الموسوعة الفقهية

المَطلبُ الثَّاني: مَبيتُ المُعتَدَّةِ مِن طَلاقٍ بائنٍ (بَينونةً كُبرى)


المُطَلَّقةُ البائِنُ بَينونةً كُبرى تعتَدُّ حيث شاءت [292]     فإذا اختارت بيتًا لتعتَدَّ فيه فيَجِبُ عليها أن تبيتَ فيه، وإنْ بَقِيَت في بيتِ مُطَلِّقِها فعليها أن تتحَجَّبَ منه، ولا يجوزُ أن يخلوَ بها؛ لأنَّها صارت أجنبيَّةً عنه. قال الزيلعي: (إذا طَلَّقها بائنًا وسكَنَت في مَنزِلِ الزَّوجِ، يُجعَلُ بينها وبينه سُترةٌ؛ حتى لا تقَعَ الخَلوةُ). ((تبيين الحقائق)) (3/37). ويُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (10/434). ، ولا يجِبُ عليها أن تَبيتَ في بَيتِ مُطَلِّقِها، نصَّ عليه الحنابِلةُ [293]     ((المبدع شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (8/130)، ((الإنصاف)) للمرداوي (9/229). ، وابنُ عُثيمين [294]     قال ابنُ عثيمين: (إذا طلَّقَها الطَّلقةَ الثالثةَ فإن كان في البيتِ سواها بحيثُ لا يحصُلُ خَلوةٌ بينها وبين زوجِها المطَلِّقِ، فلا بأسَ أن تبقى في البيتِ ولها أن تنتَقِلَ إلى أهلِها، وأمَّا إذا لم يكُنْ في البَيتِ إلَّا الرَّجُلُ الذي طَلَّقَها الطَّلقةَ الثَّالثةَ، فإنَّه يجِبُ عليها أن تخرُجَ؛ وذلك لأنَّها صارت بائنةً منه لا تحِلُّ له، وعلى هذا لا يجوزُ له أن يخلوَ بها، فتَخرُجُ إلى بيتِ أهلِها). ((فتاوى نور على الدرب)) (10/434). ، وبَعضُ السَّلَفِ [295]     قال ابنُ المنذِرِ: (قَولٌ ثانٍ وهو: أنَّ المُطَلَّقةَ المَبتوتةَ تعتَدُّ حيثُ شاءت. كذلك قال ابنُ عباسٍ، وجابر بنُ عبد الله، وعطاءُ بنُ أبي رباح، وطاوس، والحسن، وعكرمة). ((الأوسط)) (9/512). ويُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (8/232)، ((فتح الباري)) لابن حجر (9/480). ، وهو ظاهِرُ قَول ابنِ عبدِ البَرِّ مِنَ المالكيَّةِ [296]     قال ابن عبد البَرِّ: (لكِنْ من طريقِ الحُجَّةِ وما يلزَمُ منها: قَولُ أحمدَ بنِ حنبلٍ ومن تابعَه أصَحُّ وأحَجُّ؛ لأنَّه لو وجب السُّكنى عليها وكانت عبادةً تعَبَّدَها اللهُ بها، لألزمها ذلك رَسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ولم يُخرِجْها من بيتِ زَوجِها إلى بيتِ أمِّ شَريكٍ ولا إلى بيتِ ابنِ أمِّ مَكتومٍ، «ولأنَّه» أجمعوا أنَّ المرأةَ التي تبذُو على أحمائِها بلسانِها تُؤَدَّبُ وتُقصَرُ على السُّكنى في المنزِلِ الذي طُلِّقَت فيه، وتُمنَعُ مِن أذى النَّاسِ؛ فدَلَّ ذلك على أنَّ مَن اعتَلَّ بمثل هذه العِلَّةِ في الانتِقالِ اعتَلَّ بغيرِ صَحيحٍ مِنَ النَّظَرِ ولا مُتَّفَقٍ عليه مِنَ الخبرِ، هذا ما يُوجِبُه عندي التأمُّلُ لهذا الحديثِ مع صِحَّتِه، وباللهِ التوفيقُ. وإذا ثبت أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال لفاطمةَ بنتِ قَيسٍ وقد طُلِّقَت طلاقًا باتًّا: لا سُكنى لك ولا نَفَقةَ، وإنَّما السُّكنى والنَّفَقةُ لِمن عليها رجعةٌ. فأيُّ شَيءٍ يُعارَضُ به هذا؟ هل يُعارَضُ إلَّا بمِثلِه عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم الذي هو المُبَيِّنُ عن اللهِ مُرادَه مِن كتابِه؟! ولا شَيءَ عنه عليه السَّلامُ يَدفَعُ ذلك، ومعلومٌ أنَّه أعلَمُ بتأويلِ قَولِ اللهِ عزَّ وجَلَّ: ﭑ  ﭒ  ﭓ  ﭔ مِن غيرِه). ((التمهيد)) (19/151). ، والظَّاهِريَّةِ [297]     قال ابنُ حزم: (وأمَّا الطَّلاقُ الباتُّ فكما رُوِّينا مِن طريقِ مُسلمٍ: أنا محمد بن المثنى، أنا عبد الرحمن بن مهدي، أنا سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن الشعبي، عن فاطمة بنتِ قيس، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، في المُطَلَّقةِ ثلاثًا: «ليس لها سُكنى ولا نَفَقةٌ»). ((المحلى)) (10/74). ونسب ابنُ قُدامةَ هذا القَولَ لداودَ. يُنظر: ((المغني)) (8/232). ، وابنِ القيِّمِ [298]     قال ابنُ القيِّم: ([فَصلٌ في حُكمِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الموافِقِ لكتابِ اللهِ: أنَّه لا نَفَقةَ للمَبتوتةِ ولا سُكنى]. روى مسلِمٌ في صَحيحِه عن فاطِمةَ بنتِ قَيسٍ: أنَّ أبا عَمرِو بنَ حَفصٍ طَلَّقَها البتَّةَ وهو غائِبٌ...). ((زاد المعاد)) (5/466). ، والصَّنعانيِّ [299]     قال الصنعاني: (الحديثُ دَليلٌ على أنَّ المُطَلَّقةَ ثلاثًا ليس لها نَفَقةٌ ولا سُكنى... ولا يخفى ضَعفُ هذه المطاعِنِ في ردِّ الحديثِ؛ فالحَقُّ ما أفاده الحديثُ، وقد أطال ابنُ القَيِّمِ في ذلك في الهَدْي النبويِّ ناصِرًا للعَمَلِ بحديثِ فاطمةَ). ((سبل السلام)) (2/291). ، والشَّوكانيِّ [300]     قال الشوكاني: (استدَلَّ بأحاديثِ البابِ مَن قال: إنَّ المُطَلَّقةَ بائنًا لا تستَحِقُّ على زَوجِها شَيئًا مِن النَّفَقةِ والسُّكنى، وقد ذهَبَ إلى ذلك أحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وداود، وأتباعهم، وحكاه في البحر عن ابنِ عباسٍ، والحسن البصري، وعطاء، والشعبي، وابن أبي ليلى، والأوزاعي ...) وحكى أقوالًا أُخَرَ، ثم قال: (وأرجَحُ هذه الأقوالِ: الأوَّلُ؛ لِما في البابِ مِن النَّصِّ الصَّحيحِ الصَّريحِ). ((نيل الأوطار)) (6/357-359). ، والشِّنقيطيِّ [301]     قال الشنقيطي: (البائِنُ بالطَّلاقِ لا تجِبُ لها النَّفَقةُ والسُّكنى، على أصَحِّ الأقوالِ دَليلًا؛ فعُلِمَ أنَّ عَدَمَ النَّفَقةِ والسُّكنى لا يتوقَّفُ على عدَمِ الطَّلاقِ، وأوضَحُ دَليلٍ في ذلك ما صَحَّ عنه صلَّى الله عليه وسلَّم مِن حديثِ فاطِمةَ بنتِ قَيسٍ رَضِيَ اللهُ عنها). ((أضواء البيان)) (1/107، 108). ، وابنِ باز [302]     قال ابن باز: (حديثُ فاطِمةَ بنتِ قَيسٍ القُرَشيَّةِ الفِهْريَّةِ أنَّ زَوجَها أبا عَمرِو بنَ حَفصٍ طَلَّقها البتَّةَ وهو في اليَمِنِ -طَلَّقَها ثلاثًا الطَّلقةَ الأخيرةَ- فأرسل إليها وكيلَه بشَعيرٍ فسَخِطَتْه، فاشتَكَت إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: «ليس لكِ عليه نَفَقةٌ ولا سُكنى»، فدَلَّ ذلك على أنَّ المرأةَ إذا طُلِّقَت طَلقةً أخيرةً ثالثةً بائنةً، لا يكونُ لها سَكَنٌ ولا نَفَقةٌ على زَوجِها، وإنَّما لها النَّفَقةُ والسُّكنى إذا كانت رجعيَّةً له رَجْعتُها؛ إذا طَلَّقَها واحدةً أو اثنتَينِ فله رَجعتُها ولها النَّفَقةُ حتى تعتَدَّ). ((الإفهام في شرح عمدة الأحكام)) (ص: 638).
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ
قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا الطلاق: 1.
وَجهُ الدَّلالةِ:
في قَولِه تعالى: وَلَا يَخْرُجْنَ دَليلٌ على عَدَمِ إخراجِ الرَّجعيَّةِ مِن بَيتِها في عِدَّتِها، وهو يدُلُّ بمَفهومِه على جوازِ خُروجِ البائِنِ؛ لأنَّها لا نَفَقةَ لها [303]     ((تفسير السعدي)) (ص: 869).
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن فاطِمةَ بنتِ قَيسٍ: ((أنَّه طَلَّقَها زَوجُها في عَهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكان أنفَقَ عليها نَفَقةَ دُونٍ، فلمَّا رأت ذلك قالت: واللهِ لأُعلِمَنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإنْ كان لي نَفَقةٌ أخَذْتُ الذي يُصلِحُني، وإنْ لم تكُنْ لي نَفَقةٌ لم آخُذْ منه شيئًا. قالت: فذكَرْتُ ذلك لِرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: لا نَفَقةَ لكِ ولا سُكْنى )) [304]     رواه مسلم (1480).
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الحَديثَ نَصٌّ صَريحٌ صَحيحٌ في أنَّ البائِنَ بالطَّلاقِ لا سُكنى لها [305]     ((التمهيد)) لابن عبد البر (19/151)، ((سبل السلام)) للصنعاني (2/291)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/108). ، فتعتَدُّ حيثُ شاءت.





 



انظر أيضا: