مَوقِفُ العَلَّامة محمَّد بن عُثَيمين من التصوير
18/7/1428 هـ
فضيلةَ الشيخ: عبد الرحمن بن ناصر البَرَّاك وَفَّقه الله، سلامٌ عليك ورحمة الله وبركاته ... أما بعدُ: فقد قرأتُ كلامَ الشيخِ محمَّدِ بنِ صالح بن عثيمين -رحمه الله- في التصوير، في المجلد الثاني عشر من مجموع الفتاوى له، وقد لحظتُ فيه أشياءَ أشكَلَتْ، مثل قوله: "إنَّ التصويرَ الفوتوغرافيَّ ليس تصويرًا، ومع ذلك لا يجوزُ اقتناء الصُّوَر للذِّكرى"، ومع تردُّدٍ في بعض المواضِعِ في حكم التصوير، وفي حُكمِ النَّظر إلى بعض الصور... آمُلُ تعليقَكم على ذلك.
الجواب:
وعليكم السَّلامُ ورحمةُ الله وبركاتُه
الحمدُ للهِ رَبِّ العالمين، وصلَّى اللهُ وسَلَّم على محمَّدٍ وعلى آلِه وصَحْبِه أجمعين.
أمَّـا بعدُ:
فإنَّ مَنْ يُمعِن النَّظَرَ في أجوبة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله، في التصويرِ، والنَّظر إلى الصُّوَرِ واقتنائها، يلاحظ أن تصوُّره للواقِعِ فيه تشوُّش، أي: إنَّه لم يتصَوَّر الواقِعَ تصَوُّرًا تامًّا؛ ولهذا وقع في كلامِه في هذا الموضوع بعضُ الأمور التي تُسْتَغربُ مِنْ مثله، عفا الله عنه، ويمكِنُ أن يتَّخِذَ منها أهلُ الأهواء والشَّهَوات طريقًا إلى ترويجِ ما يَهوُونه من برامجِ الإعلام المرئيَّة، ونَشْر أنواعِ الصُّوَر في الصُّحُف والمجلَّات.
وأهمُّ ما لدينا من كلام الشيــخ رحمه الله في هـذا الموضوع أجوبتُه، كما في مجموع الفتاوى له في ج 12 من صفحة 311 إلى 327، ومدارُ كَلامِه رحمه الله على ثلاثِ مسائِلَ:
1- حكمُ التصوير.
2- اقتناءُ الصُّوَر.
3- النَّظرُ إلى الصُّوَر.
وحاصِلُ كلامِه في حكمِ التصوير أنه يختَلِفُ باختلاف المصوَّر، واختلافِ الوسيلة في التصوير، وعلى هذا فالتصويرُ باعتبارِ حُكمِه عند الشيخ ثلاثةُ أنواعٍ:
1- تصويرٌ مباحٌ على الصحيحِ، وهو تصويـرُ الجمادات والنَّباتات.
2- تصويرٌ محَرَّم، وهو تصويرُ ذوات الأرواحِ باليد.
3- تصويرٌ مختَلَفٌ فيه، وهو تصويرُ ذوات الأرواحِ بالكاميرا.
والشيخ رحمه الله في الأغلب من ظاهِرِ كلامِه يختار جوازَ هذا النَّوع ما لم يُتَوَصَّل به إلى ما هو محَرَّمٌ، فيَحرُمُ، واحتج الشيخُ لِما ذهب إليه:
أولًا: بأنَّ التصوير بالكاميرا ليس هو من فِعلِ المكَلَّف، فلا يكون تصويرًا.
ثانيًا: أنَّ التصويرَ الذي بالكاميرا ليس فيه مضاهاةٌ لخلقِ الله، بل هو نقلٌ للصُّورة التي خلقها الله بواسطةِ الآلة، وليس للإنسانِ في هذا فِعلٌ إلا توجيهُ الآلة وتحريكُها، فنَقلُ الصُّورة لا يتوقَّفُ على خبرة المحَرِّك بالآلةِ ومعرفتِه بالرَّسمِ، وأيَّد رحمه الله ذلك بمَثَل، وهو أن تصويرَ الخَطِّ كما في الصُّكوك والوثائق ما هو إلا نقلٌ لخطِّ الكاتب، وليس خطًّا لِمن نقله بالآلة، فيقال: هذا خَطُّ فلان الذي هو كاتِبُ الأصلِ.
هذا حاصِلُ ما احتج به الشيخُ رحمه الله، وهو مسبوقٌ إلى هذا، وما سمَّـاه الشيخ نقلًا للصورةِ هو ما سمَّاه غيرُه من المجيزين للتصوير بحَبْسِ الظِّلِّ، ويُسَمُّون التصوير بالكاميرا التصويرَ الضَّوئيَّ.
والجوابُ عن الأوَّلِ -وهو أن التصوير بالكاميرا ليس تصويرًا؛ لأن ذلك ليس من فِعلِ المكَلَّفِ- أن يقال: هذا غير مُسَلَّـم؛ فإنَّه تصويرٌ لُغةً وعُرفًا، فإنه يقال للآلةِ: آلةُ التصويرِ، ولمُشغِّلها: المُصَوِّر، ولفِعْلِه: التصويرُ، وللحاصل بها: صورةٌ، وهذا التصويرُ من فِعْلِ المكَلَّف ولكن بالوسيلة، وهو من فعل المكلَّف، ولكن بالوسيلةِ الحديثة ((الكاميرا ))، ومما يدُلُّ على أنَّه من فِعْلِ المكلَّف أنَّ له أحكامًا؛ فقد يكونُ مباحًا، وقد يكون حرامًا، كما تقَدَّم.
ويجابُ عن الثاني -وهو أن التصويرَ بالكاميرا ليس فيه مضاهاةٌ لخَلْقِ اللهِ تعالـى...إلخ- بأنَّ ذلك ممنوع؛ فالمضاهاةُ مقصودةٌ للمُصَوِّر وحاصِلةٌ.
وتسمية ذلك ((نقلًا)) تغييرُ لفظٍ لا يغَيِّرُ من الحقيقة شيئًا، فلا يؤثِّرُ في الحكم.
والصُّورةُ التي خلقها الله لا تنتقِلُ عن محَلِّها، فإنَّها لو انتقلت لخلا محلُّها، ومعلوٌم أنَّ الصُّورة عَرَض لا يقومُ بنَفْسِه، فلا يوصَفُ بالانتقالِ بل الزَّوالِ، فالصُّورةُ الحاصلةُ بالكاميرا تضاهي الصُّورةَ القائمةَ بالمصوَّرِ وليست إيَّاها؛ ولهذا يتصَرَّف المصوِّر في الصُّورةِ بالتصغير والتكبير، والتحسينِ والتقبيحِ. ولو كانت الصُّورة محضَ نَقلٍ لَما أمكن التصَرُّف فيها. فتبيَّن أن التصويرَ بالكاميرا تصويرٌ حقيقةً، لا نقلٌ للصورةِ التي خلقها الله؛ لأنَّ ذلك متعَذِّرٌ. ولتصَرُّفِ المصَوِّر في الصُّورة الحاصلة بالآلة.
وأما صورةُ الخَطِّ فلا يقال فيها: إنَّ هذا خَطُّ فلان، بل صورةُ خَطِّه؛ ولهذا يُفَرَّق بين الأصل والصُّورة، فيقال في الوثيقةِ: هذا أصلٌ، وهذا صورةٌ، ولا يُعوَّل في الإثبات على الصُّورة في الكثيرِ من الأمورِ المهِمَّة، بل لا بُدَّ من إحضار الأصل. واللهُ أعلمُ.
وأمَّا المسألةُ الثانيةُ، وهي حُكمُ اقتناء الصُّوَر، فقد ذهب الشيخ رحمه الله إلى تحريمِ اقتنائِها للذِّكرى، وتحريمِ تعليقِها، وقد أشار في ذلك إلى دلالةِ السُّنَّة على تحريم اتخاذِها واقتنائِها في غيرِ ما يُمتَهَنُ. (ج 12 ص 325).
والسُّنَّة التي أشار إليها مِثلُ حديث عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها في قِصَّةِ القِرامِ التي سترت به سَهْوةً لها، أي فُرْجةً- وكان فيه تصاويرُ، فلما رآه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هتكه وتَلَوَّن وجهُه، وقال: "إنَّ أشَدَّ النَّاس عذابًا يومَ القيامة الذين يضاهون بخَلْقِ اللهِ" قالت عائشة: فجعَلْناه وسادةً أو وسادتين. متَّفَق عليه. وكذلك قولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "إنَّ أصحابَ هذه الصُّوَرِ يومَ القيامةِ يُعَذَّبون، فيقالُ لهم: أحْيُوا ما خلَقْتُم" ثم قال: "إنَّ البيتَ الذي فيه الصُّوَرُ لا تدخُلُه الملائكةُ". متَّفَق عليه.
وقد استوفى الشيخُ رحمه الله ذِكرَ الأدِلَّةِ على حكمِ اقتناء الصُّوَرِ في الجوابِ المُطَوَّل المفصَّل الوارد في ج12 في الصفحات من 311 إلى 317.
وسواء عنده أكانت الصُّورةُ كاملةً أم غيرَ كاملة إذا كان الرأسُ موجودًا؛ لحديثِ أنَّ جبريل عليـه السَّلامُ لَمَّا امتنع من دخولِ بيتِ النَّبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لوجودِ التمثالِ الذي بالبابِ، أمر أن يُقطَعَ رأسُ التِّمثاِل حتى يكونَ كهيئةِ الشَّجَرةِ، ونقل الشيخُ رحمه الله عن الإمامِ أحمدَ قَولَه: "الصُّورةُ الرَّأسُ" ومثلُه عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنه.
وأكَّد الشيخُ أنَّه لا يزولُ حكم الصُّورة حتى يُبانَ الرأسُ إبانةً تامةً، وكأنَّه يشير إلى ما يفعله المحتالون على تحليلِ الحرامِ من تصوير الجِسمِ وتصوير الرأس فوقه مع الفصلِ بينهما بخَطٍّ، وقد نص رحمه الله على جوازِ اقتناء الصُّورةِ أو ما فيه صورةٌ ممَّا تدعو إليها الحاجةُ أو الضرورة، كالصُّورة لإثبات الشخصية، والصُّوَر التي في النُّقود.
وبَيَّن رحمه الله أنَّ ما يحرُمُ اقتناؤه من الصُّوَر يتفاوت حُكمُه باعتبار مقصودِ مُقتَنِيها، وباعتبار المصوَّر، كاقتناءِ صُوَرِ العُظَماء وصُوَر النِّساء، ولا سيَّما مع تعليقِها أغلَظُ تحريمًا من غيرِها لِما يتضَمَّنُه ذلك من المفاسِدِ، وقد أجاد وأفاد رحمه الله في مسألة اقتناء الصُّوَرِ هذه، وإن كان تصويرُها بالكاميرا.
ولكِنْ هذا يُضعِفُ ما ذهب إليه من جوازِ تصويرِ ذواتِ الأرواحِ بالكاميرا. فإنَّ القولَ بجواز التصويرِ بالكاميرا مع تحريمِ اقتناء الصُّورةِ فيه نوعُ تناقُضٍ؛ ممَّا يدُلُّ على أنَّ قَولَه بجوازِ التصوير ليس هو فيه على طُمَأنينةٍ!
ويؤيِّدُ ذلك أنَّه نَصَّ في جوابـه المفَصَّل المشار إليه على أن التصويرَ بالكاميرا من المتشابهات؛ حيث قال بعد ذكر الخلاف: "والاحتياطُ الامتناعُ من ذلك؛ لأنَّه من المتشابهاتِ، ومن اتقى الشُّبُهاتِ فقد استبرأ لـدينِه وعِرْضِه". (ج12/312)
وبناءً على ما تقدَّم يتبَيَّن أنَّه لا يصِحُّ إطلاقُ نسبة القَولِ بجواز التصويرِ بالكاميرا إلى الشيخ؛ فإمَّا أن يقال: (عنه في ذلك روايتان)، أو يقال: (إنَّ قولَه بالجوازِ لم يكُنْ مطمَئِنًّا إليه وإن احتجَّ له ببعض الشُّبُهات العقليَّة؛ فقد ذكر القولين وحُجَج الفريقين، ومال في أغلَبِ أجوِبَتِه إلى القولِ بالجوازِ).
وقد اشتهر عنه القولُ بالجواز، وأخذ بذلك كثيرٌ من طُلَّاب الِعلمِ وغيرِهم تقليدًا، كما تعَلَّق به أصحابُ الأهواء الذين لا يأخُذون من أهلِ الِعلِم إلَّا ما يوافِقُ أهواءَهم، فعَمَّت البلوى بهذا التصويرِ، واستباحه أكثر النَّاس؛ جهلًا وتقليدًا وهوًى، وهذا كُلُّه لا يضر الشيخَ، فهو علَّامٌة مجتَهِدٌ متحَرٍّ للحَقِّ، فأمرُه دائر بين الأجْرِ والأجرينِ، إن شاء اللهُ؛ فإنَّ المجتَهِدَ إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجرٌ واحدٌ.
والمقَلِّدون للشيخ لم يُمْعِنوا النَّظر في سائر أجوبتِه؛ لذلك لم يعرفوا حقيقةَ مَذْهَبِه في هذه المسألة.
وأمَّا أصحابُ الأهواء فلا يَعْنِيهم التحقُّقُ من مذهب العالمِ وفتواه، بل يكفيهم أن يظفَروا منه بما يوافِقُ مُرادَهم، ويَصلُحُ للتشَبُّثِ به لترويجِ باطِلِهم.
وفي كلامِ العُلَماءِ ما يُعَدُّ من المتشابِهِ الذي يجِبُ رَدُّه إلى الواضِحِ من كلامهم، وسبيلُ أهلِ الزَّيغِ اتِّباعُ المتشابهِ من كُلِّ كلامٍ، كما قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأوِيلِه} [آل عمران:7] وهذا منشأُ ضَلالِ فِرَقِ الضَّلال من هذه الأُمَّة، فنعوذُ باللهِ من سبيلِ الغَيِّ والضَّلال.
وخلاصةُ القَولِ أنَّ المبيحين للتصويرِ بالكاميرا أو التصويرِ الضَّوئيِّ أصناف:
1- علماءُ مجتَهِدون في معرفةِ الحَقِّ بريئون من الهوى، فهم في التصويرِ متأَوِّلون، وهذا الصِّنفُ قليلٌ.
2- علماءُ مجتَهِدون متأثِّرون في اجتهادِهم بضَغطِ الواقِعِ وشَيءٍ من الهوى.
3- مقَلِّدون بحُسنِ نِيَّة.
4- مقَلِّدون مع شهوةٍ وهوًى، وهؤلاء يَكثُرون في المنتسبين إلى العلمِ والدِّين.
5- متَّبِعون لأهوائِهم لا يَعْنيهم أن يكونَ التصويرُ حرامًا أو حلالًا، لكِنَّهم يدفعون بالشُّبُهاتِ وبالخِلافِ من أنكَرَ عليهم، واللهُ يعلَمُ ما يُسِرُّون وما يُعلنون، فالنَّاسُ في هذا المقامِ كما قال اللهُ تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ وَالله ُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [آل عمران:163].
وأمَّا المسألةُ الثالثةُ: وهي حكم النَّظَر إلى الصُّحُفِ والمجَلَّات والتلفاز، فقد فصَّل فيه الشيخُ من جهة نوع المصوَّر ومن جهة أثر النَّظَرِ:
فعنده أن الصُّورةَ إذا كانت لحيواناتٍ -أي لغير آدميٍّ- جاز النَّظر إليها، لكن لا يجوز اقتناءُ الصُّحُفِ من أجْلِها، وإن كانت لآدَمِيٍّ ففيه تفصيلٌ، وهذا نصُّ كلامِه:
"وإن كانت صُوَرَ آدَمِيٍّ، فإن كان يشاهِدُها تلَذُّذًا أو استمتاعًا بالنَّظَرِ، فهو حرامٌ، وإن كان غير تلذُّذٍ ولا استمتاع، ولا يتحَرَّك قَلْبُه ولا شهوُته بذلك، فإن كان ممن يحِلُّ النَّظر، كنَظَرِ الرَّجُلِ إلى الرَّجُلِ، ونَظَرِ المرأةِ إِلى المرأة أو إلى الرَّجُلِ أيضًا، على القول الراجِحِ؛ فلا بأس به، لكن لا يقتنيه من أجْلِ هذه الصُّوَرِ".
وهذا تفصيلٌ حَسَنٌ لا إشكال فيه، ولكِنَّه رحمه الله قال بعد ذلك: ((وإن كان ممَّن لا يحِلُّ له النَّظَرُ إليه، كنَظَرِ الرَّجُلِ إلى المرأةِ الأجنبيَّةِ، فهذا موضوعُ شَكٍّ وترَدُّدٍ)). (ج 12/326)
وقد ذكر بعد ذلك مَنْشَأَ هذا الشَّكِّ والترَدُّدِ عنده وهو أمران:
الأول: تردُّدُه في دلالةِ حديث "لا تباشِرُ المرأةُ المرأةَ فتنعتُها لزوجها ِحتى كأنَّه ينظُرُ إليـها" هل النَّهيُ عن نَعْتِ صورتِها الظَّاهِرةِ، كمحاسِنِ وَجْهِها، أو النَّهي عن نعت ما تحت الثيابِ من العورة؟
والشيخُ يميلُ إلى الاحتمالِ الثَّاني؛ من أجلِ لفظ المباشرةِ، ومن أجْلِ زيادة النَّسائي في الحديثِ، ولفظُه: "لا تباشِرُ المرأةُ المرأةَ في الثوبِ الواحِدِ".
فيقال: هَبْ أنَّ المراد من الحديث المعنى الثاني، فتحريمُ النَّظَرِ إلى المرأةِ الأجنبيَّةِ لا يتوقَّفُ على دلالةِ هذا الحديثِ؛ فقد جاء في الكِتابِ والسُّنَّةِ ما يدُلُّ على تحريمِ النَّظر إلى المرأة الأجنبية؛ قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [المؤمنون:30]، وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (لا تُتبِعِ النَّظرةَ النَّظرةَ؛ فإنَّ لك الأولى وليست لك الآخِرةُ). رواه الإمام أحمد وغيرُه عن عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، وهو صحيحٌ بمجموع ِطرُقِه. وفي صحيحِ مُسلمٍ عن جريرِ بنِ عبدِ الله رَضِيَ اللهُ عنه قال: سألتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن نظَرِ الفُجاءةِ فأمرني أن أصرِفَ بَصَري.
الأمرُ الثَّاني -مما أوجب الترَدُّدَ في تحريمِ النَّظر إلى صورةِ المرأةِ الأجنبيَّة بغيرِ شَهوة-: ما ذكره من الفَرقِ العظيمِ في التأثيرِ بين الحقيقةِ والصُّورةِ.
فيقال: أولًا: هذا لا يُسَلَّم على الإطلاقِ؛ فقد تكون الصُّورةُ أعظَمَ تأثيرًا لِما يجري فيها من التحسينِ والتلوين، والعنايةِ في تحديدِ مواضِعِ الفِتنةِ.
وثانيًا: دعوى الفَرقِ في التأثيرِ بين الحقيقة والصُّورة، وإن سُلِّم في الجملةِ فإنَّه يَرِد على ما قرَّره رحمه الله في الاحتجاجِ لجوازِ التصويرِ بالكاميرا؛ حيث ذكر أنَّ التصويرَ بالكاميرا نقلٌ للصُّورةِ التي خلقها الله، وهذا يقتضي أن تكون الصُّورة كالحقيقةِ في التأثير.
نعم؛ إذا كانت المرأةُ الأجنبيَّةُ حاضرةً يُطمَعُ في الوصول إليها، فهي من هذه الجهة أعظَمُ تأثيرًا على النَّاظِرِ من الصُّورة.
وبهذا يتبيَّن أنَّ النَّظر إلى صورةِ المرأة الأجنبية كالنَّظَرِ إلى المرأةِ الأجنبيَّةِ في التأثير والتحريمِ، وإن وُجِدَ تفاوتٌ بينهما، فما كان أعظَمَ تأثيرًا كان النَّظرُ إليه أشَدَّ تحريـمًا.
هذا كُلُّه في النَّظَرِ إلى المرأة الأجنبيَّةِ أو صورتِها بغيِر شَهوةٍ، أمَّا إذا كان بشهوةٍ فقد تقدَّم نَصُّ الشيخِ على التحريمِ مُطلقًا.
وذكر رحمه الله في هذا المقامِ شيئًا من الفَرْقِ في النَّظَرِ إلى صورةِ المرأة الأجنبية بين المعَيَّنة وغير المعَيَّنة؛ فإنْ كان النَّظَرُ بشهوة وتلَذُّذ فهو حرامٌ، وإن كان بغيرِ شَهوة؛ فإن كانت الصُّورةُ لامرأةٍ مُعَيَّنة، فالقولُ بتحريمِ النَّظَرِ حينئذٍ؛ قال فيه الشيخ: ((فيه نظرٌ)) جزء 12 ص 327 وإن كانت الصُّورةُ لغيرِ مُعَيَّنة وبغيرِ شَهوةٍ، ولا يُخشى أن تجُرَّ إلى محظورٍ شرعيٍّ، فالنَّظَرُ في هذه الحالِ جائِزٌ. وهذا التفصيلُ من الشيخ رحمه الله لم يذكر عليه دليلًا.
وحاصِلُ ما تقَدَّم أنَّ رأيَ الشَّيخِ في حُكمِ التصوير بالكاميرا ليس مستقِرًّا ولا محَرَّرًا، وإن كان الغالِبُ على كلامه ظاهرُه القولُ بالجوازِ، وما ذكره من الأدِلَّةِ على ذلك ضعيفةٌ ومنقوضةٌ كما تقَدَّم، وكذلك ما ذكره من التفصيلِ في مسألة النَّظر إلى صُوَرِ الآدميِّينَ، فيه ما لا يتَّجِهُ؛ كالفرق في النَّظَرِ إلى صُوَرِ المرأة الأجنبيَّة بين المعيَّنة وغيرِ المعَيَّنة.
وكذلك ترَدُّدُه في حُكمِ نظَرِ الرَّجُلِ إلى صورة المرأة الأجنبيَّة بناءً على الفرق في تأثير النَّظر بين الحقيقة والصُّورة.
وهذا التفصيل وهذا التردُّد يمكن أن يكونَ شُبهةً لأصحابِ الأهواءِ والشَّهوات مِن مطالِعِي الصُّحُفِ والشَّاشات بإطلاقِ أبصارِهم فيما يُعرَضُ ويُنشَر.
وإذا كان مُعظَمُ ما يُنشَرُ ويُعرَضُ من صُوَرِ النِّساء يُقصَدُ منه الإغراءُ وجَذبُ الأنظارِ وإشباعُ الشَّهوات، والدعايةُ إلى ترويجِ الصُّوَر والمجلَّات والمبيعات.
فلا مُتمَسَّك لأهلِ الباطِلِ في كلام الشيخ رحمه الله؛ فإنَّ النَّظر إلى ما يُعرَضُ ويُنشَرُ في وسائِلِ الإعلامِ مِن صُوَرِ النِّساءِ الفاتنات؛ لإمتاعِ القُرَّاء والمشاهدين: كُلُّه حرامٌ عند الشيخ.
وأمَّا ما قَرَّره الشيخُ في مسألةِ اقتناءِ الصُّوَرِ فهو واضِحٌ بيِّنٌ لا إشكالَ فيه.
والذي أراه صوابًا هو تحريمُ التصويرِ بالكاميرا، وأنَّه داخِلٌ في عُمومِ أدِلَّةِ تحريمِ التصويرِ، وتحريمُ اقتناءِ الصُّوَرِ، وتحريمُ النَّظَرِ إلى صُوَرِ ما يَحرُمُ النَّظَرُ إليه من الرِّجالِ والنِّساءِ، وأنَّ الصُّورةَ كالحقيقةِ في ذلك.
ويحسُن هنا ذِكرُ جملةٍ من الأحاديثِ الوردةِ في حُكمِ التصويرِ:
فعن أبي هُـَريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (قال اللهُ تعالى: ومن أظلَمُ ممَّن ذهب يخلُقُ كخَلْقي، فلْيَخلُقوا ذَرَّةً، أو لِيَخلُقوا حَبَّةً، أو ليخلُقوا شعيرةً). متَّفَقٌ عليه.
وفي الصحيحينِ عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (أشَدُّ النَّاس عذابًا يومَ القيامة الذين يضاهِئون بخَلْقِ الله).
ولهما عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (كُلُّ مُصَوِّرٍ في النَّارِ، يُجعَلُ له بكُلِّ صُورةٍ صَوَّرها نَفسٌ يُعَذَّبُ بها في جَهنَّمَ).
ولهما عنه مرفوعًا: (من صَوَّر صورةً في الدنيا كُلِّف أن ينفُخَ فيها الرُّوحَ، وليس بنافخٍ).
وفي صحيحِ البُخاريِّ عن أبي جُحيفةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (لَعَن المصَوِّرين).
والأحاديثُ الدالَّةُ على تحريمِ تصويرِ ذواتِ الأرواحِ وأنَّه من كبائِرِ الذُّنوبِ، وتحريمِ اقتناءِ الصُّوَرِ: كثيرةٌ مَشهورةٌ محفوظةٌ في دواوينِ السُّنة.
وإذا كان من المعلومِ بالضرَّورةِ أنَّ شريعةَ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عامَّةٌ وباقيةٌ إلى قيام السَّاعةِ؛ لعمومِ رسالتِه، وخَتْمِ النُّبُوَّة به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأحكامُ شريعتِه وخصوصُها لا تختَصُّ بزمانِه، بل هي دائمةٌ إلى أن يأتيَ أمرُ اللهِ تبارك وتعالى، ولا تزالُ طائفةٌ من هذه الأمَّةِ على الحَقِّ ظاهِرينَ لا يَضُرُّهم من خَذَلَهم ولا من خالَفَهم حتى تقومَ السَّاعةُ، فنصوصُ تحريمِ التصويرِ شامِلةٌ لكُلِّ تصويرٍ بأيِّ وسيلةٍ، ممَّا كان في عَهْدِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو يكونُ بَعْدَه، واللهُ الذي أنزل هذه الشَّريعةَ يعلَمُ ما سيحدُثُ من وسائِلِ التصوير، فيَجِبُ تحكيمُ نُصوصِ الكِتابِ والسُّنَّةِ وإعمالُ عُموماتِها وإطلاقاتِها، ما لم يَثبُتْ ما يوجِبُ التخصيصَ أو التقييدَ، كما يجِبُ التحاكُمُ إليها عند التنازُعِ، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].
وبَعْدُ؛ فعلـى الجميعِ أن يتَّقوا اللهَ ويَلتَمِسوا رِضاه، ويجتَنِبوا ما حَرَّم عليهم وما يُقَرِّب إلى الحرامِ مِن المشتَبِهاتِ.
هذا ونسألُ اللهَ أن يُلهِمَنا الصَّوابَ، ويَهْدِيَنا سَبيلَ الرُّشدِ في القَولِ والعَمَلِ. واللهُ أعلَمُ، وصَلَّى اللهُ وسلَّم على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِه وصَحْبِه أجمـعين.
أملاه
عبدالرحمن بن ناصر البراك
الأستاذ (سابقا) بجامعة الإمام محمد بن سعود
غرة رجب 1428