المَبحَثُ الأوَّلُ: التَّعريفُ بالشَّيخِ عَبد القادِر الجيلانيِّ
حَفَلت سيرةُ عَبدِ القادِرِ الجيلانيِّ باعتِناءِ كَثيرٍ منَ المُؤَلِّفينَ سَواءٌ من أهلِ السُّنَّةِ أوِ الصُّوفيَّةِ وغَيرِهم، وقد أحصى عَبدُ المَجيدِ الدهيبيُّ الجيلانيُّ 70 كِتابًا ورِسالةً بَين مَطبوعٍ ومَخطوطٍ ألِّفَت في سيرةِ عَبدِ القادِرِ الجيلانيِّ
.
وهو أبو مُحَمَّدٍ مُحيي الدِّينِ عَبدُ القادِرِ بنُ موسى بنِ عَبدِ اللَّهِ الجيلانيُّ أوِ الكيلانيُّ
، أو الجيليُّ
شَيخُ الطَّريقةِ القادِريَّةِ. وهو من كِبارِ الزُّهَّادِ والمُتَصَوِّفةِ.
قيل: وُلدَ سَنةَ 470هــ وقيل: سَنةَ 471هـ، بكيــلانَ أو جيلانَ، ووفد بَغدادَ شابًّا سنـةَ 488هـ فاتَّصَل فيها بشُيوخِ العِلمِ والتَّصَوُّفِ خاصَّةً شَيخَ الحَنابلةِ أبا سَعدٍ المُبارَكَ بنَ عَليٍّ المُخَرميَّ، وتَفقَّه بأبي الوفاءِ بنِ عَقيلٍ الحَنبليِّ، وأبي الخَطَّابِ مَحفوظِ بنِ أحمَدَ الكلوذانيِّ الحَنبليِّ، وأبي الحُسَينِ ابنِ القاضي أبي يَعلى الحَنبليِّ، وأخذ عنهمُ المَذهَبَ والخِلافَ، والفُروعَ والأصولَ، وسَمِعَ الحَديثَ من جَمعٍ كَثيرٍ؛ منهم: أبو غالبٍ مُحَمَّدُ بنُ الحَسَنِ الباقِلَّانيُّ، وأبو سَعدٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبدِ الكَريمِ، وأبو الغَنائِمِ مُحَمَّدُ بنُ عَليِّ بنِ مَيمونَ، وغَيرُهم. وقَرَأ الأدَبَ على أبي زَكَريَّا يَحيى بنِ عَليٍّ التَّبريزيِّ، وصَحِبَ الشَّيخَ حَمَّادَ بنَ مُسلمٍ الدَّبَّاسَ وتَأدَّبَ به، وأخَذَ عنه عِلمَ الطَّريقةِ، وبَرَعَ في أساليبِ الوعظِ، واشتَهَرَ
.
وجَلسَ للوعظِ سَنةَ 520هـ، وحَصَل له القَبولُ منَ النَّاسِ، واعتَقدوا ديانَته وصَلاحَه، وانتَفعوا بكَلامِه ووعظِه
. وقد كانت مَجالِسُ وَعظِه وقُدرَتُه على التَّأثيرِ والجَذبِ وكَثرةُ إقبالِ النَّاسِ على سَماعِ مَواعِظِه مَحَلَّ إشارةِ مُعظَمِ مَن تَرجَمَ له منَ المُؤَرِّخينَ وكُتَّابِ السِّيَرِ، وذَكَروا أنَّ المُلوكَ والسَّلاطينَ والوُزَراءَ والعُلماءَ كانوا يَحضُرونَ تلك المَجالسَ
.
قال السَّمعانيُّ عنه: (إمامُ الحَنابلةِ وشَيخُهم في عَصرِه، فقيهٌ صالحٌ، دَيِّنٌ خَيِّرٌ، كَثيرُ الذِّكْرِ، دائِمُ الفِكرِ، سَريعُ الدَّمعةِ)
.
وتوُفِّيَ سَنةَ 561هـ ودُفِنَ بمَدرَسَتِه
.
قال ابنُ الجَوزيِّ: (تَفقَّه على أبي سَعدٍ المُخَرميِّ، وكان أبو سَعدٍ قد بَنى مدرسةً لطيفةً ببابِ الأزجِ ففُوِّضَت إلى عَبدِ القادِرِ، فتَكَلَّمَ على النَّاسِ بلسانِ الوعظِ وظَهَرَ له صيتٌ بالزُّهدِ، وكان له سَمتٌ وصَمتٌ، فضاقَت مَدرَسَتُه بالنَّاسِ، فكان يَجلسُ عِندَ سورِ بَغدادَ مُستَنِدًا إلى الرِّباطِ ويَتوبُ عِندَه في المَجلسِ خَلقٌ كَثيرٌ، فعَمَرَتِ المَدرَسةَ ووسِعَت، وتَعَصَّبَ في ذلك العَوامُّ، وأقامَ في مَدرَسَتِه يُدرِّسُ ويَعِظُ إلى أن توُفِّيَ)
.
ومن أبرَزِ تلامِذتِه:عَليٌّ الهِيتيُّ، وعُمَرُ شِهاب الدِّينِ السَّهرَورديُّ
.
ما نُسِبَ إلى عَبدِ القادِرِ الجيلانيِّ منَ المُصَنَّفاتِيُمكِنُ تَقسيمُ ما نُسِبَ إليه منَ المُصَنَّفاتِ إلى قِسمَينِ
:
القِسمُ الأوَّلُ: ما كتبه بنَفسِه:ومن هذه الكُتُبِ:1- الغُنيةُ لطالبي الحَقِّ عَزَّ وجَلَّ: الذي كَتَبَه استِجابةً لإلحاحِ إخوانِه وتَلاميذِه، كَما قال في مُقدِّمَتِه: (ألحَّ عَليَّ بَعضُ أصحابي وشَدَّدَ في الخِطابِ في تَصنيفِ هذا الكِتابِ لحُسنٍ ظَنِّه في الإصابةِ... فأجَبتُه إلى ذلك، وسارَعتُ مُشَمِّرًا مُبتَغيًا مُحتَسِبًا للثَّوابِ راجيًا للنَّجاةِ في يَومِ الحِسابِ، إلى جَمعِ هذا الكِتابِ بتَوفيقِ رَبِّ الأربابِ المُلهمِ للصَّوابِ)
.
وهو كِتابٌ يَحتَوي على أجزاءٍ في الفِقهِ والعَقيدةِ، وبَعضِ المَجالسِ المُتَعَلِّقةِ بالقُرآنِ والتَّوبةِ والتَّقوى، والجَنَّةِ والنَّارِ، وبَعضِ الأحكامِ الفِقهيَّةِ، والتَّصَوُّفِ وآدابِ المُريدينَ، وبَعضِ الأحوالِ والمَقاماتِ.
2- فُتوحُ الغيبِ: وهو كِتابٌ يَحتَوي على العَديدِ منَ المَقالاتِ والنَّصائِحِ.
3- الفَتحُ الرَّبَّانيُّ والفَيضُ الرَّحمانيُّ: وهو عبارةٌ عن مواعِظَ ووصايا.
القِسمُ الثَّاني: ما كَتَبَه بَعضُ طُلَّابِه أو أتباعِه ثمَّ نُسِبَ إليه:ومن هذه الكُتُبِ:1- الأورادُ القادريَّةُ:وهو كِتابٌ يَشتَمِلُ على بَعضِ الأدعيةِ والأحزابِ والصَّلواتِ المُبتَدَعةِ والقَصائِدِ الشِّرِكيَّةِ، جَمعها مُحَمَّد سالم بَوَّاب، وطَبعَتها دارُ الألبابِ بدِمَشقَ عامَ 1992م، ونَسَبها إلى الشَّيخِ عَبدِ القادِرِ الجيلانيِّ. وهذه النِّسبةُ غَيرُ صَحيحةٍ؛ لِما اشتَمَلت عَليه تلك الأورادُ منَ الضَّلالاتِ التي لا يُتَصَوَّرُ صُدورُها منه، وأغلَبُ الظَّنِّ أنَّها مِن وَضعِ أتباعِه الذينَ ابتَدَعوها ثمَّ نَسَبوها إليه حتَّى تُرَوَّجَ ويَتِمَّ انتِشارُها
.
2- السَّفينةُ القادِريَّةُ:وهو كِتابٌ اشتَمَل على تَرجَمةٍ للشَّيخِ عَبدِ القادِرِ الجيلانيِّ كَتَبَها ابنُ حَجرِ العَسقَلانيُّ بعُنوانِ (غِبطةُ النَّاظِرِ في تَرجَمةِ الشَّيخِ عَبدِ القادِرِ) كَما اشتَمَل على بَعضِ الصَّلواتِ والأورادِ، وعلى شَرحِ حِزبِ الوسيلةِ المَنسوبِ إلى الشَّيخِ عَبدِ القادِر، والذي وضَعَه مُحَمَّد أمين الكيلانيُّ، وبه منَ الصَّلواتِ المُبتَدَعةِ والمَناماتِ والألفاظِ الشِّرِكيَّةِ ما يُؤَيِّدُ عَدَمَ نِسبةِ الكِتابِ إلى الشَّيخِ عَبدِ القادِرِ الجيلانيِّ
.
3- الفُيوضاتُ الرَّبَّانيَّةُ في المَآثِرِ والأورادِ القادِريَّةِ:وهو من جَمعِ وتَرتيبِ إسماعيلَ بنِ السَّيِّدِ مُحَمَّد القادِريِّ، وقد نَسَبَه الزِّرِكليُّ في «الأعلامِ»
إلى الشَّيخِ عَبدِ القادِرِ، وهو غَيرُ صَحيحٍ، والكِتابُ يَحتَوي على كَثيرٍ منَ البدَعِ والخُرافاتِ والأورادِ الشِّركيَّةِ، كَما اشتَمَل على تَقسيماتٍ للنَّفسِ في مَقاماتِ الصُّوفيَّةِ، ولا دَليلَ عَليها
.
وقدِ افتُريَ على هذا الشَّيخِ الجَليلِ افتِراءً عَظيمًا، وكُذِبَ عَليه كَذِبًا مُهينًا، ونُسِبَ إليه منَ الكَراماتِ والدَّعاوى ما لا يَقبلُه عَقلٌ ولا دينٌ؛ منها:
1. أنَّ الشَّيخَ عَبدَ القادِرِ الجيلانيَّ مُتَصَرِّفٌ في الأكوانِ.
2. أنَّه قال: (قدمي هذه على رَقَبةِ كُلِّ وليٍّ)، وزَعَموا أنَّه قال ذلك بأمرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم!
3. وصفُه بأنَّه هو القُطبُ والغَوثُ وأنَّه غِياثُ المُستَغيثينَ.
4. نِسبةُ الكَثيرِ منَ المُمارَساتِ الصُّوفيَّةِ إليه.
5. أنَّ مُجَرَّدَ اسمِه إذا كُتِبَ في كَفَنِ المَيِّتِ لن تَمَسَّه النَّارُ.
هذا قَليلٌ من كَثيرٍ، وغَيضٌ من فيضٍ ممَّا نُسِبَ إليه. ولم يُسمَعْ عن أحَدٍ يُحكى عنه منَ الخُرافاتِ والتُّرَّهاتِ أكثَرَ ممَّا يُحكى عنِ الشَّيخِ عَبدِ القادِرِ، ولا شَكَّ أنَّه بَريءٌ من كَثيرٍ ممَّا يَحكي عنه أتباعُه ومُريدوه
.
قال عَبدُ الرَّحيمِ البُرَعيُّ السُّودانيُّ في مَدحِ عَبدِ القادِرِ الجيلانيِّ:
هو القُطبُ والغَوثُ الكبيرُ هو الذي
أفاضَ على الأكوانِ كالبَحرِ والسَّيلِ
وعِندَ ظُهورِ الحالِ يَخطو على الهَوى
ويُظهِرُ شيئًا ليس يُدرَكُ بالعَقلِ
بأكفانِ مَن قد ماتَ إن كُتِبَ اسمُه
يكونُ له سِترًا منَ النَّارِ والهَولِ
وكلُّ وَليٍّ عُنقُه تحتَ رِجلِه
بأمرِ رَسولِ اللهِ يا لها من رِجلِ
يَنوبُ عنِ المُختارِ في حَضرةِ العُلا
ويحكُمُ بالإحسانِ والحَقِّ والعَدلِ
.
وزَعَموا أنَّه قال: (أزِمَّةُ أهلِ الزَّمانِ على قَلبي، وأنا المُتَصَرِّفُ في عَطائِهم ومَنعِهم)
.
وزَعَموا أنَّه قال: (إنَّ قُلوبَ النَّاسِ في يَدي، إن أرَدتُ صَرفَها عنِّي صَرَفتُها، وإن أرَدتُ صَرَفتُها إليَّ)
.
وقال أحَدُهم: (إنَّ الشَّيخَ الجيلانيَّ هو غَوثُ الأغواثِ، وإنَّ له حَقَّ التَّثبيتِ في اللَّوحِ المَحفوظِ، وأنَّه يَملِكُ أن يَجعَلَ المَرأةَ رَجُلًا)
.
ونَقَلوا أنَّ عَبدَ القادِرِ كان يَمشي في الهَواءِ على رُؤوسِ الأشهادِ في مَجلسِه، ويَقولُ: (ما تَطلُعُ الشَّمسُ حتَّى تُسَلِّمَ عَليَّ...)
.
ومَصدَرُ هذه الطَّوامِّ كِتابٌ كَبيرٌ في عِدَّةِ مُجَلَّداتٍ في مَناقِبِ عَبدِ القادِرِ الجيلانيِّ جَمعها من غَيرِ خِطامٍ ولا زِمامٍ ولا تَحريرٍ ولا اهتِمامٍ أبو الحَسَن الشَّطَّنَوفيُّ المِصريُّ
.
قال ابنُ رَجَبٍ الحَنبليُّ: (كان الشَّيخُ عَبدُ القادِرِ رَحِمَه اللهُ في عَصرِه مُعَظَّمًا، يُعَظِّمُه أكثَرُ مَشايِخِ الوقتِ منَ العُلماءِ والزُّهَّادِ، وله مَناقِبُ وكَراماتٌ كَثيرةٌ، ولكِن قد جَمَعَ المُقرِئُ أبو الحَسَنِ الشَّطَّنَوفيُّ المِصريُّ في أخبارِ الشَّيخِ عَبدِ القادِرِ ومَناقِبِه ثَلاثَ مُجَلَّداتٍ، وكَتَبَ فيها الطِّمَّ والرِّمَّ، وكَفى بالمَرءِ كَذِبًا أن يُحَدِّثَ بكُلِّ ما سَمِعَ. وقد رَأيتُ بَعضَ هذا الكِتابِ، ولا يطيبُ على قَلبي أن أعتَمِدَ على شَيءٍ ممَّا فيه فأنقُلَ منه إلَّا ما كان مَشهورًا مَعروفًا من غَيرِ هذا الكِتابِ، وذلك لكَثرةِ ما فيه منَ الرِّوايةِ عنِ المَجهولينَ، وفيه منَ الشَّطحِ والطَّامَّاتِ، والدَّعاوى، والكَلامِ الباطِلِ، ما لا يُحصى، ولا يَليقُ نِسبةُ مِثلِ ذلك إلى الشَّيخِ عَبدِ القادِرِ رَحِمَه اللهُ، ثمَّ وجَدتُ الكَمالَ جَعفر الأُدْفُويَّ
قد ذَكرَ أنَّ الشَّطَّنَوفيَّ نَفسَه كان مُتَّهَمًا فيما يَحكيه في هذا الكِتابِ بعَينِهـ)
.
وقال الذَّهَبيُّ خاتِمًا تَرجَمتَه لعَبدِ القادِرِ بقَولِه: (وفي الجُملةِ: الشَّيخُ عَبدُ القادِرِ كَبيرُ الشَّأنِ، وعليه مَآخِذُ في بَعضِ أقوالِه ودَعاويه، واللهُ المَوعِدُ، وبَعضُ ذلك مَكذوبٌ عليهـ)
.
وقال عنه ابنُ كَثيرٍ: (كان له سَمتٌ حَسَنٌ، وصَمتٌ غَيرَ الأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عنِ المُنكَرِ، وكان فيه زُهدٌ كَثيرٌ، وله أحوالٌ صالحةٌ ومُكاشَفاتٌ، ولأتباعِه وأصحابِه فيه مَقالاتٌ، ويَذكُرونَ عنه أقوالًا وأفعالًا ومُكاشَفاتٍ أكثَرُها مُغالاةٌ، وقد كان صالحًا ورِعًا، وقد صَنَّف كِتابَ «الغُنيةُ»، و«فُتوحُ الغَيبِ»، وفيهما أشياءُ حَسَنةٌ، وذَكَر فيهما أحاديثَ ضَعيفةً ومَوضوعةً، وبالجُملةِ كان من ساداتِ المَشايِخِ قدَّسَ اللهُ رُوحَه ونوَّر ضَريحَهـ)
.
وقال ابنُ رَجَبٍ: (للشَّيخِ عَبدِ القادِرِ رَحِمَه اللهُ تعالى كَلامٌ حَسَنٌ في التَّوحيدِ والصِّفاتِ والقَدَرِ، وفي عُلومِ المَعرِفةِ، موافِقٌ للسُّنَّةِ.
وله كِتابُ «الغُنيةُ لطالبي طَريقِ الحَقِّ»، وهو مَعروفٌ، وله كِتابُ «فُتوحُ الغَيبِ»، وجَمع أصحابُه من مَجالسِه في الوعظِ كَثيرًا، وكان مُتَمَسِّكًا في مَسائِلِ الصِّفاتِ والقدَرِ ونَحوِها بالسُّنَّةِ، بالغًا في الرَّدِّ على مَن خالفَها)
.
والحَقُّ أنَّ كُلًّا يُؤخَذُ من قَولِه ويُترَكُ إلَّا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلا يَنبَغي لأحَدٍ أن يُقَلِّدَ دينَه الرِّجالَ، أو أن يُقَلِّدَ أحَدًا في كُلِّ ما يَقولُ سِوى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويَنبَغي للمُسلمِ أن يَزِنَ كَلامَ أيِّ إنسانٍ بميزانِ الشَّرعِ؛ فما وافقَ الكِتابَ والسُّنَّةَ قُبِل وما خالفَهما رُدَّ.