الفَرعُ الثَّاني: النَّصرانيَّةُ
كان للدِّيانةِ النَّصرانيَّةِ أثَرُها الكبيرُ في ظُهورِ الاعتِزالِ بصورةٍ أكبَرَ مِن غَيرِها.
وقد وردَت في كُتبِ المُؤرِّخينَ نُصوصٌ تُشيرُ إلى أنَّ بعضَ أهلِ البِدَعِ مِن أسلافِ
المُعتَزِلةِ أخَذوا عن المسيحيِّينَ بعضَ أقوالِهم.
فقد ذُكِر أنَّ أوَّلَ مَن تكلَّم بالقَدَرِ في الإسلامِ هو مَعبَدٌ الجُهَنيُّ، وأخَذ ذلك عن نصرانيٍّ مِن الأساوِرةِ يُقالُ له أبو يُونُسَ الأسوارِيُّ
.
قال
ابنُ حَجَرٍ عن الأسوارِيِّ: إنَّه (أوَّلُ مَن تكلَّم بالقَدَرِ، وكان بالبَصرةِ، فأخَذ عنه مَعبَدٌ الجُهَنيُّ)
.
وروى
ابنُ قُتَيبةَ أنَّ غَيْلانَ الدِّمَشقيَّ -وهو أكبَرُ داعِيةٍ إلى القَدَرِ بَعدَ الجُهَنيِّ- كان قِبطيًّا؛ ولذا يُدعى غَيْلانَ القِبطيَّ
إشارةً إلى أصلِه النَّصرانيِّ.
ومِن الأدلَّةِ على تأثُّرِ
المُعتَزِلةِ بالنَّصارى الشَّبهُ بَينَ كثيرٍ مِن عقائِدِهم وبَينَ أقوالِ يحيى الدِّمَشقيِّ
، والمسائِلِ الدِّينيَّةِ التي كان يُعالِجُها، فلا يُعقَلُ أن يكونَ ذلك الشَّبهُ وليدَ المُصادَفةِ أو مِن قِبَلِ توارُدِ الأفكارِ والخواطِرِ؛ لأنَّها لا تقتصِرُ على قولٍ واحِدٍ أو فِكرةٍ واحِدةٍ، بل تظهَرُ جليًّا في مسائِلَ مُتعدِّدةٍ؛ منها:
1- نِسبةُ الخيرِ إلى اللهِ تعالى دونَ الشَّرِّ:كان يحيى الدِّمَشقيُّ يقولُ: إنَّ اللهَ خيرٌ، ومصدَرُ كُلِّ خيرٍ، وإنَّ الفضيلةَ هبةٌ منه تعالى، بها أصبَح الإنسانُ قادِرًا على فِعلِ الخيرِ، ولمَّا كان جلَّ وعلا خيرًا فقد أخرَج الإنسانَ مِن العَدمِ ليُشارِكَه في خيِره الفيَّاضِ، فأوجَد المخلوقاتِ لتتمتَّعَ بنِعَمِه، وتأخُذَ نصيبَها مِن خيراتِه.
وأمَّا
المُعتَزِلةُ فيرَونَ أنَّ اللهَ لا يفعَلُ الشَّرَّ، ولا يُوصَفُ بالقُدرةِ على فِعلِه، كما سيأتي ذلك في تفصيلِ اعتِقادِهم وفِرَقِهم.
2- القولُ بالأصلَحِ:كان يحيى الدِّمَشقيُّ يرى أنَّ اللهَ تعالى يُهيِّئُ لكُلِّ شيءٍ في الوُجودِ ما هو أصلَحُ له، وهذا شبيهٌ بعقيدةِ الأصلَحِ التي أسهَمَت إسهامًا مُهمًّا في تاريخِ
المُعتَزِلةِ، وخُلاصتُها: أنَّ اللهَ تعالى لا يفعَلُ بعِبادِه إلَّا ما فيه صلاحُهم
.
3- نفيُ الصِّفاتِ الإلهيَّةِ:لقد كان يحيى ينفي الصِّفاتِ الأزليَّةَ، وحُجَّتُه في ذلك أنَّنا لا نستطيعُ أن نُحدِّدَ اللهَ تعالى أو نُدرِكَ طبيعتَه؛ لأنَّ الطَّبيعةَ مُستحيلٌ عليها أن تفهَمَ ما فوقَ الطَّبيعةِ، ولأنَّه تعالى لم يمنَحْنا القُدرةَ على تعرُّفِه وإدراكِه، ويرَونَ أنَّ الذين يُطلِقونَ على اللهِ تعالى بعضَ الصِّفاتِ الذَّاتيَّةِ، كالقِدَمِ والسَّمعِ والبَصرِ، يُخطِئونَ كثيرًا؛ لأنَّ هذه الصِّفاتِ تقتضي التَّركيبَ، فيكونُ تعالى مُركَّبًا مِن عناصِرَ مُختلِفةٍ، وذلك ما لا يجوزُ في حقِّه تبارَك وتعالى؛ لأنَّه عُنصُرٌ واحِدٌ غَيرُ مُركَّبٍ، ولو أطلَقْنا عليه تعالى مِثلَ هذه الصِّفاتِ فإنَّ علينا أن نفهَمَ تمامًا أنَّها مُجرَّدُ صفاتٍ سلبيَّةٍ، فإذا قُلْنا: إنَّه تعالى لا أوَّلَ له، فالمعنى أنَّه غَيرُ مخلوقٍ أو غَيرُ قابِلٍ للفَناءِ، وإذا قُلْنا: إنَّه خيرٌ، فالمعنى أنَّه لا يفعَلُ الشَّرَّ، وهكذا، وإلى هذا القولِ في تعطيلِ الصِّفاتِ ذهَب
المُعتَزِلةُ؛ حيثُ جعَلوه أحدَ أُصولِهم الخمسةِ. وسيأتي تفصيلُ ذلك في الحديثِ عن أصلِ التَّوحيدِ عندَ
المُعتَزِلةِ.
4- المجازُ والتَّأويلُ:تعرَّض يحيى الدِّمَشقيُّ لمسألةِ التَّجسيمِ والتَّشبيهِ، فقال: إنَّه وردَت في الكتابِ المُقدَّسِ كلماتٌ كثيرةٌ تحمِلُ معنى التَّجسيمِ والتَّشبيهِ، وإنَّ النَّاسَ في حديثِهم عن اللهِ تعالى يستعمِلونَ عباراتٍ تُؤدِّي إليهما، فحيثُما وجَدْنا مِثلَ هذه العباراتِ التي تتضمَّنُ معنى التَّجسيمِ، والتي تُشبِّهُ اللهَ بخَلقِه، سواءٌ في الكتابِ المُقدَّسِ أو غَيرِه؛ وجَب أن نعتبِرَها مجازًا أو رُموزًا، وننظُرَ إليها كأداةٍ تُعِينُ النَّاسَ على معرفةِ اللهِ، ويجِبُ أن نعمِدَ لذلك إلى تأويلِها؛ فمَثلًا: سَمعُه تعالى لا يعني إلَّا استعدادَه لقَبولِ الدُّعاءِ، وعَينُه تعالى ليست سِوى قُدرتِه على معرفةِ كُلِّ شيءٍ، ومُراقَبةِ كُلِّ شيءٍ، وهكذا، وقد سار
المُعتَزِلةُ على هذه الطَّريقةِ، فنفَوا الأحاديثَ، وأوَّلوا الآياتِ التي تتضمَّنُ الاستِواءَ والمجيءَ، والنُّزولَ إلى الدُّنيا، والسَّمعَ والبَصرَ والكلامَ، وغَيرَ ذلك
.