الموسوعة الفقهية

الفصل الثَّالث: حُكْمُ المَبيتِ بالمُزْدَلفةِ

يجبُ المَبيتُ بمُزدَلِفةَ [1] قال ابنُ رُشدٍ: (وأجمَعوا على أنَّ مَن بات بالمُزدَلِفةِ ليلةَ النَّحرِ، وجمَع فيها بَينَ المَغرِبِ والعِشاءِ مع الإمامِ، ووقَف بعدَ صَلاةِ الصُّبحِ إلى الإسفارِ بَعدَ الوقوفِ بعَرَفةَ- أنَّ حجَّه تامٌّ، وأنَّ ذلك الصِّفةُ التي فعَل رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم). ((بداية المجتهد)) (2/115). وقال النَّوويُّ: (المَبيتُ بمُزدَلِفةَ ليلةَ النَّحرِ بَعدَ الدَّفعِ من عَرَفاتٍ: نُسُكٌ، وهذا مُجمَعٌ عليه). ((شرح النووي على مسلم)) (8/188). وقال: (إذا وصَلوا مُزدلِفةَ وحلُّوا باتوا بها، وهذا المَبيتُ نُسُكٌ بالإجماعِ). ((المجموع)) (8/134). إلى ما بَعدَ مُنتَصَفِ اللَّيلِ، ولا يجوزُ الدَّفعُ إلى مِنًى قَبلَه، والأفضَلُ أن يَدفَعَ بَعدَ الفَجرِ [2] قال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (الفَضلُ عِندَ الجميعِ المبيتُ بها حتَّى يُصَلِّيَ الصُّبحَ، ثمَّ يَدفَعُ قَبلَ طُلوعِ الشَّمسِ، لا يختَلِفون في ذلك، ولا في أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَعَل كذلك). ((الاستذكار)) (4/ 290). وقال أبو العبَّاسِ القُرطُبيُّ: (ولا خِلافَ في أنَّ الأَولى والأفضَلَ المُكثُ بالمُزدَلِفةِ إلى أن يُصلِّيَ الفَجرَ بها، ثمَّ يَقِفُ بالمَشعَرِ الحرامِ، ثمَّ يَدفَعُ منها بعدَ ذلك، كما فعَلَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم). ((المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم)) (3/ 396). ، وهذا مَذهَبُ الشَّافعيَّةِ -في الأصَحِّ- [3] ((المجموع)) للنووي (8/135،134)، ((منهاج الطالبين)) للنووي (ص: 89)، ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (4/113،114)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (3/300). ، والحَنابِلةِ [4] ((الإنصاف)) للمرداوي (4/44)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/582)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/521). ، وهو قَولُ طائِفةٍ مِنَ السَّلَفِ [5] قال شمسُ الدِّينِ ابنُ قُدامةَ: (هذا قَولُ عَطاءٍ، والزُّهريِّ، وقتادةَ، والثَّوريِّ، والشَّافِعيِّ، وإسحاقَ، وأبي عُبَيدٍ). ((الشرح الكبير)) (3/441). ، وهو اختيارُ ابنِ بازٍ [6] سُئِل ابنُ بازٍ عن ضابِطِ المَبيتِ في المُزدَلِفةِ؟ فأجاب: (من فاتته مُزدَلِفةُ فعليه دَمٌ يُذبَحُ في مكَّةَ للفُقَراءِ؛ لأنَّ الوقوفَ فيها واجِبٌ، أمَّا إن وقف فيها غالِبَ اللَّيلِ، وانصرف بعدَ النِّصفِ، فلا بأسَ إذا انصَرَف منها بَعدَ نِصفِ اللَّيلِ، فلا بأسَ، والأفضَلُ المُكثُ فيها جميعَ اللَّيلِ، فإذا طَلَع الفَجرُ صلَّى مع المُسلِمين صلاةَ الفَجرِ، ثمَّ وَقَف يذكُرُ اللهَ مُستقبِلًا القبلةَ، ويدعو حتَّى يُسفِرَ، فإذا أسفر انصَرَف إلى مِنًى قَبلَ طُلوعِ الشَّمسِ، هكذا فَعَل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أمَّا الضُّعَفاءُ مِنَ النِّساءِ والشُّيوخِ الكِبارِ ومَن معهم فلا بأسَ أن ينصَرِفوا بعدَ نِصفِ اللَّيلِ من مُزدَلِفةَ إلى مِنًى، الرَّسولُ رَخَّص لهم في ذلك، أمَّا الأقوياءُ وغالِبُ النَّاسِ فالمشروعُ لهم البقاءُ في مُزدَلِفةَ حتَّى صلاةِ الفَجرِ، فإذا صَلَّوها جَلَسوا فيها إلى الإسفارِ للذِّكرِ والدُّعاءِ، حتَّى يُسفِروا، فإذا أسفَروا انصَرَفوا إلى مِنًى قَبلَ طُلوعِ الشَّمسِ، هذا هو الأفضَلُ). ((فتاوى نور على الدرب)) (17/410). ، وابنِ عُثَيمين [7] سُئِل ابنُ عُثَيمين عن الانصرافِ مِن مُزدَلِفةَ بعدَ مُنتَصَفِ اللَّيلِ، فأجاب بقَولِه: (نَعَم، لا بأسَ أن تنصَرِفَ، لكِنَّ الأَولى أن تنتَظِروا قليلًا حتَّى يغيبَ القَمَرُ؛ لأنَّ السُّنَّةَ لم تقيِّدِ الانصرافَ بنِصفِ اللَّيلِ، لكِنَّ كثيرًا من العُلَماءِ -رحمهم اللهُ- قَيَّدوه بنِصفِ اللَّيلِ؛ لأنَّه إذا مضى نِصفُ اللَّيلِ ثمَّ دَفَع فقد بَقِيَ أكثَرَ اللَّيلِ في مُزدَلِفةَ، لكِنَّ الواردَ عن السَّلَفِ، كأسماءَ بنتِ أبي بكرٍ -رَضِيَ اللهُ عنهما- أنَّه إذا غاب القَمَرُ دفعوا من مُزدَلِفةَ. ومَغيبُ القَمَرِ في ليلةِ العاشِرِ يكونُ عِندَ مُضيِّ ثُلُثَي اللَّيل ِتقريبًا، فلو انتظَرْتُم إلى آخِرِ اللَّيلِ، لكان أحسَنَ من الدَّفعِ مِن منتَصَفِ اللَّيلِ). ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (23/84). .
الأدِلَّة مِنَ السُّنَّةِ:
1- أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بات بالمُزدَلِفةِ، وقد قال ((لِتَأخُذوا مناسِكَكم)) [8]  أخرجه مسلم (1297) من حديثِ جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما. [9] يُنظر: ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/582)، ((مجموع فتاوى ابن باز)) (17/279). .
2- عن عُروةَ بنِ مُضَرِّسِ بنِ أوسِ بنِ حارثةَ بنِ لامٍ الطَّائيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أتيتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالمُزدَلِفةِ حينَ خرَج إلى الصَّلاةِ، فقُلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي جِئتُ مِن جَبَلِ طَيِّئٍ، أكلَلْتُ راحِلتي، وأتعبتُ نفسي، واللهِ ما تَرَكتُ مِن حَبْلٍ [10] الحَبْلُ: المسْتَطيلُ مِنَ الرَّملِ. ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (1/333). (قال العِراقيُّ: المشهورُ في الرِّوايةِ فَتحُ الحاءِ المهمَلةِ وسكونُ الموحَّدةِ: وهو ما طال مِنَ الرَّملِ، ورُوِيَ بالجيمِ وفَتحِ الباءِ، قاله الترمذيُّ في بعضِ النُّسخِ ((تحفة الأحوذي)) للمباركفوري (3/542). إلَّا وَقفْتُ عليه، فهل لي مِن حَجٍّ؟ فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مَن شَهِدَ صلاتَنا هذه ووقَفَ معنا حتَّى ندفَعَ، وقد وقَفَ بعَرَفَة قَبلُ ليلًا أو نهارًا؛ فقد أتمَّ حَجَّه وقضى تَفَثَه )) [11] أخرجه أبو داود (1950)، والترمذي (891) واللفظ له، والنسائي (3043). صحَّحه الترمذي، والطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (2/208)، وابن حبان في ((صحيحه)) (3850)، وأبو أحمد الحاكم في ((المدخل)) (52)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (7/221)، وابن عبد البر في ((الاستذكار)) (3/581). .
3- حديثُ جابِرٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((حتَّى أتى المُزدَلِفةَ، فصلَّى بها المغرِبَ والعِشاءَ بأذانٍ واحدٍ وإقامَتينِ، ولم يُسَبِّحْ بَينَهما شيئًا، ثمَّ اضطجَعَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى طَلَعَ الفَجرُ، وصلَّى الفَجرَ حينَ تبيَّنَ له الصُّبحُ بأذانٍ وإقامةٍ، ثمَّ ركِبَ القَصواءَ حتَّى أتى المَشعَرَ الحرامَ...)) [12] أخرجه مسلم (1218). .
4- عن أسماءَ رَضِيَ اللهُ عنها ((أنَّها نزَلَت ليلةَ جَمعٍ عندَ المُزدَلِفةِ، فقامت تُصَلِّي، فصَلَّت ساعةً، ثمَّ قالت: يا بُنَيَّ، هل غاب القَمَرُ؟ قُلتُ: لا، فصَلَّت ساعةً، ثمَّ قالت: يا بُنَيَّ، هل غاب القَمَرُ؟ قلتُ: نَعَم، قالت: فارتَحِلوا، فارتحَلْنا ومَضَينا، حتَّى رَمَت الجَمرةَ، ثمَّ رَجَعَت فصَلَّت الصُّبحَ في مَنزِلِها، فقُلتُ لها: يا هَنْتَاهْ ما أُرانا إلَّا قد غَلَّسْنا! قالت: يا بُنَيَّ، إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أَذِن للظُّعُنِ)) [13] أخرجه البخاري (1679) واللفظ له، ومسلم (1291). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ المَبيتَ يكونُ في أكثَرِ اللَّيلِ، وأنَّه قد رُخِّص ألَّا يُصبِحَ البائِتُ فيها [14] ((الاستذكار)) لابن عبد البر (4/ 290). .
5- عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((أنا ممَّن قَدَّم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليلةَ المُزدَلِفةِ في ضَعَفةِ أهلِه)) [15] أخرجه البخاري (1678) واللفظ له، ومسلم (1293). .
6- عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((بعَثَني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن جَمعٍ بلَيلٍ)) [16] أخرجه البخاري (1677) واللفظ له، ومسلم (1293). .
وَجهُ الدَّلالةِ
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعَث ابنَ عَبَّاسٍ، وهو لم يكُنْ مِنَ الضَّعَفةِ [17] ((شرح السنة)) للبغوي (7/ 176).

انظر أيضا: