موسوعة الفرق

الفرْعُ الرَّابعُ: زيديَّةُ الجِيلِ والدَّيلَمِ


لم ينتَظِمْ للزَّيديَّةِ أمرٌ بعدَ مَقتَلِ زَيدِ بنِ عَليٍّ وابنِه يحيى، ومُحمَّدِ بنِ عبدِ اللَّهِ النَّفسِ الزَّكيَّةِ، وأخيه إبراهيمَ، حتَّى ظَهَر النَّاصِرُ الأُطْروشُ الحَسَنُ بنُ عَليِّ بنِ عُمَرَ بنِ عَليِّ بنِ الحُسَينِ بنِ عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ بخُراسانَ سنةَ 284هـ، وقيل: سنة 287هـ، فطُلب مكانُه فاختفى، واعتَزَل الأمرَ سنة 302هـ، ثُمَّ صار إلى بلادِ الجِيلِ والدَّيلَمِ، فدعا النَّاسَ إلى الإسلامِ على مَذهَبِ زيدِ بنِ عَليٍّ، فدانوا بذلك، ونشؤوا عليه [302] يُنظر: ((تاريخ الطبري)) (10/149)، ((المنتظم في تاريخ الملوك والأمم)) لابن الجوزي (7/ 212 - 214)، ((الكامل في التاريخ)) لابن الأثير (8/26). .
ثمَّ إنَّ الزَّيديَّةَ في تلك المِنطَقةِ مالت بعدَ ذلك عن القَولِ بإمامةِ المفضولِ، وطعنت في الصَّحابةِ طَعْنَ الإماميَّةِ، وذلك بعدَ ظُهورِ الدَّولةِ البُوَيهيَّةِ بَيْنَ عامَيْ (321-447هـ) والتي كانت زيديَّةً، ثُمَّ تحوَّلَت إلى شيعيَّةٍ غاليةٍ في التَّشيُّعِ، وابتدعت بِدَعًا ليس عليها أثارةٌ مِن عِلمٍ، لا من كتابٍ ولا من سُنَّةٍ، مِثلُ الاحتفالِ بعيدِ الغديرِ، وإظهارِ الحُزنِ يومَ عاشُوراءَ، وتجريمِ مَن تقَدَّم عَليًّا على بقيَّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدين رَضِيَ اللَّهُ عنهم أجمعين [303] يُنظر: ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/156)، ((البداية والنهاية)) لابن كثير (11/ 577) و (15/ 69 -71، 167 - 169)، ((مقدمة ابن خلدون)) (2/525). .
وكان الزَّيديَّةُ في الجِيلِ والدَّيلَمِ قد انقَسَموا إلى قاسميَّةٍ وناصِريَّةٍ، وكان يخطِّئُ بعضُهم بعضًا، حتى خرج المهديُّ أبو عبدِ اللَّهِ الدَّاعي [304] هو: محمَّدُ بنُ الحَسَنِ بنِ القاسمِ بنِ الحسنِ بنِ عليِّ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ القاسمِ بنِ الحسنِ بنِ زيدِ بنِ الحسَنِ بنِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ، أبو عبدِ اللهِ، والمعروفُ بابنِ الدَّاعي، من أئمَّةِ الزيديةِ، وُلِد في بلاد الدَّيلمِ، وأمُّه منهم، ونشأ بطَبَرِستان، وكان أعجميَّ اللِّسانِ، وكان عابدًا زاهدًا، تفقَّه وأفتى، وأخذ الفِقهَ عن الكَرخيِّ الحنفيِّ، وأخذ الاعتزالَ عن أبي الحسينِ البصريِّ، وكان فيه تشيعٌ بلا غلوٍّ، وكان يمتنعُ عن الترحُّمِ عن معاويةَ، ولا يَسُبُّ الصحابةَ، وكانت له رئاسةٌ عظيمةٌ في دولةِ بني بُوَيهِ، ثم دعا إلى نفسِه سنة 353هـ في بلادِ الدَّيلمِ، وكان يتكلَّمُ لغتَهم، فأطاعوه واجتمع عليه عشَرةُ آلافٍ منهم، وتلقَّب بالإمامِ المهديِّ لدينِ الله، ولَبِس الصُّوفَ وأظهر النُّسُكَ والصومَ، وتقلَّد المصحفَ، وكتب إلى الناسِ يدعوهم إلى الجهادِ، وقاتله أميرُ جرجان، فانهزم جيشُ ابنِ الدَّاعي بخيانةِ بعضِ أقاربِه، وبسوءِ تدبيرِ ثقاتِه، فلم يتمكَّنْ من الامتدادِ إلى طبَرِستان، وعاد إلى بلادِ الدَّيلَمِ، فسَمَّمه صاحِبُ طَبَرِستان سنةَ 359 أو 360 هـ، واللهُ أعلم. يُنظر: ((الإفادة في تاريخ الأئمة السادة)) للهاروني الحسني (ص: 117 - 129)، ((الشجرة المباركة في أنساب الطالبية)) للفخر الرازي (ص: 62 - 69)، ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (16/ 114 - 116)، ((الأعلام)) للزركلي (6/ 81، 82). ، وألقى إليهم أنَّ كُلَّ مجتَهِدٍ مُصيبٌ كما هو قَولُ مُعتَزِلةِ البَصرةِ [305] يُنظر: ((عيون المسائل)) للجشمي (ص: 79، 102)، ((الإفادة في تاريخ الأئمة السادة)) للهاروني الحسني (ص: 126)، ((البحر المحيط)) للزركشي (6/243)، ((المنية والأمل)) لابن المرتضى (ص: 97). .
أوَّلًا: القاسِميَّةُ
القاسِميَّةُ: نِسبةٌ إلى القاسِمِ بنِ إبراهيمَ بنِ إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ بنِ الحَسَنِ بنِ الحَسَنِ بنِ عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ، الملقَّبِ بالرَّسِّيِّ؛ لأنَّه كان يسكُنُ في جبالِ الرَّسِّ شَرقَ المدينةِ النَّبَويَّةِ، وُلِدَ سنةَ 169هـ، وهي السَّنةُ التي خرج فيها جماعةٌ من أهلِ بَيتِه على الخليفةِ الهادي العبَّاسيِّ، ووقعت بسبَبِ ذلك فتنةٌ عظيمةٌ في المدينةِ ومَكَّةَ تُسَمَّى وَقعةَ فَخٍّ، وقُتِل فيها كثيرٌ من أقاربِ القاسِمِ الرَّسِّيِّ، وسُجِن آخرون، وهرب بعضُهم إلى الحبَشةِ ثُمَّ إلى المغرِبِ وبلادِ الجِيلِ والدَّيلَمِ، وكان بعضُهم مطارَدين، وهذا من أسبابِ قِلَّةِ شُيوخِه من أهلِ بيتِه ومن غيرِهم، حتى إنَّه لم يأخُذِ العِلمَ عن أبيه إبراهيمَ الملَقَّبِ بطباطبا الذي مات في سِجنِ هارونَ الرَّشيدِ، ثُمَّ خرج أخوه مُحمَّدُ بنُ إبراهيمَ في العراقِ على المأمونِ العبَّاسيِّ، وكان القاسِمُ من دعاتِه في مِصرَ، ويقالُ: إنَّ القاسِمَ دعا إلى نفسِه بالإمامةِ في مِصرَ بعدَ مَوتِ أخيه مُحمَّدِ بنِ إبراهيمَ سنةَ 199هـ، ولم يتِمَّ له الأمرُ، وبقي مستَتِرًا، ثُمَّ بايعه بعضُ الشِّيعةِ من أهلِ البيتِ وغيرِهم في الكوفةِ سِرًّا سنةَ 220هـ، وبايعه كثيرٌ من المُعتَزِلةِ الذين كانوا يُعَظِّمونه لموافقتِه لهم في مَذهَبِ الاعتزالِ ولفَضلِه عندَهم وشَرَفِ نسَبِه، وقد تنقَّل القاسِمُ متخفِّيًا في كثيرٍ من البُلدانِ، كالعِراقِ والبَحرينِ ومِصرَ حتى وصل إلى أقصى المغرِبِ، ثُمَّ رجَعَ إلى الحجازِ، وقد قيل بأنَّه كان شيعيًّا غاليًا يرى أنَّ عَليَّ بنَ أبي طالبٍ رضي اللَّهُ عنه هو الوَصيُّ، وأنَّ مَن سبقه من الخلفاءِ الرَّاشدين ليسوا أئمَّةً، ولا تجِبُ طاعتُهم، وكان يرى أنَّ عَليًّا له عِلمٌ بالحوادثِ التي ستكونُ، وأنَّ النَّبيَّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ خَصَّه من العِلمِ المكنونِ بألفِ بابٍ، يَفتَحُ كُلُّ بابٍ منها ألفَ بابٍ، فكان يعلَمُ عِلمَ المنايا والقضايا، والحِكمةَ والوصايا! وكان القاسِمُ ممَّن خاض في عِلمِ الكلامِ على طريقةِ المُعتَزِلة، فهو يُنكِرُ استواءَ اللَّهِ على عرشِه كما يليقُ بجَلالِه، ويُؤَوِّلُ صِفاتِ اللَّهِ سُبحانَه، ويُنكِرُ رُؤيةَ اللَّهِ سُبحانَه، ويقولُ صَراحةً بخَلقِ القرآنِ، وخالَف أهلَ بيتِه في كثيرٍ من المسائِلِ، حتَّى إنَّه زعَم أنَّ أخاه مُحمَّدَ بنَ إبراهيمَ كان يقولُ بشيءٍ من التَّشبيهِ، وكان القاسِمُ شاعِرًا بليغًا، وله مؤلَّفاتٌ ورسائِلُ كثيرةٌ، بعضُها فيه وصايا وحِكَمٌ ومواعِظُ، وحَثٌّ على الزُّهدِ في الدُّنيا والعُزلةِ عن النَّاسِ، وكان فقيهًا يَعرِفُ بعضَ مذاهِبِ الفُقَهاءِ، كمَذهَبِ أبي حنيفةَ ومالِكٍ، وهو من أقدَمِ فُقَهاءِ الزَّيديَّةِ، وأعظَمِهم شُهرةً، ويُلَقِّبونه بنجمِ آلِ الرَّسولِ، وقد خالف القاسِمُ عُلَماءَ الأمَّةِ وغالِبَ عُلَماءِ آلِ البيتِ في عِدَّةِ مسائِلَ فِقهيَّةٍ، كالقولِ بالاستفتاحِ قبل التَّكبيرِ، وإنكارِ قولِ: آمينَ، وتخييرِ المصَلِّي بَيْنَ الذِّكرِ بَيْنَ السَّجدتينِ وتركِه، واستحبابِ صومِ يومِ الشَّكِّ، وتأخيرِ الإفطارِ إلى ظُهورِ النُّجومِ، وكان يُشَكِّكُ في السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ التي دوَّنها أهلُ الحديثِ، ولا يَعلَمُ صحيحَها من ضعيفِها، ويطعَنُ في كثيرٍ من الأحاديثِ الصَّحيحةِ المشهورةِ والمتواترةِ، ويذكُرُ في كُتُبِه كثيرًا من الأحاديثِ الموضوعةِ مُستَدِلًّا بها، وكثيرًا ما يقولُ في كُتُبِه: أجمع أهلُ البيتِ، لأشياءَ هم مختلفون فيها، كقولِه: أجمع آلُ الرَّسولِ على تَركِ المسحِ على الخُفَّينِ، وإنَّ أهلَ البيتِ مجمِعون على أنَّ المسحَ على الخُفَّينِ فاسِدٌ لا يجوزُ! مع أنَّه ثَبَت عن عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ رضي اللَّهُ عنه المسحُ على الخُفَّين، وروى ذلك عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم! ومن ذلك قولُه: إنَّه رأى مشايِخَ آلِ الرَّسولِ يُسَبِّحون في الرَّكعتين الأخيرتَينِ، ولا يقرؤون فيهما سورةَ الفاتحةِ، وكان القاسِمُ لا يرى وجوبَ صلاةِ الجُمُعةِ إلَّا إذا كان الإمامُ عادِلًا من أهلِ البَيتِ، وكان يوجِبُ الخُروجَ على أيِّ إمامٍ ليس من ذُرِّيَّةِ الحَسَنِ والحُسَينِ، وكان يُحَرِّضُ على مخالفةِ عُلَماءِ الأمَّةِ؛ لأنَّه يراهم جميعًا في ضلالٍ، وأوجَب الهِجرةَ عنهم واعتزالَهم وعدمَ مخالطتِهم، وحَذَّر أولادَه وأتباعَه من سُكنى مكَّةَ والمدينةِ والعِراقِ، وكان لا يجوِّزُ الصَّلاةَ خَلْفَ المُخالِفين لعقيدتِه الشِّيعيَّةِ المُعتَزِليةِ، وكان مُنعَزِلًا مع أهلِ بيتِه في باديةٍ في مِنطَقةِ الرَّسِّ غَربَ المدينةِ النَّبَويَّةِ قُربَ ميقاتِ ذي الحُلَيفةِ، ثُمَّ انتقل إلى جَبَلِ الأشعَرِ من جِبالِ جُهَينةَ، ثُمَّ انتَقَل إلى جَبَلٍ في وادي مُزَينةَ يُسَمَّى فرعَ الـمِسْوَرِ حتى تُوُفِّيَ فيه، كما ذكر ذلك ابنُه مُحمَّدُ بنُ القاسمِ، وكانت وفاتُه سنةَ 246هـ [306] يُنظر: ((مجموع كتب ورسائل القاسم الرسي)) (1/ 479، 513 - 592، 655- 685) و (2/ 38، 121، 124، 134، 147، 150، 155، 156، 169، 197 – 213، 219، 220، 233 - 236، 251، 289، 294، 364، 373، 525، 539، 569، 600، 615 – 618، 628)، ((فقه الإمام القاسم الرسي)) (1/ 110، 115، 138، 139، 193، 201، 210، 211، 217، 219، 222، 225، 232، 249، 253، 275، 293، 297، 299) و (2/ 54- 60، 63، 70)، ((أمالي الإمام أحمد بن عيسى)) (2/ 406، 408)، ((مجموع كتب ورسائل محمد بن القاسم)) (ص: 16، 67، 109، 344، 370 – 379، 391 - 394)، ((مقاتل الطالبيين)) للأصفهاني (ص: 449)، ((تتمة المصابيح)) للآملي (ص: 555 - 566)، ((الإفادة في تاريخ الأئمة السادة)) للهاروني الحسني (ص: 75 - 86)، ((الجامع الكافي في فقه الزيدية)) للعلوي (1/ 157، 167، 177، 191، 420، 429)، ((عيون المسائل)) للجشمي (ص: 79، 102)، ((الحدائق الوردية في مناقب أئمة الزيدية)) لحميد المحلي (2/ 1 - 24)، ((العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم)) لابن الوزير (2/ 105) و (3/ 31، 32، 34)، ((الأعلام)) للزركلي (5/ 171، 172)، مقدمة سعود الخلف لكتاب ((الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار)) للعمراني (1/ 73)، ((جناية المعتزلة على العقل والشرع)) لخالد علال (ص: 129، 133)، مقدمة عبد الله العزي الزيدي لكتاب ((فقه الإمام القاسم الرسي)) (1/ 50، 75 - 84). .
ثانيًا: النَّاصِريَّةُ
النَّاصِريَّةُ: نِسبةٌ إلى النَّاصِرِ الحَسَنِ بنِ عَليِّ بنِ الحَسَنِ بنِ عَليِّ بنِ عُمَرَ بنِ عَليِّ بنِ الحُسَينِ بنِ عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ، الملقَّبِ بالأُطْروشِ، لطَرَشٍ كان فيه من ضَربةٍ أصابت أُذُنَه، كان شريفًا شاعِرًا، شُجاعًا حازِمًا، وكان شيعيًّا مُعتَزِليًّا، وقد أسلَمَ على يدَيه كثيرٌ من النَّاسِ في الجِيلِ والدَّيلَمِ، ثُمَّ إنَّه دعاهم إلى بَيعتِه بالإمامةِ، وتلقَّبَ بالنَّاصِرِ، وهو من كبارِ فُقَهاءِ الزَّيديَّةِ، وله مؤلَّفاتٌ كثيرةٌ جِدًّا، وكان يأمُرُ أهلَ ناحيتِه بقَولِ: حيَّ على خَيرِ العَمَلِ، في الأذانِ، وأن يقولوا آخِرَ الأذانِ: لا إلهَ إلَّا اللَّهُ، مرَّتَينِ، وأن يتركوا قولَ: آمينَ، ويمنعُهم من المسحِ على الخُفَّينِ، ويجعَلُ هذه الأمورَ من شِعارِ أهلِ البَيتِ، تُوُفِّيَ بآمُلٍ في طَبَرِستانَ سنةَ 304هـ [307] يُنظر: ((الاحتساب)) للأطروش (ص: 53)، ((تتمة المصابيح)) للآملي (ص: 602 - 607)، ((الإفادة في تاريخ الأئمة السادة)) للهاروني الحسني (ص: 100 - 113)، ((الكامل في التاريخ)) لابن الأثير (6/ 628 - 630)، ((الحدائق الوردية في مناقب أئمة الزيدية)) لحميد المحلي (2/ 55 - 79)، ((كنز الدرر وجامع الغرر)) للدواداري (5/ 337 - 339)، ((العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم)) لابن الوزير (3/ 457 - 459)، ((معجم المؤلفين)) لكحالة (3/ 252)، ((الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة)) (1/ 77). .

انظر أيضا: