موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّاني: حقيقةُ الخِلافِ بَينَ أهلِ السُّنَّةِ ومُرجِئةِ الفُقَهاءِ حولَ دُخولِ الأعمالِ في مُسمَّى الإيمانِ


اختلَف العُلَماءُ في حقيقةِ الخِلافِ بَينَ أهلِ السُّنَّةِ ومُرجِئةِ الفُقَهاءِ في دُخولِ الأعمالِ في مُسمَّى الإيمانِ، وبيانُ ذلك على النَّحوِ التَّالي:
القولُ الأوَّلُ: أنَّ الخلافَ صوريٌّ
1- قال ابنُ أبي العِزِّ: (الاختِلافُ الذي بَينَ أبي حَنيفةَ والأئمَّةِ الباقينَ مِن أهلِ السُّنَّةِ اختِلافٌ صوريٌّ؛ فإنَّ كونَ أعمالِ الجوارِحِ لازِمةً لإيمانِ القلبِ، أو جُزءًا مِن الإيمانِ، معَ الاتِّفاقِ على أنَّ مُرتكِبَ الكبيرةِ لا يخرُجُ مِن الإيمانِ، بل هو في مشيئةِ اللهِ؛ إن شاء عذَّبه، وإن شاء عفا عنه- نِزاعٌ لفظيٌّ، لا يترتَّبُ عليه فسادُ اعتِقادٍ) [162] ((شرح الطحاوية)) (2/ 462). .
2- قال مُحمَّد أنوَر شاه الكَشْميريُّ: (الإيمانُ عندَ السَّلفِ عبارةٌ عن ثلاثةِ أشياءَ: اعتِقادٌ، وقولٌ، وعَملٌ. وقد مرَّ الكلامُ على الأوَّلَينِ، أي: التَّصديقِ، والإقرارِ، بقِي العَملُ، هل هو جُزءٌ للإيمانِ أم لا؟ فالمذاهِبُ فيه أربعةٌ:
قال الخوارِجُ والمُعتزِلةُ: إنَّ الأعمالَ أجزاءٌ للإيمانِ؛ فالتَّارِكُ للعَملِ خارِجٌ عن الإيمانِ عندَهما، ثُمَّ اختلَفوا؛ فالخوارِجُ أخرَجوه عن الإيمانِ وأدخَلوه في الكُفرِ، والمُعتزِلةُ لم يُدخِلوه في الكُفرِ بل قالوا بالمنزِلةِ بَينَ المنزِلتَينِ.
والثَّالثُ: مَذهَبُ المُرجِئةِ؛ فقالوا: لا حاجةَ إلى العملِ، ومدارُ النَّجاةِ هو التَّصديقُ فقط، فصار الأوَّلونَ والمُرجِئةُ على طرفَي نقيضٍ.
والرَّابعُ: مَذهَبُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ (وقَصْدُه بهم أهلُ الحديثِ والسُّنَّةِ، ومُرجِئةُ الفُقَهاءِ)، وهُم بَينَ بَينَ، فقالوا: إنَّ الأعمالَ أيضًا لا بُدَّ منها، لكنَّ تارِكَها مُفَسَّقٌ لا مُكَفَّرٌ، فلم يُشدِّدوا فيها كالخوارِجِ والمُعتزِلةِ، ولم يُهوِّنوا أمرَها كالمُرجِئةِ، ثُمَّ هؤلاء افترَقوا فِرقتَينِ؛ فأكثَرُ المُحدِّثينَ إلى أنَّ الإيمانَ مُركَّبٌ مِن الأعمالِ. وإمامُنا الأعظَمُ وأكثَرُ الفُقَهاءِ والمُتكلِّمينَ إلى أنَّ الأعمالَ غَيرُ داخِلةٍ في الإيمانِ، معَ اتِّفاقِهم على أنَّ فاقِدَ التَّصديقِ كافِرٌ، وفاقِدَ العملِ فاسِقٌ، فلم يبقَ الخلافُ إلَّا في التَّعبيرِ؛ فإنَّ السَّلفَ وإن جعَلوا الأعمالَ أجزاءً، لكن لا بحيثُ ينعدِمُ الكُلُّ بانعِدامِها، بل يبقى الإيمانُ معَ انتِفائِها. وإمامُنا (أي أبو حَنيفةَ) وإن لم يجعَلِ الأعمالَ جُزءًا، فقد اهتمَّ بها وحرَّض عليها، وجعَلها أسبابًا سارِيةً في نَماءِ الإيمانِ، فلم يُهدِرْها هَدْرَ المُرجِئةِ، إلَّا أنَّ تعبيرَ المُحَدِّثينَ القائِلينَ بجُزئيَّةِ الأعمالِ لمَّا كان أبعَدَ مِن المُرجِئةِ المُنكِرينَ جُزئيَّةَ الأعمالِ، بخلافِ تعبيرِ إمامِنا الأعظَمِ؛ فإنَّه كان أقرَبَ إليهم مِن حيثُ نَفيُ جُزئيَّةِ الأعمالِ- رُمِيَ الحَنفيَّةُ بالإرجاءِ) [163] ((فيض الباري على صحيح البخاري)) (1/ 128). .
وقد نسَب الكَشْميريُّ للسَّلَفِ أنَّهم جعَلوا الأعمالَ أجزاءً مِن الإيمانِ، لكن لا ينعدِمُ الإيمانُ بانعِدامِ جميعِ الأعمالِ، وهذا ما يدَّعيه بعضُ المُنتسِبينَ للسُّنَّةِ في هذا العَصرِ [164] يُنظر: ((فيض الباري على صحيح البخاري)) (1/ 128)، ((براءة أهل الحديث والسنة من بدعة المرجئة)) لمحمد بن سعيد الكثيري (ص: 266). .
 3- قال الذَّهبيُّ عن إرجاءِ الفُقَهاءِ: (هو أنَّهم لا يَعُدُّونَ الصَّلاةَ والزَّكاةَ مِن الإيمانِ، ويقولونَ: الإيمانُ إقرارٌ باللِّسانِ، ويقينٌ في القلبِ، والنِّزاعُ على هذا لفظيٌّ إن شاء اللهُ) [165] ((سير أعلام النبلاء)) (5/ 233). .
القولُ الثَّاني: التَّفصيلُ
قال ابنُ تيميَّةَ عن المُرجِئةِ: (قالوا: إنَّ الأعمالَ ليست مِن الإيمانِ، وكانت هذه البِدعةُ أخَفَّ البِدَعِ؛ فإنَّ كثيرًا مِن النِّزاعِ فيها نِزاعٌ في الاسمِ واللَّفظِ دونَ الحُكمِ؛ إذ كان الفُقَهاءُ الذين يُضافُ إليهم هذا القولُ -مِثلُ حمَّادِ بنِ أبي سُلَيمانَ، وأبي حَنيفةَ، وغَيرِهما- هم معَ سائِرِ أهلِ السُّنَّةِ مُتَّفِقينَ على أنَّ اللهَ يُعذِّبُ مَن يُعذِّبُه مِن أهلِ الكبائِرِ بالنَّارِ، ثُمَّ يُخرِجُهم بالشَّفاعةِ، كما جاءت الأحاديثُ الصَّحيحةُ بذلك، وعلى أنَّه لا بُدَّ في الإيمانِ أن يتكلَّمَ بلِسانِه) [166] ((مجموع الفتاوى)) (13/ 38). .
وقال أيضًا: (لهذا لم يُكفِّرْ أحدٌ مِن السَّلفِ أحدًا مِن مُرجِئةِ الفُقَهاءِ، بل جعَلوا هذا مِن بِدَعِ الأقوالِ والأفعالِ لا مِن بِدَعِ العقائِدِ؛ فإنَّ كثيرًا مِن النِّزاعِ فيها لفظيُّ، لكنَّ اللَّفظَ المُطابِقَ للكتابِ والسُّنَّةِ هو الصَّوابُ؛ فليس لأحدٍ أن يقولَ بخلافِ قولِ اللهِ ورسولِه، لا سيَّما وقد صار ذلك ذَريعةً إلى بِدَعِ أهلِ الكلامِ مِن أهلِ الإرجاءِ وغَيرِهم، وإلى ظُهورِ الفِسقِ؛ فصار ذلك الخطأُ اليسيرُ في اللَّفظِ سببًا لخطأٍ عظيمٍ في العقائِدِ والأعمالِ) [167] ((مجموع الفتاوى)) (7/ 394). .
وقال أيضًا: (ممَّا ينبغي أن يُعرَفَ أنَّ أكثَرَ التَّنازُعِ بَينَ أهلِ السُّنَّةِ في هذه المسألةِ هو نِزاعٌ لفظيٌّ، وإلَّا فالقائِلونَ بأنَّ الإيمانَ قولٌ مِن الفُقَهاءِ -كحمَّادِ بنِ أبي سُلَيمانَ، وهو أوَّلُ مَن قال ذلك، ومَن اتَّبعه مِن أهلِ الكوفةِ وغَيرِهم- مُتَّفِقونَ معَ جميعِ عُلَماءِ السُّنَّةِ على أنَّ أصحابَ الذُّنوبِ داخِلونَ تحتَ الذَّمِّ والوعيدِ) [168] ((مجموع الفتاوى)) (7/ 297). .
وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (قيل لمَن قال: دُخولُ الأعمالِ الظَّاهِرةِ في اسمِ الإيمانِ مجازٌ: نزاعُك لفظيٌّ؛ فإنَّك إذا سلَّمْتَ أنَّ هذه لوازِمُ الإيمانِ الواجِبِ الذي في القلبِ وموجِباتُه كان عَدمُ اللَّازِمِ موجِبًا لعَدمِ الملزومِ؛ فيلزَمُ مِن عَدمِ هذا الظَّاهِرِ عَدمُ الباطِنِ، فإذا اعترَفْتَ بهذا كان النِّزاعُ لفظيًّا، وإن قلْتَ ما هو حقيقةُ قولِ جَهمٍ وأتباعِه؛ مِن أنَّه يستقِرُّ الإيمانُ التامُّ الواجِبُ في القلبِ معَ إظهارِ ما هو كُفرٌ، وتَركِ جميعِ الواجِباتِ الظَّاهِرةِ، قيل لك: فهذا يُناقِضُ قولَك: إنَّ الظَّاهِرَ لازِمٌ له، وموجِبٌ له، بل قيل: حقيقةُ قولِك: إنَّ الظَّاهِرَ يُقارِنُ الباطِنَ تارةً، ويُفارِقُه أخرى؛ فليس بلازِمٍ له ولا موجِبٍ ومعلولٍ له، ولكنَّه دليلٌ إذا وُجِد دلَّ على وُجودِ الباطِنِ، وإذا عُدِم لم يدُلَّ عَدمُه على العَدمِ، وهذا حقيقةُ قولِك...، وهذا يلزَمُ كُلَّ مَن لم يقُلْ: إنَّ الأعمالَ الظَّاهِرةَ مِن لوازِمِ الإيمانِ الباطِنِ، فإذا قال: إنَّها مِن لوازِمِه، وإنَّ الإيمانَ الباطِنَ يستلزِمُ عَملًا صالِحًا ظاهِرًا، كان بَعدَ ذلك قولُه: إنَّ تلك الأعمالَ لازِمةٌ لمُسمَّى الإيمانِ، أو جُزءٌ منه- نِزاعًا لفظيًّا) [169] ((مجموع الفتاوى)) (7/579، 584). .
وقال أيضًا: (المُرجِئةُ أخرَجوا العَملَ الظَّاهِرَ عن الإيمانِ؛ فمَن قصَد منهم إخراجَ أعمالِ القُلوبِ أيضًا، وجَعْلَها هي التَّصديقَ؛ فهذا ضلالٌ بيِّنٌ، ومَن قصَد إخراجَ العَملِ الظَّاهِرِ، قيل لهم: العَملُ الظَّاهِرُ لازِمٌ للعَملِ الباطِنِ، لا ينفَكُّ عنه، وانتِفاءُ الظَّاهِرِ دليلُ انتِفاءِ الباطِنِ؛ فبقِي النِّزاعُ في أنَّ العَملَ الظَّاهِرَ: هل هو جُزءٌ مِن مُسمَّى الإيمانِ يدُلُّ عليه بالتَّضمُّنِ، أو لازِمٌ لمُسمَّى الإيمانِ؟) [170] ((مجموع الفتاوى)) (7/ 554). .
والحقيقةُ أنَّ النِّزاعَ عَقَديٌّ، وإن كان لفظيًّا مِن بعضِ الوُجوهِ، لكنَّه مِن حيثُ العِلمُ والاعتِقادُ ليس بلفظيٍّ، ومِن الجانِبِ العَمليِّ نجِدُ أنَّ النِّزاعَ بَينَ أهلِ السُّنَّةِ وأوائِلِ المُرجِئةِ يكادُ يكونُ لفظيًّا مِن النَّاحيةِ العَمليَّةِ، والدَّليلُ على ذلك أنَّ المُرجِئةَ الأوائِلَ الذين يُخرِجونَ العَملَ مِن مُسمَّى الإيمانِ لا يتساهَلونَ في العَملِ، ويرَونَ أنَّ الإخلالَ بالعَملِ معصيةٌ، وأنَّ ارتِكابَ ما نهى اللهُ عنه معصيةٌ، ويُثبِتونَ الوعيدَ الثَّابِتَ في المعاصي، لكنَّهم يقولونَ: إنَّ وُجوبَ العَملِ بالأمورِ العمليَّةِ، وتَرْكَ ما نهى اللهُ عنه؛ ثابِتٌ بنُصوصٍ خارِجةٍ عن نُصوصِ الإيمانِ، أي: جاء وُجوبُ العَملِ ووُجوبُ التَّركِ لِما نهى اللهُ عنه بمُقتضى نُصوصٍ لا تدُلُّ على أنَّ هذه الأمورَ مِن الإيمانِ بذاتِه، إنَّما هي مِن لوازِمِه [171] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/297)، ((شرح الطحاوية)) لناصر العقل (71/4).  .
وابنُ تيميَّةَ لمَّا قال: (فإنَّ كثيرًا مِن النِّزاعِ فيها لفظيٌّ) [172] ((مجموع الفتاوى)) (7/ 394). مُرادُه بهذا أنَّ الفُقَهاءَ -كـحمَّادِ بنِ أبي سُلَيمانَ، وأبي حَنيفةَ- يُوافِقونَ السَّلفَ في مسألةِ الأحكامِ في الآخِرةِ مِن جِهةِ وعيدِ أهلِ الكبائِرِ، ويُوافِقونَ السَّلفَ في مسألةِ لُزومِ الواجِباتِ، وفي الطَّعنِ على أهلِ الكبائِرِ بالفِسقِ وأمثالِ هذه المسائِلِ، ولم يُرِدِ ابنُ تيميَّةَ أنَّ الخلافَ لا ثَمرةَ له مِن كُلِّ وَجهٍ [173] يُنظر: ((شرح كتاب الإيمان)) ليوسف الغفيص (8/ 6) باختصارٍ. ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 297). .
وكذلك قولُه عن إرجاءِ الفُقَهاءِ: (مِن بِدَعِ الأقوالِ والأفعالِ لا مِن بِدَعِ العقائِدِ) [174] ((مجموع الفتاوى)) (7/ 394). إنَّما هو مُصطلَحٌ مُتأخِّرٌ ينبغي أن يُفقَهَ على وَجهِه؛ فإنَّه يُمكِنُ أن يُقالَ باعتِبارٍ آخَرَ: إنَّ بِدعةَ إرجاءِ الفُقَهاءِ بِدعةٌ عَقَديَّةٌ؛ فإنَّهم تكلَّموا في مسألةٍ تُعَدُّ مِن أصولِ العقائِدِ، وإخراجُ العَملِ مِن الإيمانِ يُعَدُّ غَلطًا صريحًا على الشَّريعةِ، وعلى إجماعِ السَّلفِ الأوَّلِ قَبلَ ظُهورِ مقالةِ مُرجِئةِ الفُقَهاءِ.
ومِثلُ هذه التَّعبيراتِ مِن ابنِ تيميَّةَ لا بُدَّ مِن فِقهِها على وَجهِها؛ حتَّى لا يُفهَمَ مِن قولِ ابنِ تيميَّةَ أنَّ هذه المسألةَ ممَّا يسوغُ فيها الخلافُ أو الاجتِهادُ، ولا يُنكَرُ على المُخالِفِ فيها، أو أنَّ هذا ليس مِن بابِ الأصولِ، وإنَّما هو مِن بابِ الفُروعِ.
فمَن قال: إنَّ هذه مِن بِدَعِ الأقوالِ، وأراد بذلك أنَّ مَن قال هذا القولَ لم يخرُجْ به عن مُسمَّى السُّنَّةِ والجماعةِ مِن كُلِّ وَجهٍ، ولم يُصبِحْ مِن أئمَّةِ أهلِ البِدَعِ؛ فهذا مُرادٌ صحيحٌ، وإن أراد به أنَّ المسألةَ مِن الفُروعِ، أو ممَّا يسوغُ فيه الاجتِهادُ، أو أنَّها لم تُخالِفْ إجماعًا مُنضبِطًا، أو ما إلى ذلك؛ فهذا كُلُّه غَلطٌ، وعلى هذا يصِحُّ أن يُقالَ: إنَّ بِدعةَ إرجاءِ الفُقَهاءِ مِن بِدَعِ الأقوالِ، ويصِحُّ أن يُقالَ أيضًا: إنَّها مِن بِدَعِ العقائِدِ [175] يُنظر: ((شرح كتاب الإيمان)) ليوسف الغفيص (8/ 6) باختصارٍ. ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/579، 584). .
ومِن خِلالِ ما سبق يُمكِنُ أن يُقالَ: إنَّ أكثَرَ الخلافِ بَينَ أهلِ السُّنَّةِ والحديثِ وبَينَ مُرجِئةِ الفُقَهاءِ خلافٌ صوريٌّ؛ لأمورٍ:
1- أنَّهم يُدخِلونَ اعتِقادَ القلبِ في الإيمانِ، ولم يكتَفوا بالتَّصديقِ.
2- أنَّهم يقولونَ: لا بُدَّ في الإيمانِ مِن نُطقِ اللِّسانِ.
3- أنَّهم يُوافِقونَ أهلَ السُّنَّةِ في حُكمِ أهلِ الكبائِرِ، وأنَّ منهم مَن يدخُلُ النَّارَ.
4- أنَّهم يقولونَ: إنَّ الإيمانَ بدونِ العَملِ المفروضِ ومعَ فِعلِ المُحرَّماتِ يكونُ صاحِبُه مُستحِقًّا للذَّمِّ والعِقابِ.
فهذه مواضِعُ الاتِّفاقِ بَينَ أهلِ الحديثِ ومُرجِئةِ الفُقَهاءِ [176] يُنظر: ((براءة أهل الحديث والسنة من بدعة المرجئة)) لمحمد بن سعيد الكثيري (ص:260). ويُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (5/ 284).  .
قال ابنُ تيميَّةَ: (فهؤلاء لا يُنازِعونَ أهلَ السُّنَّةِ والحديثِ في حُكمِه في الآخِرةِ، وإنَّما يُنازِعونَهم في الاسمِ، ويُنازِعونَ أيضًا فيمَن قال ولم يفعَلْ. وكثيرٌ مِن مُتكلِّمةِ المُرجِئةِ يقولونَ: لا نعلَمُ أنَّ أحدًا مِن أهلِ القِبلةِ مِن أهلِ الكبائِرِ يدخُلُ النَّارَ، ولا أنَّ أحدًا منهم لا يدخُلُها، بل يجوزُ أن يدخُلَها جميعُ الفُسَّاقِ، ويجوزُ ألَّا يدخُلَها أحدٌ منهم، ويجوزُ دُخولُ بعضِهم) [177] ((منهاج السنة النبوية)) (5/ 284). .  
والنِّزاعُ حقيقيٌّ في موضِعَينِ:
1- في اسمِ مُرتكِبِ الكبيرةِ: فهو مُؤمِنٌ عندَهم تامُّ الإيمانِ، إيمانُه كإيمانِ جِبريلَ وميكائيلَ، معَ قولِهم: منهم مَن يدخُلُ النَّارَ؛ فهم يُخالِفونَ أهلَ الحديثِ في الاسمِ لا في الحُكمِ [178] يُنظر: ((شرح العقيدة الأصفهانية)) لابن تيمية (ص: 198). .
2- فيمَن قال ولم يفعَلْ: وهذا عندَ مُرجِئةِ الفُقَهاءِ مُؤمِنٌ؛ لإتيانِه بالإيمانِ الذي تحصُلُ به النَّجاةُ مِن الخُلودِ في النَّارِ، وهو الاعتِقادُ والقولُ، ومُستحِقٌّ للذَّمِّ والعِقابِ؛ لعَدمِ إتيانِه بعَملِ الجوارِحِ الذي لا بُدَّ منه عندَهم للسَّلامةِ مِن دُخولِ النَّارِ، كما تقدَّم بيانُه في مواضِعِ الاتِّفاقِ بَينَهم وبَينَ أهلِ السُّنَّةِ، وهُم بذلك يُخالِفونَ أهلَ السُّنَّةِ في هذه الصُّورةِ [179] يُنظر: ((براءة أهل الحديث والسنة من بدعة المرجئة)) لمحمد بن سعيد الكثيري (ص: 261). ويُنظر: ((أصول الدين)) للبغدادي (ص: 249).  .
القولُ الثَّالثُ: أنَّ الخلافَ حقيقيٌّ بإطلاقٍ
1- قال ابنُ بازٍ مُعلِّقًا على قولِ الطَّحاويِّ: (والإيمانُ هو الإقرارُ باللِّسانِ، والتَّصديقُ بالجَنانِ): (هذا التَّعريفُ فيه نَظرٌ وقُصورٌ، والصَّوابُ الذي عليه أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ أنَّ الإيمانَ قولٌ وعَملٌ واعتِقادٌ، يزيدُ بالطَّاعةِ ويَنقُصُ بالمعصيةِ، والأدِلَّةُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ أكثَرُ مِن أن تُحصَرَ،... وإخراجُ العَملِ مِن الإيمانِ هو قولُ المُرجِئةِ، وليس الخلافُ بَينَهم وبَينَ أهلِ السُّنَّةِ فيه لفظيًّا، بل هو لفظيٌّ ومعنويٌّ، ويترتَّبُ عليه أحكامٌ كثيرةٌ، يعلَمُها مَن تدبَّر كلامَ أهلِ السُّنَّةِ وكلامَ المُرجِئةِ، واللهُ المُستَعانُ) [180] يُنظر: هامش ((الطحاوية)) للطحاوي (ص: 28). .
2- قال الألبانيُّ مُعقِّبًا على تعريفِ ابنِ أبي العِزِّ للإيمانِ: (ليس الخلافُ بَينَ المَذهَبَينِ اختِلافًا صوريًّا كما ذهَب إليه الشَّارِحُ بحُجَّةِ أنَّهم جميعًا اتَّفَقوا على أنَّ مُرتكِبَ الكبيرةِ لا يخرُجُ عن الإيمانِ، وأنَّه في مشيئةِ اللهِ؛ إن شاء عذَّبه، وإن شاء عفا عنه، فإنَّ هذا الاتِّفاقَ وإن كان صحيحًا فإنَّ الحَنفيَّةَ لو كانوا غَيرَ مُخالِفينَ للجماهيرِ مُخالَفةً حقيقيَّةً في إنكارِهم أنَّ العَملَ مِن الإيمانِ لاتَّفَقوا معَهم على أنَّ الإيمانَ يزيدُ ويَنقُصُ، وأنَّ زِيادتَه ونَقصَه بالمعصيةِ، معَ تضافُرِ أدلَّةِ الكتابِ والسُّنَّةِ والآثارِ السَّلفيَّةِ على ذلك) [181] تخريج ((العقيدة الطحاوية)) (ص:62). .
والخُلاصةُ:
1- أنَّ مَن كان مِن مُرجِئةِ الفُقَهاءِ يُقِرُّ بالتَّلازُمِ بَينَ الظَّاهِرِ والباطِنِ، وأنَّه لا إيمانَ بلا عَملٍ؛ فالخلافُ بَينَهم وبَينَ أهلِ السُّنَّةِ لفظيٌّ لا حقيقيٌّ.
 2- مَن كان مِن مُرجِئةِ الفُقَهاءِ لا يُقِرُّ بالتَّلازُمِ بَينَ الظَّاهِرِ والباطِنِ، وأنَّه يوجَدُ إيمانٌ بلا عَملٍ، أو يرى العَملَ ثَمرةً تُقارِنُ الباطِنَ تارةً وتُفارِقُه أخرى؛ فالخلافُ بَينَهم وبَينَ أهلِ السُّنَّةِ حقيقيٌّ لا لفظيٌّ، وهذا حالُ المُرجِئةِ قديمًا؛ ينفونَ التَّلازُمَ، ويتصوَّرونَ وُجودَ إيمانِ القلبِ التَّامِّ بل الكامِلِ معَ انتِفاءِ العَملِ الظَّاهِرِ.
وأمَّا مَن قال بالإرجاءِ مِن المُعاصِرينَ أو دخلَت عليه شُبهتُه؛ فقد اضطَربوا في هذه المسألةِ؛ فمنهم مَن يُثبِتُ التَّلازُمَ بَينَ الظَّاهِرِ والباطِنِ لفظًا، وينفيه حقيقةً، فيحكُمُ بإسلامِ تارِكِ العَملِ الظَّاهِرِ كُلِّه، ويتصوَّرُ وُجودَ الإيمانِ المُنجي في القلبِ معَ انتِفاءِ العَملِ.
ومنهم مَن يزعُمُ أنَّ التَّلازُمَ إنَّما يقعُ معَ الإيمانِ الكامِلِ فحسْبُ، فإذا كمَل الإيمانُ في القلبِ استلزَم العَملَ الظَّاهِرَ، أمَّا أصلُ الإيمانِ فيُمكِنُ أن يوجَدَ في القلبِ قولًا وعَملًا دونَ أن يظهَرَ مُقتضاه على أعمالِ الجوارِحِ [182] يُنظر: ((الإيمان عند السَّلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين)) لمحمد آل خضير. (1/ 320). ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 204). .
فالخلافُ بَينَهم وبَينَ السَّلفِ ليس لفظيًّا على إطلاقِه؛ فهو في إثباتِ الوعيدِ لأهلِ الكبائِرِ نِزاعٌ لفظيٌّ، وهو حقيقيٌّ مِن أكثَرَ مِن وَجهٍ، وحَسبُك مِن ذلك إثباتُهم إسلامَ مَن مات مُصِرًّا على تَركِ الفرائِضِ، وتأويلُهم الأحاديثَ الثَّابِتةَ في وَصفِ الأعمالِ بالإيمانِ، ومعلومٌ شِدَّةُ السَّلفِ على مُرجِئةِ الفُقَهاءِ، وما كان السَّلفُ لِيُغلِظوا عليهم في خلافٍ لفظيٍّ، كالخلافِ في التَّفريقِ بَينَ مُسمَّى الإيمانِ ومُسمَّى الإسلامِ [183] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/119)، ((التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع)) للملطي (ص: 43)، ((منهاج السنة)) (5/284)، ((مجموع الفتاوى)) (7/297، 504، 554) و (13/38) كلاهما لابن تيمية، ((شرح الطحاوية)) لناصر العقل (71/4). .
والمُرجِئةُ فريقانِ:
1- المُرجِئةُ الغُلاةُ:
يزعُمونَ أنَّ العَملَ غَيرُ واجِبٍ، ويدَّعونَ أنَّ المُؤمِنَ مهما ارتكَب مِن المعاصي، أو أخلَّ بالواجِباتِ؛ فالنَّجاةُ مُتحقِّقةٌ له، ويقولونَ: إنَّه لا يضُرُّ معَ الإيمانِ ذَنبٌ، كما لا ينفَعُ معَ الكُفرِ طاعةٌ [184] يُنظر: ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/140). .
2- المُرجِئةُ غَيرُ الغُلاةِ:
يرَونَ أنَّ العَملَ واجِبٌ، وأنَّ العاصِيَ تحتَ المشيئةِ يومَ القِيامةِ؛ فإن شاء اللهُ عذَّبه، وإن شاء غفَر له [185] يُنظر: ((مقالات الإسلامين)) للأشعري (1/114-120)، ((أصول الدين)) للبغدادي (ص: 242)، ((الإرشاد)) للجويني (ص: 329)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/297). .

انظر أيضا: