المَبحَثُ الخامِسُ: عَدَمُ خُلوِّ الأرضِ مِن حُجَّةٍ
عَدَمُ خُلوِّ الأرضِ من حُجَّةٍ هو إحدى عَقائِدِ المُتَصَوِّفةِ التي تَتَشابَهُ مَعَ الشِّيعةِ كذلك.
فمِنَ العَقائِدِ الشِّيعيَّةِ أنَّ الأرضَ لا تَخلو من حُجَّةٍ، وهو الإمامُ المَعصومُ عِندَهم، وقد بَوَّبَ عُلماؤُهم أبوابًا مُستَقِلَّةً لبَيانِ هذه العَقيدةِ، وأورَدوا فيها رِواياتٍ مَكذوبةً على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعلى عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه وذُرِّيَّتِه.
ومن ذلك ما أورَدَه الكُلينيُّ منَ الرِّواياتِ تَحتَ عُنوانِ: (لو لم يَبقَ في الأرضِ إلَّا رَجُلانِ لكان أحَدُهما الحُجَّةَ): ومنها ما رَواه عن جَعفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ الباقِرِ أنَّه قال: (لو لم يَكُنْ في الأرضِ إلَّا اثنانِ لكان الإمامُ أحَدَهما)
.
كما أوردَ رِواياتٍ كَثيرةً في بابِ: (إنَّ الأرضَ لا تَخلو من حُجَّةٍ): منها ما رَواها أيضًا عن جَعفرٍ أنَّه سُئِل: (أتَخلو الأرضُ بغَيرِ إمامٍ؟ قال: لو بَقيَتِ الأرضُ بغَيرِ إمامٍ لساخَت بأهلِها)
.
وبمِثلِ ذلك رَوى ابنُ بابَوَيهِ القُمِّيِّ عن عليِّ بنِ موسى الرِّضا أنَّه سُئِل: (أتَخلو الأرضُ من حُجَّةٍ؟ فقال: لو خَلَتِ الأرضُ طَرفةَ عَينٍ من حُجَّةٍ لساخَت بأهلِها)
.
وكذلك بَوَّبَ القُمِّيُّ بابًا مُستَقِلًّا في أحَدِ كُتُبِه: (العِلَّةُ التي من أجلِها يُحتاجُ إلى إمامٍ)، وأورَدَ في هذا البابِ أكثَرَ من عِشرينَ رِوايةً، منها ما رَواها عنِ الباقِرِ بنِ عليٍّ زَينِ العابدينَ: (لو أنَّ الإمامَ رُفعَ منَ الأرضِ ساعةً لماجَت بأهلِها كما يَموجُ البَحرُ بأهلِهـ)
.
وأمَّا الصُّوفيَّةُ فنَقَل أبو طالِبٍ المَكِّيُّ عن عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال: (لا تَخلو الأرضُ من قائِمٍ للَّهِ تعالى بحُجَّةٍ؛ إمَّا ظاهِرٌ مَكشوفٌ، وإمَّا خائِفٌ مَقهورٌ؛ لئَلَّا تَبطُلَ حُجَجُ اللهِ تعالى وبَيِّناتُهـ)
.
وبمِثلِ ذلك قال الحَكيمُ التِّرمِذيُّ، وأحمَدُ بنُ زرُّوقٍ: (لا تَخلو الدُّنيا في هذه الأمَّةِ من قائِمٍ بالحُجَّةِ)
.
وقال ابنُ عَرَبيٍّ: (لا يَخلو زَمانٌ عن كامِلٍ)
.
وقال عَلاءُ الدَّولةِ السِّمنانيُّ: (لا بُدَّ في كُلٍّ حينٍ مِن مُرشِدٍ يُرشِدُ الخَلْقَ إلى الحَقِّ، خِلافةً عنِ النَّبيِّ المُحِقِّ، ولا بُدَّ للمُرشِدِ منَ التَّأييدِ الإلهيِّ؛ ليُمكِنَ له تَسخيرُ المُستَرشِدينَ، وإفادةُ المُستَفيدينَ، وتَعليمُ المُتَعَلِّمينَ... وهو العالمُ، الوليُّ، الشَّيخُ. وإلى هذا أشارَ النَّبيُّ عليه السَّلامُ؛ حَيثُ قال: الشَّيخُ في قَومِه كالنَّبيِّ في أمَّتِه... ولا يَكونُ قُطبُ الإرشادِ في كُلِّ زَمانٍ منَ الأزمانِ إلَّا واحِدًا يَكونُ قَلبُه على قَلبِ المُصطَفى صاحِبِ الوِراثةِ الكامِلةِ)
.
وقال لسانُ الدِّينِ ابنُ الخَطيبِ: (ولا بُدَّ عِندَهم أن يَكونَ في العالمِ شَخصٌ واصِلٌ إليه في كُلِّ زَمانٍ، وهو الخَليفةُ المُتَلقِّي عنِ اللهِ أسرارَ المَوجوداتِ؛ إمَّا ظاهرًا فنَبيٌّ ورَسولٌ، أو باطِنًا فقُطبٌ)
.
وقال الشَّعرانيُّ نَقلًا عن عليٍّ الخَوَّاصِ أنَّه قال: (من نِعَمِ اللهِ تعالى على عِبادِه كَونُه تعالى لا يُخلِي الأرضَ من قائِمٍ له بحُجَّةٍ في دينِه، رَضِيَه لوِلايَتِه، واختارَه لمُعامَلتِه، يُبَيِّنُ به دَلالاتِه، يوضِّحُ به طُرُقاتِه، فطوبى لمَن كان كَذلك في هذا الزَّمانِ)
.
وهذا ما أشارَ إليه ابنُ تيميَّةَ في فتاواه بَعدَ ذِكرِ كَلامِ الصُّوفيَّةِ في هذا الخُصوصِ: (وهذا من جِنسِ دَعوى الرَّافِضةِ أنَّه لا بُدَّ في كُلِّ زَمانٍ من إمامٍ مَعصومٍ يَكونُ حُجَّةَ اللهِ على المُكَلَّفينَ، لا يَتِمُّ الإيمانُ إلَّا بهـ)
.