المَبحَثُ الثَّالثُ: مِن الفِرَقِ الاعتِزاليَّةِ: فِرقةُ الهُذَليَّةِ
وهُم أتباعُ أبي الهُذَيلِ مُحمَّدِ بنِ الهُذَيلِ بنِ عبدِ اللهِ البَصريِّ العلَّافِ، وُلِد سنةَ (135هـ)، وتُوفِّي سنةَ (226، وقيل: سنةَ 235، وقيل: سنةَ 237هـ)، وهو شيخُ
المُعتَزِلةِ البَصريِّينَ، أخَذ الاعتِزالَ عن عُثمانَ بنِ خالِدٍ الطَّويلِ أحدِ أصحابِ
واصِلِ بنِ عطاءٍ
، وقد اطَّلع على الفلسفةِ اليونانيَّةِ، فجاءت أقوالُه مُتأثِّرةً بها
.
قال البَغداديُّ: (قد جرى على مِنهاجِ أبناءِ السَّبايا؛ لظُهورِ أكثَرِ البِدَعِ منهم، وفضائِحُه تَتْرى تُكفِّرُه فيها سائِرُ فِرَقِ الأمَّةِ مِن أصحابِه في الاعتِزالِ ومِن غَيرِهم، وللمعروفِ بـ "المُردارِ" مِن
المُعتَزِلةِ كتابٌ كبيرٌ فيه فضائِحُ أبي الهُذَيلِ، وفي تكفيرِه بما انفرَد به مِن ضلالاتِه، وللجُبَّائيِّ أيضًا كتابٌ في الرَّدِّ على أبي الهُذَيلِ في المخلوقِ، ويُكفِّرُه فيه، ولجَعفَرِ بنِ حربٍ أيضًا -وهو المشهورُ في زُعماءِ
المُعتَزِلةِ- كتابٌ سمَّاه "توبيخَ أبي الهُذَيلِ"، وأشار إلى تكفيرِ أبي الهُذَيلِ، وذكَر فيه أنَّ قولَه يجُرُّ إلى قولِ الدَّهْريَّةِ)
.
وقد انفرَد عن أصحابِه بمسائِلَ؛ منها:الأولى: قولُه: إنَّ عِلمَ اللهِ سُبحانَه وتعالى هو اللهُ، وقُدرتُه هي هو
.
الثَّانيةُ: أنَّه أثبَت إراداتٍ لا محَلَّ لها، يكونُ الباري تعالى مُريدًا بها، وهو أوَّلُ مَن أحدَث هذه المقالةَ، وتابَعه عليها المُتأخِّرونَ مِن
المُعتَزِلةِ
.
الثَّالثةُ: قولُه في كلامِ الباري تعالى: إنَّ بعضَه لا في محَلٍّ، وهو قولُ: "كُنْ"، وبعضُه في محَلٍّ؛ كالأمرِ والنَّهيِ، والخبرِ والاستِخبارِ، وكأنَّ أمرَ التَّكوينِ عندَه غَيرُ أمرِ التَّكليفِ
.
الرَّابعةُ: قولُه في القَدَرِ مِثلَ ما قاله أصحابُه؛ إلَّا أنَّه قَدَريُّ الأُولى جَبْريُّ الآخِرةِ؛ فإنَّ مذهَبَه في حَركاتِ الخالِدينَ في الآخِرةِ أنَّها ضروريَّةٌ، لا قُدرةَ للعِبادِ فيها، وكُلُّها مخلوقةٌ للباري تعالى؛ إذ لو كانت مُكتَسَبةً للعِبادِ لكانوا مُكلَّفينَ بها
.
الخامسةُ: قولُه في حَركاتِ أهلِ الخالِدينَ: إنَّها تنقطِعُ، وإنَّهم يصيرونَ إلى سكونٍ دائِمٍ خمودًا، وتجتمِعُ اللَّذَّاتُ في ذلك السُّكونِ لأهلِ الجنَّةِ، وتجتمِعُ الآلامُ في ذلك السُّكونِ لأهلِ النَّارِ، ومذهَبُه هذا قريبٌ مِن مذهَبِ
جَهمٍ؛ إذ حَكَم بفَناءِ الجنَّةِ والنَّارِ، وقد التزَم أبو الهُذَيلِ هذا المذهَبَ؛ لأنَّه لمَّا أُلزِم في مسألةِ حُدوثِ العالَمِ أنَّ الحوادِثَ التي لا أوَّلَ لها كالحوادِثِ التي لا آخِرَ لها؛ إذ كُلُّ واحِدةٍ لا تتناهى- قال: إنِّي لا أقولُ بحَركاتٍ لا تتناهى آخِرًا، كما لا أقولُ بحَركاتٍ لا تتناهى أوَّلًا، بل يصيرونَ إلى سُكونٍ دائِمٍ، وكأنَّه ظنَّ أنَّ ما يلزَمُه بالحَركةِ لا يلزَمُه بالسُّكونِ
.
السَّادسةُ: قولُه في الاستِطاعةِ: إنَّها عَرَضٌ مِن الأعراضِ غَيرُ السَّلامةِ والصَّحةِ، وفرَّق بَينَ أفعالِ القُلوبِ، وأفعالِ الجوارِحِ؛ فقال: لا يصِحُّ وُجودُ أفعالِ القُلوبِ منه معَ عَدمِ القُدرةِ عليها، ولا معَ موتِه، وجوَّز وُجودَ أفعالِ الجوارِحِ مِن الفاعِلِ معَ عَدمِ قُدرتِه عليها إن كان حيًّا وبَعدَ موتِه، وزعَم أنَّ الميِّتَ والعاجِزَ يجوزُ أن يكونا فاعِلَينِ لأفعالِ الجوارِحِ بالقُدرةِ التي كانت موجودةً فيهما قَبلَ الموتِ والعَجزِ
.
السَّابعةُ: قولُه في المُكلَّفِ قَبلَ وُرودِ السَّمعِ: إنَّه يجِبُ عليه أن يعرِفَ اللهَ تعالى بالدَّليلِ مِن غَيرِ خاطِرٍ، وإن قصَّر في المعرفةِ استوجَب العُقوبةَ أبدًا، ويعلَمُ أيضًا حُسنَ الحَسَنِ، وقُبحَ القبيحِ، فيجِبُ عليه الإقدامُ على الحَسَنِ، كالصِّدقِ والعدلِ؛ والإعراضُ عن القبيحِ، كالكَذِبِ والفُجورِ
.
الثَّامنةُ: قولُه في الآجالِ والأرزاقِ: إنَّ الرَّجُلَ إذا لم يُقتَلْ مات في ذلك الوقتِ، ولا يزدادُ في العُمرِ أو يُنقَصُ، والأرزاقُ على وَجهَينِ:
أحدُهما: ما خلَقه اللهُ تعالى مِن الأمورِ المُنتفَعِ بها يجوزُ أن يُقالَ: خلَقها رِزقًا للعِبادِ.
ثانيهما: ما حكَم اللهُ به مِن هذه الأرزاقِ للعِبادِ، فما أحَلَّ منها فهو رِزقُه، وما حرَّم فليس رِزقًا، أي: ليس مأمورًا بتناوُلِه
.
التَّاسعةُ: حُكِي عنه أنَّه قال: إرادةُ اللهِ غَيرُ المُرادِ؛ فإرادتُه لِما خلَقه هي خَلقُه له، وخَلقُ الشَّيءِ عندَه غَيرُ الشَّيءِ، بل الخَلقُ عندَه قولٌ لا في محَلٍّ، وقال: إنَّه تعالى لم يزَلْ سميعًا بصيرًا، بمعنى: سيسمَعُ وسيُبصِرُ، وكذلك لم يزَلْ غفورًا رحيمًا، مُحسِنًا خالِقًا رازِقًا، مُثيبًا مُعاقِبًا، مُوالِيًا مُعادِيًا، آمِرًا ناهِيًا؛ بمعنى: أنَّ ذلك سيكونُ منه
.
العاشرةُ: قولُه في الحُجَّةِ في الأخبارِ: قال: إنَّ الحُجَّةَ في الأخبارِ الماضيةِ الغائِبةِ عن الحواسِّ لا تثبُتُ بأقَلَّ مِن عِشرينَ رجُلًا، فيهم واحِدٌ أو أكثَرُ مِن أهلِ الجنَّةِ.
وزعَم أنَّ خبرَ ما دونَ الأربعةِ لا يوجِبُ حُكمًا، وخبرَ ما فوقَ الأربعةِ إلى العِشرينَ يصِحُّ وُقوعُ العِلمِ به، وقد لا يصِحُّ؛ ذلك أنَّ الحُجَّةَ لا تجِبُ بأخبارِ الفاسِقينَ والكافِرينَ، فلا بُدَّ مِن معصومينَ لا يجوزُ عليهم الكذِبُ والزَّلَلُ في شيءٍ مِن الأفعالِ، تجِبُ الحُجَّةُ بأخبارِهم في كُلِّ زمانٍ، وأهلُ الجنَّةِ هم أولياءُ اللهِ المعصومونَ عن الخطايا، فلا يكذِبونَ ولا يرتكِبونَ الكبائِرَ، والأمَّةُ في كُلِّ عَصرٍ لا تخلو مِن عِشرينَ منهم واحِدٌ مِن أهلِ الجنَّةِ على أقَلِّ تقديرٍ.
ويرى البَغداديُّ أنَّ أبا الهُذَيلِ أراد بهذا القولِ تعطيلَ الأخبارِ الوارِدةِ في الأحكامِ الشَّرعيَّةِ عن فوائِدِها؛ لأنَّ نَقَلةَ الأخبارِ ينبغي أن يكونَ فيهم واحِدٌ مِن أهلِ الجنَّةِ، أي: واحِدٌ على رأيِه في الاعتِزالِ؛ لأنَّ مَن لم يكنْ كذلك لا يكونُ عندَه مُؤمِنًا ولا مِن أهلِ الجنَّةِ
.