قيامٌ نترامَى ونلعبُ، إذ أتاه رجلٌ فاختطفَه من أوساطِنا، وعلا به ذروةِ الجبلِ ونحن ننظر إليه حتى شقَّ من صدرِه إلى عانتِه، ولا أدري ما فعل به، ولا أظنُّكما تَلحقاهُ أبدًا إلا ميتًا. قالت : فأقبلتُ أنا وأبوه - تعني زوجَها - نسعى سعيًا، فإذا نحن به قاعدًا على ذروةِ الجبلِ، شاخصًا ببصرِه إلى السماءِ، يتبسَّمُ ويضحكُ، فأكببتُ عليه، وقبَّلتُ بين عينَيه، وقلتُ : فدَتْك نفسِي، ما الذي دهاك ؟ قال : خيرًا يا أُمَّاه، بينا أنا الساعةُ قائمٌ على إخوتي، إذ أتاني رهطٌ ثلاثةٌ، بيدِ أحدِهم إبريقُ فضةٍ، وفي يدِ الثاني طَستٌ من زُمُرُّدةٍ خضراءَ ملؤُها ثلجٌ، فأخذوني، فانطلقوا بي إلى ذروةِ الجبلِ، فأضجعوني على الجبلِ إضجاعًا لطيفًا، ثم شقَّ من صدري إلى عانَتي وأنا أنظر إليه، فلم أجد لذلك حسًّا ولا ألمًا، ثم أدخل يدَه في جوفي، فأخرج أحشاءَ بطني، فغسلها بذلك الثلجِ فأنعم غسلَها، ثم أعادها، وقام الثاني فقال للأولِ : تنَحَّ، فقد أنجزتَ ما أمرك اللهِ به، فدنا مني، فأدخل يدَه في جوفي، فانتزع قلبي وشقَّه، فأخرج منه نُكتةً سوداءَ مملوءةً بالدَّمِ، فرمى بها، فقال : هذه حظُّ الشيطانِ منك يا حبيبَ اللهِ، ثم حشاه بشيءٍ كان معه، وردَّه مكانَه، ثم ختمه بخاتمٍ من نورٍ، فأنا الساعةُ أجدُ بردَ الخاتَمِ في عُروقي ومفاصلي، وقام الثالثُ فقال : تَنَحَّيَا، فقد أنجزتُما ما أمرَ اللهُ فيه، ثم دنا الثالثُ منِّي، فأمرَّ يدَه ما بين مَفرقِ صدري إلى منتهى عانتي، قال الملَكُ : زِنوهُ بعشرةٍ من أمته، فوزنوني فرجحتُهم، ثم قال : دعوه، فلو وزنتُموه بأُمَّته كلِّها لرجح بهم، ثم أخذ بيدي فأنهضَني إنهاضًا لطيفًا، فأكبُّوا عليَّ، وقبَّلوا رأسي وما بين عيني، وقالوا : يا حبيبَ اللهِ، إنك لن تُراعَ، ولو تدري ما يراد بك من الخيرِ لقَرَّتْ عيناك، وتركوني قاعدًا في مكاني هذا، ثم جعلوا يطيرون حتى دخلوا حيالَ السَّماءِ، وأنا أنظرُ إليهما، ولو شئتُ لأَرَيتُك موضعَ دخولِهما. قالت : فاحتملتُه فأتيتُ به منزلًا من منازِل بني سعدِ بنِ بكرٍ، فقال لي الناسُ : اذهبي به إلى الكاهنِ حتى ينظرَ إليه ويداويه. فقال : ما بي شيءٌ مما تذكرون، وإني أرى نفسي سليمةً، وفؤادي صحيحٌ بحمد اللهِ، فقال الناسُ : أصابه لمَمٌ أو طائفٌ من الجنِّ. قالت : فغلبوني على رأيي، فانطلقتُ به إلى الكاهنِ ، فقصصتُ عليه القصةَ، قال : دَعيني أنا أسمعُ منه، فإنَّ الغلامَ أبصرُ بأمره منكم، تكلَّمْ يا غلامُ ؟ قالت حليمةُ : فقصَّ ابني محمدٌ قصَّتَه ما بين أولِها إلى آخرِها، فوثب الكاهنُ قائمًا على قدمَيه، فضمَّهُ إلى صدرهِ، ونادى بأعلى صوتِه، يا آلَ العربِ ! يا آلَ العربِ ! مِن شرٍّ قدِ اقتربَ، اقتلُوا هذا الغلامَ واقتُلوني معه، فإنكم إن تركتُموه وأدرك مدركَ الرِّجالِ لَيُسفِّهنَّ أحلامَكم، ولَيُكذِّبنَّ أديانَكم، ولَيَدعُونَّكم إلى ربٍّ لا تعرفونه، ودينٍ تنكرونه. قالتْ : فلما سمعتُ مقالَتَه انتزَعتُه من يدِه، وقلتُ : لأنتَ أعتَهُ منه وأجنُّ، ولو علمتُ أنَّ هذا يكونُ من قولِك ما أتيتُك به، اطلُبْ لنفسك مَن يقتُلك، فإنا لا نقتلُ محمدًا. فاحتمَلْتُه فأتيتُ به منزلي، فما أتيتُ – يعلم اللهُ - منزلًا من منازلِ بني سعدِ بنِ بكرٍ إلا وقد شمَمْنا منه ريحَ المسكِ الأذفرِ ، وكان في كلِّ يومٍ ينزل عليه رجلانِ أبيضانِ، فيَغيبان في ثيابهِ ولايظهرانِ. فقال الناسُ : رُدِّيهِ يا حليمةُ على جَدِّه عبدِ المطلبِ، وأَخرجيه من أَمانتِكِ. قالت : فعزمْتُ على ذلك، فسمعتُ مُناديًا يُنادي : هنيئًا لكِ يا بطحاءَ مكةَ ، اليومَ يردُ عليكِ النورُ، والدينُ، والبهاءُ، والكمالُ، فقد أمنتِ أن تُخذَلينَ أو تَحزنين أبدَ الآبدين ودهرَ الداهرينَ. قالت : فركبتُ أَتاني، وحملتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بين يديَّ، أسيرُ حتى أتيتُ البابَ الأعظمَ من أبواب مكةَ وعليه جماعةٌ، فوضعتُه لأقضي حاجةً وأُصلِحُ شأني، فسمعتُ هَدَّةً شديدةً، فالتفتُّ فلم أرَهُ، فقلتُ : معاشرَ الناسِ ! أين الصبيُّ ؟ قالوا : أيُّ الصِّبيانِ ؟ قلتُ : محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ المطلبِ، الذي نضَّر الله به وجهي، وأغنى عَيلَتي، وأشبع جَوْعَتي، ربَّيتُه حتى إذا أدركتُ به سروري وأملي أتيتُ به أَرُدهُ وأخرجُ من أمانتي، فاختُلِسَ من يدي من غير أن تمسَّ قدمَيه الأرضُ، واللاتِ والعُزَّى لئن لم أره لأرميَنَّ بنفسي من شاهقِ هذا الجبلِ، ولأَتقطَّعنَّ إرْبًا إرْبًا. فقال الناسُ : إنا لنراكِ غائبةً عن الركبانِ ، ما معكِ محمدٌ. قالت : قلتُ : الساعةَ كان بين أيديكم. قالوا : ما رأينا شيئًا. فلما آيَسوني وضعتُ يدي على رأسي فقلتُ : وامحمداهْ ! واولداهْ ! أبكيتُ الجواري الأبكارَ لبكائي، وضجَّ الناسُ معي بالبكاء حُرقةً لي، فإذا أنا بشيخٍ كالفاني مُتوكِّئًا على عُكَّازٍ له. قالت : فقال لي : مالي أراكَ أيها السَّعديَّةُ تبكينَ وتَضجِّينَ ؟ قالت : فقلتُ : فقدتُ ابني محمدًا. قال : لا تَبكيَنَّ، أنا أدُلكِ على من يعلمُ علمَه، وإن شاء أن يردَّهُ عليك فعل. قالت : قلتُ : دُلَّني عليه. قال : الصنمُ الأعظمُ. قالتْ : ثكلتْك أُمُّكَ ! كأنك لم ترَ ما نزل باللاتِ والعزَّى في الليلةِ التي وُلِدَ فيها محمدٌ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ؟ قال : إنك لتَهذِينَ ولا تدرينَ ما تقولينَ؛ أنا أدخل عليه وأسألُه أن يردَّه عليكِ. قالت حليمةُ : فدخل وأنا أنظرُ، فطاف بهُبلَ أسبوعًا وقبَّل رأسه، ونادى : يا سيِّداهُ، لم تزلْ مُنعِمًا على قريشٍ، وهذه السَّعدية تزعمُ أنَّ محمدًا قد ضلَّ. قال : فانكبَّ هُبلُ على وجههِ، فتساقطتِ الأصنامَ بعضُها على بعضٍ، ونطقتْ – أو نطقَ منها - وقالت : إليكَ عنا أيها الشَّيخُ، إنما هلاكُنا على يدي محمدٍ. قالتْ : فأقبل الشيخُ لأسنانِه اصتكاكٌ، ولركبتَيه ارتعادٌ، وقد ألقى عُكَّازَه من يدهِ وهو يبكي ويقول : يا حليمةُ لا تبكي، فإنَّ لابنِك ربًّا لا يُضيِّعُه، فاطلبيه على مهلٍ. قالت : فخِفتُ أن يبلغَ الخبرُ عبدَ المطلبِ قَبلي، فقصدتُ قصدَه، فلما نظر إليَّ قال : أسعدٌ نزل بكِ أم نحوسٌ ؟ قالت : قلتُ : بل نحسُ الأكبرِ. ففهمَها منِّي، وقال : لعل ابنَك قد ضلَّ منك ؟ قالت : قلتُ : نعم، بعضُ قريشٍ اغتالَه فقتله، فسلَّ عبدُ المطلبِ سيفَه وغضب - وكان إذا غضب لم يثبتْ له أحدٌ من شدَّةِ غضبِه - فنادى بأعلى صوتِه : يا يسيلُ - وكانت دعوتُهم في الجاهليةِ - قال : فأجابتهُ قريشٌ بأجمَعِها، فقالت : ما قصتُك يا أبا الحارثِ ؟ فقال : فُقِدَ ابني محمدٌ. فقالت قريشٌ : اركب نركبْ معك، فإن سبقتَ خيلًا سبقْنا معك، وإن خُضتَ بحرًا خُضنا معك، قال : فركب وركبت معه قريشٌ، فأخذ على أعلى مكةَ، وانحدر على أسفلِها. فلما أن لم يرَ شيئًا ترك الناسَ واتَّشح بثوبٍ، وارتدى بآخرَ، وأقبل إلى البيتِ الحرامِ فطاف أسبوعًا، ثم أنشأ يقول : يا ربِّ إنَّ محمدًا، لم يُوجدْ فجميع قومي كلهم مُتردِّدُ، فسمعْنا مناديًا ينادي من جوِّ الهواءِ : معاشرَ القومِ ! لا تصيحُوا، فإنَّ لمحمدٍ ربًّا لا يخذلُه ولا يضيِّعُه. فقال عبدُ المطَّلبِ : يا أيها الهاتفُ ! من لنا به ؟ قالوا : بوادي تِهامةَ عند شجرةِ اليُمنى. فأقبل عبدُ المطلبِ، فلما صار في بعض الطريقِ تلقَّاه ورقةُ بنُ نوفلٍ، فصارا جميعًا يسيران، فبينما هم كذلك إذا النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ قائمٌ تحت شجرةٍ يجذبُ أغصانَها، ويعبثُ بالورقِ، فقال عبدُ المطلبِ : من أنت يا غلامُ ؟ فقال : أنا محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ المطلبِ. قال عبدُ المطلبِ : فدَتْك نفسي، وأنا جدُّك عبدُ المطلبِ، ثم احتملهُ وعانقَه، ولثَمه وضمَّه إلى صدرهِ وجعل يبكي، ثم حمله على قَرَبوسِ سرجهِ، وردَّه إلى مكةَ، فاطمأنت قريشٌ، فلما اطمأن الناسُ نحر عبدُ المطلبِ عشرين جزورًا، وذبح الشاءَ والبقرَ، وجعل طعامًا وأطعم أهلَ مكةَ. قالت حليمةُ : ثم جهَّزني عبدُ المطلبِ بأحسن الجهازِ وصرَفني، فانصرفتُ إلى منزلي وأنا بكلِّ خيرِ دنيا، لا أحسنُ وصفَ كُنهِ خيري، وصار محمدٌ عند جدِّه. قالت حليمةُ : وحدَّثتُ عبدَ المطلبِ بحديثه كلِّه، فضمَّه إلى صدره وبكى، وقال : يا حليمةُ ! إنَّ لابني شأنًا، وَدِدْتُ أني أدركُ ذلك الزمانَ
خلاصة حكم المحدث : [فيه] محمد بن زكريا متهم بالوضع
الراوي : حليمة بنت أبي ذؤيب | المحدث : البيهقي | المصدر : دلائل النبوة الصفحة أو الرقم : 1/139
التخريج : أخرجه أبو الحسن بن صخر في ((حديث حليمة السعدية)) (ص: 2)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (3/ 473) كلاهما بلفظه.
التصنيف الموضوعي: أدعية وأذكار - فضل الذكر أدعية وأذكار - فضل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فضائل النبي وصفته ودلائل النبوة - أخبار النبي قبل بعثته فضائل النبي وصفته ودلائل النبوة - علامات النبوة فضائل النبي وصفته ودلائل النبوة - معجزات النبي
| أحاديث مشابهة |أصول الحديث

أصول الحديث:


دلائل النبوة للبيهقي (1/ 139)
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن يوسف العماني، قال: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، حدثنا يعقوب بن جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، قال: حدثني أبي، عن أبيه، سليمان بن علي، عن أبيه علي بن عبد الله بن عباس، عن عبد الله بن عباس، قال: " كانت حليمة بنت أبي ذؤيب التي أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، تحدث أنها لما فطمت رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم ، قالت : سمعته يقول كلاما عجيبا : سمعته يقول : الله أكبر كبيرا ، والحمد لله كثيرا, وسبحان الله بكرة وأصيلا ، فلما ترعرع كان يخرج فينظر إلى الصبيان يلعبون فيجتنبهم ، فقال لي يوما من الأيام : يا أماه ! ما لي لا أرى إخوتي بالنهار ؟ قلت : فدتك نفسي ، يرعون غنما لنا فيروحون من ليل إلى ليل . فأسبل عينيه فبكى ، فقال : يا أماه ! فما أصنع هاهنا وحدي ؟ ابعثيني معهم . قلت : أو تحب ذلك ؟ قال : نعم . قالت : فلما دهنته ، وكحلته ، وقمصته ، وعمدت إلى خرزة جزع يمانية فعلقت في عنقه من العين . وأخذ عصا وخرج مع إخوته ، فكان يخرج مسرورا ويرجع مسرورا ، فلما كان يوما من ذلك خرجوا يرعون بهما لنا حول بيوتنا ، فلما انتصف النهار إذا أنا بابني ضمرة يعدو فزعا ، وجبينه يرشح قد علاه البهر باكيا ينادي : يا أبت يا أبه ويا أمه ! الحقا أخي محمدا ، فما تلحقاه إلا ميتا . قلت : وما قصته ؟ قال : بينا نحن قيام نترامى ونلعب ، إذ أتاه رجل فاختطفه من أوساطنا ، وعلا به ذروة الجبل ونحن ننظر إليه حتى شق من صدره إلى عانته ، ولا أدري ما فعل به ، ولا أظنكما تلحقاه أبدا إلا ميتا . قالت : فأقبلت أنا وأبوه - تعني زوجها - نسعى سعيا ، فإذا نحن به قاعدا على ذروة الجبل ، شاخصا ببصره إلى السماء ، يتبسم ويضحك ، فأكببت عليه ، وقبلت بين عينيه ، وقلت : فدتك نفسي ، ما الذي دهاك ؟ قال : خيرا يا أماه ، بينا أنا الساعة قائم على إخوتي ، إذ أتاني رهط ثلاثة ، بيد أحدهم إبريق فضة ، وفي يد الثاني طست من زمردة خضراء ملؤها ثلج ، فأخذوني ، فانطلقوا بي إلى ذروة الجبل ، فأضجعوني على الجبل إضجاعا لطيفا ، ثم شق من صدري إلى عانتي وأنا أنظر إليه ، فلم أجد لذلك حسا ولا ألما ، ثم أدخل يده في جوفي ، فأخرج أحشاء بطني ، فغسلها بذلك الثلج فأنعم غسلها ، ثم أعادها ، وقام الثاني فقال للأول : تنح ، فقد أنجزت ما أمرك الله به ، فدنا مني ، فأدخل يده في جوفي ، فانتزع قلبي وشقه ، فأخرج منه نكتة سوداء مملوءة بالدم ، فرمى بها ، فقال : هذه حظ الشيطان منك يا حبيب الله ، ثم حشاه بشيء كان معه ، ورده مكانه ، ثم ختمه بخاتم من نور ، فأنا الساعة أجد برد الخاتم في عروقي ومفاصلي ، وقام الثالث فقال : تنحيا ، فقد أنجزتما ما أمر الله فيه ، ثم دنا الثالث مني ، فأمر يده ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي ، قال الملك : زنوه بعشرة من أمته ، فوزنوني فرجحتهم ، ثم قال : دعوه ، فلو وزنتموه بأمته كلها لرجح بهم ، ثم أخذ بيدي فأنهضني إنهاضا لطيفا ، فأكبوا علي ، وقبلوا رأسي وما بين عيني ، وقالوا : يا حبيب الله ، إنك لن تراع ، ولو تدري ما يراد بك من الخير لقرت عيناك ، وتركوني قاعدا في مكاني هذا ، ثم جعلوا يطيرون حتى دخلوا حيال السماء ، وأنا أنظر إليهما ، ولو شئت لأريتك موضع دخولهما . قالت : فاحتملته فأتيت به منزلا من منازل بني سعد بن بكر ، فقال لي الناس : اذهبي به إلى الكاهن حتى ينظر إليه ويداويه . فقال : ما بي شيء مما تذكرون ، وإني أرى نفسي سليمة ، وفؤادي صحيح بحمد الله ، فقال الناس : أصابه لمم أو طائف من الجن . قالت : فغلبوني على رأيي ، فانطلقت به إلى الكاهن ، فقصصت عليه القصة ، قال : دعيني أنا أسمع منه ، فإن الغلام أبصر بأمره منكم ، تكلم يا غلام ؟ قالت حليمة : فقص ابني محمد قصته ما بين أولها إلى آخرها ، فوثب الكاهن قائما على قدميه ، فضمه إلى صدره ، ونادى بأعلى صوته ، يا آل العرب ! يا آل العرب ! من شر قد اقترب ، اقتلوا هذا الغلام واقتلوني معه ، فإنكم إن تركتموه وأدرك مدرك الرجال ليسفهن أحلامكم ، وليكذبن أديانكم ، وليدعونكم إلى رب لا تعرفونه ، ودين تنكرونه . قالت : فلما سمعت مقالته انتزعته من يده ، وقلت : لأنت أعته منه وأجن ، ولو علمت أن هذا يكون من قولك ما أتيتك به ، اطلب لنفسك من يقتلك ، فإنا لا نقتل محمدا . فاحتملته فأتيت به منزلي ، فما أتيت – يعلم الله - منزلا من منازل بني سعد بن بكر إلا وقد شممنا منه ريح المسك الأذفر ، وكان في كل يوم ينزل عليه رجلان أبيضان ، فيغيبان في ثيابه ولايظهران . فقال الناس : رديه يا حليمة على جده عبد المطلب ، وأخرجيه من أمانتك . قالت : فعزمت على ذلك ، فسمعت مناديا ينادي : هنيئا لك يا بطحاء مكة، اليوم يرد عليك النور ، والدين ، والبهاء ، والكمال ، فقد أمنت أن تخذلين أو تحزنين أبد الآبدين ودهر الداهرين . قالت : فركبت أتاني ، وحملت النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي ، أسير حتى أتيت الباب الأعظم من أبواب مكة وعليه جماعة ، فوضعته لأقضي حاجة وأصلح شأني ، فسمعت هدة شديدة ، فالتفت فلم أره ، فقلت : معاشر الناس ! أين الصبي ؟ قالوا : أي الصبيان ؟ قلت : محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، الذي نضر الله به وجهي ، وأغنى عيلتي ، وأشبع جوعتي ، ربيته حتى إذا أدركت به سروري وأملي أتيت به أرده وأخرج من أمانتي ، فاختلس من يدي من غير أن تمس قدميه الأرض ، واللات والعزى لئن لم أره لأرمين بنفسي من شاهق هذا الجبل ، ولأتقطعن إربا إربا . فقال الناس : إنا لنراك غائبة عن الركبان ، ما معك محمد . قالت : قلت : الساعة كان بين أيديكم . قالوا : ما رأينا شيئا . فلما آيسوني وضعت يدي على رأسي فقلت : وامحمداه ! واولداه ! أبكيت الجواري الأبكار لبكائي ، وضج الناس معي بالبكاء حرقة لي ، فإذا أنا بشيخ كالفاني متوكئا على عكاز له . قالت : فقال لي : مالي أراك أيها السعدية تبكين وتضجين ؟ قالت : فقلت : فقدت ابني محمدا . قال : لا تبكين ، أنا أدلك على من يعلم علمه ، وإن شاء أن يرده عليك فعل . قالت : قلت : دلني عليه . قال : الصنم الأعظم . قالت : ثكلتك أمك ! كأنك لم تر ما نزل باللات والعزى في الليلة التي ولد فيها محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قال : إنك لتهذين ولا تدرين ما تقولين ؛ أنا أدخل عليه وأسأله أن يرده عليك . قالت حليمة : فدخل وأنا أنظر ، فطاف بهبل أسبوعا وقبل رأسه ، ونادى : يا سيداه ، لم تزل منعما على قريش ، وهذه السعدية تزعم أن محمدا قد ضل . قال : فانكب هبل على وجهه ، فتساقطت الأصنام بعضها على بعض ، ونطقت – أو نطق منها - وقالت : إليك عنا أيها الشيخ ، إنما هلاكنا على يدي محمد . قالت : فأقبل الشيخ لأسنانه اصتكاك ، ولركبتيه ارتعاد ، وقد ألقى عكازه من يده وهو يبكي ويقول : يا حليمة لا تبكي ، فإن لابنك ربا لا يضيعه ، فاطلبيه على مهل . قالت : فخفت أن يبلغ الخبر عبد المطلب قبلي ، فقصدت قصده ، فلما نظر إلي قال : أسعد نزل بك أم نحوس ؟ قالت : قلت : بل نحس الأكبر . ففهمها مني ، وقال : لعل ابنك قد ضل منك ؟ قالت : قلت : نعم ، بعض قريش اغتاله فقتله ، فسل عبد المطلب سيفه وغضب - وكان إذا غضب لم يثبت له أحد من شدة غضبه - فنادى بأعلى صوته : يا يسيل - وكانت دعوتهم في الجاهلية - قال : فأجابته قريش بأجمعها ، فقالت : ما قصتك يا أبا الحارث ؟ فقال : فقد ابني محمد . فقالت قريش : اركب نركب معك ، فإن سبقت خيلا سبقنا معك ، وإن خضت بحرا خضنا معك ، قال : فركب وركبت معه قريش ، فأخذ على أعلى مكة ، وانحدر على أسفلها . فلما أن لم ير شيئا ترك الناس واتشح بثوب ، وارتدى بآخر ، وأقبل إلى البيت الحرام فطاف أسبوعا ، ثم أنشأ يقول : يا رب إن محمدا ، لم يوجد فجميع قومي كلهم متردد ، فسمعنا مناديا ينادي من جو الهواء : معاشر القوم ! لا تصيحوا ، فإن لمحمد ربا لا يخذله ولا يضيعه . فقال عبد المطلب : يا أيها الهاتف ! من لنا به ؟ قالوا : بوادي تهامة عند شجرة اليمنى . فأقبل عبد المطلب ، فلما صار في بعض الطريق تلقاه ورقة بن نوفل ، فصارا جميعا يسيران ، فبينما هم كذلك إذا النبي صلى الله عليه وسلم قائم تحت شجرة يجذب أغصانها ، ويعبث بالورق ، فقال عبد المطلب : من أنت يا غلام ؟ فقال : أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب. قال عبد المطلب : فدتك نفسي ، وأنا جدك عبد المطلب ، ثم احتمله وعانقه ، ولثمه وضمه إلى صدره وجعل يبكي ، ثم حمله على قربوس سرجه ، ورده إلى مكة ، فاطمأنت قريش ، فلما اطمأن الناس نحر عبد المطلب عشرين جزورا ، وذبح الشاء والبقر ، وجعل طعاما وأطعم أهل مكة . قالت حليمة : ثم جهزني عبد المطلب بأحسن الجهاز وصرفني ، فانصرفت إلى منزلي وأنا بكل خير دنيا ، لا أحسن وصف كنه خيري ، وصار محمد عند جده . قالت حليمة : وحدثت عبد المطلب بحديثه كله ، فضمه إلى صدره وبكى ، وقال : يا حليمة ! إن لابني شأنا ، وددت أني أدرك ذلك الزمان

حديث حليمة السعدية لأبي الحسن بن صخر (ص: 2)
حدثنا فهد، أنا محمد، ثنا يعقوب، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن علي بن عبد الله، عن عبد الله بن عباس، قال: كانت حليمة بنت أبي ذؤيب التي أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، تحدث أنها لما فطمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، تكلم، قالت: سمعته يقول كلاما عجبا: سمعته يقول: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، فلما ترعرع كان يخرج فينظر إلى الصبيان يلعبون فيجتنبهم. فقال لي يوما من الأيام: يا أماه! مالي لا أرى إخوتي بالنهار؟، قالت: قلت: فدتك نفسي، يرعون غنما لنا، يجون من ليل إلى ليل، قالت: فأرسل عينيه فبكى، وقال: يا أماه، فما أصنع أنا ههنا وحدي؟ ابعثيني معهم، قالت: وتحب ذلك؟ قال: نعم. قالت: فلما أصبح دهنته، وكحلته، وقمصته، وعمدت إلى خرزة جزع يمانية فعلقتها عليه من العين، وأخذ عصا مع إخوته، فكان يخرج مسرورا ويرجع مسرورا، فلما كان يوما من ذلك خرجوا يرعون بهما لنا حول بيوتنا، فلما انتصف النهار إذا بابني قد علاه البهر وجبينه يرشح باكيا ينادي: يا أمة أو يا أبة، أدركا أخي محمدا فلما تلحقاه إلا ميتا. فقلت له: وما قصته؟ قال: بينما نحن قيام نترامى ونلعب، إذ أتاه رجل فاختطفه من أوساطنا، وعلا به ذروة الجبل ونحن ننظر إليه حتى شق من صدره إلى عانته، ولا أدري ما فعل به، وما أظنكما تلحقانه إلا ميتا. قالت: فأقبلت أنا وأبوه-تعني زوجها- نسعى سعيا، فإذا نحن به قاعد على ذروة الجبل، متربع شاخص ببصره إلى السماء، متبسم ويضحك، فأكببت عليه، وقبلت بين عينيه، وقلت: فدتك نفسي، ما الذي دهاك؟ قال: خير يا أمة، بينا أنا الساعة قائم مع إخوتي، إذ أتاني رهط ثلاثة، في يد أحدهم إبريق من فضة، وفي يد الثاني طست من زمردة خضراء ملؤها ثلج، فأخذوني، فانطلقوا بي إلى ذروة الجبل، فأضجعني بعضهم على الجبل إضجاعا لطيفا، ثم شق من صدري إلى عانتي، وأنا أنظر إليه، فلم أجد لذلك حسا ولا ألما، ثم أدخل يده جوفي، فأخرج أحشاء بطني، فغسلها بذلك الثلج فأنقى غسلها، ثم أعادها مكانها. وقام الثاني فقال للأول: تنح! فقد أنجزت ما أمرك الله تعالى به ثم دنا مني، فأدخل يده جوفي، فانتزع قلبي فشقه، وأخرج منه نكته سوداء ممتلوتة بالدم، فرمى بها، وقال: هذا حظ الشيطان منك يا حبيب الله، ثم حشاه بشيء كان معه، ورده مكانه، وختمه بخاتم من نور، فأنا الساعة أجد برد الخاتم في عروقي ومفاصلي. وقام الثالث فقال: تنحيا، فقد أنجزتما ما أمركما الله تعالى به، ثم دنا الثالث، فأمر يده على ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي، فالتأم الشق، وأنا أنظر إليه، ثم قال الملك: زنوه بعشرة من أمته، فوزنوني فرجحتهم، فقال: زنوه بمائة، فوزنوني فرجحتهم، فقال: زنوه بألف، فوزنوني فرجحتهم، فقال: دعون، فلو وزنتموه بأمته كلها لرجح بهم، ثم أخذ بيدي فأنهضني إنهاضا لطيفا، ثم أكبوا علي، فقبلوا رأسي وما بين عيني، وقالوا: يا حبيب الله، إنك لم تراع، ولو تدري ما يراد بك من الخير لقرت عيناك. ثم تركوني قاعدا في مكاني هذا، ثم جعلوا يطيرون طيرانا حتى دخلوا خلال السماء، وأنا أنظر إليهم، فلو شئت لأريتك موضع دخولهم. قالت: فاحتملته فأتيت به منزلا من منازل بني سعد بن بكر، فقال لي الناس: اذهبي به إلى الكاهن حتى ينظر إليه ويداويه. فقال: ما بي شيء مما تذكرون، وإني أرى نفسي سليمة، وفؤادي صحيحا بحمد الله تعالى. فقال الناس: أصابه لمم أو طائف من الجن. قالت: فغلبوني على رأيي، فانطلقت به إلى الكاهن، وقصصت عليه قصته. فقال: دعني أسمع أنا منه، فإن الغلام أبصر بأمره منكم، تكلم يا غلام، قالت حليمة: فقص ابني محمد صلى الله عليه وسلم قصته ما بين أولها إلى آخرها، فوثب الكاهن قائما على قدميه، وضمه إلى صدره، ونادى بأعلى صوته: يا آل العرب، يا آل العرب من شر قد اقترب، اقتلوا هذا الغلام واقتلوني معه، فإنكم إن تركتموه وأدرك مدرك الرجال ليسفهن أحلامكم، وليكذبن أديانكم، وليدعونكم إلى رب لا تعرفونه، ودين تنكرونه. قالت: فلما سمعت مقالته انتزعته من يده، فقلت: لأنت أعته وأجن من ابني، ولو علمت أن هذا يكون من قولك ما أتيت به، اطلب لنفسك من يقتلك، فإنا لا نقتل محمدا. واحتملته فأتيت منزلي، فما يعلم الله منزل من منازل بني سعد إلا وقد شممنا منه ريح المسك الأذفر، وكان في كل يوم ينزل عليه رجلان أبيضان، فيغيبان في ثيابه ولا يظهران. فقال الناس: رديه يا حليمة إلى جده عبد المطلب، فأخرجيه من أمانتك. قالت: فعزمت على ذلك، فسمعت مناديا ينادي: هنيئا لك يا بطحاء مكة، اليوم يرد عليك النور، والبهاء، والكمال، وقد أمنت أم تُخْذلي أو تحزني أبد الآبدين ودهر الداهرين. قالت: فركبت أتاني، وحملت النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي، وأقبلت أسير حتى أتيت إلى الباب الأعظم من أبواب مكة وعليه جماعة مجتمعون، فوضعته لأقضي حاجة وأصلح شأني، فسمعت هدة شديدة، فالتفت فلم أره، قلت: معاشر الناس، أين الصبي؟ قالوا: أي الصبيان؟ قلت: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، الذي نضر الله به وجهي، وأغنى عيلتي، وأشبع جوعتي، ربيته حتى إذا ما أدركت به سروري وأملي، أتيت به أرده، اختلس من بين يدي قبل أن تمس قدماه الأرض، واللات والعزى لئن لم أره لأرمين بنفسي من شاهق هذا الجبل، ولأتقطعن إربا إربا. فقال الناس إنا لنراك عانتة من أنى كان معك محمد. قالت: قلت: الساعة من بين أيديكم. قالوا: ما رأينا شيئا. فلما آيسوني وضعت يدي على أم رأسي، وقلت: وا محمداه وا ولده! فأبكيت الجواري الأبكار لبكائي، وضج الناس معي بالبكاء حزنا لي، فإذا أنا بشيخ كالفاني متوكئا على عكاز له. فقال: ما لي أراك تبكين أيها السعدية وتضجين؟! قالت: قلت: فقدت ابني محمدا. فقال: لا تبكين، أنا أدلك على من يعلم علمه، وإن شاء أن يرده فعل؟ قالت: قلت له: فدلني عليه. قال: الصنم الأعظم هبل هو العالم بمكانه، اذهبي إليه. فإن شاء أن يرده رده قالت: فزجرت الشيخ، وقلت: ثكلتك أمك؟! كأنك لم تر ما نزل باللات والعزة في الليلة التي ولد فيها محمد، فقال: إنك لتهذين ولا تدرين ما تقولين، أنا أدخل إليه فأسأله أن يرده عليك. قالت حليمة: فدخل وأنا أنظر، فطاف بهبل أسبوعا وقبل رأسه، ونادى: يا سيداه، لم تزل منتك على قريش قديمة، وهذه السعدية تزعم أن ابنها محمدا قد ضل فاردده. قال: فانكب هبل على وجهه، وتساقطت الأصنام بعضها على بعض، ونطقت- أو نطق منها ناطق- فقال: إليك عنا يا أيها الشيخ، فإنما هلاكنا على يدي محمد. قالت: فأقبل الشيخ أسمع لأسنانه اصطكاك، ولركبتيه ارتعادا، وقد ألقى عكازه من يده وهو يبكي ويقول: يا حليمة لا تبكين، فإن لابنك ربا لا يضيعه، فاطلبيه على مهلك، قالت: فخفت أن يبلغ الخبر عبد المطلب قبلي، فقصدت قصده، فلما نظر إلي، قال: أسعد نزل بك بك أم نحوس؟ قالت: قلت: النحس الأعظم، ففهمها مني، فقال: لعل ابنك ضل منك، قلت: نعم، فظن أن بعض قريش قد اغتاله فقتله. فسل عبد المطلب سيفه وغضب- وكان إذا غضب لم يثبت له أحد من شدة غضبه- ونادى بأعلى صوته: يا آل غالب- وكان دعواهم في الجاهلية- فأجابته قريش بأجمعها، وقالت: ما قصتك يا أبا الحارث؟ فقال: فقد ابني محمد. فقالت قريش: إن ركبت ركبنا معك، وإن تسنمت جبلا تسنمناه معك، وإن خضت بحرا خضناه معك. قالت: فركب، وركبت معه قريش، فأخذ على أعلى مكة، وانحدر على أسفلها. فلم ير شيئا، فنزل الناس فاتشح ببرد، وارتدى بآخر، وأقبل إلى البيت الحرام فطاف به أسبوعا، وأنشأ يقول: يا رب رد راكبي محمدا …….. اردده رب واتخذ عندي يدا إن محمدا لم يوجدا ………. فجمع قومي مبددا فسمعنا مناديا ينادي من جوف الهواء: معاشر الناس، لا تضجوا، فإن لمحمد ربا لا يخذله ولا يضيعه. وقال عبد المطلب: يا أيها الهاتف، من لنا به؟ وأين هو؟ قال: بوادي تهامه عند شجرة التمر. فأقبل عبد المطلب راكبا، فلما صار في بعض الطريق تلقاه ورقة بن نوفل، فسارا جميعا، فبينما هم كذلك، إذا النبي صلى الله عليه وسلم، تحت شجرة يجذب أغصانها، ويعبث بالورق، قال: من أنت يا غلام؟ قال: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب. فقال عبد المطلب: فدتك نفسي، فأنا جدك عبد المطلب. ثم احتمله، واعتنقه، ولثمه، وضمه إلى صدره، وجعل يبكي، ثم حمله على قربوس سرجه، ورده إلى مكة، فاطمأنت قريش، فلما سكن الناس نحر عبد المطلب عشرين جزورا، الشاء والبقر، وعمل طعاما، وأطعم أهل مكة. قالت حليمة: ثم جهزني عبد المطلب أحسن الجهاز، فانصرفت إلى منزلي وأنا بكر خير من الدنيا، لا أحسن أصفه. وصار محمد صلى الله عليه وسلم عند جده. فقالت حليمة: وحدثت عبد المطلب حديثه كله، فضمه إلى صدره وبكى، وقال: يا حليمة، إن لابني شأنا، وددت أني أدركت ذلك الزمان.

[تاريخ دمشق - لابن عساكر] (3/ 473)
أخبرنا أبو عبد الله الفراوي أنبأنا أبو بكر البيهقي أنبأنا أبو عبد الله الحافظ محمد بن عبد الله الحافظ أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن يوسف العماني أنبأنا محمد بن زكريا الغلابي أنبأنا يعقوب بن جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس قال حدثني أبي عن أبيه سليمان بن علي عن أبيه علي بن عبد الله بن عباس عن عبد الله بن عباس قال كانت حليمة بنت أبي ذؤيب التي وضعت النبي (صلى الله عليه وسلم) تحدث أنها لما فطمت رسول الله تكلم قالت سمعته يقول كلاما عجيبا سمعته يقول الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا فلما ترعرع كان يخرج فينظر إلى الصبيان يلعبون فيتجنبهم فقال لي يوما من الأيام يا أماه ما لي لا أرى إخوتي بالنهار قلت فدتك نفسي يرعون غنما لنا فيروحون من ليل إلى ليل فأسبل عينيه وبكى وقال يا أماه فما أصنع ها هنا وحدي ابعثيني معهم قلت وتحب ذلك قال نعم قالت فلما أصبح دهنته وكحلته وقمصته وعمدت إلى خرزة جزع يمانية فعلقته في عنقه من العين وأخذ عصا وخرج مع أخوته فكان يخرج مسرورا ويرجع مسرورا فلما كان يوما من ذلك خرجوا يرعون بهما لنا حول بيوتنا فلما انتصف النهار إذا أنا بابني ضمرة يعدو فزعا وجبينه يرشح قد علاه البهر باكيا ينادي يا أبه يا أمه الحقا أخي محمدا فما تلحقاه إلا ميتا قلت وما قصته قالا بينا نحن قيام نترامى ونلعب إذ أتاه رجل فاختطفه من أوساطنا وعلا به ذروة الجبل ونحن ننظر إليه حتى شق من صق صدره إلى عانته ولا أرى ما فعل به ولا أظنكما تلحقاه أبدا إلا ميتا قالت فأقبلت أنا وأبوه يعني زوجها نسعى سعيا فإذا نحن به قاعدا على ذروة الجبل شاخصا ببصره إلى السماء يتبسم ويضحك وأكببت عليه وقبلت ما بين عينيه وقلت فدتك نفسي ما الذي دهاك قال خيرا يا أماه بينا أنا الساعة قائم على إخوتي إذ أتاني رهط ثلاثة بيد أحدهم إبريق فضة وبيد الثاني طست من زمردة خضراء ملأها ثلجا فأخذوني فانطلقوني إلى ذروة الجبل فأضجعوني على الجبل إضجاعا لطيفا ثم شق من صدري إلى عانتي وأنا أنظر إليه فلم أجد لذلك حسا ولا ألما ثم أدخل يده في جوفي فأخرج أحشاء بطني فغسلها بذلك الثلج فأنعم غسلها ثم أعادها وقام الثاني فقال للأول تنح فقد أنجزت ما أمرك الله تعالى به فدنا مني فأدخل يده في جوفي فانتزع قلبي وشقه فأخرج منه نكتة سوداء مملوءة بالدم فرمى بها فقال هذا حظ الشيطان منك يا حبيب الله ثم حشاه بشيء كان معه وذره مكانه ثم ختمه بخاتم من نور فأنا الساعة أجد برد الخاتم في عروقي ومفاصلي وقام الثالث فقال للثاني تنح فقد أنجزنا ما أمرنا الله تعالى فيه ثم دنا الثالث مني فمر يده في مفرق صدري إلى منتهى عانتي قال الملك زنه بعشرة من أمته فوزنوني فرجحتهم فقال دعوه فلو وزنتموه بأمته كلها لرجح بهم ثم أخذ بيدي فأنهضني إنهاضا لطيفا فأكبوا علي وقبلوا رأسي وما بين عيني وقالوا يا حبيب الله إنك لن تراع ولو تدري ما يراد بك من الخير لقرت عيناك وتركوني قاعدا في مكاني هذا ثم جعلوا يطيرون حتى دخلوا حيال السماء وأنا أنظر إليهم ولو شئت لأريتك موضع مكانهم محولهما قالت فاحتملته فأتيت به منازل بني سعد بن بكر فقال الناس اذهبوا به إلى الكاهن حتى ينظر إليه ويداويه فقال ما بي شيء مما تذكرون إني أرى نفسي سليمة وفؤادي صحيح بحمد الله فقال قال لي الناس أصابه لمم أو طائف من الجن فقال فغلبوني على رأيي فانطلقت به إلى الكاهن فقصصت عليه القصة قال دعيني أنا أسمع منه فإن الغلام أبصر بأمره منكم تكلم يا غلام قالت حليمة فقص ابني محمد قصته من أولها إلى آخرها فوثب الكاهن قائما على قدميه فضمه إلى صدره ونادى بأعلا صوته يا آل العرب يا آل العرب من شر قد اقترب اقتلوا هذا الغلام واقتلوني معه فإنكم إن تركتموه وأدرك مدرك الرجال ليسفهن أحلامكم ولينكدن أديانكم وليدعونكم إلى رب لا تعرفونه وإلى دين تنكرونه قالت فلما سمعت مقالته انتزعته من يده وقلت لأنت أعته منه وأجن ولو علمت أن هذا يكون من قولك ما أتيتك به اطلب لنفسك من يقتلك فإنا لا نقتل محمدا فاحتملته فأتيت به منزلي فما أتيت يعلم الله منزلا من منازل بني سعد بن بكر إلا وقد شممنا منه ريح المسك الأذفر وكان في كل يوم ينزل عليه رجلان أبيضان فيغيبان في ثيابه ولا يظهران فقال الناس رديه يا حليمة إلى جده عبد المطلب وأخرجيه من أمانتك قالت فعزمت على ذلك فسمعت مناديا ينادي هنيئا لك يا بطحاء مكة اليوم يرد عليك النور والدين والبهاء والكمال فقد أمنت أن تخذلين أو تحزنين أبد الآبدين ودهر الداهرين قالت فركبت أتاني وحملت النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي أسير حتى أتيت الباب الأعظم من أبواب مكة وعليه جماعة فوضعته لأقضي حاجة وأصلح شأني سمعت هدة شديدة فالتفت فلم أره فقلت معاشر الناس أين الصبي قالوا أي الصبيان قلت محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الذي نضر الله تعالى به وجهي وأغنى عيلتي وأشبع جوعتي ربيته حتى إذا أدركت به سروري وأملي أتيت به أرده وأخرج من أمانتي فاختلس من يدي من غير أن يمس قدميه الأرض واللات والعزى لئن لم أره لأرمين بنفسي من شاهق الجبل ولأتقطعن إربا إربا فقال الناس إنا لنراك غائبة عن الركبان ما معك محمد قالت قلت الساعة كان بين أيديكم قالوا ما رأينا شيئا فلما آيسوني وضعت يدي على رأسي فقلت وامحمداه واولداه أبكيت الجواري الأبكار لبكائي وصاح الناس معي بالبكاء حرقة لي فإذا أنا بشيخ كبير كالفاني متوكئا على عكازة له قالت فقال لي ما لي لا أراك تبكين وتصيحين قالت فقلت فقدت ابني محمدا قال لا تبكي أنا أدلك على من يعلم علمه وإن شاء أن يرده عليك فعل قالت قلت دلني عليه قال الصنم الأعظم قالت ثكلتك أمك كأنك لم تر ما نزل باللات والعزى في الليلة التي ولد فيها محمد صلى الله عليه وسلم قال إنك لتهذين ولا تدرين ما تقولين أنا أدخل عليه فأسأله أن يرده عليك قالت حليمة فدخل وأنا أنظر فطاف بهبل أسبوعا وقبل رأسه ونادى يا سيدي لم تزل منعما على قريش وهذه السعدية تزعم أن محمدا قد ضل قال فانكب هبل على وجهه فتساقطت الأصنام بعضها على بعض ونطقت أو نطق منها فقالت إليك عنا أيها الشيخ إنما هلاكنا على يدي محمد قالت فأقبل الشيخ لأسنانه اصكاك ولركبتيه ارتعاد وقد ألقى عكازته من بين يديه وهو يبكي ويقول يا حليمة لا تبكي فإن لابنك ربا لا يضيعه فاطلبيه على مهل فقالت فخفت أن يبلغ الخبر عبد المطلب قبلي فقصدت قصده فلما نظر إلي قال أسعد نزل بك أم نحوس قالت قلت بل نحس الأكبر ففهمها مني وقال لعل ابنك قد ضل منك قالت قلت نعم بعض قريش اغتاله فقتله فسل عبد المطلب سيفه وغضب وكان إذا غضب لم يلتفت له أحد من شدة غضبه فنادى بأعلى صوته يا سبيل وكانت دعوتهم في الجاهلية فأجابته قريش بأجمعهم فقالت ما قصتك يا أبا الحارث فقال فقد ابني محمد فقالت قريش اركب نركب معك فإن شققت جبلا شققنا معك وإن خضت بحرا خضنا معك قال فركب فركبت معه قريش جميعا فأخذ على أعلى مكة وانحدر على أسفلها فلما أن لم ير شيئا ترك الناس واتشح بثوب وارتدى بآخر وأقبل إلى البيت الحرام فطاف أسبوعا ثم أنشأ يقول يا رب إن محمدا لم يوجد فجميع قومي كلها متردد فسمعت مناديا ينادي من جو الهواء معاشر القوم لا تضجوا فإن لمحمد ربا لا يخذله ولا يضيعه فقال عبد المطلب يا أيها الهاتف من لنا به قالوا بوادي تهامة عند شجرة اليمنى فأقبل عبد المطلب راكبا فلما صار في بعض الطريق تلقاه ورقة بن نوفل فصارا جميعا يسيران فبينما هم كذلك إذا النبي صلى الله عليه وسلم قائم تحت شجرة يجذب أغصانها ويعبث بالورق فقال عبد المطلب من أنت يا غلام فقال أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب قال عبد المطلب فدتك نفسي وأنا جدك عبد المطلب ثم احتمله على عاتقه ولثمه وضمه إلى صدره وجعل يبكي ثم حمله على قربوس سرجه ورده إلى مكة فاطمأنت قريش فلما اطمأن الناس نحر عبد المطلب عشرين بعيرا وذبح أكبشا والبقر وحمل طعاما وأطعم أهل مكة قالت حليمة ثم جهزني عبد المطلب بأحسن الجهاز وصرفني وانصرفت إلى منزلي وإذا بكل خير دنيا لا أحسن وصف كنه خيري وصار محمد عند جده قالت حليمة وحدثت عبد المطلب بحديثه كله فضمه إلى صدره وبكى وقال يا حليمة إن لابني شأنا وددت أني أدرك ذلك الزمان