مقالات وبحوث مميزة

 

 

الترجيحُ في حُكمِ النَّشيدِ

الشيخ الدكتور صالح بن أحمد الغزالي

 

 

من المعلومِ أنَّ النشيدَ بصُورتِه الحاضِرةِ من المسائِلِ المستجَدَّةِ التي لم يُسبَقْ بحثُها في كُتُبِ أهلِ العِلمِ المتقَدِّمين، وهذا داعٍ إلى العنايةِ بذِكرِ حُكمِه مُفَصَّلًا، ويضافُ إليه الدَّواعي التاليةُ:

1- كثرةُ متعَلِّقاتِ النشيدِ (الألحان، الكَلِمات، المقاصد، وغيرُ ذلك من وقتِ السَّماعِ وكيفيَّتِه...إلخ) وتنَوُّعُها.

2- قوَّةُ الخلافِ في حُكمِه، وقد مرَّت صورةٌ واضِحةٌ من خلال عَرضِ الأقوالِ، والأدِلَّةِ السَّابقةِ.

3- عُمومُ الحاجةِ إلى معرفةِ حُكمِ النشيدِ؛ لكثرتِه وانتشارِه الواسِعِ، خُصوصًا بعد انتشارِ أجهزةِ التسجيلِ وأشرطةِ الكاسيت؛ لهذه الأسبابِ وغيرِها كان من المناسِبِ بسطُ الحديثِ عن النشيدِ ومتعَلِّقاتِه، وبيانُ حُكمِه التفصيليِّ.

وإليك بيانَ ذلك مستعينًا باللهِ، فإن أصَبْتُ فمِنَ الله، وإن أخطأتُ فمن نفسي والشَّيطانِ، وما توفيقي إلا باللهِ.

 

الحُكمُ التفصيليُّ للنَّشيدِ:

قبل مَعرفةِ الحُكمِ التفصيليِّ للنَّشيدِ، لا بُدَّ من التنبيهِ إلى أمرينِ:

الأوَّلُ: أنَّ ما يُعرَفُ -الآن- بالنشيدِ الإسلاميِّ أنواعٌ مختَلِفةٌ ومُتبايِنةٌ من حيث الألحانُ والكَلِماتُ والمقاصِدُ، فيجِبُ التفصيلُ عند بيانِ الحُكمِ بين أنواعِه المختَلِفةِ، لا الإجمالُ والتعميم،ُ قال ابنُ القَيِّمِ (1) رحمه الله:

فعليكَ بالتفصيلِ والتمييزِ فالْـ ... إطلاقُ والإجمالُ دونَ بيانِ
قد أفسدا هذا الوُجودَ وخَبطا الـ ... ـأذهانَ والآراءَ كُلَّ زمانِ


وقال الشيخُ محمَّدُ العُثَيمين (2) -رحمه الله- بخصوصِ التفصيلِ عند بيانِ حُكمِ النشيدِ: "واعلَمْ أنَّه في هذا البابِ لا تكادُ تجِدُ أحدًا يفَرِّقُ بين ما كان مشروعًا (*) وغير مشروعٍ؛ ولهذا أرى أنَّ الأناشيدَ لا بُدَّ أن تُعرَضَ -قبل أن تُسمع- على طالبِ عِلمٍ يميِّزُ بين الصَّحيحِ وغير الصَّحيحِ، ثمَّ بعد ذلك تأخذُ الحُكمَ".

الثاني: وأن كثيرًا مما قاله أصحابُ الرأيينِ (المانع، والمبيح) في حَقِّ النشيد حَقٌّ وصوابٌ، ولكِنْ في بعض أنواعِه لا في جميعِها، فمثلًا:

من قال: إنَّ الأناشيدَ ليست من جِنسِ الغِناءِ الملَحَّنِ المطرِبِ، صَحَّ هذا في بعضِ الأناشيدِ دونَ بَعْضِها، التي تشبِهُ ألحانَ الأغاني، أو هي من جِنْسِها.

فإنْ لا يَكُنْـها أو تكُنْـه فإنَّه    أخوها غَذَتْه أمُّـه بلبانِـها

ومن قال: إنَّ سَماعَ الأناشيدِ يُلهي عن ذِكرِ اللهِ وتِلاوةِ القُرآنِ، صَحَّ هذا في حَقِّ كثيرٍ من المستمعين، دونَ مَن تقَيَّد بسماعِه في المناسَباتِ دونَ غَيرِها من الأوقاتِ.

ومن قال: إنَّ الأناشيدَ طريقٌ لدُخولِ الأفكارِ القوميَّةِ والبِدَعِ الصُّوفيَّةِ، صَحَّ هذا في بعضِ الأناشيدِ دون بَعْضِها، والذي يخلو من ذلك، وتلتزمُ كلماتُه بالمعاني الشرعيَّةِ الصحيحةِ.

ومن قال: إنَّ سماعَ الأناشيدِ ليس من جِنسِ السَّماعِ الصُّوفيِّ المحْدَثِ، صَحَّ هذا في حقِّ البَعضِ، ولم يَصِحَّ في حَقِّ مَن الْتَهى عن سماعِ القرآنِ ومواعِظِه بسَماعِ النشيدِ ومواعِظِه.

الحُكمُ التفصيليُّ للنشيدِ:

اعلَمْ -رعاك الله- أنَّ النشيدَ تتنازعُه ثلاثةُ أُصولٍ:

الحُداءُ والنَّصْبُ أصلٌ، والغِناءُ المعروفُ عند أهلِ الغِناءِ أصلٌ، والسَّماعُ الصوفيُّ المحْدَثُ أصلٌ. فما وافقت صفاتُه من الأناشيدِ أحَدَ هذه الأصولِ، سواءٌ في الألحانِ، أو الكَلِماتِ، أو المقاصِدِ، أُلحِقَ به في الحُكمِ، كما هي القاعدةُ القياسيَّةُ الأصوليَّةُ في الفرع الذي يتنازعُه أكثَرُ من أصلٍ، فيُلحَقُ بأكثَرِهم شَبَهًا.

قال الناظم (3) -رحمه الله- عند بيان النَّوعِ الثالِثِ من أنواعِ القياسِ:

والثَّالِـثُ الفَـرعُ الـذي ترَدَّدا   فلْيلتحِقْ بأيِّ ذَيْـِن أكثَــرا

ما بين أصلَـينِ اعتبارًا وُجِدَا    من غيرِه في وَصْفِه الذي يُرَى

يعني أنَّ النَّوعَ الثَّالِثَ من أنواعِ القياسِ: قياس الشَّبَهِ، وهو أن يكونَ الفَرعُ متردِّدًا بين أصلينِ أو أكثَرَ، فيلتحِقُ في الحُكمِ بأكثَرِهم شَبَهًا في الصِّفةِ (4).

بناءً على ذلك يكونُ للنَّشيدِ ثلاثةُ أحكامٍ:

الحُكمُ الأوَّلُ للنَّشيدِ: إباحةُ سَماعِ النَّشيدِ واستماعِه إلحاقًا له بالنَّصْبِ والحُداءِ، الذي جاءت الرُّخصةُ بإباحتِه مُقَيَّدًا، فيما إذا كان النشيدُ مُوافِقًا لهما في الألحانِ والمقاصِدِ والكَلِماتِ، ويتحَقَّقُ ذلك بالشُّروطِ التاليةِ:

الشرطُ الأولُ: في الألحانِ. أن تقَعَ على أصلِ الخِلْقةِ دونَ تكَلُّفٍ وتصَنُّعٍ، بأن تقَعَ بتطريبٍ وترجيعٍ يسيرينِ دون الألحانِ المتكَلَّفةِ الموزونةِ على النَّغمِ الموسيقي المطرِبِ، بَلْهَ (دع) الألحانَ المائعةَ الماجنةَ. قال ابن قُدامةَ (5) -رحمه الله-: "وأما الحُداءُ فمباحٌ لا بأسَ به في فِعْلِه واستماعِه، وكذلك نشيدُ الأعرابِ، وسائِرُ أنواعِ الإنشادِ، ما لم يخرُجْ إلى حَدِّ الغِناءِ".

الشرطُ الثاني: أن لا يُقصدَ مِن سماعِه التعَبُّدُ، كشأنِ أهلِ السَّماعِ الصُّوفيِّ البِدْعيِّ(*)، أو اللَّذَّةُ والطَّرَبُ كشَأنِ أهلِ الغِناءِ الفِسْقيِّ، بل شيءٌ من الترويحِ والنَّشاطِ. قال الشاطبي (6) -رحمه الله-: "ولم يكن فيه -أي النشيدِ المباحِ- إلذاذٌ ولا إطرابٌ يُلْهِي، وإنما كان شيءٌ من النَّشاطِ".

الشرطُ الثالثُ: أن لا تشتَمِلَ كَلِماتُه على معنًى محظوٍر في الشرعِ، كأن يكونَ النشيدُ وسيلةً لدُخولِ بِدَعِ الصُّوفيَّةِ، أو وسيلةً لترويجِ الشِّعاراتِ القوميَّةِ والوطنيَّةِ والحِزْبيَّةِ عن طريقِه أيضًا (7).

الشرطُ الرابعُ: أن لا يشتَمِلَ على دُفٍّ، بَلْهَ (دع) بقيَّةَ المعازِفِ. قال الشيخ محمد العثميين (8) -رحمه الله-: "الأناشيدُ الإسلاميَّةُ لا تخلو من حالينِ؛ أولًا: أن يكونَ فيها ضَربٌ بالدُّفِّ، وفي هذه الحالةِ تكونُ حرامًا؛ لأنَّها مشَتِملةٌ على اللَّهوِ الذي لا يُباحُ في مِثلِ هذه الحالةِ".

الشرطُ الخامِسُ: "أن لا تُتَّخَذَ ديدنًا، وتُتخَذَ مَوعِظةً للقَلبِ يتلَهَّى بها الإنسانُ عن مواعِظِ الكِتابِ والسُّنَّةِ، فإنَّها تكونُ حينئذٍ إمَّا محرَّمةً وإمَّا مكروهةً؛ لأنَّها تصُدُّ عن كتابِ اللهِ، وسُنَّةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم (9).

الشرطُ السادسُ: أن لا يحدُثَ بسَبَبِها مَفسَدةٌ في الدِّينِ، كالتلَهِّي عن سماعِ القُرآنِ والعِلمِ الشَّرعيِّ به، أو في أمورِ الدُّنيا، كتضييعِ بَعضِ الواجِباتِ والمصالحِ المهِمَّةِ بسبَبِ الاشتغالِ به.

وضابِطُ هذه الشروطِ هو: "الحدُّ الذي كان يُفعَلُ بين يدَيِ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، وأصحابِه، ومن يُقتدى بهم من أهلِ العِلمِ (10)، ويخرُجُ بهذا القيدِ من لا يجوزُ الاقتداءُ بهم، وهم في هذا البابِ صِنفانِ: أصحابُ السَّماعِ الفِسقيِّ من أهلِ الغِناءِ، وأصحابُ السَّماعِ الدِّيني المُحْدَث من أهلِ الطُّرُقِ الصُّوفيَّةِ البِدْعيَّةِ.

الحُكمُ الثَّاني للنشيد: أن يلحَقَ بغِناءِ أهلِ الفِسقِ في الذَّمِّ والكراهةِ، وذلك إذا وافق النشيدُ غِناءَ أهلِ الفِسقِ في ألحانِه أو كَلِماتِه أو مقاصِدِه، ويكونُ ذلك في الحالاتِ التالية:

1- في حالِ التكَلُّفِ والتصَنُّعِ في أداءِ ألحانِ النشيدِ؛ فإنَّه -أي التكَلُّفَ- في إنشادِ الشِّعرِ من خصائِصِ المغَنِّيين، ولم يكن الماضون الأوَّلون -الذي يكون فهمُهم حُجَّةً على من بعدهم- لم يكونوا يتصَنَّعون أو يتكَلَّفون في إنشادِ الشِّعرِ، إلَّا من وجهِ إرسالِ الشِّعرِ، واتصالِ القوافي، فإن كان صَوتُ أحَدِهم أشجَنَ مِن صاحِبِه، كان ذلك مردودًا إلى أصلِ الخِلْقةِ، لا يتكَلَّفون ولا يتصَنَّعون" (11).

2- كونُ النشيدِ محكومًا بالتلحينِ الغنائيِّ الموزونِ على النَّغمِ الموسيقيِّ المطرِبِ، وعِلَّةُ الحَظرِ في هذه الحالةِ والتي قبلها: التشَبُّهُ بالفُسَّاقِ والمجَّانِ، مع ما فيه من الإطرابِ المذمومِ الملْهِي.

3- في حالِ مُشابهةِ النشيدِ لألحانِ أغنيةٍ مُحَرَّمةٍ معلومةٍ، وفي هذه الحالةِ من التشَبُّهِ بالفُسَّاقِ والماجنين ما يجعَلُه -أي النشيدَ- محظورًا حتى عند بعض الغافلين عن الحالتينِ السابقتينِ وما فيهما من تشَبُّهٍ. قال الشيخُ عبد الله علوان(12) -رحمه الله-: "لا يجوز للمُنشِدين أن يُنشِدوا أغانيَ فيها تشبُّهٌ بالأغاني المائعةِ من ناحية أوزانِها وألحانِها؛ لأنَّ السَّامِعَ حين يسمَعُها يظُنُّ أنَّ المنشِدَ يُغَنِّي الأغنيةَ المائعةَ، والمقطوعةَ الفاجرةَ؛ لكَونِ أكثَرِ النَّاسِ يلتفتون إلى النَّغمِ واللَّحنِ أكثَرَ من التفاتهم إلى المعنى والنَّظمِ، وهذا مشاهَدٌ ومعروف في عالم الواقعِ الذي نحيطُ به، وننظُرُ إليه ونعايشُه، والرسولُ عليه الصلاةُ والسلامُ حذَّر كُلَّ التحذيرِ من التشبُّهِ بالمائعين والمخَنَّثين".

4- أن يُشبِهَ النشيدُ ألحانَ وكَلِماتِ أغنيةٍ محَرَّمةٍ معلومةٍ، ولو مع تغييرِ بَعضِ الكَلِماتِ التغييرَ الذي يغيِّرُ معنى الأغنيَّةِ المحَرَّمِ، مع بقاءِ الشَّبَهِ والتذكيرِ بالأغنيةِ، كتلحينِ نَشيدِ:

عودوا يا ناس (للإسلام) وِيَّامُه   خلُّوا اللُّوَّام يلوموا مهما لاموا

على لحن الأغنية الماجنة:

عودوا يا ناس (للحُبِّ) وِيَّامُه    خلُّوا اللُّوَّام يلوموا مهما لاموا

وعِلَّةُ النَّهيِ في هذا العَمَلِ ونظائِرِه هو: التذكيرُ بالمحرَّماتِ، (نهى النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم عن الانتباذِ في المزَفَّتِ والحَنْتَمِ والنَّقيرِ) (13) وهي الأواني التي كانت مخصوصةً للخَمرِ، فنهى عنها؛ لأنَّها تُذَكِّرُ بها، وهي عِلَّةُ التحريم؛ إذ لا لَذَّةَ في رؤية القنينة وأواني الشُّربِ، لكِنْ من حيث التذكيرُ بها، والذِّكرُ سبَبُ انبعاثِ الشَّوقِ، وانبعاثُ الشَّوقِ إذا قَوِيَ فهو سَبَبُ الإقدامِ (14).

5- أن يحصُلَ تشَبُّهُ أهلِ النشيدِ حين أداءِ النشيدِ بأهلِ الغِناءِ والعَزْفِ، حين أداءِ الغناءِ في الهيئةِ الظَّاهِرةِ؛ كالوَقفةِ والحَرَكةِ واللُّبسِ، وطريقةِ الأداءِ والإلقاءِ.

مثالُه: أن يَقِفَ المنشِدُ وفِرقةُ النشيد فوق خَشَبةِ المسرحِ أمامَ الجُمهورِ، وَقفةَ الفِرَقِ الغِنائية، حَسَبَ نظامِ وُقوفِهم الخاصِّ، مثلُ: انفراجِ الرِّجلين والقَدَمين بمقدارٍ مُعَيَّن، ووَضْع الشِّعارِ (كالمنديل في الجيبِ، أو المنشفةِ على الكَتِفَين أو غيرهما)، وتحريكِ اليدينِ ارتفاعًا وانخفاضًا مع اللَّحنِ، أو تحريكِهما مع المعاني المؤثِّرةِ، وتغميضِ العينينِ، ورفعِ الرَّأسِ وهِزَّهٍ يَمنةً ويَسرةً، وترتيبِ فِرقةِ النشيد بالزِّيِّ الموحَّدِ، كترتيب أعضاءِ الفِرَقِ الغنائية بحيث أنَّ من يراهم يظُنُّهم إحَدى الفِرَق الغنائيَّةِ الماجنةِ.

ففي هذه الهيئةِ (*) من التشَبُّهِ بأهلِ الفَسادِ ما يجعَلُ عَمَلَهم هذا محظورًا في الشرعِ، ولو كان ما يُنشَدُ مُباحًا، قال أبو حامد الغزالي (15) -رحمه الله-: "لو اجتمع جماعةٌ وزيَّنوا مجلِسًا وأحضروا آلاتِ الشُّربِ وأقداحَه، وصَبُّوا فيها السكنجين (**)، ونصبوا ساقيًا يدور عليهم ويسقيهم، فيأخذونَ من الساقي ويَشْرَبون، ويحَيِّي بعضُهم بعضًا بكلماتِهم المعتادةِ بينهم- حَرُمَ ذلك عليهم، وإن كان المشروبُ مباحًا في نَفْسِه؛ لأنَّ في هذا تشَبُّهًا بأهلِ الفسادِ".

6- إن قُصِدَ من النشيدِ -إلقاءً أو سماعًا- الإطرابُ؛ فإنَّه من مقاصِدِ الغناءِ المحظورِ، وليس من مقاصِدِ النشيدِ المباحِ (16).

والإطرابُ واللَّذَّةُ تَقعانِ في الأناشيدِ الزُهديَّةِ الحَماسيَّة، التي لا تقتضي معانيها اللَّذَّةَ والطَّرَبَ، وذلك -أي: الطَّرَبُ -يكونُ من جهةِ ألحانِ النشيدِ المُطرِبة، مثلُ أن تُنشَدَ القصيدةُ الزُّهديَّةُ:

"يا ساكِنَ القبرِ عن قليلي  ماذا تزوَّدْتَ للرَّحيـلِ؟"

أو: "يا نَفسُ توبي؛ فإن الموتَ قد حانا  واعصي الهَوى؛ فالهوى ما زال فتَّانا"

بألحانٍ لذيذةٍ مُطرِبةٍ لا سيَّما مع طَلَبِها وحُبِّها، وتكرارِ سماعِها من غيرِ اتِّعاظٍ.

قال ابن القيم (17) -رحمه الله-: "سماعُ الأشعارِ التي تتضمَّنُ إثارةً في القَلبِ؛ من الحُبِّ والخوفِ، والرجاءِ والطَّلَبِ، والأُنسِ والشَّوقِ والقُربِ، وتوابِعِها، صادَفَ من قلوبِ سامعيها حُبًّا وطَلَبًا، فأثاره إثارةً ممتزجةً بحَظِّ النَّفسِ، وهو نَصيبُها من اللَّذَّةِ والطَّرَبِ الذي يحدِثُه السَّماعُ، فيظُنُّ تلك اللَّذَّةَ والطَّرَبَ زيادةً في صلاحِ القَلْبِ وإيمانِه وحالِه الذي يُقَرِّبُه إلى اللهِ، وهو محْضُ حَظِّ النَّفسِ".

7- في حالِ تضَمُّنِ النشيد (آهات) المغنِّيين الذين يتفَنَّنون في أدائِها وإتقانِها على أوجهٍ كثيرةٍ؛ من التطويلِ والتقصيرِ، والتفخيمِ والترقيقِ، وغيرِ ذلك مما يتقِنُه أهلُ اللَّحنِ.

8- في حالةِ تضَمُّنِ النشيدِ كَلِماتِ أهلِ الغِناءِ الخاصَّةِ بهم، كـ"يا ليل، يا عين"؛ فإنَّ هذا يوجِبُ التذكيرَ بأغانيهم المحَرَّمةِ، والتشَبُّهَ بهم، وكلاهما محظوران في الشَّرعِ.

9- المدُّ الفاحِشُ في كَلِماتِ النشيدِ على نحو مَدِّ أهلِ الغِناءِ، وتقييدُه بالفاحِشِ هنا؛ ليَخرُجَ المدُّ غيرُ الفاحشِ في كَلِماتِ الشِّعرِ وإنشادِه؛ فإنَّه يُباحُ، ودليلُ إباحته ما رواه البراءُ بنُ مالكٍ في قِصَّةِ حَفرِ الخَنْدقِ: (... فسَمِعْتُه يرتجِزُ بكَلِماتِ ابنِ رواحةَ وهو ينقلُ التُّرابَ، ويقولُ صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم: (اللَّهُمَّ لولا أنتَ ما اهتَدَينا، وإن أرادوا فتِنةً أَبَينا، قال: ثمَّ يُمِدُّ صَوتَه بآخِرِها) (18).

10- الاشتغالُ بالنشيدِ وسماعِه في كُلِّ وَقتٍ وحينٍ، كنحوِ اشتغالِ أهلِ الغناءِ بغِنائِهم.

11- نشيدُ من يُتقِنُ صَنعةَ الغِناءِ ويَحذِقُها، فإنَّه يُسَمَّى غِناءً، وصاحِبُه يُسمَّى مُغَنِّيًا، وليس إنشادُه مِن القَدْرِ المرَخَّصِ به في الشَّرعِ، روى الشيخانِ عن عائشةَ رضي الله عنها، قالت: (دخل عليَّ أبو بكرٍ وعِندي جاريتانِ من جواري الأنصارِ تُغَنِّيان بما تقاوَلَت الأنصارُ يومَ بُعاث، قالت: وليستا بمغنِّيتَينِ، فقال أبو بكرٍ: أمزاميرُ الشيطانِ في بيتِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟! وذلك في يومِ عيدٍ، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا أبا بكرٍ، إنَّ لكُلِّ قَومٍ عيدًا، وهذا عيدُنا). والشاهِدُ من الحديثِ قَولُ عائشةَ -رضي الله عنها-: (وليستا بمغنِّيتينِ)، قال النووي (19) رحمه الله: "وقَولُها (ليستا بمغنِّيتينِ) معناه: ليس الغناءُ عادةً لهما، ولا هما معروفتان به".

12- إذا اقتَرَن بالنشيدِ حَرَكاتُ أهلِ الغِناءِ المعَبِّرةُ عن اللَّهوِ والمجونِ، كالتمايُلِ، وهَزِّ الرُّؤوسِ؛ فإنَّه يكون حينئذ محظوراً. أخرج البيهقيُّ بسندٍ صحيحٍ، عن أمِّ عَلقَمةَ مولاةِ عائشةَ -رضي الله عنها- (أنَّ بناتِ أخي عائشةَ -رضي الله عنها -خُفِضْنَ، فأَلِمْن ذلك، فقيل لعائشة: يا أمَّ المؤمنين، ألا ندعو لهنَّ من يُلهيهن؟ قالت: بلى، قالت -أمُّ عَلقَمةَ-: فأُرسِلَ إلى فلانٍ المغني، فأتاهم، فمرَّت به عائشةُ -رضي الله عنها- في البيتِ، فرأته يُغنِّي ويحَرِّكُ رأسَه طَرَبًا -وكان ذا شَعرٍ كثيرٍ- فقالت عائشةُ -رضي الله عنها-: أفٍّ! شيطانُ، أخرِجوه، أخرِجوه. فأخرَجُوه) (20).

13- أن يقتَرِنَ بالنشيدِ بعضُ الأصواتِ المُطرِبةِ التي هي دونَ الآلاتِ؛ كالتصفيقِ، والصَّفيرِ، والضَّربِ بالأرجُلِ والقَضيبِ والصنجِ؛ فإنَّه يكونُ حينئذ مكروهًا (21).

14- أن يكونَ فيها -أي: الأناشيدِ -ضَربٌ بالدُّفِّ، وفي هذه الحالةِ تكونُ عند البعضِ حرامًا؛ لأنَّها مُشتَمِلةٌ على اللَّهوِ الذي لا يُباحُ في مِثلِ هذه الحالةِ (22).

15- أن يقتَرِنَ بالنشيدِ آلاتُ العَزْفِ المحرَّمةُ، فيَحرُمُ، ولا يجوزُ فِعْلُه على أيِّ وَجهٍ وحالٍ.

16- النشيدُ الذي يُؤدَّى بأصواتٍ مائعةٍ وألحانٍ ماجنةٍ: يحرُمُ إنشادُه وسماعُه مُطلقًا، فإن كانت أصواتُ النشيدِ غيرَ مائعةٍ، وألحانُه غيرَ فاتنةٍ، وحصَلَت الفتنةُ بها عند بعض المستمعين- فتَحرُمُ في حَقِّهم؛ إذ إنَّ عِلَّةَ التحريمِ هنا هي الافتتانُ، وقد يكونُ في الصَّوتِ واللَّحنِ، فتحرُمُ مُطلقًا، وقد يكونُ في المستَمِعِ فتَحرُمُ في حَقِّه، والمرءُ طَبيبُ نَفْسِه. واللهُ أعلَمُ.

الحكمُ الثالثُ للأناشيدِ: أن يلحَقَ بالسَّماعِ الصوفيِّ المحْدَثِ إذا وافقه في بعضِ خصائصِه، وعِلَلِه التي يُحكَمُ ببِدْعيَّتِه لأجْلِها (*).

ويكونُ ذلك في الحالاتِ التاليةِ:

1- الاعتقادُ بأنَّ الأناشيدَ المُطرِبةَ مِن الدِّينِ، وهو نظيرُ اعتقادِ الصوفيَّةِ أنَّ سَماعَهم من الدِّينِ.

2- الاعتقادُ بأنَّ الأناشيدَ المُطرِبةَ تزيدُ في جَذوةِ الإيمانِ، وهو نظيرُ اعتقادِ الصوفيَّةِ أنَّ السَّماعَ يزيدُ في الأحوالِ والمواجيدِ الإيمانيَّةِ.

3- اعتقادُ البَعضِ أنَّ الأناشيدَ المطرِبةَ طريقٌ يُقرِّبُهم إلى اللهِ ويوصِلُهم إليه، ولا يجوزُ لأحدٍ أن يعتَقِدَ أو يقولَ عن عَمَلٍ: إنَّه قُربةٌ وطاعةٌ وبِرٌّ، وطريقٌ إلى اللهِ واجِبٌ، أو مستحَبٌّ، إلَّا أن يكونَ ممَّا أمَرَ اللهُ به أو رسولُه صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم(23).

4- عدُّ الأناشيدِ المُطرِبةِ مِن الوسائلِ الرَّئيسةِ التي يُطلَبُ بها رِقَّةُ النُّفوسِ، وخشوعُ القلوبِ (24)، ولم يكنْ ذلك من فِعلِ السَّلَفِ المتقدِّمين المقتدى بهم، قال الشاطبي (25) -رحمه الله-: "ولا كان المتقدمون أيضًا يعُدُّون الغِناءَ جزءًا من أجزاءِ طريقةِ التعَبُّد، وطَلَب رِقَّة النُّفوسِ وخُشوعِ القلوبِ" (26).

6- الاجتماعُ على الأناشيدِ المطرِبةِ وقَصْدُها من أجلِ إصلاحِ القُلوبِ ورِقَّتِها، وتذكُّرِها بالآخرةِ، وذلك من البِدَعِ المحْدَثةِ بعد مُضِيِّ القرون الفاضلة، المشهود لها بالخيريَّةِ، وقال ابن تيميَّةَ -رحمه الله-: "وأمَّا سماعُ القصائِدِ لصلاحِ القُلوبِ والاجتماعُ على ذلك، إمَّا نشيدًا مجَرَّدًا، أو مقرونًا بالتغبيرِ ونحوِه، فهذا السَّماعُ مُحدَثٌ في الإسلامِ بعد ذَهابِ القُرونِ الثلاثة، وقد كَرِهَه أعيانُ الأئمَّةِ، ولم يحضُرْه أكابِرُ المشايخِ" (27)، ولم يكُنْ للسَّلَفِ سماعٌ يجتمعون عليه غيرُ سماعِ القرآنِ الكريمِ.

7- اتخاذُ الأناشيدِ المطرِبةِ (**) من وسائِلِ الدَّعوةِ الرَّئيسةِ، التي يُتوَّبُ بها العصاةُ، فيُهجَرُ لأجْلِ ذلك الدَّعوةُ للكتابِ والسُّنَّةِ، "ومِن المعلومِ أنَّ ما يَهْدي اللهُ به الضَّالِّين، ويرشِدُ به الغاوين، ويُتوِّب به العاصين، لا بدَّ أن يكونَ فيما بَعَث اللهُ به رسولَه من الكِتابِ والسُّنَّةِ، وإلَّا فإنَّه لو كان ما بعث اللهُ به الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم لا يكفي في ذلك، لكان دينُ الرَّسولِ ناقصًا يحتاجُ إلى تتمَّةٍ" (28).

8- هَجرُ سماعِ القرآنِ وتلاوتِه بسَبَبِ الاشتغالِ بسَماعِ الأناشيدِ الملحَّنةِ وتلاوتِه، وذلك من البِدَعِ المحْدَثةِ التي اشتَدَّ نكيرُ الأئمَّةِ على أصحابِها. قال أبو موسى -رحمه الله-: "سمعتُ الشَّافعيَّ -رحمه الله- يقولُ: بالعراقِ زَنادِقةٌ أحدثوا القصائدَ؛ ليشغَلوا النَّاسَ عن القُرآنِ" (29).

9- ثِقَلُ سماعِ القُرآنِ الكريمِ بسَبَبِ الاعتيادِ على سماعِ الأناشيدِ، وهو -أي ثِقَلُ سماعِ القُرآنِ- أمرٌ طبعيٌّ في حَقِّ مَن اعتاد سماعَ الأناشيدِ، واعتنى بها أكثَرَ من اعتنائِه بسَماعِ القرآنِ الكريمِ (*).

ويحصُلُ الاستثقالُ هنا لسَبَبينِ:

الأوَّلُ: اعتيادُ قَلْبِه على سماعِ الأناشيدِ الملَحَّنةِ بالأنغامِ المُطرِبةِ المتنَوِّعةِ، ويحصُلُ لذلك نفورُ سماعِ آياتِ القرآنِ الكريمِ التي لا يكون فيها ذلك الإطرابُ الذي اعتاد عليه القلبُ وتعَلَّق به (30).

الثاني: أنَّ في الشِّعرِ والنشيدِ موافَقةً لأغراضِ النُّفوسِ -قلَّ أو كَثُر- بخلاف القرآن الكريمِ الذي فيه تقييدٌ للنُّفوسِ بالأوامِرِ والنواهي الصارمةِ. قال ابنُ القَيِّمِ -رحمه الله- مُشيرًا إلى هذا السَّبَبِ:

ثَقُـل الكــتابُ عليهم لَمَّـا رَأَوا      تقيـيدَه بأوامِر ونَواهــــي

وأتى السَّماعُ مُوافِقًا أغراضَـــها     فلأجْلِ ذاك غدا عظيمَ الجــاهِ (31)

ولهذا يوجَدُ مَن اعتاد سماعَ الأبياتِ الملحَّنةِ واغتدى بها، ولا يحِنُّ إلى القرآنِ ولا يفرَحُ به، ولا يجِدُ في سماعِ الآياتِ ذَوقًا وحلاوةً ووَجْدًا، كما يجِدُ في سماعِ الأبياتِ، بل ولا يُصغي أكثَرُ الحاضرين أو كثيرٌ منهم إليه، ولا يقومون معانيه، ولا يغضُّون أصواتَهم عند تلاوتِه (32).

10- التأثُّرُ بمواعِظِ النشيدِ دونَ مواعِظِ القرآنِ الكريمِ، وهذا من علاماتِ السَّماعِ المحْدَثِ (**). قال ابن الجوزي (33) -رحمه الله-: "وقد نَشبَ حُبُّ السَّماعِ بقُلوبِ خَلقٍ منهم، فآثروه على قراءةِ القُرآنِ، ورَقَّت قُلوبُهم عنده بما لا تَرِقُّ عند سماع القرآنِ، وما ذاك إلا لتمكُّنِ هوى باطِنٍ، وغَلَبةِ طَبعٍ، وهم يظنُّون غير هذا"، ثمَّ ساق من تاريخِ الخطيبِ بإسنادِه إلى أبي نصرٍ السَّرَّاج، يقول: "حكى لي بعضُ إخواني عن أبى الحُسَين الدرَّاجِ.

قال: "قصَدْتُ يوسُفَ بنَ الحُسَين الرازي من بغداد، فلمَّا دخَلْتُ الرَّيَّ سألتُ عن منزلِه، وكلُّ من أسأله عنه يقولُ: أيشٍ تفعل بهذا الزِّنديقِ؟!

فضَيَّقوا صدري حتى عزمتُ على الانصرافِ، فبتُّ تلك الليلةَ في مسجدٍ، ثم قلتُ: جئتُ هذه البلدةَ، فلا أقَلَّ من زيارتِه، فلم أزَلْ أسأل عنه حتى وقعتُ إلى مسجِدِه وهو قاعِدٌ في المحرابِ، بين يَدَيه رجلٌ على يَدَيه مُصحَفٌ، وهو يقرَأُ.

فسلَّمتُ عليه، فردَّ عليَّ السَّلامَ، وقال: من أين؟ قلت: من بغدادَ، قصَدْتُ زيارةَ الشيخِ. فقال: تحسِنُ أن تقولَ شيئًا؟ قلتُ: نعم. وقُلتُ: رأيتك تبني دائمًا في قطيعتي، ولو كنتَ ذا حزمٍ لهَدَمْتَ ما تبني!

فأطبق المصحَفَ، ولم يَزَلْ يبكي حتى ابتَلَّتْ لحيتُه وثوبُه، حتى رَحِمتُه من شِدَّةِ بكائه!

ثمَّ قال: يا بُنَيَّ تلومُ أهلَ الرَّيِّ على قولِهم: يوسُفُ بنُ الحُسَينِ زِنديقٌ، ومِن وقتِ الصَّلاةِ هو ذا أقرَأُ القرآنَ، لم تَقطُرْ من عيني قطرةٌ، وقد قامت عليَّ القيامةُ بهذا البيتِ!" (34).

وهل يُعذَرُ المرءُ في أحوالِ السَّماعِ الفاسِدةِ، وهي في غيرِ مَقدورِه؟ قال الإمامُ ابنُ القَيِّم -رحمه الله-: "قال بعضُ العارفين: إنَّ أحوالَ السَّماعِ بعد مباشرتِه تبقى غيرَ مقدورةٍ للإنسانِ، بل خارجةٌ عن حدِّ التكليفِ، وهذا غيرُ معذور فيه؛ لمباشَرتِه أسبابَه، فهو كمن زال عَقْلُه بالسُّكر ِ(35).

11- العِنايةُ بالنَّشيدِ المطربِ، والاشتغالُ به في أكثَرِ الأوقاتِ على وَجهِ أنَّه طاعةٌ وعَمَلٌ صالحٌ. قال الشيخ عمر الأشقر (36) -حفظه الله-: "وجاوز أقوامٌ الطَّريقَ، فأصبح الإنشادُ والغناءُ شُغْلَهم الشَّاغِلَ، وأحدثوا له أنغامًا، ورقَّقوا أصواتهم، حتى أصبح فَنًّا، لا أقولُ هذا عن الفُسَّاقِ من المغنِّين والمُغَنِّيات، وإنما مرادي أولئك الذين اتَّخَذوا هذا دينًا يُقَرِّبُهم إلى الله تعالى، وشَغَلوا بذلك أوقاتَهم، وهَجَروا قرآنَ رَبِّهم".

12- جَعلُ الأناشيدِ الملَحَّنةِ المطربةِ مِن جنسِ أعمالِ القُربى التي تفتَقِرُ إلى إخلاصِ النيَّةِ فيها لله وحْدَه دون سِواه، كما تفتَقِرُ الطاعاتُ والعباداتُ المحْضةُ لذلك، فيقالُ مثلًا عند ابتداء الأناشيدِ أو ختامِها: "نسأل اللهَ عزَّ وجَلَّ أن يجعَلَ عَمَلَنا هذا خالِصًا لوَجْهِه"، أو "نعوذُ باللهِ أن نخلِطَ عَمَلَنا هذا برياءٍ" أو نحوَ هذه الكلماتِ التي تُنوى عند ابتداءِ الطَّاعاتِ والعباداتِ المحْضةِ.

ولا يصِحُّ أن يقالَ: النشيدُ الملحَّنُ المطربُ مِن جنسِ شِعرِ الدعوةِ الإسلاميِّ، الذي نصَّ الفقهاءُ على استحبابِه، وعَدُّوه من الطاعاتِ والأعمالِ الصالحةِ التي تقَرِّبُ إلى اللهِ؛ لِما يتضَمَّنُ من الدفاعِ عن الدينِ، والذَّود عن حِياضِه، والتزهيدِ في الدُّنيا.. وما كان كذلك فهو مفتَقِرٌ إلى إخلاصِ النيَّةِ وتصحيحِها؛ وذلك لأنَّ النشيدَ بهذه الصِّفةِ ليس شِعرًا فقط، وإنما هو شعرٌ مضافٌ إليه التلحينُ المطرِبُ، وإباحةُ شيءٍ أو استحبابُه لوحده ليس دليلًا على إباحتِه مع غيره. قال الإمامُ ابن القيم -رحمه الله-: "لأنَّ التركيبَ له خاصيَّةٌ تؤثِّرُ على الحُكمِ، ألا ترى أنَّ الماءَ مُباحٌ، فإذا أضيف إليه تمرٌ على هيئةٍ خاصَّةً أصبحَ (نبيذًا) محَرَّمًا".

"وهذا نظيرُ ما يُحكى عن فِقهِ إياسِ بنِ مُعاويةَ، أنَّ رجُلًا قال له: ما تقولُ في الماء؟ قال: حلالٌ. قال: فالتَّمرُ؟ قال: حلالٌ. قال: فالنبيذُ ماءٌ وتمرٌ، فكيف تحَرِّمُه؟! فقال له إياس: أرأيتَ لو ضرَبْتُك بكفٍّ من ترابٍ، أكنتُ أقتُلُك؟ قال: لا. قال: فإن ضرَبْتُك بكَفٍّ من تِبنٍ، أكنتُ أقتُلُك؟ قال: لا. قال: فإن ضربتُك بماءٍ أكنْتُ أقتُلُك؟ قال: لا. قال: فإن أخذتُ الماءَ والتِّبنَ والترابَ، فجعَلْتُه طينًا، وتركْتُه حتى يجِفَّ، وضرَبْتُك به أكنتُ أقتُلُك؟ قال: نعم. قال: كذلك النبيذُ".

"ومعنى كلامِه أنَّ المؤثِّرَ هو القوةُ الحاصِلةُ بالتركيبِ، والمفسِدُ للعَقلِ هو القوَّةُ الحاصِلةُ بالتركيبِ" (37) انتهى. وكذلك ما نحن فيه" (*).

13- الاعتقادُ بأنَّ كمالَ التربيةِ الرُّوحيَّةِ والإيمانيَّةِ والِجهاديَّةِ للشَّبابِ، والترَقِّي بهم في ذلك لا يتِمُّ إلَّا عن طريقِ الأناشيدِ المُطْربة، وهذا نظيرُ اعتقادِ الصُّوفيَّةِ أنَّ أحوالَهم مع اللهِ وصِلَتَهم به لا تَتِمُّ إلَّا عن طريقِ السَّماعِ.

14- الاعتقادُ بأنَّه لا بدَّ للشَّبابِ من سماعِ الأناشيدِ أيًّا كانت، ولو كان فيها بعضُ المحاذير، لا سِيَّما لمن اعتاد سماعَ الغناء، وإلَّا فإنهم سيتركون الالتزامَ بالدِّينِ، ويرتَكِبون المحظوراتِ مِن سَماعِ الأغاني، وغَيرِها من المحَرَّماتِ.

وفي هذا الكلامِ وَجهٌ مِنَ الشَّبَهِ لقَولِ بعضِ الصوفيَّةِ: إنَّ محَبَّتَه للهِ عزَّ وجَلَّ ورغبتَه في العبادةِ وحرَكَتِه ووَجْدَه وشَوْقَه؛ لا يتِمُّ إلَّا بسَماعِ القصائِدِ، وسماعِ الأصواتِ والنَّغماتِ، ويزعُمونَ أنَّهم بسماعِ هذه الأصواتِ تتحَرَّكُ عندهم من دواعي الزُّهدِ والعبادة ما لا تتحَرَّكُ بدون ذلك، وأنهم -بدون ذلك- قد يترُكون الصَّلَواتِ، ويفعلون المحَرَّمات، ويظنُّون أنَّهم بهذا ترتاضُ نفوسُهم، وتلتَذُّ بذلك لذَّةً تصُدُّها عن ارتكابِ المحارمِ، وتحمِلُها على فعلِ الطَّاعاتِ، ويقولون: إنَّ الإنسانَ يجِدُ في نفسِه نشاطًا وقوَّةً في كثيرٍ من الطَّاعاتِ إذا حصل له ما يحِبُّه، وإن كان مكروهًا، وأمَّا بدون ذلك فلا يجِدُ شيئًا، ولا يفعَلُه، وهو أيضًا يمتنِعُ عن المحرَّماتِ إذا عُوِّضَ بما يحِبُّ، وإن كان مكروهًا، وإلَّا لم يقنَعْ (*).

نقل ذلك عنهم الشيخُ تقي الدين -رحمه الله- ونقَدَهم (38).

15- الاعتقادُ بأنَّ الأناشيدَ المُطرِبةَ من شعائِرِ الالتزامِ بالدِّينِ وعلاماتِ الاستقامةِ، كاعتقادِ بعضِ العامَّةِ أنَّ سَماعَ الأناشيدِ خاصٌّ (بالملتزمين)، وعلامةٌ من علاماتِ الهدايةِ، والتوبةِ، والرُّجوعِ إلى اللهِ، وكذلك يعتَقِدُ الصُّوفيَّةُ في سماعِهم أنَّه من علاماتِ الاستقامةِ والصَّلاحِ والتوبةِ! (**)

والصَّحيحُ أنَّ تَرْكَ (الأغاني) من علاماتِ الاستقامةِ، وأمَّا سماعُ أو محبَّةُ الأناشيدِ الملَحَّنةِ والمُطرِبة، فليست من الطَّاعاتِ، وأمَّا الكَلِماتُ الطَّيبةُ فهي محمودةٌ في القصائِدِ وغَيْرِها.

16- تقديمُ الأناشيدِ والاشتغالُ بها على بعضِ النوافِلِ الشرعيَّةِ، خُصوصًا طلَبَ العلمِ الشَّرعيِّ، وهو نظيرُ تقديمِ الصوفيَّةِ السَّماعَ على بعضِ النوافِلِ؛ كقيامِ الليلِ، وقراءةِ القُرآنِ.

17- قَصدُ الأماكنِ الفاضِلةِ للإنشادِ، كجَعْلِ الأناشيدِ الملَحَّنةِ المُطرِبةِ في المساجدِ؛ فإنَّه مِن بِدَعِ الصُّوفية المحْدَثة في سماعِهم دون غيرِهم، قال أبو الطيب الطبري (39) -رحمه الله-: "ليس في المسلمين من جعَلَه (تلحين الشعر) طاعةً وقُرْبى، ولا رأى إعلانَه في المساجدِ، ولا حيثُ كان من البقاعِ الكريمةِ والجوامِعِ الشَّريفةِ؛ فكان مذهَبُ هذه الطائفةِ (الصوفيَّة) مخالِفًا لِما أجمع عليه العُلَماءُ".

وأمَّا مُجرَّدُ الإنشادِ فلا بَأْسَ.

18- قَصْدُ الأوقاتِ الفاضِلةِ أو ما يظُنُّ أنَّها فاضلةٌ للإنشادِ، كيَومِ مَولِدِ النَّبيِّ  صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم، وليلةِ الإسراءِ والمعراجِ، وليلةِ النِّصفِ مِن شَعبانَ ورَجَب، وليلةِ القَدْرِ.

19- الغُلُوُّ في النبيِّ (*) صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم، وإطراؤُه كما أطْرَت النصارى عيسى بنَ مريمَ عليه السلام، ورَفْعُه صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم إلى مقامِ الألوهيَّةِ، نحوَ الاستغاثةِ به صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم فيما لا يقدِرُ عليه إلا اللهُ عزَّ وجَلَّ، ككَشْفِ الكُرَبِ، وإزالةِ الظُّلمِ. ويقول بعضُ المنشِدين:

يا أيها المختارُ هل من وَمْضةٍ     تجَلِّي بوَهجِ بريقِها الظُّلماتِ (40)

فإنَّ حقيقةَ الشِّركِ هو دعاءُ غيرِ اللهِ تعالى بالأشياءِ التي يختَصُّ بها، أو اعتقادُ قُدرةٍ لغيرِه فيما لا يقدِرُ عليه سواه، أو التقَرُّبُ إلى غيِره بَشيءٍ ممَّا لا يُتقَرَّبُ به إلَّا إليه (41).

20- أن يتضَمَّنَ النشيدُ كَلِماتِ الدُّعاءِ والنداءِ والتوَجُّهِ إلى غيرِ اللهِ، والاستغاثةَ واستجلابَ الخَيْرِ مِن غيرِ اللهِ عزَّ وجَلَّ، وإخلاصُ التوحيدِ لا يتِمُّ إلا بأن يكونَ الدُّعاءُ كُلُّه لله، والنِّداءُ والاستغاثةُ والرَّجاءُ، واستجلابُ الخيرِ واستدفاعُ الشَّرِّ: له ومنه، لا لغيرِه ولا مِن غَيرِه (42).

21- إذا تضَمَّن النَّشيدُ الدَّعوةَ إلى بعضِ البِدَعِ الصُّوفيةِ، كتعظيمِ يَومِ مَولِدِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم، وجَعْلِه عيدًا، مِثلُ قَولِ بعض ِالمنشِدِين:

مَولِدُ الهادي سلامًا     أنت للأجيالِ عِيدُ (43)

22- التغَنِّي بالذِّكرِ البِدعيِّ غيرِ المشروعِ؛ كالتغنِّي بلَفظِ الجلالةِ (الله) مُفردًا في مقامِ الذِّكرِ والعبادةِ، فإن اشتمَلَت الأناشيدُ على ذلك فإنَّها تكون حرامًا؛ لأنَّ هذا الذِّكرَ مُحدَثٌ، والعبادةُ مبناها على التوقيفِ. قال شيخ الإسلام ابن تيمية (44) -رحمه الله-: "المشروعُ في ذكرِ اللهِ سبحانه وتعالى هو ذكرُه بجُملةٍ تامَّةٍ، وهو الذي ينفَعُ القلوبَ، ويحصُلُ به الثوابُ والأجرُ، وأمَّا الاقتصارُ على الاسمِ المفرَدِ مُظهَرًا أو مُضمَرًا، فلا أصلَ له، ولم يَذكُرْ ذلك أحدٌ مِن سَلَفِ الأمَّةِ، ولا شَرَع ذلك رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم(45).

وإن كان التغَنِّي بالاسمِ المفرَدِ (آلله، آلله) في النشيدِ لمجَرَّدِ التلحينِ والتطريبِ، فغير مشروعٍ أيضًا؛ لأنَّه استعمالٌ له في غيرِ محَلِّه. قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (الأعراف: 180)، ولم يقُلْ تغَنَّوا بها.

23- التغَنِّي بالذِّكرِ المشروعِ على طريقةٍ بِدْعيَّةٍ، نحوُ طريقِ الإنشادِ الجَماعيِّ الملَحَّنِ بصوتٍ واحدٍ، مثل أن تُنشَدَ كَلِمةُ التوحيدِ بأصواتٍ مُلَحَّنةٍ مُنظَّمةٍ جماعيَّةٍ، متوافِقةٍ في مَقامِ الذِّكرِ والعبادةِ.

ووجهُ مُخالَفةِ هذه الهيئةِ للصِّفةِ المشروعةِ، في أمورٍ؛ منها: الجَهرُ بالذِّكرِ، ورَفعُ الصَّوتِ به في غيرِ محَلِّه، ومنها: تلحينُ الذِّكرِ وتنغيمُه، ومنها: أداؤه جماعةً بصوتٍ واحدٍ، وهذه الأوصافُ الثلاثةُ مخالِفةٌ للهيئةِ المنقولةِ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم، والعباداتُ مَبناها على التوقيفِ والمتابعةِ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم في: كيفيَّتِها، وسَبَبِها، وجِنْسِها، وقَدْرِها، وزمانِها، ومَكانِها (46).

ومن جِهةِ المعقولِ: فإنَّ تلحينَ كَلِماتِ الذِّكرِ وتمطيطَها سبيلٌ إلى تحريفِها، وتغييرِ معانيها، وكأن تُنشِدَ كَلِمةَ التوحيدِ بلفظ (... موحامد رسول الله)؛ ولهذا كَرِه الإمامُ أحمدُ -رحمه الله- القراءةَ بالألحانِ، وقال الإمامُ لِمَن تعَجَّب من ذلك: "ما اسمك؟

قال: محمد. قال: أيسُرُّك أن يقالَ لك: موحامد؟!" (47)

24- تلحينُ الأدعيةِ بطَريقةِ التمطيطِ الفاحِشِ، على نحوِ صَنيعِ مُبتَدِعةِ الصُّوفيَّةِ في الابتهالاتِ والتواشيحِ الدِّينيَّةِ؛ فإنَّه مُحدَثٌ في الدِّينِ، وكُلُّ مُحدَثةٍ في الدِّينِ بِدعةٌ، وكُلُّ بدعةٍ ضَلالةٌ!

ومِن جِهةِ المعقولِ: فإنَّ سُؤالَ اللهِ عزَّ وجَلَّ ودعاءَه بطريقةِ التمطيطِ والتلحينِ الفاحِشِ ممقوتٌ، وغيرُ مُناسِبٍ لحالِ السُّؤالِ والتذَلُّلِ؛ فلو أنَّ رجُلًا دخل على صاحِبِ سلطانٍ فقال له: "ياآآيها السلطآآن هآب لي..." على طريقةِ التمطيطِ المعهودةِ هنا، أتراه محسِنًا في تقديمِ طَلَبِه؟ أم تراه مقدرًا لصاحِبِ السُّلطانِ ومُعَظِّمًا له؟!

25- أن يقترنَ بالنشيدِ الأصواتُ المطربةُ التي هي دون الآلاتِ، كالتصفيقِ والصفيرِ، والضَّربِ بالقضيبِ والأرجُلِ، على وجه الطَّاعةِ والقُربةِ، وترقيقِ القُلوبِ وإصلاحِها، فلهؤلاء نصيبٌ ممَّن قال الله فيهم: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} (الأنفال: 35) والمُكاءُ: الصَّفيرُ، والتَّصْديةُ: التصفيقُ، كذا قاله غيرُ واحِدٍ مِنَ السَّلَفِ (48).

26- أن يقتَرِنَ بالنشيدِ ضَربُ الدُّفِّ، على وَجهِ الطَّاعةِ والقُربةِ، وترقيقِ القُلوبِ وإصلاحِها؛ ففِعلُ ذلك من البِدَعِ المُحدَثةِ المتَّفَقِ على تحريمِها، وليس من جنسِ اللَّهوِ المختَلَفِ في حُكمِه بين الفُقَهاءِ، "سُئِلَ الفقيهُ الشافعيُّ تقيُّ الدين السُّبكي -رحمه الله- عن الرَّقصِ والدُّفِّ وعن حُضورِ السَّماعاتِ؟

فأجاب عنه بقولِه:

واعلَمْ بأنَّ الرَّقصَ والدُّفَّ الـذي       ساءلْتَ عنه وقُلْــتَ في أصواتِ

فيه خِلافٌ للأئمَّةِ قَبْلَـــــنا       شرح الهداية سادة السَّـــاداتِ

لكِنَّه لم تأتِ قَطُّ شريـــــعةٌ      طلبَتْه أو جعلَتْه في القُرُبـــاتِ

والقائلون بحلِّه قالوا بـــــه      كسِواه من أحوالِنا العــــاداتِ

فمن اصطفاه لدينه متعــــبِّدًا     بحضوره فاعدُدْه في الحسَـراتِ (49)

 

27- جَعْل الأناشيد الملحَّنةِ المطربةِ من الأمورِ المستحَبَّةِ أو الواجبةِ؛ فإنَّه لا يجوز لأحدٍ أن يعتَقِدَ أو يقولَ عن عَمَلٍ: إنَّه قُربةٌ وطاعةٌ وبِرٌّ، وطريقٌ إلى اللهِ واجِبٌ أو مستحَبٌّ، إلَّا أن يكونَ مما أمَرَ اللهُ به، أو رسولُه صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم، والأناشيدُ الملحَّنةُ المطربةُ -أيًّا كانت معانيها- ليس ممَّا أمر اللهُ به، ورسولُه صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم (50).

28- الإصغاءُ إلى ألحانِ النشيدِ، والشَّوقُ والحنانُ إليها، والراحةُ النفسيَّةُ، والاطمئنانُ القَلبيُّ حين سماعِها أكثَرَ من سماعِ القرآنِ الكريمِ، وسَبَبُ ذلك أنَّ في القَلبِ فراغًا وجُوعًا رُوحِيًّا، ومتى استفرغه المرءُ في سماعِ الشِّعرِ مجَرَّدًا أو ملحَّنًا - النشيدُ ، أو القَصَصُ المقروءُ أو المشاهَدُ، التمثيلُ، أو غير ذلك مما يحصُلُ به تغذيةُ النفوسِ والأرواحِ- لم يَبْقَ بعد ذلك مكانٌ لسماعِ القُرآنِ الكريمِ (*).

29- جَعْلُ النشيدِ بديلًا وعِوَضًا عن الغناءِ، يُترَنَّمُ به في كلِّ وقتٍ وحينٍ، والصَّوابُ أنَّ البديلَ الإسلاميَّ للغناءِ، والذي يحصُلُ به استغناءُ القَلبِ وغِذاؤه وعافيتُه: هو القرآنُ الكريمُ. قال ابن الأعرابي (51) -رحمه الله-: "إنَّ العَرَبَ كانت تتغنَّى بالركباني -وهو النشيدُ بالتمطيطِ والمدِّ- إذا ركِبَت الإبِلُ، وإذا تبطَّحَت على الأرضِ، وإذا جَلَست في الأفنِيَةِ، وعلى أكثَرِ أحوالها، فلمَّا نزل القرآنُ أحَبَّ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم أن يكونَ القُرآنُ هِجِّيراهم مكانَ التغَنِّي، فقال: (ليس مِنَّا من لم يتغَنَّ بالقرآنِ) (52).

30- الخَلطُ والجَمعُ بين قراءةِ القُرآنِ وتلاوتِه، وبين إنشادِ الشِّعرِ وتلحينِه في مكانٍ وزمانٍ واحدٍ، وهذا من إحداثِ جُهَّالِ الصوفيَّةِ المتأخِّرين، ولم يكُنْ مِن فِعْلِ سَلَفِ الأمَّةِ المقتدى بهم، المشهودِ لهم بالخيريَّةِ، بل كان -زيادةً في التحَرُّزِ -ينهى بعضُ السَّلَفِ عن خَلْطِ القرآنِ بالشِّعرِ. قال أبو بكر الخَلَّالُ في كتابه (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) (53): "عن الرَّجُلِ يكتب (بسم الله الرحمن الرحيم) أمامَ الشِّعرِ، فكأنَّه لم يعجِبْه -أي: الإمام-، وقال: حَدَّثَنا حفصٌ عن مجالِدٍ، عن الشَّعبيِّ قال: كانوا يكتُبون أمامَ الشِّعرِ: (بسم الله الرحمن الرحيم) وقال: بسمِ اللهِ الرحمن الرحيم آيةٌ مِن القرآنِ الكريمِ، فما بالُ القرآنِ يُكتَبُ مع الشِّعرِ؟ وقال: هذا حديثُ أنَسٍ: (أُنزِلَت عليَّ سُورةٌ، وقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم) وهو حُجَّةٌ ألَّا يُكتَبَ أمامَ الشِّعرِ".

31- التغَذِّي بالأصواتِ المطرِبةِ الملَحَّنةِ في النشيدِ (*)، جاء في مقَدِّمة أناشيدِ الكتائِبِ (54): "إنَّه -أي: صوتَ المنشِدِ أبي مازن -صوتٌ ينبَعِثُ من أعماقِ الجنانِ، فيسمو بالنَّفسِ ويرقى بالرُّوحِ، ويعمَلُ على بَعْثِ معاني الحقِّ، وتجديدِها في النَّفسِ"، وجاء في مقدِّمة نشيدنا (55) في مَدحِ صَوتِ المنشِدِ أبي الجود نظمًا:

ينسابُ صَوتُك في رُوحي فيرشفُها    شَهدًا تسامَرَ على خمرِ العناقيدِ

ولا رَيبَ أنَّ الأصواتَ العَذْبةَ بمُجَرَّدِها، وكذا النَّغماتُ الموزونةُ، والألحانُ الجميلةُ: ليست مما يُتقَرَّبُ به إلى اللهِ، ولا ممَّا تُزكى به النفوسُ وتَطهُرُ، فإنَّ اللهَ شَرَع على ألسنةِ المرسلين كلَّ ما تزكو به النفوسُ وتَطهُرُ من أدناسِها وأوزارِها، ولم يَشرَعْ على لسانِ أحدٍ مِن الرُّسُلِ في مِلَّةٍ من المِلَلِ شيئًا من ذلك، وإنما يأمرُ بتزكيةِ النفوسِ بالألحانِ مَن لا يتقيَّدُ بمتابعةِ الرُّسُلِ من أتباعِ الفلاسفة، كما يأمرون بعِشقِ الصُّوَرِ، وقد أنكر الإمامُ ابنُ القَيِّم -رحمه الله- وغيرُه على المتصَوِّفة المبالغةَ في مدحِ الألحانِ وجَعْلِها أمرًا واجبًا أو مُستحبًّا. قال ابن القيم (56) -رحمه الله-: "قال إمامُ الزَّنادقة ابنُ الراوِندي: اختلف الفُقَهاءُ في السَّماعِ، فقال بعضُهم: هو مباحٌ، وقال بعضُهم: هو محرَّمٌ، وعندي: أنَّه واجِبٌ، ذكره أبو عبدِ الرَّحمنِ السُّلَميُّ عنه في مسألةِ السماعِ، واعتَدَّ به، وكذلك شيخُ الملاحدةِ وإمامُهم ابنُ سينا، في الإشارات (57) أمرَ بسَماعِ الألحانِ وعِشْقِ الصُّوَرِ، وجعل ذلك مما يزكِّي النفوسَ ويُهَذِّبُها ويصَفِّيها، وقَبْلَه ومعهم معَلِّمُهم الثاني أبو نصر الفارابي، إمامُ أهلِ الألحانِ".

 

 

=======================================

 

 (1) متن القصيدتين النونية والميمية، ابن القيم (ص: 38).

 (2) البيان المفيد، جمع: السليماني (ص: 14).

 (*) أي: إباحة الشرع، لا أنه من الدين والشرع.

 (3) لطائف الإرشادات على تسهيل الطرقات لنظم الورقات، نظم: شرف الدين يحيى العمريطي (ص: 53).

 (4) انظر: نفس المكان.

 (5) المغني (9/176).

 (*) الشيخ ابن جبرين -حفظه الله-: "المراد: التعبُّدُ بسماعِه، فأما التعبُّدُ بنَفْعِه وتأثيرِه في السَّامِعِ، فهذا ينبغي أن يُتَّخَذ قُربةً وعبادة، فإن كثيرًا من الفَسَقة والفَجَرة وأهل الجرائم اهتَدَوا بسماع نشيدٍ إسلاميٍّ يحتوي على التخويفِ من النَّارِ والتعريف بحالِ دارِ البَوارِ.

وهكذا هناك من بذلوا الأموالَ في سبيل الله، وبذلوا النفوسَ، وصَبَروا على الأذى، وتحمَّلوا المشاقَّ بعد أن سمعوا هذه المواعِظَ في تلك القصائد. والقصص بذلك كثيرة".

 (6) الاعتصام (1/436).

 (7) البيان لأخطاء بعض الكتاب، الفوزان (ص 287) بتصرف يسير.

 (8) البيان المفيد، جمع: السليماني (ص: 14).

 (9) المصدر السابق، فتوى الشيخ محمد العثيمين (ص: 15).

 (10) الاعتصام (1/345).

 (11) الاعتصام (1/348).

 (12) أناشيد (الشجرة الطيبة).

 (13) أخرجه مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، وهي أوانٍ كانت يُشرب فيها الخمر.

 (14) إحياء علوم الدين، الغزالي (2/272) بتصرف.

 (*) بمجموعها لا بوصف واحد منها، كالاصطفاف وحده، أو الزِّيِّ الموحد وحده مثلًا.

 (15) إحياء علوم الدين (2/272).

 (*) فارسي مُعرَّب، أصلها: سركا اتكبين، أي: خل، وعسل، وهو دواءٌ مزيج من الخَلِّ والعَسَلِ، يُضاف إليهما موادُّ طيبةٌ، ثم أُطلِقَ على كل شراب مركَّب من حلو وحامض. (مُعجم الألفاظ الفارسية المعربة للسيد أدي شير ص: 92، الوصلة إلى الحبيب في وصف الطيبات والطيب، لابن العديم ص: 825).

 (16) انظر: الاعتصام، الشاطبي (1/346-348).

 (17) الكلام على مسألة السماع (139 -140) بتصرف.

 (18) أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق. انظر: الفتح (7/399).

 (19) شرح النووي على مسلم (6/182).

 (20) أخرجه البيهقي (10/223-224).

 (21) انظر: كف الرعاع، ابن حجر الهيتمي (105-110).

 (22) البيان المفيد، جمع: السليماني، فتوى الشيخ العثيمين (ص: 14).

 (*) أساس عِلَل الحُكمِ ببِدْعيَّةِ السَّماعِ الصوفيِّ والنشيد في بعض أحواله -كالتي سنذكرها- هو جعلُ تلحين الشعر بالألحان المطربة دينًا وعبادةً وقربةً وطاعةً وطريقةً موصلةً إلى الله؛ بالقول أو الاعتقاد، أو القصد أو العمل.

 (23) مجموع فتاوى ابن تيمية (11/451).

 (24) انظر: نشيد الكتائب (6-7).

 (25) الاعتصام (10/348-349).

 (26) يُطلق الغناء على تلحين الشعر، بدون آلة.

 (*) الشيخ ابن جبرين -حفظه الله -: "ولا يُنافي ذلك اتخاذه وسيلةً من وسائل الدعوة، فيضمن مع حُسن الصوتِ معانيَ مؤثِّرة في السامع؛ مما ينتج عن سماعها رقَّةُ القلب، ودمعُ العين، وتسَبُّبُ التوبة من السيِّئات، والإقلاع عن الخطايا، والانكباب على الطاعة، والتوبة الصادقة، فيكونُ لمن أنشدها وسجَّلها مثلُ أجر مَن اهتدى بسببها. والله أعلم".

 (27) مختصر الفتاوى المصرية (ص 592). ابن جبرين -حفظه الله-: "السَّماعُ الذي يُريده ابن تيمية -رحمه الله- هو ما أحدثه الصوفيةُ من الهَزيجِ والطَّرَبِ والرَّقصِ وضَربِ الأرضِ بالأرجُلِ، وهَزِّ الرُّؤوسِ عند سماعِ تلك القصائِدِ، وهو المُسمى عندهم بالسَّماعِ الذي مدَحوه، وقالوا فيه كل مجالٍ:

هو طاعةٌ هو قُربةٌ هو سُنَّـةٌ     شيخٌ قديم صادهم بتمـيل

وسيق إلينا عذبُها وعذابُهــا     حتى أجابوا دعوةَ المحتالِ"

 (*) الشيخ ابن جبرين -حفظه الله-: "يُراد بالطرب هنا: ما يُحرِّك البَدَن، ويهتَزُّ له الرأسُ، ويدعو إلى تمايل ورقص ونحو ذلك، ولا ينافي أن تتَّخذ القصائدُ الوعظيةُ من وسائِلِ الدعوة، فقد جُرِّب نَفْعُها في رجوعِ كثيرٍ من العُصاةِ، كالخُطَبِ والنصائحِ والمواعِظِ، وكُلُّ الجميعِ مَصدَرُه من الوحيينِ، فلا يُقالُ: إنَّ فيها زيادةً على ما بَعَث اللهُ به رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم".

 (28) مجموع فتاوى ابن تيمية (11/623).

 (29) انظر: الكلام على مسألة السماع، ابن القيم (ص: 124).

 (*) الشيخ ابن جبرين -حفظه الله-: "لكن غير مُطَّرِد، فكثيرٌ من الذين يستمعون النشيدَ المفيد ويتأثَّرون بما فيه من المواعِظِ والنصائحِ، ويُكثرون من اقتنائِه والاستفادةِ منه: ليس لمجرد التلَذُّذِ بالنَّغماتِ ولا الارتياح للأصوات والنبرات، وإنما للمعاني والمحتويات، والفوائد المتنوِّعة، ومع ذلك لا يهجُرون القرآنَ، بل يقرؤونه، ويستَمِعون له، ويُنصِتون لقَرَأَتِه، ويتلذَّذون ويتنعَّمون بسماعه وتدَبُّره، فيجمعون بين سماع المواعظ في النشيد، وسماعِ القرآنِ وغيرِه. والله أعلم".

 (30) انظر: نزهة الأسماع، ابن رجب (ص: 89).

 (31) إغاثة اللهفان (10/346).

 (32) الكلام على مسألة السماع، ابن القيم (ص: 107).

 (*) ابن جبرين -حفظه الله-: "ولعل السَّبَبَ غرابةُ هذا المسموعِ وطرافتِه وجِدَّتِه؛ فإنَّ النفسَ تتأثَّرُ بالمسموع لأول مرَّة، وينتجُ من ذلك التأثُّرِ رقَّةٌ وخشوع وبكاء وخوف، ثم يَقِلُّ تأثيرُه إذا أُعيد للمرَّةِ الثانيةِ، وكذا الثَّالثة، وإن كان الواجِبُ أن يتأثَّرَ كلما سمع القرآنَ أو تلاه؛ حيثُ إنَّه لا يَخلقُ عن كثرةِ الرَّدِّ، ولكِنْ لكُلِّ جديدٍ أثَرٌ، وهكذا يكونُ في سماع النشيد؛ فإنَّه لا يتأثَّرُ بما قد تكرَّر على سمعه مرارًا، بل يكونُ سماعُه كمعتادٍ غيرِه".

 (33) تلبيس إبليس (ص: 239).

 (34) تاريخ بغداد للخطيب (14/318)

 (35) الكلام على مسألة السماع (ص: 400).

 (36) جولة في رياض العلماء (ص: 59).

 (37) الكلام على مسألة السماع، ابن القيم (270-271).

 (*) الشيخ ابن جبرين -حفظه الله-: "هذا الوَصفُ ينطَبِقُ على سماع ِالصوفيَّةِ الذي يحصُلُ من آثارِه طَرَبٌ ونَشوةٌ ورَقصٌ وتمايلٌ يُشبِهُ حالَ أهلِ السُّكرِ؛ ولهذا أنشد ابنُ القيم قول الشاعر:

تُلِيَ الكتابُ فأطرقوا لا خـــــيفةً    لكِنَّه إطراقُ ســاهٍ لاهــــي

وأتى الغِناءُ فكالحــميرِ تناهـــقوا   واللهِ ما رقَصوا لأجْـِـل اللــهِ

إن لم يكُنْ خمرُ الجُسوم فإنـَّــــه   خمرُ العقولِ مماثِلٌ ومُــضاهي

فانظر إلى النــشوانِ عند شرابــه    وانظر إلى النِّسوانِ عند ملاهـي

وانظُرْ إلى تمزيقِ ذا أثوابـَــــه    من بعد تمزيقِ الفؤادِ اللَّاهـــي

واحكُمْ فأيُّ الخمرتيــن أحـــقُّ    بالتحريم والتأثـــيمِ عند اللــه"

 (*) الشيخ ابن جبرين -حفظه الله-: "لا شَكَّ أنَّا إذا رأينا من الشباب إقبالًا على الأغاني الماجنة، وسماعِ الموسيقى، والتلذُّذِ بآلاتِ الطَّرَبِ والمزامير والمعازف، ورأيناهم قد شُغِفوا بذلك، وأكبُّوا عليه؛ فإنَّا نبذُلُ السَّبَبَ في صَدِّهم عن ذلك، وتخفيفِه عنهم، ولا شَكَّ أنَّ سماعَ هذا النشيدِ الذي فيه مواعِظُ وتخويفٌ وترقيقٌ ووعدٌ ووعيدٌ، هو أخَفُّ وأحسَنُ من سماعِ ذلك اللَّهوِ والطَّربِ، فيرتكِبُ أخَفَّ الضَّرَرين، فبعضُ الشَّرِّ أهوَنُ من بعضٍ".

 (38) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (3/203).

 (*) الشيخ ابن جبرين -حفظه الله-: "إلَّا أنَّ هناك فرقًا بين سماع الصوفية الذي هو رقصٌ وطربٌ وضربٌ بالأرجُلِ وهزٌّ للرؤوسِ ونحوه ممَّا يُثيره ذلك السَّماعُ المبتَدَع، وبين النشيدِ الذي هو قصائِدُ عِلميَّةٌ وعظيَّةٌ مُفيدة، لها وقعٌ في النفوسِ، ينشُرُها الشبابُ الملتزمُ، ويحصل بها توبةٌ، وإقلاعٌ وبُعدٌ عن الحرامِ، وإقبالٌ على العبادةِ، ومحبةٌ لجنس الطاعةِ".

 (39) نزهة الأسماع، ابن رجب (ص: 84).

 (*) الشيخ ابن جبرين -حفظه الله-: "لا شَكَّ أنَّ هذا شيء واقعٌ، وأنَّه ممنوع وحرامٌ، والغالِبُ أنَّه يكون في قصائِدِ المتصَوِّفة والقبوريين، وأهلِ الجَهلِ والشِّركِ في الأقوالِ، الذين أوقعهم جهلُهم في هذا الغُلُوِّ، باسم تعظيمِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومحبَّتِه وتوقيرِه والاعترافِ بحَقِّه ... إلخ.

فزادوا في وَصْفِه، وأعطوه خالِصَ حَقِّ اللهِ من التعظيمِ والعبادةِ، وأوصافِ العَظَمةِ، وما لا يستحِقُّه إلا الله، وقد فَطِنَ لذلك أهلُ التوحيد والإخلاص، فنزَّهوا قصائِدَهم ونشيدَهم عن هذا الغُلُوِّ والإطراء؛ حيث رَوَوا قَولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (لا تُطْرُوني كما أطْرَتِ النصارى ابنَ مريمَ، إنَّما أنا عبدٌ؛ فقولوا: عبدُ اللهِ ورَسولُه)، وقولَه: (إيَّاكم والغُلُوَّ؛ فإنَّما أهلك مَن كان قبلكم الغُلُوُّ)، وقولَه: (أنا محمَّدٌ عبدُ اللهِ ورسولُه، ما أُحِبُّ أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله)،  ونحوَ ذلك.

 (40) نشيدنا، سليم عبد القادر (ص: 61).

 (41) انظر: الدر النضيد، الشوكاني (145، 163).

 (42) نفس المصدر (ص: 163).

 (43) نشيد الكتائب (ص: 94).

 (44) البيان المفيد، جمع السليماني، فتوى الشيخ محمد العثيمين (ص: 4).

 (45) مجموع فتاوى ابن تيمية (11/226، 233) بتصرف.

 (46) انظر: دروس وفتاوى من الحرم المكي، الشيخ محمد العثيمين (32-35).

 (47) انظر: زاد المعاد (1/489).

 (48) نزهة الأسماع، ابن رجب (ص 83) بتصرف.

 (49) كف الرعاع، ابن رجب الهيتمي (ص: 83).

 (50) مجموع فتاوى ابن تيمية (11/451).

 (*) الشيخ ابن جبرين -حفظه الله-: "وذلك خاصٌّ بما إذا كان السَّبَبُ الدافعُ له هو مجرَّدَ التلَذُّذِ بالصَّوتِ الملحَّنِ والاشتياق إليه، فأمَّا إن كان قَصْدُه المعاني والمحتويات التي تضَمَّنها ذلك النشيدُ، وما فيها من الزَّجرِ والتخويف والوَعْظ والوعد والوعيد، أو بيان الأحكام، وتوضيح الأدلة- فإنَّ ذلك محمودٌ، ولا يكون شاغلًا عن سماعِ القرآنِ، والذِّكرِ والخيرِ".

 (51) انظر: المجموع المغيث (2/581).

 (52) رواه البخاري في صحيحه. انظر: الفتح (13/501).

 (53) (ص: 166).

 (*) الشيخ ابن جبرين -حفظه الله-: "وقد ورد الأمرُ بتحسينِ الصوتِ بالقُرآنِ في قولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (ما أَذِنَ اللهُ لشَيءٍ ما أَذِنَ لنبيٍّ حَسَنِ الصَّوتِ يتغنَّى بالقرآنِ)، وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (مَن لم يتغَنَّ بالقرآنِ فليس مِنَّا)، وقد مدح النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أبا موسى بحُسنِ صوتِه، وقال: (لقد أُوتيَ مِزمارًا من مزاميرِ آلِ داودَ).

فمن هذه الأحاديثِ استُحِبَّ للقُرَّاءِ أن يُحسِّنوا به أصواتَهم، وقد شوهِدَ تأثيرُ السامعين لمَن رُزِق صوتًا حسنًا، وإكبابُهم على استماعِ قراءتِه، وتأثُّرُهم به، ورِقَّةُ القلبِ ودَمعُ العينِ عند سماعه، وهكذا إذا سمعوا قصائدَ وَعظيَّةً أو زُهديَّةً، وكان الناظِمُ لها أو المسَجِّل من ذوي الصَّوتِ الحَسَنِ الرَّقيقِ؛ كان تأثيرُها في القلوبِ أبلَغَ، ولا يكونُ ذلك شاغلًا عن سماعِ كلامِ اللهِ تعالى، وقراءتِه. واللهُ أعلَمُ".

 (54) (ص: 6).

 (55) (ص: 35).

 (56) الكلام على مسألة السماع (261-262).

 (57) انظر: الإرشادات والتنبيهات (4/82).