الموسوعة الفقهية

المَبْحَثُ الخامِسُ: تعليقُ البَيْعِ على شَرْطٍ كأن يَقولَ: بِعْتُك إنْ رَضِيَ زَيدٌ، أو بِعْتُك إنْ قَدِمَ عَمْرٌو مِن سَفَرٍ


اختلف العُلَماءُ في حُكمِ تَعليقِ البَيْعِ على شَرْطٍ، على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: تعليقُ البَيْعِ على شَرطٍ، يُفسِدُ البَيْعَ، وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهيَّةِ الأربعةِ: الحَنَفيَّةِ استَثنَى الحَنفيَّةُ صورةً: إذا عُلِّقَ البَيعُ على رِضا شَخصٍ أو مَشورَتِه. ((تبيين الحقائق)) للزَّيلعي (4/131)، ((حاشية ابن عابدين)) (5/240، 241). ، والمالِكيَّةِ ((شرح الزرقاني على مختصر خليل)) (5/8). ، والشَّافِعيَّةِ ((فتح العزيز)) للرَّافعي (12/16)، ((المجموع)) للنووي (9/342). ، والحَنابِلةِ ((الإقناع)) للحجاوي (2/80، 81)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (3/193).
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن أبي هُرَيرةَ قال: ((نَهى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن بَيعِ الحَصاةِ، وعن بَيعِ الغَرَرِ )) أخرجه مسلم (1513).
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهى عن بَيعِ الغَرَرِ، وفي تَعليقِ البَيعِ على شَيءٍ غَرَرٌ؛ لأنَّ هَذا الشَّيءَ قد يَحصُلُ وقد لا يَحصُلُ ((المجموع)) للنووي (9/342).
ثانيًا: لأنَّ مُقتَضى البَيعِ نَقْلُ المِلكِ حالَ التَّبايُعِ، والشَّرطُ هُنا يَمنَعُه ((كشاف القناع)) للبهوتي (3/195).
القَولُ الثَّاني: يَصِحُّ تعليقُ البَيْعِ على شَرْطٍ، وهو روايةٌ عن أحمَدَ ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (3/397)، ((الإنصاف)) للمرداوي (4/257). ، واختاره ابنُ تَيمِيَّةَ   قال ابنُ تيميَّةَ: (لو قال البائِعُ: بِعْتُكَ لَو جِئْتَني بِكَذا أو إنْ رَضِيَ زَيدٌ، صَحَّ البَيعُ والشَّرطُ، وهوَ إحدَى الرِّوايَتَينِ عَن أحمَدَ، وتَصِحُّ الشُّروطُ الَّتي لَم تُخالِفِ الشَّرعَ في جَميعِ العُقودِ، فلَو باعَ جاريةً وشَرطَ على المُشتَري إنْ باعَها فهوَ أحَقُّ بِها بِالثَّمَنِ، صَحَّ البَيعُ والشَّرطُ، ونُقِلَ عَنِ ابنِ مَسعودٍ وعَن أحمَدَ نَحوُ العِشرينَ نَصًّا على صِحَّةِ الشُّروطِ، وأنَّه يَحرُمُ الوَطءُ لِنَقصِ المِلكِ). ((الفتاوى الكبرى)) (5/ 389). ، وابنُ القَيِّمِ قال ابنُ القَيِّمِ: (تَعليقُ العُقودِ والفُسوخِ والتَّبَرُّعاتِ والِالتِزاماتِ وغَيرِها بِالشُّروطِ أمرٌ قَد تَدعو إلَيه الضَّرورةُ أوِ الحاجةُ أوِ المَصلَحةُ؛ فلا يَستَغني عَنه المُكَلَّفُ، وقَد صَحَّ تَعليقُ النَّظَرِ بِالشَّرطِ بِالإجماعِ ونَصِّ الكِتابِ) ((إعلام الموقعين)) (3/300). ، والسَّعْديُّ قال السَّعديُّ: (يَصِحُّ تَعليقُ العُقودِ، كما يَصِحُّ تَعليقُ فَسْخِها) ((المناظرات الفقهية)) (ص 83). ، وابنُ عُثَيمين قال ابنُ عُثَيمين: (هيَ مَسألةٌ خِلافيَّةٌ، والصَّحيحُ أنَّه يَصِحُّ تَعليقُ العَقْدِ بِالشَّرطِ). ((الشرح الممتع)) (8/ 159). وقال: (مِن فوائِدِ الحَديثِ: جَوازُ تَعليقِ العُقودِ على المُشاوَرةِ؛ لِقَولِها: "إنْ أحَبَّ أهلُكِ أنْ أعُدَّها لَهم فعَلْتُ"، وعلى هَذا فيَجوزُ تَعليقُ العَقدِ، فأقولُ: بِعْتُكَ إن رَضِيَ زَيدٌ، أو إن رَضِيَ شَريكي، أو إنْ رَضِيَ أبوك، أو إن رَضِيَ أبي، وهَذا القَولُ هوَ الصَّحيحُ، خِلافًا لِلمَشهورِ مِنَ المَذهَبِ؛ حَيثُ قالوا: إنَّه لا يَجوزُ تَعليقُ البَيعِ، فالصَّوابُ أنَّه جائِزٌ ولا مانِعَ مِنه، وهَذا الَّذي ذَكَرْتُه هوَ تَعَلُّقُ: "إنْ أحَبَّ أهلُكِ أنْ أعُدَّها لَهم فعَلْتُ"). ((فتح ذي الجلال والإكرام)) (3/ 514).
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ
قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1]
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ إطلاقَ الِاسمِ يَتَناوَلُ المُنجَزَ والمُعَلَّقَ والصَّريحَ والكِنايةَ، كالنَّذرِ ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (3/397).
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((المُسْلِمونَ عِندَ شُروطِهم)) أخرجه البخاري مُعَلَّقًا بصيغةِ الجزم قبل حديث (2274) وأخرجه موصولًا أبو داود (3594)، والحاكم (2309) من حديثِ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عنه. صَحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (5091)، وصَحَّح إسنادَه عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (718)، وقال النووي في ((المجموع)) (9/367): إسنادُه حَسَنٌ أو صحيح، وحسَّن إسنادَه ابن الملقن في ((خلاصة البدر المنير)) (2/69)، وابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (2/54)، وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3594): حسنٌ صحيحٌ.
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّهُ أوجَبَ الوَفاءَ بالشُّروطِ، فكانَ لكُلٍّ مِنَ العاقِدَينِ أن يوجِبَ للآخَرِ على نَفسِه ما لم يَمنَعْه اللهُ مِن إيجابِه ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيميَّةَ (3/233).
ثالِثًا: مِنَ الآثارِ
عن عُمرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (إنَّ مَقاطِعَ الحُقوقِ عِندَ الشُّروطِ، ولَكَ ما شَرَطْتَ) أخرجه البخاري معلقًا بصيغة الجزم قبل حديث (5151)، وأخرجه أيضًا بصيغة الجزم قبل حديث (2721)، وأخرجه موصولًا ابن أبي شيبة (16706)، وسعيد بن منصور في ((السنن)) (663). صَحَّح إسنادَه على شرط الشيخين الألباني في ((إراوء الغليل)) (6/304)، وصَحَّحه (1891) بلفظ: (مقاطِعُ الحُقوقِ عند الشُّروطِ).
وَجْهُ الدَّلالةِ:
نَّه أوجَبَ الوَفاءَ بالشُّروطِ، فكانَ لكُلٍّ مِنَ العاقِدَينِ أن يوجِبَ للآخَرِ على نَفسِه ما لم يَمنَعْه اللهُ مِن إيجابِه ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيميَّةَ (3/233).
رابعًا: أنَّ الأصلَ في المُعامَلاتِ الحِلُّ والإباحةُ إلَّا ما دَلَّ الدَّليلُ الشَّرعيُّ على مَنعِه، وتَعليقُ العُقودِ داخِلٌ في هَذا الأصلِ ((المناظرات الفقهية)) للسعدي (ص 83).

انظر أيضا: