الموسوعة الفقهية

الفصلُ الأولُ: حُكمُ الوصيَّةِ


الأصلُ في الوَصيَّةِ الجوازُ [1] وتَعتريها الأحكامُ الخَمسةُ؛ فقد تكون واجبةً، أو مُستحَبَّةً، أو مُحرَّمةً، أو مَكروهةً، أو مُباحةً. وقد ذكَرَ الفقهاءُ أمثلةً لهذه الأحكامِ؛ منها: أنَّها تَجِبُ لردِّ الدُّيونِ ونَحوِها، وتُستحَبُّ لقُربةٍ غيرِ واجبةٍ، وتُباحُ للأغنياءِ ونحوِهم مِن الأقاربِ، وتُكرَهُ لأهلِ الفُسوقِ والعصيانِ، وتَحرُمُ الزِّيادةُ على الثُّلثِ خاصَّةً إذا كان بقصْدِ حِرمانِ الورَثةِ. ووقَع خِلافٌ بيْنَ المَذاهبِ في بعضِ هذه الأمثلةِ ما بيْن تَحريمٍ وكَراهةٍ، أو إباحةٍ واستِحبابٍ. يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزَّيْلَعي (6/182)، ((حاشية ابن عابدين)) (6/648)، ((مِنَح الجليل)) لعُلَيْش (9/503)، ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهَيْتَمي (7/4)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (3/39)، ((الإنصاف)) للمَرْداوي (7/146)، ((كشاف القناع)) للبُهُوتي (4/335).
الأدِلَّةُ:
أولًا: مِنَ الكِتابِ
قَولُ اللهِ تعالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة: 180]
قولُه تَعالَى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ إلى قولِه: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ [النساء: 11، 12]
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللهَ تعالَى شرَعَ الميراثَ وجعَلَه بعْدَ الوصيَّةِ؛ فدلَّ على أنَّ الوصيَّةَ جائزةٌ [2] ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/330).
3- قولُه سُبحانَه وتعالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ [المائدة: 106]
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالَى ندَبَ إلى الإشهادِ على حالِ الوصيَّةِ؛ فدلَّ على أنَّها مَشروعةٌ [3] ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/330).
ثانيًا: مِن السُّنةِ
1- عن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ رضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قال: ((ما حَقُّ امرِئٍ مسلِمٍ له شَيءٌ يُوصِي فيه يَبِيتُ ليلَتَينِ، إلَّا ووَصيَّتُه مَكتوبةٌ عندَه )) [4] أخرجه البخاري (2738) واللفظُ له، ومسلم (1627).
2- عن سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَعودُني وأنا مَريضٌ بمكَّةَ، فقلتُ: لي مالٌ، أُوصي بمالي كلِّه؟ قال: لا. قلتُ: فالشَّطرِ؟ قال: لا. قلتُ: فالثُّلُثِ؟ قال: الثُّلُثُ، والثُّلُثُ كثيرٌ؛ أنْ تَدَعَ ورَثتَك أغنياءَ خيرٌ مِن أنْ تدَعَهم عالَةً يَتكَفَّفونَ الناسَ في أيديِهم، ومهما أنفقْتَ فهو لك صَدقةٌ، حتى اللُّقْمةَ تَرفَعُها فِي فِي امرأتِك، ولعَلَّ اللهَ يَرفَعُك يَنتَفِعُ بك ناسٌ، ويُضَرُّ بك آخَرونَ )) [5] رواه البخاري (5354) واللفظُ له، ومسلم (1628).
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أجازَ الوصيَّةَ بالثُّلثِ [6] ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/330).
ثالثًا: مِن الإجماعِ
نقَلَ الإجماعَ على ذلك: ابنُ حَزمٍ [7] قال ابنُ حزمٍ: (اتَّفقوا... أنَّ الوصيَّةَ بالبِرِّ، وبما ليس بِرًّا، ولا مَعصيةً، ولا تَضييعًا للمالِ؛ جائزةٌ... واتَّفقوا أنَّ وَصيةَ العاقلِ البالغِ، الحُرِّ المسلمِ، المُصلِحِ لمالِه؛ نافذةٌ). ((مراتب الإجماع)) (ص: 113). ، وابنُ عبدِ البَرِّ [8] قال ابنُ عبد البَرِّ: (اتَّفق فُقهاءُ الأمصارِ على أنَّ الوصيَّةَ مَندوبٌ إليها، مَرغوبٌ فيها، وأنَّها جائزةٌ لمَن أوصَى في كلِّ مالٍ، قَلَّ أو كثُرَ، ما لم يَتجاوَزِ الثُّلثَ). ((الاستذكار)) (7/263). ، والكاسانيُّ [9] قال الكاسانيُّ: (هذا الكِتابُ يقَعُ في مَواضعَ في بيانِ جَوازِ الوصيَّةِ... فالقِياسُ يأبى جوازَ الوصيَّةِ... إلَّا أنَّهم استَحْسنوا جَوازَها بالكتابِ العزيزِ، والسُّنةِ الكريمةِ، والإجماعِ). ((بدائع الصنائع)) (7/330). ، وابنُ رُشدٍ [10] قال ابنُ رُشدٍ: (الوصيَّةُ بالجُملةِ هي هِبةُ الرجُلِ ما لَهُ لشخصٍ آخَرَ، أو لأشخاصٍ بعدَ موتِه، أو عِتْقُ غُلامِه، سواءٌ صرَّحَ بلَفظِ الوصيَّةِ، أو لم يُصرِّحٍ به، وهذا العَقدُ هو مِن العقودِ الجائزةِ باتِّفاقٍ). ((بداية المجتهد)) (2/336). ، وابنُ قُدامةَ [11] قال ابنُ قُدامةَ: (أجمع العُلَماءُ في جميعِ الأمصارِ والأعصارِ على جَوازِ الوَصيَّةِ). ((المغني)) (6/137).

انظر أيضا: