المطلب الأوَّل: زكاةُ الحُلِيِّ المُعَدِّ للاستعمالِ
اختلف أهلُ العِلم في زكاةِ الحُلِيِّ المُعَدِّ للاستعمالِ على أقوالٍ، أقواها قولان:
القول الأوّل: تجِبُ زكاةُ الحُلِيِّ، وهذا مذهَبُ الحنفيَّة
، وقولٌ للشافعيِّ
، وروايةٌ عن
أحمَدَ
، وبه قالتْ طائفةٌ مِنَ السَّلفِ
، واختاره ابنُ المُنْذِر
والخطَّابيُّ
، و
ابنُ حَزمٍ
، و
الصنعانيُّ
، و
ابنُ باز
، و
ابنُ عُثيمين
الأدلَّة:أوَّلًا: مِنَ الكِتابِقال الله تعالى:
وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة: 34] وجه الدَّلالة: أنَّ الحُلِيَّ داخِلٌ في عمومِ الآيةِ، ولم يأتِ دليلٌ يستثني بعضَ أحوالِ الذَّهَب وصفاتِه, فلم يجُزْ تخصيصُ شيءٍ من ذلك بغيرِ نصٍّ، ولا إجماعٍ
ثانيًا: من السُّنَّة1- عن
أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه:
((أنَّ أبا بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه كتَبَ لهم: إنَّ هذه فرائضُ الصَّدقةِ التي فرَض رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم))، وفيه:
((وفي الرِّقَة ربُعُ العُشرِ، فإذا لم يكُنِ المالُ إلَّا تِسعينَ ومئةَ دِرهمٍ؛ فليس فيها شيءٌ إلَّا أن يشاءَ ربُّها ))
وجه الدَّلالة: أنَّ الحُليَّ إذا كان وَرِقًا فإنَّه يجب فيه حقُّ الزَّكاة؛ لعموم هذه النُّصوصِ
2- عن أبي هُرَيرة رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم:
((ما مِن صاحِبِ ذَهَبٍ ولا فِضَّةٍ لا يؤدِّي منها حَقَّها إلَّا إذا كان يومُ القيامةِ، صُفِّحَتْ له صفائِحُ مِن نارٍ، فأُحمِيَ عليها في نارِ جهنَّمَ، فيُكوى بها جنبُه وجبينُه وظهرُه، كلَّما برُدَت أُعيدَتْ له في يومٍ كان مقدارُه خمسينَ ألفَ سَنةٍ، حتَّى يُقضى بين العبادِ؛ فيَرَى سبيلَه؛ إمَّا إلى الجنَّةِ، وإمَّا إلى النَّارِ... الحديث ))
وجه الدَّلالة: أنَّه صحَّ يقينًا أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم كان يُوجِبُ الزَّكاةَ في الذَّهَبِ والفضَّةِ كلَّ عامٍ, والحليُّ فضَّةٌ أو ذهَبٌ, فلا يجوز أن يُقالَ (إلَّا الحُلِيَّ) بغير نصٍّ في ذلك، ولا إجماعٍ
3- عن أبي سعيدٍ الخدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم:
((ليس فيما دُونَ خمْسِ أواقٍ صدقةٌ ))
وجه الدَّلالة: أنَّ مفهومَ الحديثِ أنَّ فيها صدقةً إذا بلغت خَمْسَ أواقٍ، سواءٌ كان تِبْرًا
، أو مضروبًا نَقْدًا، أو مُصاغًا حُلِيًّا
ثالثًا: مِنَ الآثارِ عن
عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: (لا بأسَ بلُبْسِ الحُلِيِّ إذا أُعطِيَتْ زكاتُهـ)
رابعًا: أنَّ الحُلِيَّ مِن جِنسِ الأثمانِ، فأشبَهَ التِّبْرَ
خامسًا: أنَّ عينَ الذَّهَبِ والفضَّةِ لا يُشتَرَط فيهما حقيقةُ النَّماءِ؛ ولذا فإنَّ الزَّكاةَ تَجِبُ فيهما إذا كانَا مُعدَّينِ للنَّفقةِ، أو كان حُلِيُّ المرأةِ أكثَرَ مِنَ المعتادِ
سادسًا: أنَّ الذَّهَبَ والفضَّة خُلِقَا جوهرينِ للأثمانِ لِمَنفعةِ التقلُّبِ والتصرُّفِ، فكانت مُعدَّة للنَّماءِ على أيِّ صيغةٍ كانت، فلا يُحتاجُ فيهما إلى نيَّةِ التِّجارة، ولا تَبطُلُ الثَّمَنيَّةُ بالاستعمال، بخلافِ العُروضِ وسائِرِ الجواهِرِ مِنَ اللآلئِ والياقوتِ والفُصوص؛ لأنَّها خُلِقَت للابتذالِ، فلا تكون للتِّجارة إلَّا بالنيَّةِ
القول الثاني: لا تجِبُ الزَّكاةُ في الحُلِيِّ المُعَدِّ للاستعمالِ
، وهذا مَذهَبُ الجُمهورِ منَ المالكيَّة
، والشافعيَّةِ على الأصحِّ
، والحَنابِلَة
، وبه قال أكثرُ أهلِ العِلم
الأدلَّة:أوَّلًا: مِنَ الكِتابِقال الله تعالى:
وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ التوبة: 34-35.
وجه الدَّلالة: أنَّ ذِكْرَ الكَنزِ والإنفاقِ في الآيةِ يدُلُّ على أنَّ المرادَ بالذَّهَبِ والفضَّة فيها: النُّقودُ؛ لأنَّها هي التي تُكنَزُ وتُنفَق، أمَّا الحُلِيُّ المعتادُ المستعمَلُ، فلا يُعتَبَرُ كنزًا، كما أنَّه ليس مُعَدًّا للإنفاق بطبيعته
ثانيًا: من السُّنَّة1- عن زينبَ امرأةِ عبد الله قالت: قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم:
((تصدَّقْنَ، يا معشَرَ النِّساءِ، ولو مِن حُليِّكنَّ...الحديث ))
وجه الدَّلالة: أنَّ قولَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ:
((تَصَدَّقْنَ يا معشَرَ النِّساءِ، ولو مِنْ حُلِيِّكُنَّ)) دليلٌ على عدمِ وُجوبِ الزَّكاةِ في الحُلِيِّ؛ إذ لو كانت واجبةً في الحُلِيِّ، لَمَا جعلَه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مَضْربًا لصدقةِ التطوُّعِ
2- عن أبى سعيدٍ الخدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال:
((ليس فيما دونَ خمْسِ أواقٍ مِنَ الوَرِقِ
صدقةٌ ))
وجه الدَّلالة: أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم خصَّ الصَّدَقةَ في الرِّقَةِ مِن بين الفضَّةِ، وأعرَضَ عن ذِكر سواها، فلم يقُلْ: إذا بلَغَتِ الفضَّة كذا ففيها كذا، ولكنَّه اشتَرَط الرِّقَةَ مِن بينها، ولا يقع هذا الاسمُ في الكلامِ المعقولِ عند العرب إلَّا على الوَرِق المنقوشةِ ذات السكَّةِ السَّائرة في النَّاسِ، فيكون ذلك قيدًا يُخرِجُ الحليَّ ونحوَه من وجوبِ الزَّكاة
ثالثًا: مِنَ الآثارِ
1- عن
عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: (كانت تلي بناتِ أخيها يتامَى في حِجْرِها، لهُنَّ الحُلِيُّ، فلا تُخرِجُ منه الزَّكاةَ)
2- عن
أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنها: (أنَّها كانت تُحلِّي بناتِها بالذَّهَبِ ولا تزكِّيه نحوًا من خمسينَ)
رابعًا: أنَّ الأصلَ المجمَعَ عليه في الزَّكاة أنَّها في الأموالِ النَّامِيَةِ
خامسًا: أنَّ الحُلِيَّ صار بالاستعمالِ المباح مِن جِنسِ الثِّيابِ والسِّلَعِ، لا مِن جِنسِ الأثمانِ
سادسًا: أنَّ الحُليَّ معدولٌ به عن النَّمَاءِ السَّائِغِ إلى استعمالِ سائغٍ، فوجب أن تسقُطَ زكاتُه كالإبِلِ العَوامِلِ