الفصل الثالث: التحلُّلُ مِنَ الإحصارِ
تمهيدٌ: حِكمةُ مَشروعيَّةِ التحلُّلِشَرَعَ اللهُ التحلُّلَ لحاجةِ المُحصَر إليه، ورفعًا للحَرَج والضَّرَرِ عنه، حتى لا يظَلَّ مُحرِمًا إلى أن يندفِعَ عنه المانِعُ من إتمامِ الحَجِّ أو العمرةِ
المبحث الأوَّل: كيفيَّةُ تحلُّلِ المُحصَرالمطلب الأوَّل: نيَّةُ التحلُّلِ تُشتَرَطُ نيَّةُ التحلُّلِ عند ذبحِ الهَدْيِ، وهو مَذهَب الشَّافعيَّة
، والحَنابِلَة
الأدلَّة:أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةقولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ، وإنَّما لكلِّ امرئٍ ما نوى ))
ثانيًا: لأنَّه يريدُ الخُروجَ من العبادةِ قبل إكمالِها، فافتقَرَ إلى قَصْدِه، ولأنَّ الذَّبحَ قد يكون لغيرِ الحِلِّ، فلم يتخَصَّصْ إلَّا بقَصْدِه
المطلب الثاني: ذَبْحُ هَدْيِ الإحصارِالفرع الأوَّل: مكانُ ذَبْحِ هَدْيِ الإحصارِ وزمانهالمُحْصَرُ يذبَحُ الهَديَ في المكانِ الذي أُحصِرَ فيه وقت حصره
، سواءٌ كان في الحِلِّ، أو في الحَرَمِ، وهو مَذهَب ال
مالكيَّة
، والشَّافعيَّة
، والحنابلة
، وهو قولُ أكثَرِ أهلِ العِلْمِ
الأدلَّة:أدلة ذبح الهدي في مكان الإحصارأوَّلًا: مِنَ السُّنَّة أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَحَرَ هَدْيَه بالحُدَيبيَة حيثُ أُحصِرَ، وهي خارجُ الحَرَمِ
ثانيًا: لأنَّ ذلك يُفضِي إلى تعذُّرِ الحِلِّ، لتعذُّرِ وصولِ الهَدْيِ إلى مَحِلِّه
ثالثًا: ولأنه موضع تحلله فكان موضع ذبحه
دليل كون ذبح الهدي وقت الإحصارالدَّليل مِنَ الكِتابِ:قوله تعالى:
فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة: 196] وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّه أطلَقَ عندما ذَكَرَ الهَدْيَ ولم يُوَقِّتْه بزمانٍ
الفرع الثاني: العَجْزُ عن الهَدْيِاختلفَ الفُقهاءُ فيما إذا عجَزَ المُحصَر عن الهَديِ هل عليه بدَلٌ أو لا؟ على أقوالٍ؛ منها:
القول الأوّل: أنَّ مَن لم يجِدِ الهَديِ ليس عليه بدَلٌ، وله أن يتحَلَّلَ، وهو قولٌ عند الشَّافعيَّة
، واختارَه
ابنُ عُثيمين
وذلك للآتي:أوَّلًا: لَمَّا سكت اللهُ عزَّ وجلَّ عن الصِّيامِ في الإحصارِ، وأوجَبَه في التمتُّعِ لِمَن عَدِمَ الهديَ؛ دلَّ على أنَّ مَن لم يجِدِ الهَديَ من المُحصَرينَ ليس عليه شيءٌ، فيحِلُّ بدون شيءٍ
ثانيًا: أنَّ الظَّاهِرَ مِن حالِ كثيرٍ مِنَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم أنَّهم فقراءُ، ولم يُنقَلْ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَرَهم بالصِّيامِ، والأصلُ بَراءةُ الذِّمَّةِ
القول الثاني: مَن لم يجِدِ الهَديَ يَلزَمُه أنْ يصومَ عَشَرةَ أيَّامٍ ثمَّ يحِلُّ، وهو مَذهَب الحَنابِلَة
، وأشهبَ مِنَ ال
مالكيَّة
، وقولٌ عند الشَّافعيَّة
، واختارَه
ابنُ باز
وذلك للآتي:أولا: لأنَّه دَمٌ واجِبٌ للإحرامِ، فكان له بدَلٌ، كدمِ التمتُّعِ والطِّيبِ واللِّباسِ، ويتعيَّنُ الانتقالُ إلى صيامِ عَشَرةِ أيَّامٍ، كبَدَلِ هَديِ التَّمتُّعِ
ثانيًا: المُحصَر ليس له أن يتحلَّلَ إلَّا بعد الصِّيامِ، كما لا يتحَلَّلُ واجِدُ الهَديِ إلَّا بنَحْرِه
الفرع الثالث: ما يجِبُ مِنَ الهَديِ على المُحصَرِ القارِنِاختلف الفقهاءُ فيما يجِبُ على المُحصَر القارِنِ مِنَ الهَديِ على قولين:
القول الأوّل: يجِبُ على المُحصَر القارِنِ هَدْيٌ واحِدٌ، وهو مَذهَب الشَّافعيَّة
، والحَنابِلَة
؛ وذلك لأنَّه مُحْرِمٌ بإحرامٍ واحدٍ، ويدخلُ إحرامُ العمرةِ في الحَجَّةِ، فيكفيه دمٌ واحدٌ
القول الثاني: المُحصَر القارِنُ عليه هَدْيانِ، وهو مَذهَب الحَنَفيَّة
، وذلك لأنَّه مُحرِمٌ بإحرامينِ؛ فلا يحِلُّ إلَّا بهَدْيَينِ
المطلب الثالث: الحَلْقُ أو التَّقصيرُالحَلْقُ أو التَّقصيرُ واجِبٌ لتحَلُّلِ المُحصَر من الإحرامِ، وهو الأظهَرُ عند الشَّافعيَّة
، وقولٌ عند الحَنابِلَة
، وهو قول
مالك
وروايةٌ عن
أبي يوسف
واختارَه
الطحاويُّ
، و
الشنقيطيُّ
، و
ابنُ باز
، و
ابنُ عُثيمين
الدَّليل مِنَ السُّنَّة: أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فعَلَه عامَ الحُدَيبِيَةِ؛ فإنَّه حَلَقَ، وأمَرَ أصحابَه أن يحلِقوا.
فعَن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لأصْحابِه
((قُومُوا فانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا، قال: فواللَّهِ ما قام منهم رجلٌ حتَّى قال ذلك ثلاثَ مَرَّاتٍ، فلَمَّا لم يَقُمْ منهم أحدٌ، دَخَل عَلَى أُمِّ سَلَمةَ، فَذكَر لها ما لَقِيَ مِنَ النَّاسِ، فقالت أُمُّ سَلَمةَ: يا نَبِيَّ اللهِ، أتُحِبُّ ذلك؟ اخْرُجْ ثمَّ لا تُكَلِّمْ أحدًا منهم كلِمَةً، حتَّى تَنحَرَ بُدُنَك وتَدْعُوَ حالِقَك فيحْلِقَك، فخَرَج فلم يُكَلِّمْ أحدًا منهم حتَّى فَعَل ذلك؛ نَحَر بُدْنَه ودَعا حالِقَه فحَلَقَه، فلمَّا رَأَوْا ذلك قاموا فنَحَروا، وجَعَل بَعْضُهم يحلِقُ بعضًا ))
المبحث الثاني: اشتراطُ التحلُّلِ مِنَ الإحصارِالمطلب الأوَّل: ما يلزَمُ المُحصَرَ إذا اشتَرَطمَنِ اشتَرَط قبلَ حَجِّه وعُمْرَتِه؛ فإنْ أُحصِرَ تحلَّلَ ولم يلزَمْه شيءٌ مُطلقًا، وهو مَذهَبُ الحَنابِلَة
، والأصَحُّ مِنْ مَذهَبِ الشَّافعيَّة
، واختيارُ
ابنِ باز
، و
ابنِ عُثيمين
الأدلَّة:أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةعن
عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت:
((دخل النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على ضُباعةَ بنتِ الزُّبيرِ، فقالت: يا رسولَ اللهِ، إنِّي أريدُ الحَجَّ، وأنا شاكيةٌ، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: حُجِّي، واشتَرِطي أنَّ مَحَلِّي حيث حبَسْتَني ))
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّه لَمَّا أمَرَها بالاشتراطِ أفاد شيئينِ؛
أحدُهما: أنَّه إذا عاقها عائقٌ مِن عدُوٍّ، أو مرضٍ، أو ذَهابِ نفقةٍ، ونحو ذلك؛ أنَّ لها التحلُّلَ.
والثاني: أنَّه متى حلَّتْ بذلك، فلا دمَ عليها ولا صومَ
ثانيًا: مِنَ الآثار1- عن سُوَيد ِبنِ غَفَلةَ قال: (قال لي عُمَرُ: يا أبا أميَّةَ، حُجَّ واشتَرِطْ؛ فإنَّ لك ما شرَطْتَ، وللهِ عليك ما اشتَرَطْتَ)
2- عن
عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت لعُروةَ: (هل تستثني إذا حجَجْتَ؟ فقال: ماذا أقولُ؟ قالت: قُل: اللهُمَّ، الحجَّ أردْتُ، وله عَمَدْتُ، فإنْ يَسَّرْتَه فهو الحَجُّ، وإن حبَسَني حابسٌ فهو عمرةٌ)
المطلب الثاني: حُكْمُ المُحصَرِ إذا وقع في بعضِ محظوراتِ الإحرامِ قبل التحلُّلِإذا فعَل المحصَرُ قبلَ إحلالِه شيئًا مِن محظوراتِ الإحرامِ، ممَّا يُوجبُ الفديةَ، كالطِّيبِ واللباسِ، وغيرِهما ، فالفديةُ واجبةٌ عليه، كغيرِ المحصَرِ، باتِّفاقِ المذاهِبِ الفقهية الأربعةِ: الحَنَفيَّة
، وال
مالكيَّة
، والشَّافعيَّة
، والحَنابِلَة
الدَّليلُ مِنَ السُّنَّة: عن كَعْبِ بنِ عُجْرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال:
((أتى عليَّ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم زمَنَ الحُدَيبِيَةِ والقَمْلُ يتناثَرُ على وجهي، فقال: أيُؤْذيكَ هوامُّ رأسِكَ؟ قلتُ: نعم. قال: فاحْلِقْ وصُمْ ثلاثةَ أيَّامٍ، أو أطعِمْ سِتَّةَ مساكينَ، أو انسُكْ نَسيكةً ))
، وكان ذلك بعد الإحصارِ
المطلب الثالث: القضاءُ على من أُحْصِرَمَن تحلَّلَ بالإحصارِ فليس عليه القَضاءُ
، وهو مَذهَب ال
مالكيَّة
، والشَّافعيَّة
، والحَنابِلَة
الأدلَّة:أوَّلًا: مِنَ الكِتابِقوله تعالى:
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة: 196] وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ الله تعالى ذكَرَ الهَدْيَ والحَلْقَ، ولم يذكُرْ شيئًا سوى ذلك؛ فدلَّ على أنَّه لا قضاءَ على المُحصَرِ
ثانيًا: أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يأمُرِ الذين أُحْصِروا في غزوةِ الحُدَيبِيَةِ أن يقضُوا تلك العمرةَ التي أُحْصِروا عنها
المطلب الرابع: هلْ يَسقُطُ الفرضُ عنِ المُحصَرِ إذا تَحلَّلَ؟ المُحصَرُ لا يَسقُطُ عنه الحجُّ الواجبُ إذا تحلَّل، بل يَبقَى في ذِمَّتِه.
الدَّليلُ مِنَ الإجماعِ: نقلَ الإجماعَ على ذلك
ابن تيميَّة