الموسوعة الفقهية

المَطلَبُ الأوَّلَ: أن تكونَ الإجارةُ على اسْتِهلاكِ العَيْنِ المُؤَجَّرةِ أصالةً


اخْتَلَفَ العُلَماءُ في صِحَّةِ الإجارةِ على اسْتِهلاكِ العَيْنِ المُؤَجَّرةِ أصالةً -كأنْ يَسْتأجِرَ الشَّاةَ لِلَبَنِها أو صوفِها، والشَّجَرَ لثَمَرِه- على قَوْلَينِ:
القَوْلُ الأوَّلُ: لا يَصِحُّ أن تَقَعَ الإجارةُ على اسْتِهلاكِ العَيْنِ المُؤَجَّرةِ أصالةً، وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهيَّةِ الأرْبَعةِ: الحَنَفِيَّةِ ، والمالِكِيَّةِ ، والشَّافِعِيَّةِ ، والحَنابِلةِ ، وذلك لأنَّ مَورِدَ عَقْدِ الإجارةِ النَّفْعُ، والمَقْصودُ هاهنا العَيْنُ، وهي لا تُملَكُ ولا تُسْتحَقُّ بإجارةٍ .
القَوْلُ الثَّاني: يَصِحُّ أن تَقَعَ الإجارةُ على اسْتِهْلاكِ العَيْنِ المُؤَجَّرةِ أصالةً، وهو اخْتِيارُ ابنِ تَيْمِيَّةَ ، وابنِ القَيِّمِ ، وابنِ عُثَيْمينَ .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: قِياسًا على إكْراءِ الأرْضِ للازْدِراعِ، واسْتِئجارِ الظِّئْرِ للرَّضاعِ، وليس في القُرآنِ إجارةٌ مَنْصوصةٌ إلَّا إجارةُ الظِّئْرِ، في قَوْلِه تَعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ .
ثانِيًا: أنَّ الفَوائِدَ الَّتي تُسْتخلَفُ معَ بَقاءِ أُصولِها تَجْري مَجْرى المَنافِعِ، كثَمَرِ الشَّجَرِ، وألْبانِ البَهائِمِ، والصُّوفِ، فإنَّه كلَّما خُلِقَ مِن هذه شيءٌ فأُخِذَ، خَلَقَ اللهُ بَدَلَه معَ بَقاءِ الأصْلِ، كالمَنافِعِ سواءً .
ثالِثًا: قِياسًا على جَوازِ وَقْفِها، فالوَقْفُ إنَّما هو في مَنْفعةِ المَوْقوفِ معَ بَقاءِ عَيْنِه .
رابِعًا: لأنَّه يَجوزُ أن يَمنَحَ البَهيمةَ غَيْرَه مُدَّةً مَعْلومةً لأجْلِ لَبَنِها، وهي باقِيةٌ على مِلْكِ المانِحِ. فتُجْرى مِنْحتُها مَجْرى إعارتِها، والعاريَّةُ إباحةُ المَنافِعِ، فإذا كانَ اللَّبَنُ يُجْرى مَجْرى المَنْفعةِ في الوَقْفِ والعاريَّةِ، جَرى مَجْراها في الإجارةِ .
خامِسًا: أنَّه يَجوزُ أن يَسْتأجِرَ بِئْرًا مُدَّةً مَعْلومةً لمائِها، والماءُ لم يَحصُلْ بعَمَلِه، فلَأنْ يَجوزَ اسْتِئْجارُ الشَّاةِ للَبَنِها الحاصِلِ بعَلَفِه والقِيامِ عليها أَولى .

انظر أيضا:

  1. (1) ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (5/127)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (6/83، 84).
  2. (2) لا يَصِحُّ أن يُسْتَأجَرَ الشَّجَرُ لأخْذِ ثَمَرٍ، ولا اسْتِئْجارُ شاةٍ أو شاتَينِ للَّبَنٍ، ويَجوزُ إجارةُ القَطيعِ مِن ذَواتِ اللَّبَنِ للحَلْبِ بشُروطِه، ويَجوزُ اسْتِئْجارُ البَقَرةِ للحَرْثِ واشْتِراطُ لَبَنِها، واسْتِئْجارُ الشَّجَرِ للتَّجْفيفِ، واشْتِراطُ ثَمَرتِها. ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (4/20، 21)، ((منح الجليل)) لعليش (7/496).
  3. (3) ((روضة الطالبين)) للنووي (5/178). ويُنظَرُ: ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (2/406).
  4. (4) ((كشاف القناع)) للبهوتي (3/562).
  5. (5) ((كشاف القناع)) للبهوتي (3/562).
  6. (6) قالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: (إكْراءُ الشَّجَرِ للاسْتِثمارِ يَجْري مَجْرى إكْراءِ الأرْضِ للازْدِراعِ، واسْتِئْجارِ الظِّئْرِ للرَّضاعِ، وذلك أنَّ الفَوائِدَ الَّتي تُسْتخلَفُ معَ بَقاءِ أُصولِها تَجْري مَجْرى المَنافِعِ، وإن كانَت أعْيانًا، وهي ثَمَرُ الشَّجَرِ، وألْبانُ البَهائِمِ، والصُّوفُ والماءُ العَذْبُ، فإنَّه كلَّما خُلِقَ مِن هذه شيءٌ فأُخِذَ، خَلقَ اللهُ بَدَلَه معَ بقاءِ الأصْلِ، كالمَنافِعِ سواءً. ولِهذا جَرَتْ في الوَقْفِ والعارِيَّةِ والمُعامَلةِ بجُزءٍ مِن النَّماءِ مَجْرى المَنْفعةِ، فإنَّ الوَقْفَ لا يكونُ إلَّا فيما يُنْتفَعُ به مع بَقاءِ أصْلِه، فإذا جازَ وَقْفُ الأرْضِ البَيْضاءِ أو الزَّرْعِ لمَنْفعتِها، فكذلك وَقْفُ الحيطانِ لثَمَرتِها، ووَقْفُ الماشيةِ لدَرِّها وصوفِها). ((الفتاوى الكبرى)) (4/45).
  7. (7) قالَ ابنُ القَيِّمِ: (يَجوزُ أن يَسْتأجِرَ الشَّاةَ والبَقَرةَ ونَحْوَهما مُدَّةً مَعْلومةً للَبَنِها. ويَجوزُ أن يَسْتأجِرَها لِذلك بعَلَفِها وبدَراهِمَ مُسَمَّاةٍ، والعَلَفُ عليه، هذا مَذهَبُ مالِكٍ، وخالَفَه الباقونَ. وقَوْلُه هو الصَّحيحُ، واخْتارَه شَيْخُنا). ((إغاثة اللهفان)) (2/39). وقال: (وأمَّا إنْ أجَرَه الشَّاةَ أو البَقَرةَ أو النَّاقةَ مُدَّةً مَعلومةً لأخْذِ لَبَنِها في تلك المُدَّةِ، فهذا لا يجَوِّزُه الجُمهورُ، واختار شَيْخُنا جوازَه، وحَكاه قولًا لبَعْضِ أهلِ العِلْمِ، وله فيها مُصَنَّفٌ مُفرَدٌ). ((زاد المعاد)) (5/730).
  8. (8) قالَ ابنُ عُثَيْمينَ: (قَوْلُه: «ولا حَيَوانَ ليَأخُذَ لَبَنَه إلَّا في الظِّئْرِ» الحَيَوانُ لا يَجوزُ أن يَسْتَأجِرَه لأخْذِ لَبَنِه، مِثالُ ذلك: رَجُلٌ عنْدَه أطْفالٌ صِغارٌ مِن الضَّأنِ، أمُّها ماتَتْ، فاسْتَأجَرَ شاةً مِن إنْسانٍ مُدَّةَ يَوْمٍ أو يَوْمَينِ حتَّى يَشْتَريَ شاةً تُرضِعُ أطْفالَ الضَّأنِ، فهذا لا يَجوزُ؛ لأنَّ المَعْقودَ عليه الآنَ هو اللَّبَنُ، واللَّبَنُ أجْزاءٌ، والإجارةُ لا تكونُ إلَّا على مَنافِعَ، لا تكونُ على أجْزاءٍ... وما دُمْنا قِياسِيِّينَ يَجِبُ أن نقولَ: إنَّ اسْتِئْجارَ الحَيَوانِ لأخْذِ لَبَنِه جائِزٌ بالقِياسِ على الظِّئْرِ، وهذا اخْتِيارُ شَيْخِ الإسْلامِ ابنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَه اللهُ، وهو الصَّوابُ، وسواءٌ اسْتَأجَرَه وأتى به إلى مَحَلِّه أو اسْتَأجَرَه وهو عنْدَ صاحِبِه؛ لأنَّ اسْتِئجارَ الحَيَوانِ لأخْذِ اللَّبَنِ على وَجْهَينِ: إمَّا أن يَسْتأجِرَه ويَأتيَ به إلى بَيْتِه ويُنفِقَ عليه، وإمَّا أن يَسْتأجِرَه وهو عنْدَ صاحِبِه ويكونَ الإنْفاقُ على صاحِبِه، كلُّ ذلك جائِزٌ على القَوْلِ الصَّحيحِ). ((الشرح الممتع)) (10/31-29).
  9. (9) ((الفتاوى الكبرى)) لابن تَيْمِيَّةَ (4/45).
  10. (10) ((الفتاوى الكبرى)) لابن تَيْمِيَّةَ (4/45).
  11. (11) ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/39).
  12. (12) ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/39).
  13. (13) ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/39).