المَبحَثُ الرَّابعُ: تعامُلُ المُعتَزِلةِ معَ التَّفسيرِ بالمأثورِ
كان موقِفُ
المُعتَزِلةِ مِن التَّفسيرِ بالمأثورِ موقِفًا عجيبًا، فهُم يُشكِّكونَ بالأحاديثِ التي تصطدِمُ بمبادِئِهم ويُكذِّبونَها وإن علَت درجتُها في الصِّحَّةِ، أو يُؤوِّلونَها تأويلًا باطِلًا، بل ويتجاوَزونَ هذا إلى تجريحِ راويها ولو كان الصَّحابيَّ الذي روى الحديثَ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيفعَلونَ هذا إذا ما كان مُصادِمًا لمبدَأٍ مِن مبادِئِهم، في حينِ يستشهِدونَ بالأحاديثِ الضَّعيفةِ وحتَّى الموضوعةِ، ويَعَضُّونَ عليها بالنَّواجِذِ لنُصرةِ مذهَبِهم الاعتزاليِّ.
وأين هذا العقلُ الذي اتَّخذوه قائِدًا كما يقولونَ؟ ألا يستطيعونَ أن يُدرِكوا به ضَعفَ الحديثِ حينَما يجِدونَ فيه مِن ركاكةِ الأسلوبِ وضَعفِ المعنى ما يُبعِدُه عن البلاغةِ النَّبويَّةِ؟ وأن يُدرِكوا به صحَّةَ الحديثِ لِما يوجَدُ به مِن نورِ النُّبوَّةِ والحِكمةِ ممَّا يجعَلُ القلبَ السَّليمَ يطمئِنُّ إليه؟ هذا فضلًا عن الاستِنادِ إلى أقوالِ أئمَّةِ المُحدِّثينَ في سَندِه ومَتنِه تصحيحًا وتضعيفًا.
بل إنَّ طريقتَهم هذه تدُلُّ على أنَّ مقياسَ أخذِهم الحديثَ وردِّه لم يكنْ سائِرًا على منهَجِهم العقليِّ الذي يزعُمونَ، بل الغالِبُ -واللهُ أعلَمُ- أنَّ منهَجَهم فيه اتِّباعُ الهَوى، وذلك استِنادًا على كثرةِ ردِّهم الأحاديثَ الصَّحيحةَ المُتَّفَقَ على صحَّتِها، وتمسُّكِهم بأحاديثَ ضعيفةٍ، بل جزَم أئمَّةُ الحديثِ بوَضعِ كثيرٍ منها.
ومِن الأحاديثِ التي أنكروها أو تأوَّلوها أحاديثُ الرُّؤيةِ؛ لا لضَعفٍ في سَندِها، بل لمُخالَفتِها لمذهَبِهم في إنكارِ الرُّؤيةِ معَ أنَّها مُتواتِرةٌ ورواها أصحابُ الصِّحاحِ والمسانيدِ والسُّننِ
، ومنها حديثُ جَريرِ بنِ عبدِ اللهِ البَجَليِّ رضِي اللهُ عنه قال: ((كنَّا جُلوسًا ليلةً معَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فنظَر إلى القمرِ ليلةَ أربعَ عشرةَ، فقال:
((إنَّكم سترَونَ ربَّكم كما ترَونَ هذا، لا تُضامُّونَ في رُؤيتِه ))
، وقد روى أحاديثَ الرُّؤيةِ نَحوُ ثلاثينَ صحابيًّا
.
ومعَ هذا كُلِّه لم تلقَ القَبولَ لدى
المُعتَزِلةِ معَ عِلمِهم بها واطِّلاعِهم عليها؛ فالقاضي عبدُ الجبَّارِ المُعتَزِليُّ قال عندَ تفسيرِه لقولِ اللهِ تعالى:
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس: 26] ؛ (المُرادُ بالزِّيادةِ: التَّفضيلُ في الثَّوابِ، فتكونُ الزِّيادةُ مِن جِنسِ المزيدِ عليه)
.
ومنها حديثُ:
((ما مِن بني آدَمَ مولودٌ إلَّا يمَسُّه الشَّيطانُ حينَ يولَدُ، فيستهِلُّ صارِخًا مِن مسِّ الشَّيطانِ؛ غَيرَ مريمَ وابنِها ))
.
قال
الزَّمَخشَريُّ عن هذا الحديثِ: (اللهُ أعلَمُ بصحَّتِه؛ فإن صحَّ فمعناه أنَّ كُلَّ مولودٍ يطمَعُ
الشَّيطانُ في إغوائِه إلَّا مريمَ وابنَها؛ فإنَّهما كانا معصومَينِ، وكذلك مَن كان في صِفتِهما...، واستهلالُه صارِخًا مِن مسِّه تخييلٌ وتصويرٌ لطَمعِه فيه...، وأمَّا حقيقةُ المسِّ والنَّخسِ كما يتوهَّمُ أهلُ الحَشوِ فكلَّا)
.
فشكَّك في صحَّةِ الحديثِ أوَّلًا، ثُمَّ أوَّله تأويلًا باطِلًا، وحمَله على أنَّه تخييلٌ وتصويرٌ، وعمَّم الاستِثناءَ على المعصومينَ؛ معَ قَصرِه في الحديثِ على مريمَ وابنِها عليهما السَّلامُ.
وتجاوَزوا هذا إلى تكذيبِ الصَّحابةِ رضِي اللهُ عنهم وتجريحِهم، بل تجاوَزوه إلى سبِّهم رضِي اللهُ عنهم إذا كان ما روَوه يُخالِفُ أُصولَهم، فقال النَّظَّامُ المُعتَزِليُّ -عن
عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضِي اللهُ عنه-: زعَم أنَّ القمرَ انشقَّ
، وأنَّه رآه، وهذا مِن الكذِبِ الذي لا خَفاءَ به
!
وقال عن سَمُرةَ بنِ جُندُبٍ رضِي اللهُ عنه: (ما نصنَعُ بسَمُرةَ؟! قبَّح اللهُ سَمُرةَ)
!
ويتمسَّكُ
المُعتَزِلةُ بأحاديثَ ضعيفةٍ أو موضوعةٍ لبيانِ أصلٍ مِن أُصولِهم؛ فيستشهِدونَ مَثلًا بما رُوِي عن عليٍّ رضِي اللهُ عنه: (أفضَلُ الجِهادِ الأمرُ بالمعروفِ والنَّهيُ عن المُنكَرِ، ومَن شنِئَ الفاسِقينَ وغضِب للهِ غضِب اللهُ له)
.
قال
ابنُ حَجرٍ العَسقَلانيُّ: (هو مِن طريقِ إسحاقَ بنِ بِشرٍ عن مُقاتِلٍ، وهُما ساقِطانِ)
.
وقال
الذَّهبيُّ: (إسحاقُ بنُ بِشرٍ مُجمَعٌ على تَركِه)
.
وقال في الميزانِ: (تركوه وكذَّبه
عليُّ بنُ المَدينيِّ، وقال
الدَّارَقُطنيُّ: كذَّابٌ متروكٌ)
.
أمَّا مُقاتِلٌ فقال وَكيعٌ: (كان كذَّابًا، وقال
النَّسائيُّ: كان مُقاتِلٌ يكذِبُ، وقال الجَوْزَجانيُّ: كان دجَّالًا جَسورًا)
، وقال
الذَّهبيُّ في الميزانِ: (مُقاتِلٌ أيضًا تالِفٌ)
.