موسوعة الفرق

المَبحَثُ الخامِسُ: مِن عوامِلِ انتِشارِ مذهَبِ المُعتَزِلةِ: إسنادُ مذهَبِهم -كذِبًا وزورًا- إلى كبارِ الصَّحابةِ رضِي اللهُ عنهم، والتَّابعينَ لهم بإحسانٍ


فقد ذكَر القاضي عبدُ الجبَّارِ في الطَّبقةِ الأولى مِن طبقاتِ المُعتَزِلةِ كبارَ الصَّحابةِ رضِي اللهُ عنهم، فقال: (الطَّبقةُ الأولى: الخُلفاءُ الأربعةُ، وهم: عليٌّ عليه السَّلامُ، وأبو بكرٍ، وعُمرُ، وعُثمانُ، وعبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ، وعبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ، وغَيرُهم: كعبدِ اللهِ بنِ عُمرَ، وأبي الدَّرداءِ، وأبي ذَرٍّ الغِفاريِّ، وعُبادةَ بنِ الصَّامِتِ، أمَّا عليٌّ عليه السَّلامُ فقصَّةُ الشَّيخِ الذي سأله عندَ انصِرافِه مِن صِفِّينَ: أكان المسيرُ بقضاءِ اللهِ وقَدَرِه؟ إلى آخِرِه، مُصرِّحٌ بالعَدلِ وإنكارِ الجبرِ...) .
وغَرضُهم مِن نِسبةِ مذهَبِهم إلى هؤلاء إظهارُ مذهَبِهم أنَّه الحقُّ، وأنَّ هؤلاء الأعلامَ قالوا به، ومِن ثَمَّ فهُم أهلُ الإسلامِ الحقيقيُّونَ، ومُخالِفوهم ليسوا سِوى طَوائِفَ مُنحرِفةٍ عن خطِّ الإسلامِ الصَّحيحِ بزَعمِهم، ولا شكَّ أنَّ عامَّةَ النَّاسِ قد ينخدِعونَ بمِثلِ هذه الدَّعاوي، فيتمَذهَبونَ بمذهَبِهم حينَ يُدعَونَ إليه، ويدرُسونَ كُتبَهم ورسائِلَهم، ويقولونَ بآرائِهم.
ولا يوجَدُ أيُّ دليلٍ يُثبِتُ صحَّةَ دعاويهم تلك، خاصَّةً أنَّ نِسبةَ مذهَبِهم إلى رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والخُلفاءِ الأربعةِ وغَيرِهم مِن الصَّحابةِ -رِضوانُ اللهِ عليهم جميعًا- يَعرِفُ بُطلانَها مَن له أدنى معرفةٍ بعقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، التي يُخالِفونَ فيها المُعتَزِلةَ تمامَ المُخالَفةِ في قضايا الإيمانِ بصفاتِ اللهِ تعالى، ورؤيتِه في الآخِرةِ، والقَدَرِ، والحُكمِ على مُرتكِبِ الكبيرةِ، وكونِ القرآنِ مُنزَّلًا غَيرَ مخلوقٍ، وتقديمِ السَّمعِ على العقلِ، وغَيرِها. ونِسبةُ مذهَبِهم إلى بعضِ التَّابِعينَ مِن السَّلفِ يذكُرُها المُعتَزِلةُ في كُتبِهم، ولا دليلَ لهم على ذلك أيضًا؛ فما عُرِف مِن أحوالِ هؤلاء وأقوالِهم ومواقِفِهم يدُلُّ على مُخالَفتِهم للمُعتَزِلةِ.
وليس عندَ المُعتَزِلةِ أيُّ دليلٍ على أنَّ التَّابِعينَ كانوا يُوافِقونَهم إلَّا ما يزعُمونَ مِن أنَّ الحَسنَ البَصريَّ قد قال بالقَدَرِ على مذهَبِهم، وأنَّه منهم، فيَروونَ عن داودَ بنِ أبي هندٍ أنَّه قال: سمِعْتُ الحَسنَ يقولُ: (كُلُّ شيءٍ بقضاءِ اللهِ وقَدَرِه إلَّا المعاصيَ)، ويُورِدونَ له رسائِلَ أرسَلها إلى عبدِ الملِكِ بنِ مَروانَ، وفيها قولُه بالقَدَرِ على مذهَبِ المُعتَزِلةِ، ويقولونَ: إنَّ رسائِلَه مشهورةٌ .
الرَّدُّ على دعواهم نِسبةَ الحَسنِ البَصريِّ إليهم:
أوَّلًا: أنَّ المُعتَزِلةَ أنفُسَهم لا يقطَعونَ بنِسبةِ الحَسنِ إليهم، وابنُ المُرتضى لمَّا ذكَر الحَسنَ وقولَه في القَدَرِ قال: (إن قُلْتَ: فقد روى أيُّوبُ: أتَيتُ الحَسنَ فكلَّمْتُه في القَدَرِ، فكفَّ عن ذلك؛ قُلْتُ: قد رُوِي أنَّه خوَّفه بالسُّلطانِ، فكفَّ عن الخوضِ فيه...) ، ثُمَّ هل يخافُ الحَسنُ السُّلطانَ وهو الرَّجلُ الذي يجهَرُ بالحقِّ دائِمًا؟
ثانيًا: أنَّ الرِّسالةَ المنسوبةَ إلى الحَسَنِ حَولَ القَدَرِ والجَبرِ قال عنها الشَّهْرَسْتانيُّ: (رأَيتُ رسالةً نُسِبَت إلى الحَسنِ البَصريِّ كتَبها إلى عبدِ الملِكِ بنِ مَروانَ، وقد سأله عن ‌القولِ ‌بالقَدَرِ ‌والجَبرِ، فأجابه فيها بما يُوافِقُ مذهَبَ القَدَريَّةِ، واستدلَّ فيها بآياتٍ مِن الكتابِ ودلائِلَ مِن العقلِ. ولعلَّها لواصِلِ بنِ عطاءٍ، فما كان الحَسنُ ممَّن يُخالِفُ السَّلفَ في أنَّ القَدَرَ خيرَه وشرَّه مِن اللهِ تعالى؛ فإنَّ هذه الكلماتِ كالمُجمَعِ عليها عندَهم) .
وهذه الرِّسالةُ لم تَصِحَّ نِسبتُها إلى الحَسنِ، والمُعتَزِلةُ يَنسُبونَ إلى الحَسَنِ في ذلك أقوالًا برواياتٍ مُنقطِعةٍ؛ فابنُ المُرتضى حينَ ذكَر أهلَ العَدلِ والتَّوحيدِ عدَّ منهم الحسنَ البَصريَّ، وترجَم له ترجمةً طويلةً، ولمَّا أراد أن يُثبِتَ أنَّه مِن أهلِ العَدلِ قال: (فمِن تصريحِه بالعَدلِ ما رواه عليُّ بنُ الجَعدِ، قال: سمِعْتُ الحَسنَ يقولُ: مَن زعَم أنَّ المعاصيَ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ جاء يومَ القيامةِ مُسْوَدًّا وَجهُه، وقرأ: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزمر: 60] ) .
وعليُّ بنُ الجَعدِ الذي يقولُ: سمِعْتُ الحَسنَ، لم يسمَعْ منه ولم يَلقَه، فهذه روايةٌ مُنقطِعةٌ، وقد تُوفِّي الحَسنُ البَصريُّ سنةَ 110هـ ، أي: قَبلَ ولادةِ عليِّ بنِ الجَعدِ بأكثَرَ مِن 20 سنةٍ؛ فقد وُلِد نَحوَ سنةِ 134هـ .
ثالثًا: قال حمَّادُ بنُ زيدٍ: (كان مَعبَدٌ الجُهَنيُّ أوَّلَ مَن تكلَّم في القَدَرِ بالبَصرةِ، وكان عطاءُ بنُ أبي ميمونةَ، فكأنَّ لِسانَه سِحرٌ، وقد رأَيتُه وكان يرى القَدَرَ، وكانا يأتيانِ ‌الحَسنَ فيقولانِ: يا أبا سعيدٍ، إنَّ هؤلاء الملوكَ يسفِكونَ دماءَ المُسلِمينَ، ويأخُذونَ الأموالَ، ويفعَلونَ ويقولونَ: إنَّما تجري أعمالُنا على قَدَرِ اللهِ، قال: فقال: ‌كذَب ‌أعداءُ ‌اللهِ! قال: فيتعلَّقونَ بمِثلِ هذا وشِبهِه عليه، فيقولونَ: يرى رأيَ القَدَرِ) .
فهذا التَّعليقُ مِن حمَّادِ بنِ زيدٍ يُفيدُ أنَّهم كانوا يلتقِطونَ مِثلَ هذه العباراتِ مِن كلامِ الحَسنِ البَصريِّ لترويجِ أنَّه مِن القَدَريَّةِ، ويرى رأيَهم، وهذا لا يصِحُّ.
ويُشبِهُ هذا ما يُروى عن الحَسنِ -وهو مُحِقٌّ في قولِه، ولكنَّ المُعتَزِلةَ يُفسِّرونَ قولَه بما يدُلُّ على أنَّه منهم، وليس كذلك- وذلك ما أورَده القاضي عبدُ الجبَّارِ في مَعرِضِ وَصمِه لأهلِ السُّنَّةِ بأنَّهم قَدَريَّةٌ، فقال: (رُوِي عن الحَسنِ رحِمه اللهُ أنَّه كان يقولُ: "إنَّ اللهَ تعالى بعَث مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى العَرَبِ، وهم قَدَريَّةٌ مُجْبِرةٌ يحمِلونَ ذُنوبَهم على اللهِ، ويقولونَ: إنَّ اللهَ سُبحانَه قد شاء ما نحن فيه، وحمَلَنا عليه، وأمَرَنا به، فقال عزَّ وجلَّ: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 28] .
قال الطِّيبيُّ: (هذه فِريةٌ على الحَسنِ؛ فإنَّ القَدَريَّةَ مَن يُثبِتُ خالِقًا غَيرَ اللهِ) .
وروى ابنُ سَعدٍ، قال: (أخبَرنا أحمَدُ بنُ مُحمَّدِ بنِ الوليدِ الأزرَقيُّ قال، حدَّثنا عبدُ الرَّحمنِ بنُ أبي الرِّجالِ، عن عُمرَ مولى غُفْرةَ، قال: كان أهلُ القَدَرِ ينتَحِلونَ الحَسنَ بنَ أبي الحَسنِ، وكان قولُه مُخالِفًا لهم، كان يقولُ: "يا بنَ آدَمَ لا تُرْضِ أحدًا بسَخَطِ اللهِ، ولا تُطيعنَّ أحدًا في معصيةِ اللهِ، ولا تحمَدَنَّ أحدًا على فَضلِ اللهِ، ولا تلومَنَّ أحدًا فيما لم يُؤتِك اللهُ، إنَّ اللهَ خلَق الخَلقَ والخلائِقَ، فمضَوا على ما خلَقهم عليه، فمَن كان يظُنُّ أنَّه مُزدادٌ بحِرصِه في رِزقِه فليزدَدْ بحِرصِه في عُمرِه، أو يُغيِّرُ لونَه، أو يزيدُ في أركانِه أو بَنانِهـ) .
رابعًا: معلومٌ أنَّ المُعتَزِلةَ أجمَعوا على أُصولِهم الخمسةِ، والحَسنُ البَصريُّ يَعتبِرُ القولَ بالمنزِلةِ بَينَ المنزِلتَينِ بِدعةً تُخرِجُ صاحِبَها عن عقيدةِ الجماعةِ؛ ولذلك اعتزَل واصِلُ بنُ عطاءٍ حَلْقةَ الحَسنِ لمَّا خالَفه في هذا الأصلِ، فكيف يُعتبَرُ الحَسنُ مِن عُلمائِهم المُنتسِبينَ إليهم ؟!
خامسًا: ذكَر عبدُ اللهِ بنُ أحمَدَ في كتابِ "السُّنَّةِ" عِدَّةَ رواياتٍ تدُلُّ على أنَّ بعضَ المُعتَزِلةِ القَدَريَّةِ يكذِبونَ على الحَسنِ البَصريِّ؛ فمِن ذلك ما رواه عن حُمَيدٍ قال: (قَدِم الحَسنُ مكَّةَ، فقال فُقهاءُ مكَّةَ؛ الحَسنُ بنُ مُسلِمٍ وعبدُ اللهِ بنُ عُبَيدٍ: "لو كلَّمْتَ الحَسنَ فأخلانا يومًا)، فكلَّمْتُ الحَسنَ، فقُلْتُ: يا أبا سعيدٍ، إخوانُك يُحِبُّونَ أن تجلِسَ لهم يومًا، قال: نعَمْ، ونُعمَةَ عَينٍ ، فواعَدَهم يومًا، فجاؤوا فاجتمَعوا، وتكلَّم الحَسنُ، وما رأيتُه قَبلَ ذلك اليومِ ولا بَعدَه أبلَغَ منه ذلك اليومَ، فسألوه عن صحيفةٍ طويلةٍ، فلم يُخطِئْ فيها شيئًا إلَّا في مسألةٍ، فقال له رجُلٌ: يا أبا سعيدٍ، مَن خلَق الشَّيطانَ؟ قال: سُبحانَ اللهِ، سُبحانَ اللهِ، وهل مِن خالِقٍ غَيرُ اللهِ؟! ثُمَّ قال: إنَّ اللهَ خلَق الشَّيطانَ، وخلَق الشَّرَّ والخيرَ، فقال رجُلٌ منهم: قاتَلهم اللهُ! يكذِبونَ على الشَّيخِ!) .
وقد قال حُمَيدٌ لمَن نقَل عن عَمرِو بنِ عُبَيدٍ حديثًا رواه عن الحَسنِ: (لا تأخُذْ عن هذا؛ فإنَّه يكذِبُ على الحَسنِ) .
وروى عبدُ اللهِ بنُ أحمَدَ عن حمَّادِ بنِ زيدٍ قال: قيل لأيُّوبَ: إنَّ عَمرًا -أي عَمرَو بنَ عُبَيدٍ- روى عن الحَسنِ أنَّه قال: (لا يُجلَدُ السَّكرانُ مِن النَّبيذِ)، قال: كذَب، أنا سمِعْتُ الحَسنَ يقولُ (يُجلَدُ السَّكرانُ مِن النَّبيذِ) .
فهذه الرِّواياتُ وغَيرُها تدُلُّ على أنَّ دعوى أنَّ الحَسنَ البَصريَّ كان قَدَريًّا، أو يقولُ بقولِهم، ليست صحيحةً، والشَّواهِدُ تُبيِّنُ كَذِبَها .

انظر أيضا:

  1. (1) يُنظر: ((المُنْية والأمل)) لابن المرتضى (ص: 17).
  2. (2) يُنظر: ((المُنْية والأمل)) لابن المرتضى (ص: 26).
  3. (3) ((المُنْية والأمل)) لابن المرتضى (ص: 29).
  4. (4) ((المِلَل والنِّحَل)) (1/47).
  5. (5) ((أمالي المرتضى)) (1/ 153).
  6. (6) يُنظر: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (4/ 587).
  7. (7) يُنظر: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (10/ 460).
  8. (8) يُنظر: ((الضعفاء الكبير)) للعقيلي (3/ 403)، ويُنظر أيضًا: ((المعارف)) لابن قُتَيبة (ص: 441).
  9. (9) ((المغني في أبواب التوحيد والعدل)) (8/329).
  10. (10) ((فتوح الغيب)) (6/ 365).
  11. (11) ((الطبقات الكبرى)) (9/175).
  12. (12) يُنظر: ((موقف المُعتزِلة من السنة النبوية)) لأبي لبابة حسين (ص: 27)، ((أدب المُعتزِلة إلى نهاية القرن الرابع الهجري)) لعبد الحكيم بلبع (ص: 116).
  13. (13) قوله: "ونُعْمةَ عينٍ"، أي: قُرَّةَ عَينٍ. يعني: ‌أُقرُّ ‌عينَك ‌بطاعتِك، ‌واتِّباعِ ‌أمرِك. ‌يقال: ‌نُعمةُ ‌عَينٍ، بالضَّمِّ، ونُعْمُ عَينٍ، ونُعْمَى عَينٍ. يُنظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (5/84).
  14. (14) يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (2/427)، ورواه أبو داود (4618).
  15. (15) يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (2/436).
  16. (16) يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (2/439)، ورواه مسلم (1/ 23).
  17. (17) يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (2/439).
  18. (18) يُنظر: ((القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة)) لعبد الرحمن المحمود (ص: 184- 190).