الموسوعة الفقهية

الفصل الرابع: حُكْمُ مَن فاتَه المبيتُ الواجِبُ في مُزْدَلِفةَ

مَن لم يَبِتْ بمُزدَلِفةَ إلى ما بَعدَ مُنتَصَفِ اللَّيلِ، وفاته المَبيتُ الواجِبُ؛ فعليه دمٌ [1] أمَّا مَن دَفَع قَبلَ نِصفِ اللَّيلِ، فعاد قَبلَ طُلوعِ الفَجرِ، أجزأه المبيتُ ولا دَمَ عليه. يُنظر: ((المجموع)) للنووي (8/135)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/582)، ((مجموع فتاوى ابن باز)) (16/142). ، إلَّا إن كان ذلك لعُذْرٍ؛ فلا شيءَ عليه [2] مِنَ الأعذارِ التي كَثُرَت في الآوِنةِ الأخيرةِ: تَعَطُّلُ السَّيرِ بسبَبِ الزِّحامِ. يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (7/309)، ((فتاوى نور على الدرب)) لابن باز (17/396)، ((فتاوى اللجنة الدائمة- المجموعة الأولى)) (11/215-216). ، وهو مَذهَبُ الشَّافعيَّةِ [3] ((المجموع)) للنووي (8/136)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/499-500). ، والحَنابِلةِ [4] ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/497). ويُنظر: ((المغني)) لابن قُدامة (3/437). ، وهو اختيارُ ابنِ بازٍ [5] سُئِل ابنُ بازٍ عن ضابِطِ المَبيتِ في المُزدَلِفةِ؟ فأجاب: (من فاتته مُزدَلِفةُ فعليه دَمٌ يُذبَحُ في مكَّةَ للفُقَراءِ؛ لأنَّ الوقوفَ فيها واجِبٌ، أمَّا إن وقف فيها غالِبَ اللَّيلِ، وانصرف بعدَ النِّصفِ، فلا بأسَ إذا انصَرَف منها بَعدَ نِصفِ اللَّيلِ، فلا بأسَ، والأفضَلُ المُكثُ فيها جميعَ اللَّيلِ، فإذا طَلَع الفَجرُ صلَّى مع المُسلِمين صلاةَ الفَجرِ، ثمَّ وَقَف يذكُرُ اللهَ مُستقبِلًا القبلةَ، ويدعو حتَّى يُسفِرَ، فإذا أسفر انصَرَف إلى مِنًى قَبلَ طُلوعِ الشَّمسِ، هكذا فَعَل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أمَّا الضُّعَفاءُ مِنَ النِّساءِ والشُّيوخِ الكِبارِ ومَن معهم فلا بأسَ أن ينصَرِفوا بعدَ نِصفِ اللَّيلِ من مُزدَلِفةَ إلى مِنًى، الرَّسولُ رَخَّص لهم في ذلك، أمَّا الأقوياءُ وغالِبُ النَّاسِ فالمشروعُ لهم البقاءُ في مُزدَلِفةَ حتَّى صلاةِ الفَجرِ، فإذا صَلَّوها جَلَسوا فيها إلى الإسفارِ للذِّكرِ والدُّعاءِ، حتَّى يُسفِروا، فإذا أسفَروا انصَرَفوا إلى مِنًى قَبلَ طُلوعِ الشَّمسِ، هذا هو الأفضَلُ) ((فتاوى نور على الدرب)) (17/410). ، وابنِ عُثَيمين [6] قال ابنُ عُثَيمين: (قَولُه: «ويَبيتُ بها» ظاهِرُ كلامِ المؤلِّفِ أنَّه يَبيتُ بها وجوبًا بدليلِ ما يأتي، وقد اختَلَف العُلَماءُ -رحمهم اللهُ- في حُكمِ المبيتِ في مُزدَلِفةَ. فقال بعضُ العُلَماءِ: هو سُنَّةٌ. وقال بعضُ العُلَماءِ: واجِبٌ يُجبَرُ بدَمٍ. وقال بعضُ العُلَماءِ: ركنٌ، كالوقوفِ بعَرَفةَ؛ لأنَّ اللهَ نَصَّ عليه وقال: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة: 198] ، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سوَّاها بعَرَفةَ حينَما قال: «وقَفتُ هاهنا، وجمعٌ كلُّها مَوقِفٌ». ولكِنَّ القولَ الوَسَطَ أحسَنُ الأقوالِ أنَّه واجِبٌ يُجبَرُ بدَمٍ، وهو المَذهَبُ). ((الشرح الممتع)) (7/305،306). وسُئِل ابنُ عُثَيمين عن الانصرافِ مِن مُزدَلِفةَ بعدَ مُنتَصَفِ اللَّيلِ، فأجاب بقَولِه: (نَعَم، لا بأسَ أن تنصَرِفَ، لكِنَّ الأَولى أن تنتَظِروا قليلًا حتَّى يغيبَ القَمَرُ؛ لأنَّ السُّنَّةَ لم تقيِّدِ الانصرافَ بنِصفِ اللَّيلِ، لكِنَّ كثيرًا من العُلَماءِ -رحمهم اللهُ- قَيَّدوه بنِصفِ اللَّيلِ؛ لأنَّه إذا مضى نِصفُ اللَّيلِ ثمَّ دَفَع فقد بَقِيَ أكثَرَ اللَّيلِ في مُزدَلِفةَ، لكِنَّ الواردَ عن السَّلَفِ، كأسماءَ بنتِ أبي بكرٍ -رَضِيَ اللهُ عنهما- أنَّه إذا غاب القَمَرُ دفعوا من مُزدَلِفةَ. ومَغيبُ القَمَرِ في ليلةِ العاشِرِ يكونُ عِندَ مُضيِّ ثُلُثَي اللَّيل ِتقريبًا، فلو انتظَرْتُم إلى آخِرِ اللَّيلِ، لكان أحسَنَ من الدَّفعِ مِن منتَصَفِ اللَّيلِ). ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (23/84). .
الدَّليلُ على وُجوبِ الدَّمِ:
عَنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّه قال: ((مَن نَسِيَ مِن نُسُكِه شيئًا أو تَرَكَه، فلْيُهرِقْ دمًا)) [7] أخرجه مالك (3/615)، والبيهقي (8997) واللفظ لهما، والدارقطني (3/270). صحَّحه ابنُ باز في ((مجموع الفتاوى)) (17/397)، وصَحَّح إسنادَه النووي في ((المجموع)) (8/99)، وابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/314)، وابن الملقن في ((خلاصة البدر المنير)) (1/350). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
 أنَّ مِثلَه لا يُقالُ بالرَّأيِ؛ فله حُكمُ الرَّفعِ، ولا مُخالِفَ له مِنَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، وعليه انعَقَدَت فتاوى التَّابعينَ، وعامَّةِ الأُمَّةِ [8] قال الشِّنقيطيُّ: (إذا عَلِمْتَ أنَّ الأثَرَ المذكورَ ثابتٌ بإسنادٍ صحيحٍ عن ابنِ عبَّاسٍ، فاعلَمْ أنَّ وَجهَ استدلالِ الفُقَهاءِ به على سائِرِ الدِّماءِ التي قالوا بوجوبِها غيرِ الدِّماءِ الثَّابتةِ بالنَّصِّ، أنَّه لا يخلو من أحدِ أمرَينِ: الأوَّلُ: أن يكونَ له حُكمُ الرَّفعِ، بناءً على أنَّه تعبُّدٌ لا مجالَ للرَّأيِ فيه، وعلى هذا فلا إشكالَ. والثَّاني: أنَّه لو فُرِضَ أنَّه ممَّا للرَّأي فيه مجالٌ، وأنَّه موقوفٌ ليس له حُكمُ الرَّفعِ، فهو فتوى من صحابيٍّ جليلٍ لم يُعلَمْ لها مخالِفٌ مِنَ الصَّحابةِ، وهم رَضِيَ اللهُ عنهم خيرُ أُسوةٍ بَعدَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم). ((أضواء البيان)) (4/473). ويُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (16/152)، ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (7/367). .
الأدِلَّةُ على سُقُوطِ الدَّمِ عَمَّن تَرَكَ المَبيتَ بالمُزدَلِفة لعُذرٍ:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رخَّصَ للرُّعاةِ في تَركِ المَبيتِ؛ لحديثِ عاصِمِ بنِ عَدِيٍّ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أرخَصَ لرِعاءِ الإبِلِ في البَيتوتةِ خارجينَ عَن مِنًى)) [9] أخرجه أبو داود (1975)، والترمذي (955) دونَ قولِه: "خارجينَ عن مِنًى"، ومالك في ((الموطأ - ت عبدالباقي)) (1/408) واللفظ له. صحَّحه الترمذي، وابن خزيمة في ((الصحيح)) (4/541)، وابن عبد البر في ((الاستذكار)) (3/651)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (6/274)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (1975). .
2- أنَّ العبَّاسَ بنَ عبدِ المطَّلِبِ استأذَنَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يبيتَ بمكَّةَ لياليَ مِنًى؛ مِن أجلِ سِقايَتِه، فأذِنَ له [10] أخرجه البخاري (1634)، ومسلم (1315) واللفظ له من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّه يُقاسُ مُزدَلِفةُ على مِنًى [11] ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/506). .
ثانيًا: أنَّها ليلةٌ يُرمَى في غَدِها، فكان لهم تَركُ المبيتِ فيها، كليالي مِنًى [12] ((المغني)) لابن قدامة (3/437). .

انظر أيضا: