المَبحَثُ الثَّاني: آراءٌ لغيرِ الشِّيعةِ في نشأةِ التَّشيُّعِ
الرَّأيُ الأوَّلُ: أنَّ بَذْرةَ التَّشيُّعِ بدأت بعدَ وفاةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُباشَرةً؛ حيثُ وُجِد مَن يرى أنَّ عَليًّا رَضِيَ اللَّهُ عنه أحَقُّ بالإمامةِ. وهذا الرَّأيُ قال به طائفةٌ من القُدامى والمعاصِرين، منهم
ابنُ خَلدونَ
، وأحمد أمين
، وبعضُ المُستَشرِقينَ
.
قال
ابنُ خَلدونَ: (اعلَمْ أنَّ مَبدَأَ هذه الدَّولةِ -يعني دولةَ الشِّيعةِ- أنَّ أهلَ البيتِ لَمَّا تُوفِّيَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كانوا يرونَ أنَّهم أحَقُّ بالأمرِ، وأنَّ الخِلافةَ لرِجالِهم دونَ مَن سِواهم)
.
وقال أحمد أمين: (كانت البَذْرةُ الأولى للشِّيعةِ الجماعةَ الذين رأوا بَعدَ وَفاةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ أهلَ بيتِه أَولى النَّاسِ أن يَخلُفوه)
.
مُناقَشةُ هذا الرَّأيِ:أوَّلًا: إذا وُجِدَ من يرى أحِقِّيَّةَ عَليٍّ بالإمامةِ، باعتبارِ أنَّ الإمامةَ ينبغي أن تكونَ في القَرابةِ، فقد وُجِد أيضًا رأيٌ يقولُ باستِخلافِ سَعدِ بنِ عُبادةَ، وأنَّ الإمامةَ ينبغي أن تكونَ في الأنصارِ، وهذا لا دَلالةَ فيه على ميلادِ حِزبٍ مُعَيَّنٍ، أو فِرقةٍ مُعَيَّنةٍ، وتعدُّدُ الآراءِ شأنٌ طبيعيٌّ، وهو من مُقتَضياتِ نظامِ الشُّورى في الإسلامِ، فهم في مجلِسٍ واحدٍ قد تعدَّدت آراؤهم، (وما انفَصلوا حتَّى اتَّفَقوا، ومِثلُ هذا لا يُعَدُّ نِزاعًا)
، (وقد اندرجوا تحتَ الطَّاعةِ عن بَكرةِ أبيهم ل
أبي بَكرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه، وكان عَليٌّ رَضِيَ اللَّهُ عنه سامعًا لأمرِه، وبايَع
أبا بكرٍ على ملأٍ من الأشهادِ، ونهَض إلى غزوِ بني حَنيفةَ)
.
وموقِفُ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه ينفي استمرارَ مِثلِ هذه الآراءِ أو بقاءَها بَيْنَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللَّهُ عنهم؛ فقد تواتر عنه من وجوهٍ كثيرةٍ أنَّه قال على مِنبَرِ الكوفةِ: (خَيرُ هذه الأمَّةِ بَعدَ نبيِّها
أبو بَكرٍ ثمَّ عُمَرُ)
. فكيف يرى غيرُه من الصَّحابةِ فيه ما لم يَرَه هو في نفسِه؟!
ثانيًا: القَولُ بظُهورِ جماعةٍ بعدَ وَفاةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ترى أحقِّيَّةَ عَليٍّ بالإمامةِ ليس له أصلٌ تاريخيٌّ ثابتٌ، ويبدو أنَّ عُمدتَه ما قاله اليَعقوبيُّ في تاريخِه: (كان المهاجِرون والأنصارُ لا يشكُّون في عليٍّ،... وتخلَّف عن بَيعةِ
أبي بَكرٍ قومٌ من المهاجِرين والأنصارِ، ومالوا مع عَليِّ بنِ أبي طالبٍ، منهم: العبَّاسُ بنُ عبدِ المطَّلِبِ، والفَضلُ بنُ العبَّاسِ، والزُّبَيرُ بنُ العوَّامِ بنِ العاصِ، وخالِدُ بنُ سعيدٍ، والمِقدادُ بنُ عَمرٍو، وسَلمانُ الفارِسيُّ، و
أبو ذَرٍّ الغِفاريُّ، وعَمَّارُ بنُ ياسِرٍ، والبراءُ بنُ عازِبٍ، وأُبَيُّ بنُ كَعبٍ)
.
وهي روايةٌ لا تَصِحُّ؛ فقد تفرَّد بذِكرِها أحمدُ بنُ إسحاقَ اليعقوبيُّ الرَّافِضيُّ
، وهو مِثلُ المؤَرِّخِ المسعوديِّ المُعتَزليِّ الشِّيعيِّ
، فيَجِبُ الحذَرُ ممَّا يتفرَّدان بروايتِه، ولا سيَّما فيما يوافِقُ مُيولَهما المذهبيَّةَ
.
ثالثًا: فِرقةُ الشِّيعةِ ليس لها ذِكرٌ في عهدِ
أبي بَكرٍ ولا عُمَرَ ولا عثمانَ رضيَ اللَّهُ عنهم، فكيف يُقالُ بنشأتِها بعدَ وفاةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟!
الرَّأيُ الثَّاني: أنَّ التَّشيُّعَ لعَليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه بدأ بمقتَلِ عُثمانَ رَضِيَ اللَّهُ عنه.
قال ابنُ حزمٍ: (وَلِيَ عُثمانُ، وبَقِي اثنَي عشَرَ عامًا، وبموتِه حصَل الاختِلافُ، وابتدأَ أمرُ الرَّوافِضِ)
.
وعليه، فالذي بدأ غَرْسَ بَذرةِ التَّشيُّعِ هو
عبدُ اللَّهِ بنُ سَبَأٍ اليَهوديُّ
، وقد بدأ هذا اليهوديُّ المتسَتِّرُ بحُبِّ آلِ البيتِ حركتَه في أواخِرِ عَهدِ عُثمانَ رَضِيَ اللَّهُ عنه.
الرَّأيُ الثَّالِثُ: أنَّ مَنشَأَ التَّشيُّعِ كان سنةَ 37هـ، وهذا الرَّأيُ مذكورٌ في كتابِ (مختَصَرِ التُّحفةِ الاثنَي عَشريَّة)
، كما قال بهذا الرَّأيِ المُستَشرِقُ وات مُنْتوجُمري؛ فقد ذَكَر أنَّ بدايةَ حَركةِ الشِّيعةِ هي أحدُ أيَّامِ سنةِ 658م (37هـ)
.
مُناقَشةُ هذا الرَّأيِ:إنَّ هذا القولَ يَربِطُ نشأةَ التَّشيُّعِ بمَوقِعةِ صِفِّينَ؛ حيثُ وقعت سنةَ 37هـ بَيْنَ عَليٍّ و
معاويةَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما، وما صاحَبَها من أحداثٍ، وما أعقَبَها من آثارٍ، ولكِنَّ هذا الرَّأيَ لا يعني بدايةَ الأُصولِ الشِّيعيَّةِ؛ فلا يوجَدُ في أحداثِ هذه السَّنةِ -فيما نقله المؤَرِّخون- من نادى بالوصيَّةِ، أو قال بالرَّجعةِ، أو دعا إلى أصلٍ من أُصولِ الشِّيعةِ المعروفةِ، كما أنَّ أنصارَ الإمامِ عَليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه لا يمكِنُ أن يُقالَ بأنَّهم على مذهَبِ الشِّيعةِ، أو على أصلٍ من أصولِ الشِّيعةِ، وقد كان للسَّبَئيِّين أثرٌ في تلك الفِتنةِ، وقد وُجِدوا قَبلَها، كما أنَّه بعدَ حادِثةِ التَّحكيمِ وفي بُنودِ التَّحكيمِ أُطلِقَ لَفظُ الشِّيعةِ على الجانِبَينِ بلا تخصيصٍ
.
قال ابنُ تَيميَّةَ: (أمَّا شِيعةُ عَليٍّ الذين شايَعوه بعدَ التَّحكيمِ، وشيعةُ
مُعاويةَ التي شايعَتْه بعدَ التَّحكيمِ، فكان بَيْنَهما من التَّقابُلِ وتلاعُنِ بعضِهم وتكافُرِ بعضِهم ما كان، ولم تكُنِ الشِّيعةُ التي كانت مع عَليٍّ يظهَرُ منها تَنقُّصٌ ل
أبي بَكرٍ وعُمَرَ، ولا فيها من يُقَدِّمُ عَليًّا على
أبي بَكرٍ وعُمَرَ، ولا كان سَبُّ عُثمانَ شائِعًا فيها، وإنَّما كان يتكَلَّمُ به بعضُهم فيَرُدُّ عليه آخَرُ، وكذلك تفضيلُ عَليٍّ عليه لم يكُنْ مشهورًا فيها، بخلافِ سَبِّ عَليٍّ؛ فإنَّه كان شائِعًا في أتباعِ
مُعاويةَ؛ ولهذا كان عَليٌّ وأصحابُه أَولى بالحَقِّ وأقرَبَ إلى الحَقِّ من
مُعاويةَ وأصحابِه)
.
الرَّأيُ الرَّابعُ: أنَّ التَّشيُّعَ ظَهر بَعدَ مقتَلِ الحُسَينِ بنِ عَليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنهما.
قال المُستَشرِقُ شِتْروتمانُ -وهو من المُستَشرِقين المتخصِّصين في الفِرَقِ ومذاهِبِها
-: (إنَّ دَمَ الحُسَينِ يُعتَبَرُ البَذرةَ الأولى للتَّشيُّعِ كعقيدةٍ)
.
الرَّأيُ المُختارُ:الذي يظهَرُ أنَّ الشِّيعةَ كفِكرٍ وعقيدةٍ لم تُولَدْ فَجأةً، بل أخذَت طَورًا زَمَنيًّا، ومرَّت بمراحِلَ، فطلائِعُ العقيدةِ الشِّيعيَّةِ ظهَرت على يَدِ
عبدِ اللَّهِ بنِ سَبَأٍ اليَهوديِّ، وأهمُّ الأصولِ التي تَدينُ بها الشِّيعةُ ظهَرت على يَدِه
، وذلك بَعدَ استِشهادِ الخليفةِ الرَّاشِدِ عُثمانَ بنِ عفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عنه، فكان ظُهورُ تلك الأصولِ في عَهدِ الخليفةِ الرَّاشدِ عَليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه، ولم تأخُذْ مكانَها في نفوسِ فِرقةٍ مُعَيَّنةٍ معروفةٍ، بل إنَّ السَّبَئيَّةَ ما كادت تُطِلُّ برأسِها حتَّى حاربَها عَليٌّ رَضِيَ اللَّهُ عنه
، ولكِنْ ما تلا ذلك من أحداثٍ هيَّأ الأسبابَ لظهورِ هذه العقائِدِ، كمَعركةِ صِفِّينَ، وحادثةِ التَّحكيمِ، واستشهادِ عَليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه، ثمَّ ظُهورِ شَتمِ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ على المنابِرِ، ثمَّ استِشهادِ الحُسَينِ بنِ عَليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه؛ فكُلُّ هذه الأحداثِ دفعَت كثيرًا من النَّاسِ إلى التَّشيُّعِ لآلِ البيتِ، وصار التَّشيُّعُ أيضًا وسيلةً لكُلِّ من أراد هدْمَ الإسلامِ، ودخَلت إلى المُسلِمين أفكارٌ ومُعتَقَداتٌ أجنبيَّةٌ اكتست بثوبِ التَّشيُّعِ، وسَهُل دُخولُها تحتَ غِطائِه، وبمرورِ الأيَّامِ كانت تتَّسِعُ بِدعةُ التَّشيُّعِ ويتعاظَمُ خَطَرُها، لا سِيَّما مع استحلالِ كثيرٍ من الرَّافِضةِ الكَذِبَ على أئمَّتِهم وغيرِهم، واللَّهُ المستعانُ.