مقالات وبحوث مميزة

 

 

الردُّ على مَن زعَم جوازَ التبرُّك بالآثارِ النبويَّة المكانيَّة
 

الشيخ عَلَوي بن عبدالقادر السَّقَّاف


 

 الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على خاتَم الأنبياء والمُرسَلين.

أمَّا بعدُ:

فقد أرسل إليَّ أحدُ الفُضلاء- جزاه الله خيرًا- نُسخةً من كتاب ((الآثار النبويَّة في المدينة المنوَّرة- وجوبُ المحافظة عليها، وجواز التبرُّك بها)) للشيخ الدكتور عبدالعزيز بن عبدالفتاح القارئ؛ فشدَّني عُنوانُه، وبخاصَّةٍ قولَه: (وجواز التبرُّك بها)، فقرأتُه على عجَلٍ، وشدَّني أكثرَ تفسيرُه للآثار النبويَّة: بالآثار النبويَّة المكانيَّة، فعُدتُ إلى هذا الكِتابِ مرَّةً ثانيةً بعد أيام؛ لأُسجِّلَ هذه الملاحظاتِ والوقفاتِ معه، ولو فسَح الله في الوقتِ والعُمُرِ فسأُفرِدُ لهذا الموضوع كتابًا مستقلًّا.
 

هذا، والكتابُ يقَعُ في خَمسٍ وسَبعينَ صفحةً من الحجم المتوسِّط، بدأه الشيخُ بتقسيمِ الآثار إلى ثلاثةِ أصناف:
 

الصِّنف الأوَّل:

آثارٌ تاريخيَّة، كأنواع المباني والأواني، والنقود القديمة، وهذا جعَله الشيخ من اهتمام دارسي التاريخ والحَضارة.
 

الصِّنف الثاني:

آثارٌ خُرافيَّة، كالقُبور والأضرحة، وهذا استنكرَه المؤلِّفُ ودعَا إلى مُحاربتِه- جزاه اللهُ خيرًا.
 

الصِّنف الثَّالث:

آثارٌ إسلاميَّة نبويَّة، وهذه يرَى المؤلِّف وجوبَ المحافظةِ عليها، وجوازَ التبرُّكِ بها، كما هو صريحُ عُنوان الكِتاب.

وقد ذَكَر للمحافظة على هذا الصِّنف أربعَ فوائد: الاعتبارَ بها، والتبرُّكَ بها، وأنَّها تُساعِد على دِراسةِ السِّيرة النبويَّة، وأنها زِينةٌ للمَدينة النبويَّة.

وفي هذا المقالِ أُناقِشُ المؤلِّفَ في دعواه جوازَ التبرُّك بهذا الصِّنف من الآثار، وليس معنى هذا أنِّي أوافقُه في كلِّ ما عدَا ذلك.

فدَعوَى الشَّيخ إذنْ: وجوبُ المحافظة على هذه الآثارِ؛ مِن أجل التبرُّكِ بها.

واستدلَّ الشَّيخُ -عفا الله عنه- على دعواه تِلك بأدلةٍ، لا تنهض للدَّلالةِ على صِحَّةِ تِلك الدَّعوى بحالٍ؛ ولذا كان لزامًا بيانُ وجهِ الخَلطِ الذي وقَع بسبَبه الشيخُ ومَن سبَقَه في هذا التأويلِ البَعيدِ؛ ذلكم هو عدمُ التفريقِ بين التبرُّك والتعبُّد، أو قلْ: بين التبرُّك من جِهةٍ، وبين الاقتداءِ- الذي منه شِدَّةُ الاتباع للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- مِن جِهةٍ أخرى، وكذا عدَمُ التفريقِ بين آثارِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم التي هي جُزءٌ منه كنُخامته، وشَعَره، أو ما لامَس جَسدَه الشريفَ الطاهِر، كماءِ وُضوئِه، ومَلابسِه، ورُمَّانةِ مِنبرِه التي كان يُمسك بها أثناءَ الخُطبة؛ عدَمُ التفريقِ بين هذه الآثارِ وبين الأماكن التي جلَس عليها، أو صلَّى فيها، أو مرَّ بها.
 

أمَّا آثارُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سواءٌ كانتْ جزءًا منه ثُمَّ انفصلتْ عنه، أو خارجةً عنه لكنَّها لامَستْ جسَدَه الطاهر؛ فهذه هي التي كان الصحابةُ رضي الله عنهم يَتبرَّكون بها، وربما استمرَّ الأمرُ على ذلك سَنواتٍ معدوداتٍ ممَّن أتى بعدَهم، ثم انقرَضتِ تلك الآثارُ، وانقرَض تبعًا لذلك هذا التبرُّكُ بها، أمَّا تلك الأماكن التي جلَس عليها أو صلَّى فيها، ثم بمُرور الزمَن اندرَس منها ما لامَس جسَدَه الشريفَ، وبقِيت البقعةُ المكانيةُ كما هي؛ فهذه هي التي وقَع فيها الخلطُ عند المؤلِّف، كما هو الحالُ عند غيره؛ ولذا عدَّها ممَّا يُتبرَّك به.
 

ومعنى التبرُّك: طلبُ البَركة، وهي زِيادةُ الخير، ويكون بالأعمالِ كالصَّلاةِ والصِّيام والصَّدقة، وكلُّ أمْرٍ شرَعَه الله؛ ففيه بركةُ الأجرِ والثواب، ويكون التبرُّكُ كذلك بالذواتِ وآثارِها، وقد تقدَّم جواز التبرُّك بذاتِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبما لامَسَه.
 

وأمَّا الشيخ في كِتابه هذا فإنما يعني التبرُّكَ بالذواتِ، سواءً لامسَتْ جسدَه أم لا؛ ولذا ذَكَر جوازَ التبرُّكِ بالمكان في الصفحات: (16، 23، 24، 25)، وجوازَ التبرُّك بالمواضع والآثار ذَكرَه صفحة (17)، والتبرُّك بالمسح على رُمانة المِنبَر ذَكرَه صفحة: (13 و 25)، وممَّا يدلُّ على أنَّ الشيخَ- عفا الله عنه- يَخلِطُ بين هذين المعنيين: ما قاله عن قولِ عِتبان رضي الله عنه، لَمَّا طلَب من النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُصلِّي في بيتِه، وأنَّه قال: ((فأَتَّخِذه مُصلًّى))- وسيأتي الكلامُ عنه- حيثُ قال عنه (ص15): ((ومعنى قول عِتبان هذا: لأتبرَّكَ بالصَّلاةِ في المكان الذي ستُصلِّي فيه))، وقال أيضًا (ص23): ((أقرَّ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عِتبانَ على التبرُّكِ بالمكانِ الذي صلَّى فيه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم))؛ فهو تارةً يَجعل التبرُّكَ بالصلاةِ، وتارةً يَجعله بالمكانِ.
 

وقد استدلَّ الشيخ على صِحَّةِ دعواه بسِتَّةِ أدلَّة:

 الأوَّل:

حديثُ عِتبانَ بنِ مالكٍ الأنصاريِّ رضي الله عنه، وطلبِه مِن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنْ يُصلِّيَ في بيتِه لِيتَّخذَه مُصلًى، ففَعَل عليه الصَّلاةُ والسلام. والحديثُ في الصَّحيحَينِ.
 

 الثاني:

حَديثُ سَلمةَ بنِ الأكوعِ رضي الله عنه، وأنَّه كان يتحرَّى الصلاةَ عند الأُسطوانة التي كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُصلِّي عندها. والحديثُ في الصَّحيحَينِ.
 

 الثالث:

تحرِّي الصَّحابةِ رضي الله عنهم الصَّلاةَ عند أُسطوانة عائشةَ رضي الله عنها . وهو حديثٌ مُنكَرٌ، سيأتي الكلامُ عنه.
 

 الرابع:

حديثُ جابرِ بنِ عبدِ الله رضي الله عنهما، وأنَّه كان يأتي مسجدَ الفتحِ ويَدْعو عِندَه.
 

 الخامس:

ما ورَد مِن تتبُّعِ عبدِ الله بن عُمرَ رضي الله عنهما للأماكنِ النبويَّة تبركًا بها.
 

 السادس:

ما نُقل عن بَعضِ أئمَّة السَّلف، كمالكٍ وأحمدَ والبخاريِّ.

وقبل الإجابةِ عن الاستِدلالِ بـهذه الأدلَّةِ، أو الشُّبهاتِ، لا بدَّ من التأكيد على أنَّ جوازَ التبرُّكِ بآثار النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بهذا المعنى الذي ذَكَره المؤلِّف، ليس ممَّا قال به أحدٌ مِن سَلَف الأُمَّة، بل ولا قال به أحدٌ من الأئمَّة الكِبار عند سَبْر أقوالهم ومَدلولاتِها، وليس هو من باب ما يَسوغُ فيه الاجتهادُ؛ ولذا فإنَّ الردَّ على هذه الشُّبهاتِ لا يَتعلَّقُ بتَصحيحِ حديثٍ اختَلف المُحدِّثون فيه، ولا بتوثيقِ رجُلٍ اختَلف عُلماءُ الجَرح والتعديل في شأنه، ولا هو بمَأخَذٍ في دَلالةِ لَفظةٍ، حمَّالةِ أوجهٍ، وإنما هو في تصوُّر الدَّلالةِ وانطباقها على الواقِع، الأمرُ الذي غاب عن الشيخِ- غفَر الله له- وأنا على يَقينٍ تامٍّ أنَّه لو تأمَّلها، لرجَع عن قولِه؛ كيف لا، وهو المعروفُ بدِفاعه عن السُّنة، وذَودِه عن حِياضِها في مدينةِ الحبيبِ المصطفَى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟!

والردُّ على ما ذَكَره الشيخُ واستدلَّ به سيكون- إنْ شاء الله على وَجهينِ-: مُجمَل، ومُفصَّل:
 

 فأمَّا المُجمَل؛ فيُقال:

لو كان الأمرُ كما قال الشيخُ- عفا الله عنه- (ص14): ((التبرُّك بما يُسمَّى (الآثار النبويَّة المكانيَّة)، أي الأماكن التي وُجد فيها النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أو صلَّى فيها أو سَكَن بها
 

أو مكَث بها ولو لبُرهةٍ)) ا.ه-  لو كان المشروعُ من التبرُّكِ بآثاره صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يبلُغُ هذا الحدَّ، لكان حجمُ المنقولِ من ذلكم التبرُّكِ من أفعال الصحابة أكثرَ مِن أن يُحصَر، وبما يُغني الشيخَ عن عَناءِ تتبُّعِ الواردِ في هذا الباب؛ ذلك أنَّ عدَدَ ما نَزَله النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من الأماكن يفوق العدَّ والحَصرَ، وما وَطِئتْه قدماه الشَّريفتانِ يتجاوزُ التعدادَ، ومع ذلك فلم يثبُتْ عن الصحابةِ رضي الله عنهم أنَّهم تبرَّكوا بالمكانِ الذي نزَله، أو أنَّهم تتبَّعوا مواطئَ أقدامِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا في حياتِه ولا بعدَ وفاتِه، كتبرُّكهم بآثارِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كشَعَرِه وَوضوئِه ونُخامتِه، دعْ عنك أنْ يَتتابَعوا عليه! فلمَّا تركوه وهُم مَن هُم حِرصًا على الخيرِ، وحبًّا للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كان فيه أبلغُ دَليلٍ على عدمِ مشروعيَّة مِثلِ هذا الصنيع، بل وبِدعيَّتِه وخُروجِه عن الهَديِ الأوَّل؛ فدعوى التبرُّك بما مكَث به ولو لبُرهةٍ: دعوةٌ للتبرُّكِ بغارِ حِراء، وشِعاب مَكَّة، وجِبال مَكَّة والمدينةِ وسُهولِهما، وما لا حَصرَ له مِن الأماكن!
 

 أمَّا الجواب المُفصَّل، فيُقال:

1- أمَّا حديثُ عِتبان بن مالكٍ رضي الله عنه، فقد أوردَه الشيخُ بتمامِه (ص14)، ثم قال: ((والدَّلالة من هذا الحديثِ واضحةٌ في قول عِتبان رضي الله عنه: "فأتَّخذه مُصلًّى"، وفي إقرارِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومعنى قولِ عِتبان هذا: لأتبرَّكَ بالصَّلاةِ في المكان الذي ستُصلِّي فيه. قال الحافظُ ابن حجر: وفيه التبرُّكُ بالمواضِعِ التي صلَّى فيها النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو وَطِئها. قال: ويُستفادُ منه: أنَّ مَن دُعِي مِن الصالحين ليُتبرَّكَ به أنه يُجيبُ إذا أَمِن الفِتنةَ. وقد علَّق سماحةُ الشيخ عبد العزيز بن باز على هذه الفِقرة بقوله: هذا فيه نظرٌ، والصوابُ: أنَّ مِثل هذا خاصٌّ بالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لِمَا جعَل الله فيه من البَركةِ، وغيرُه لا يُقاسُ عليه؛ لِمَا بينهما من الفَرقِ العظيم.... ثم قال المؤلِّف: يُفهم مِن كلامه هذا - أي: ابن باز - الإقرارُ بدَلالةِ حديث عِتبان على مشروعيَّة التبرُّكِ بالمكانِ الذي صلَّى فيه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو المقصود)) اهـ.
 

فأنت ترَى هنا أنَّ الدعوى أكبرُ مِن الدليل؛ فالدعوى هي وجوبُ المحافظةِ على آثارِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المكانيَّةِ؛ مِن أجلِ التبرُّك بها، حيثُ إنَّ مِن فوائد المحافظةِ عليها - كما ذَكَرَه الشيخُ في الفائدة الثانية- التبرُّك بها؛ فالشيخ- عفا الله عنه- يُوجِبُ المحافظةَ على هذه الآثارَ؛ حتى نَتمكَّنَ من التبرُّكِ بها، وأين في حديث عِتبان، أو مِن كلام ابنِ حَجرٍ، أو حتى مِن كلام ابنِ باز المحافظةُ على هذه الآثار؟! غايةُ ما في الحديثِ أنَّ عِتبانَ رضي الله عنه طلَب من النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُصلِّي في بيتِه كي يَتَّخِذَه مُصلًى؛ هذا أوَّلًا.
 

 ثم بَعدَ ذلك نأتي لمُناقشةِ ما إذا كان ذلك للتبرُّك أم لا؟ فالحديثُ يَحتمِل احتمالاتٍ عِدَّةً ذَكرها العلماءُ:

منها: ما نقَلَه المؤلِّفُ عن ابن حجر.

ومنها: ما لم يَنقُلْه المؤلِّفُ من قول ابن حجر في الصفحةِ نفْسِها، وهو قولُه: ((ويَحتمِل أنْ يكونَ عِتبانَ إنما طلَب بذلك الوقوفَ على جِهةِ القِبلةِ بالقطعِ)) (هامش فتح الباري) (1/522)، وقد كان رضي الله عنه ضريرًا.
 

والاحتمال الثالث: ما ذَكَره شيخُ الإسلام ابنُ تيميَّة في (مجموع الفتاوى) (17/468) حيثُ قال: ((فإنه قصَد أنْ يبنيَ مسجدًا، وأحبَّ أن يكونَ أوَّلَ مَن يُصلِّي فيه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنْ يَبنيه في الموضِع الذي صلَّى فيه؛ فالمقصودُ كان بِناءَ المسجد)). وقال في (اقتضاء الصراط المستقيم) (2/754): ((ففي هذا الحديثِ دَلالةٌ على أنَّ مَن قصَد أنْ يَبنيَ مسجدَه في موضِع صلاةِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فلا بأسَ به، وكذلك قَصْدُ الصلاةِ في موضِعِ صلاتِه، لكنَّ هذا أصلُ قَصدِه بناءُ مسجدٍ؛ فأحبَّ أن يكونَ موضعًا يُصلِّي له فيه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ليكون النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو الذي رسَم المسجدَ)) ا.هـ.
 

فأهلُ بيت عِتبان رضي الله عنه لم يُنقلْ عنهم أنهم فعلوا ذلك، ولا أحدٌ من الصحابة تبِعَه في ذلك، وطلَب من النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما طلَبَه عِتبان مع أنَّ فيهم مَن هو أفضلُ وأحرصُ على الاقتداءِ بسُنَّة النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم منه كأبي بَكرٍ وعُمرَ وغيرهما، بل لم يُنقَلْ عنهم حِرصُهم على التنفُّل في مِحرابه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .
 

ثم إنَّ هذا يَنسحِبُ أيضًا على النِّساء؛ فنساؤُه رضِي اللهُ عنهنَّ في بُيوتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يُنقلْ عنهنَّ أنهنَّ كُنَّ يفعلْنَ ذلك، أم أنَّ التبرُّكَ خاصٌّ بالرِّجال دون النساء؟! فكلُّ ما في الأمْر أنَّ عِتبان كَلَّ بصرُه، وفعَل فِعلًا  كان يرَى عليه فيه غَضاضةً، وهو صلاتُه في بيته، فأراد إقرارَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم له على فِعله، وأراد النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إكرامَه ومواساتَه، وهو الرؤوفُ الرحيمُ بصحابته وبالمؤمنينَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
 

وقد ذكَر المؤلِّف (ص23) أنَّ عُمر بنَ الخطَّاب رضي الله عنه ذهَب مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبي بَكرٍ رضي الله عنه إلى بَيتِ عِتبان رضِي الله عنه، وفي (ص14) قال: ((وليس مع المانعين سِوى حديثٍ موقوفٍ على عُمرَ بنِ الخطَّاب رضي الله عنه)) ا.هـ يعني حديثَ المعرورِ بنِ سُويدٍ، الذي فيه إنكارُ عُمرَ بنِ الخطَّاب رضي الله عنه على مَن قصَد الصلاةَ في مكانٍ صلَّى فيه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وسيأتي- فهذا فِقهُ عُمرَ رضي الله عنه، وهو الذي ذهَب مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى بيت عِتبان بنِ مالكٍ رضي الله عنه، كما ذكَر المؤلِّف؛ فمَن أولى بالاتِّباع؟!
 

وأيًّا ما كان الأمرُ فلا يُعرف أنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم أو مَن أتى بعدَهم، حافَظوا على مُصلَّى عِتبان رضي الله عنه؛ ليتبرَّكوا به، إلَّا ما رواه ابنُ سعد في (الطبقات) (3/550) عن الواقديِّ، أنَّه قال: ((فذلك البيتُ- يعني بيتَ عِتبان- يُصلِّي فيه الناسُ بالمدينة إلى اليوم))، والواقديُّ متروكٌ كذَّابٌ؛ فلا تُقبَلُ روايتُه.

 

2- أمَّا الدَّليل الثاني: وهو أثَرُ سَلمةَ بنِ الأكوع رضي الله عنه، فقد قال المؤلِّفُ- عفا الله عنه- (ص17): ((وثبَتَ عن سَلمةَ بنِ الأكوعِ رضي الله عنه أنه كان يَتحرَّى المكانَ الذي كان يُصلِّي فيه رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بين المِنبَرِ والقِبلة؛ ففي الصَّحيحَينِ عن يَزيدَ بن أبي عُبَيدٍ، عن سَلمةَ رضي الله عنه، أنه كان يَتحرَّى موضِعَ مكان المصحَفِ يُسبِّحُ فيه، وذكر أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَتحرَّى ذلك المكانَ.
 

وفي رِوايةٍ في الصحيحِ أيضًا، قال يَزيدُ: كان سلمةُ يَتحرَّى الصلاةَ عند الأُسطوانة التي عند المصحف، فقلت له: يا أبا مُسلمٍ، أراكَ تَتحرَّى الصلاةَ عند هذه الأُسطوانةِ؟ قال: رأيتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يتحرَّى الصلاةَ عِندَها)) ا.هـ.
 

فأين في أثر سَلمةَ رضي الله عنه التبرُّكُ بالأسطوانةِ أو بالمُصلَّى خلفَها؟! غايةُ ما فيه تَحرِّيه الصلاةَ عِندَها اقتداءً بتحرِّي النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهذا من جِنس الصلاةِ خَلْفَ مقامِ إبراهيم، أو في مسجِدِ قُباءٍ، مع أنَّ الصلاةَ عندهما أوكدُ مِن الصلاة عند الأُسطوانةِ؛ لِمَا ثبَت مِن فِعله وقولِه، وترتيب الأجرِ على ذلك. ومع ذلك لم يقُلْ أحدٌ من السَّلَف: إنَّ الصَّلاةَ خلفَ المقامِ، أو في مَسجد قُباءٍ، كانتْ للتبرُّكِ بالمكان، بل كانتْ اقتداءً بالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ طلبًا للأجرِ، لا لبركةِ المكان.
 

ثم لو كان ذلك الفِعلُ للتبرُّكِ؛ فأينَ سلمةُ وسائرُ الصَّحابةِ رضي الله عنهم من مِحرابه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟! وهذا ما سبَق الحديثُ عنه مِن أنَّ الشيخ يَخلِط بين التبرُّكِ والتعبُّدِ والاقتداءِ بالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ولذلك علَّق شيخُ الإسلام ابنُ تَيميَّة- كما في (مجموع الفتاوى) (17/467)- على حديثِ سَلمة رضي الله عنه بقولِه: ((وقد كان سلمةُ بنُ الأكوع يتحرَّى الصلاةَ عند الأُسطوانة، قال: لأنِّي رأيتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يتحرَّى الصلاةَ عندها، فلمَّا رآه يَقصِد تلك البُقعةَ لأجْلِ الصَّلاةِ، كان ذلك القصدُ للصلاةِ مُتابعةً)) ا.هـ؛ فهي مُتابَعةٌ قصدًا للأجرِ، وليست تبرُّكًا بالمكان، ويتأكَّد هذا التخريجُ بأنَّ سلمةَ رضي الله عنه وغيره من الصحابةِ كذلك، ما كانوا يَتحرَّون كلَّ بقعةٍ صلَّى فيها النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إنما كانوا يَتحرَّون ما كان يتحرَّاه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فزعْمُ الشيخ أنَّ كلَّ مكان مكَث فيه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولو لبُرهةٍ فهو محلٌّ للتبرك، هو على خِلافِ مذهبِ سَلمةَ المُستدَلِّ بفِعلِه! ثم أين في الأثر الـإشارةُ إلى التبرُّك المزعوم؟! غايةُ ما فيه تحرِّيه الصلاةَ حيث تحرَّاها النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
 

ولو سلَّمنا جدلًا أنَّ التحرِّي كان للتبرُّك فهو تبرُّكٌ بما لامَسَ جسَدَه الشريفَ في ذلك الوقت، وليس تبرُّكًا بالبُقعةِ ذاتِها؛ فلو أراد أحدٌ اليومَ أن يُصلِّي خلْفَ الأسطوانةِ تأسِّيًا فله ذلك، أمَّا تبرُّكًا فلا؛ أيَتبرَّكُ بالفُرشِ الأعجميةِ، أم بأنواع الرُّخامِ المُصنَّع في الشرقِ أو الغربِ؟! فليس ثَمَّةَ ما مَسَّ جَسدَه الطاهرَ صلواتُ الله وسلامُه عليه.
 

ومِن الغرائبِ أنَّ الشَّيخَ يَعدُّ هذا الأثرَ من قِسم المرفوع حتى يُعارِضَ به أثرَ عُمرَ بنِ الخطَّاب رضِي الله عنه، فيقول (ص27): ((فهذا أثرٌ موقوفٌ على عُمرَ رضي الله عنه؛ فكيف يُناهِضُ حديثَينِ مرفوعَينِ، مقطوعًا بهما؛ رواهما البخاريُّ ومسلمٌ، وهما: حديثُ عِتبان، وحديثُ سَلمةَ بن الأكوع المتَّفق عليه))؟! ولا أدري ما وجهُ كونِ حديثِ سَلمةَ رضي الله عنه مرفوعًا، وهو مِن فِعلِه رضِي اللهُ عنه واجتهادِه بعدَ وفاةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟!
 

3- أمَّا ثالثُ أدلَّته، وهو تحرِّي الصحابةِ الصلاةَ عند أسطوانة عائشةَ رضي الله عنها، فقد أوردَ فيه حديثًا مُنكَرًا، ولو صحَّ فليس فيه دَليلٌ على التبرُّك؛ فقد قال الشيخُ- عفا الله عنه- (ص21): ((وأُسطوانة عائشةَ كانتْ تُسمَّى أُسطوانةَ المهاجرين، حيث كانوا يَجتمِعون عندها، وكان الصحابةُ يَتحرَّون الصلاةَ عندها؛ ذَكَر ذلك الحافظ في الفتح، ...ثم قال: روَى الطبرانيُّ في الأوسطِ عن عائشةَ، أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: إنَّ في المسجدِ لبُقعةً قِبَلَ هذه الأسطوانةِ، لو يعلمُ الناسُ ما صلَّوْا فيها إلَّا أن تُطَيَّر لهم فيها قُرعةٌ... إلخ الحديث)).ا.هـ
 

وهذا الحديث رواه الطبرانيُّ في (الأوسط) (1/475) من طريق عَتيقِ بنِ يَعقوب، قال: حدَّثَنا عبدُ الله ومحمَّد ابنا المنذرِ، عن هِشام بنِ عُروةَ، عن أبيه، عن عائشةَ. ومحمَّد بنُ المنذرِ هو الزُّبَيريُّ، يَروي عن هِشامٍ أحاديثَ موضوعةً ومُنكَرةً، وعبدُ الله أخوه لا تُعرف له ترجمةٌ. انظر: (السلسلة الضعيفة) للألباني (2390).
 

وعليه فالحديثُ مُنكَرٌ لا يَصِحُّ، وحتى لو صحَّ هذا الحديثُ فليس فيه دَليلٌ أنهم كانوا يَتحرَّون الصلاةَ عند الأُسطوانةِ تبرُّكًا بها، بل اقتداءً بالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بل كان الصحابةُ رضي الله عنهم يَبتدِرون السواري، وهي الأُسطوانات- وقد كانتْ من خَشبٍ- للصلاةِ عندها، وجعْلِها سُترةً لهم، وهذا معروفٌ مشهورٌ.
 

ثم إنَّ الغريبَ مِن الشيخ أنَّه لم يَكتفِ بأُسطوانةِ عائشةَ المزعومةِ، بل زاد عليها أُسطواناتٍ كثيرةً؛ قال (ص20): ((ومِن الأماكن النبويَّة في الرَّوضة الشريفةِ الأُسطواناتُ الأخرى، وهي: أسطوانةُ السَّرير، وأُسطوانةُ الحرَس، وأُسطوانةُ الوفود، وأُسطوانةُ التوبةِ، وأُسطوانةُ التهجُّد))! ولا أدري أيُريد من الناس الذَّهابَ إلى هذه الأُسطواناتِ؛ ليلتمسوا البركةَ عندها؟!
 

مع العلم أنَّ أيًّا مِن هذه الأسطوانات لم يَرِد فيها حديثٌ، خلَا أسطوانةِ التوبةِ- والتي تِيب عندها على أبي لُبابة رضِي الله عنه- فقد ورَد فيها حديثٌ إسنادُه ضعيفٌ، انظر: صحيح ابن خزيمة (رقم2236)، وضعيف ابن ماجه (رقم350).
 

4- أمَّا دليلُه الرَّابع، فهو حديثُ جابرِ بن عبد الله رضي الله عنهما؛ فقد قال الشيخُ (ص23) : ((وثبَت عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رضي الله عنه أنه كان يأتي مسجدَ الفتح الذي على الجَبلِ، يَتحرَّى الساعةَ التي دعا فيها النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على الأحزابِ، ويتحرَّى المكانَ أيضًا، ويقول: ولم يَنزلْ بي أمرٌ مُهمٌّ غائظٌ، إلا توخيتُ تلك الساعةَ فدعوتُ اللهَ فيه بين الصَّلاتينِ يومَ الأربعاءِ، إلا عرفتُ الإجابةَ))، وقال في موضعٍ آخَرَ (ص59)- بعد أنْ ذَكَر الحديثَ-: ((يَقصِد رضي الله عنه أنَّه يَتوخَّى الزمانَ والمكانَ، أي: يدعو في تلك الساعةِ، في ذلك المكانِ الذي دعا فيه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مَسجدِ الفتحِ؛ بدليلِ رواية البخاريِّ في (الأدب المفرد)، ولفظُه: .. - ثم ذكر اللفظ المتقدِّمَ آنفًا)) ا.هـ.
 

وحديثُ جابرٍ هذا رواه الإمامُ أحمدُ في (المسند) (22/425 بتحقيق الأرنؤوط)، والبزَّارُ في (مسنده)، ومن طريقه ابنُ عبد البرِّ في (التمهيد) (19/200) من طريق أبي عامرٍ العَقَديِّ، عن كَثيرِ بن زيدٍ، بلفظ: ((إلَّا توخيتُ تِلك الساعةَ، فأدعو فيها فأعرفَ الإجابة))، وفي إحْدى روايات البزَّار أنَّه: ((يدعو في تِلك الساعةِ في مَسجدِ قُباءٍ))؛ ذكَرها المؤلِّفُ نفْسُه (ص59)، ورواه ابنُ سعدٍ في (الطبقات) (2/73)، وابنُ الغَطريف في (جُزئه) (ص107)، ومن طريقِه عبدُ الغني المقدسيُّ في (الترغيب في الدعاء) (ص49) مِن طريق عُبَيدِ الله بن عَبدِ المَجيدِ، عن كَثيرِ بن زَيدٍ بلفظ: ((إلَّا توخيتُ تِلك الساعةَ من ذلك اليومِ، فدعوتُ فعرفتُ الإجابةَ))، ورواه البخاري في (الأدب المفرد) (2/167 مع الشرح) من طريق سُفيانَ بنِ حَمزةَ، عن كَثير بن زيد بلَفْظ: ((إلَّا توخيتُ تلك الساعةَ فدعوتُ اللهَ فيه)).
 

وأصحُّ هذه الرواياتِ إسنادًا روايةُ أحمد؛ فأبو عامرٍ أوثقُ مِن عُبَيد اللهِ، ومِن سُفيانَ؛ لذلك قال المنذريُّ في (الترغيب والترهيب) (2/142): رواه أحمدُ والبزَّار وغيرهما، وإسنادُ أحمد جيِّد. وقال الهيثميُّ في (مَجمَع الزوائد) (4/12): رواه أحمد والبزَّار، ورجالُ أحمد ثِقاتٌ. وكَثيرُ بن زيد نفْسُه فيه كلام، انظر: (السنن والأحكام) للضياء المقدسي (4/300) و(اقتضاء الصراط المستقيم) لابن تيمية (2/816)، والحديثُ ضعَّفَ إسنادَه الأرنؤوطُ في تخريجه للمُسندِ؛ مِن أجل كَثير بن زيد، وحسَّنه الألبانيُّ في (صحيح الأدب المفرد) (1/256) و(صحيح الترغيب والترهيب) (2/24) باللفظين معًا.
 

وأنكر ابنُ تيمية أنْ يكونَ جابرٌ رضي الله عنه كان يَتحرَّى المكانَ، فقال في (اقتضاء الصراط المستقيم) (2/816): ((ولم يُنقلْ عن جابرٍ رضي الله عنه أنه تحرَّى الدُّعاءَ في المكان، بل في الزمان)).
 

5- أمَّا تتبُّع عبدِ اللهِ بن عُمرَ رضي الله عنهما للأماكنِ النبويَّة، فقال الشيخُ (ص17): ((وقد بوَّب البخاريُّ في صحيحِه، فقال: "باب المساجد التي على طُرُق المدينةِ والمواضِع التي صلَّى فيها النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، وذكر فيه أحاديثَ فيها تتبُّع عبدِ الله بن عُمرَ رضي الله عنهما لهذه المواضِعِ والتبرُّكِ بها، ومثله سالمٌ ابنُه؛ كان يتحرَّى هذه المواضعَ، ويُفهم من تَبويبِ البخاريِّ وذِكره لهذه المواضِعِ: أنَّه يرى مشروعيَّةَ التبرُّك بذلك)). وفي (ص23) قال: ((ولذلك لم يُنقَلْ أنَّ عُمرَ أنكر على ابنِه عبدِ الله شِدَّةَ تتبُّعِه للأماكنِ النبويَّة، وتبرُّكَه بها، بل لم يَرِدْ عن أيِّ أحدٍ من الصحابة أنه أنكَرَ عليه ذلك؛ فهُم وإنْ لم يُنقل عنهم أنَّهم كانوا يَفعلون ذلك مِثلَه، لكنْ عدَمُ إنكارهم يدلُّ على مشروعيَّةِ فِعلِه رضي الله عنه)) ا.هـ.
 

والعجبُ لا يَنقضي من صَنيعِ المؤلِّف هذا! فقد زعم أنَّ ابنَ عُمرَ رضي الله عنهما كان يَفعلُ ذلك تبرُّكًا، وليس فيما أوردَه ما يُشيرُ إلى ذلك، ثم زعَم أنَّه يُفهَم مِن تَبويبِ البُخاريِّ هذا أنَّه يرَى مَشروعيَّةَ التبرُّك؛ فبنَى خطأً على خطأٍ! والبخاريُّ بريءٌ من ذلك، ثم زعَم أنَّ عُمرَ رضي الله عنه لم يُنكِرْ على ابنه، وسيأتي أنَّه أنكرَ على أُناسٍ فعَلوا مِثلَ فِعلِ ابنِ عُمرَ؛ فماذا يُريدُ الشيخُ من كُلِّ ذلك؟!
 

وهاكُم نصَّ الحديثِ كما أورده البخاريُّ، ولنفتِّشْ معًا عمَّا زَعمَه المؤلِّفُ مِن تبرُّكِ ابنِ عُمرَ رضي الله عنهما بهذه الأماكن؛ قال البخاريُّ: ((حدَّثنا مُحمَّدُ بن أبي بَكرٍ المُقدَّميُّ، قال: حدَّثَنا فُضيلُ بنُ سُليمانَ، قال: حدَّثَنا موسى بنُ عُقبةَ، قال: رأيتُ سالمَ بنَ عَبدِ اللهِ يتحرَّى أماكنَ مِن الطريقِ، فيُصلِّي فيها، ويُحدِّث أنَّ أباه كان يُصلِّي فيها، وأنَّه رأى النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُصلِّي في تلك الأمكنة. وحدَّثني نافعٌ، عن ابنِ عُمرَ، أنَّه كان يُصلِّي في تِلك الأمكنةِ، وسألتُ سالِمًا فلا أعلمُه إلَّا وافَق نافعًا في الأمكنةِ كلِّها، إلَّا أنَّهما اختلفَا في مَسجدٍ بشَرف الرَّوحاءِ)) ا.ه؛ فأين في الحديثِ أنَّ ابنَ عُمرَ كان يتبرَّكُ بهذه الأماكنِ، حتى يُرتِّبَ عليها المؤلِّفُ كلامَه السابق؟! وكذا تبويبُ البخاريِّ: ((باب المساجِد التي على طُرُق المدينة والمواضِع التي صلَّى فيها النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم))؛ أين فيه مشروعيَّةُ التبرُّكِ بهذه المساجِدِ والمواضِع التي صلَّى فيها النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟! وهذا يُؤكِّدُ ما ذَكرتُه من أنَّ مبنَى خطأِ المؤلِّف هو الخلطُ بين ما كان يَفعلُه الصحابةُ اقتداءً واتِّباعًا للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وما كانوا يَفعلونه تبرُّكًا.
 

أمَّا زعْمُه أنَّ عُمرَ رضي الله عنه لم يُنكِر على ابنِه عبد الله؛ فجوابه: أنَّه أنكر على جمْعٍ مِن النَّاسِ فَعَلوا فِعلَ ابنَ عُمرَ رضي الله عنهم؛ فعن المَعرور بن سُويٍد الأَسديِّ قال: ((وافيتُ المَوسِمَ مع أمير المؤمنين عُمرَ بن الخطاب رضي الله عنه، فلمَّا انصرَف إلى المدينةِ، وانصرفتُ معه، صلَّى لنا صلاةَ الغداةِ، فقرأ فيها: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} و {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ}، ثم رأى أُناسًا يَذهبون مذهبًا، فقال: أين يذهبون هؤلاء؟ قالوا: يأتون مَسجِدًا هاهنا صلَّى فيه رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: إنَّما أُهلك مَن كان قبلكم بأشباهِ هذه؛ يَتَّبعون آثارَ أنبيائِهم، فاتَّخذوها كنائسَ وبِيَعًا، ومَن أدركتْه الصلاةُ في شيءٍ من هذه المساجدِ التي صلَّى فيها رسولُ الله، فلْيُصلِّ فيها، ولا يَتعمَّدْنَها)). رواه الطَّحَاويُّ في (مشكل الآثار) (12/544) واللفظ له، وابن أبي شَيبةَ في (المصنف) (2/376) وهذا الأثرُ صحَّح إسنادَه ابنُ تَيميَّة في (مجموع الفتاوى) (1/281)، والألبانيُّ في (تخريج فضائل الشام) (ص49)، وقال في (الثمر المستطاب) (1/472): وهذا إسنادٌ صحيحٌ على شرْط السِّتة.
 

والحديثُ صريحٌ في إنكارِ عُمرَ رضي الله عنه على مَن فعَل ذلك، وهذا الإنكارُ كان أمامَ جمْعٍ مِن الصحابةِ، ولا أدري كيف خَفِيَ هذا على الشيخِ؟! بل لم يَخْفَ عليه؛ فقد سَبقتِ الإشارةُ إلى أنَّه قال (ص14): ((وليس مع المانعين سِوى حديثٍ موقوفٍ على عُمرَ بن الخَطَّاب رضي الله عنه))؛ فهو- غفَر الله له- يَعرِف حديثَ عُمرَ الذي أنكر فيه على مَن فَعَلَ فِعْلَ ابنه عبد الله، ثم يقولُ: ولم يُنقل عن عُمرَ أنَّه أنكَر على ابنه!
 

ومَن نظَر في سِيرةِ عُمرَ رضي الله عنه يَجِدُها مُطَّرِدَةً في إنكارِ مِثل هذا الصنيعِ، حتى إنَّه أمَرَ بقطْعِ الشجرةِ التي بُويع النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَحتَها؛ لَمَّا بلغَه أنَّ ناسًا يأتونها ويُصلُّون عندها. كما في مُصنَّف ابن أبي شَيبةَ (2/375)، وقال ابنُ حَجر في (الفتح): ((ثم وجدتُ عندَ ابنِ سَعدٍ بإسنادٍ صحيحٍ عن نافع، أنَّ عُمرَ رضي الله عنه بلَغَه أنَّ قومًا يأتون شَجرةً فيُصلُّون عندها، فتوعَّدهم، ثم أمَر بقَطْعِها فقُطعتْ))، أمَّا على رأي الشيخِ؛ فإنَّه تجبُ المحافظةُ على الشجرةِ، ويجوز التبرُّكُ عندها كذلك!
 

قال ابنُ تَيميَّة في (اقتضاء الصراط المستقيم) (2/756): ((كان أبو بَكرٍ وعُمرُ وعُثمانُ وعليٌّ، وسائرُ السابقين الأوَّلين من المهاجِرين والأنصارِ يَذهبون من المدينةِ إلى مَكَّةَ حُجَّاجًا وعُمَّارًا، ومُسافِرين، ولم يُنقَلْ عن أحدٍ منهم أنه تحرَّى الصَّلاةَ في مُصلَّياتِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومعلومٌ أنَّ هذا لو كان عِندَهم مُستحبًّا لكانوا إليه أسبقَ؛ فإنَّهم أعلمُ بسُنَّته وأتبعُ لها من غيرِهم)).
 

وقال الشيخُ عبدُ العزيز بن باز- الذي عدَّه المؤلفُ ممَّن يُجيزون التبرُّكَ بالمكانِ الذي صلَّى فيه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كما سبق نقْلُه عنه-: ((والحقُّ أنَّ عُمرَ رضي الله عنه أراد بالنهيِ عن تتبُّعِ آثارِ الأنبياءِ، سَدَّ الذريعةِ إلى الشِّركِ، وهو أعلمُ بهذا الشأنِ مِن ابنه رضي الله عنهما، وقد أخَذَ الجمهورُ بما رآه عُمرُ، وليس في قِصَّة عِتبان ما يُخالِفُ ذلك؛ لأنَّه في حَديثِ عِتبان قد قَصَد أنْ يتأسَّى به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في ذلك، بخِلافِ آثارِه في الطُّرُقِ ونحوها؛ فإنَّ التأسِّي به فيها وتتبُّعَها لذلك غيرُ مشروعٍ، كما دلَّ عليه فِعلُ عُمرَ، وربَّما أفضى ذلك بمَن فعَلَه إلى الغُلوِّ والشِّرك، كما فعَل أهلُ الكتاب، والله أعلم)) (هامش فتح الباري) (1/569).
 

ثم إنَّ عبدَ الله بنَ عُمرَ رضي الله عنهما كان من شِدَّة تتبُّعهِ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يحبُّ أن يَقضيَ حاجتَه حيثُ قضاها رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كما ثبَت ذلك عنه في مُسند الإمامِ أحمدَ (10/294 رقم 6151 بتحقيق الأرنؤوط)، وصحيح البخاريِّ (2/519 رقم 1668)؛ فهل كان ذلك منه تبرُّكًا؟!
 

6- أمَّا استشهادُه بأقوالٍ لأئمَّة السَّلف، كمالكٍ وأحمدَ والبخاريِّ، فقد قال- عفا الله عنه- (ص25): ((ومشروعيَّةُ التبرُّكِ بالأماكن النبويَّة هو مذهبُ البخاريِّ، كما ذَكرْنا- يعني تبويبه في كِتاب الصلاة، باب: المساجد التي على طريق المدينة، وسبَق الردُّ عليه- ومذهبُ البَغويِّ، والنَّوويِّ، وابنِ حَجر، بل هو مذهبُ الإمامِ أحمدَ، وقد استدلَّ الإمامُ على ذلك بأنَّ الصحابةَ كانوا يَتبرَّكون برُمانةِ المِنبَر؛ يتبرَّكون بالموضع الذي مسَّتْه يدُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو مذهبُ مالكٍ؛ فقد روَى أبو نُعَيمٍ في (الحِلية) أنَّ هارونَ الرشيدَ أرادَ أن يَنقُضَ مِنبرَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويتَّخذه مِن جوهرٍ وذَهبٍ وفِضَّةٍ، فقال له مالكٌ: لا أرى أنْ تَحرِم الناسَ مِن أثرِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وسبَق كلامُه في استحبابِ صَلاةِ النافلةِ في مكانِ مُصلَّاه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن مَسجدِه)) ا.هـ. يعني بذلك ما ذَكَره (ص20) أنَّ مالكًا سُئِل: أيُّ المواضِعِ أحبُّ إليك الصَّلاةُ فيه؟ قال: أمَّا النافلةُ فموضِعُ مُصلَّاه، وأمَّا المكتوبةُ فأوَّل الصفوفِ.
 

والذي يَهمُّنا هنا هو النقلُ عن الأئمَّة الثلاثةِ؛ مالكٍ وأحمدَ والبخاريِّ، وبغضِّ النظرِ عن صِحَّة أسانيدِ هذه الأقوالِ؛ فأين هي ممَّا يدعو إليه المؤلِّفُ من المحافظةِ على آثارِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المكانيَّةِ؛ للتبرُّك بها؟! فكلامُ الإمام أحمدَ عن رُمانةَ مِنبَرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكلامُ الإمامِ مالكٍ عن نقْض المِنبر، هو عمَّا مسَّتْه يدُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا عن آثارِه المكانيَّة؛ فأين هو المنبرُ اليومَ وأين رُمَّانتُه؟!
 

أمَّا ما نقَلَه عن الإمام مالكٍ، وأنَّه يرَى أفضليَّةَ صلاةِ النافلة في موضِعِ مُصلَّاه، فهذا على سبيلِ الاقتداء لا التبرُّك، وقد قال ابنُ وضَّاحٍ القرطبيُّ في (البِدع والنهي عنها) (ص108): ((وكان مالكُ بنُ أنسٍ وغيرُه من عُلماء المدينةِ يَكرهون إتيانَ تلك المساجدِ وتلك الآثارِ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ما عدَا قُباءً وأُحدًا- يعني شُهداءَ أحد)). وقال ابنُ بَطَّالٍ في (شرح البخاري) (3/159): ((روَى أشهبُ عن مالكٍ، أنَّه سُئِل عن الصلاةِ في المواضِع التي صلَّى فيها الرسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: ما يُعجبني ذلك، إلَّا مسجِدُ قُباءٍ)).
 

أمَّا الإمامُ أحمدُ فقال شيخُ الإسلام ابنُ تيميَّة في (اقتضاء الصراط المستقيم) (2/754): ((وأمَّا أحمدُ فرخَّص منها فيما جاء به الأثرُ من ذلك إلَّا إذا اتُّخِذت عِيدًا، مِثل أنْ تُنتابَ لذلك، ويُجتمَع عندها في وقتٍ مَعلومٍ))، يعني حتى ما جاء فيه الأثرُ كمَسجدِ قُباءٍ، يُشدِّد فيه أحمدُ إذا اتُّخِذَ عِيدًا؛ فماذا بعد ذلك؟!
 

ومِن عجائب الشيخ في هذا الكتابِ: أنَّه يدعو إلى التبرُّكِ الآنَ بشُربِ ماءِ الآبارِ التي سقَط فيها خاتَمُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قبلَ أربعة عَشرَ قَرنًا؛ قال- عفا الله عنه- (ص13): ((ومنه- أي: التبرُّك-: قَصْدُ الآبارِ النبويَّة التي نُقِل أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تفَلَ فيها أو صَبَّ وَضوءَه فيها، أو سقَط شيءٌ مِن مُتعلِّقاته فيها، كبِئر أَرِيس التي سقَطَ فيها خاتَمُه؛ بقصْد التبرُّكِ بالشُّربِ منها؛ فهذا أمرٌ مشروعٌ؛ لأنَّه مُتفرِّعٌ مِن مسألةِ التبرُّكِ بالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، لا فَرْقَ في الحُكم بينه وبين وَضوئِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الذي كان الصحابةُ يتسابقونَ إلى التبرُّك به)) ا.هـ.
 

وهذا لا أعرِفُ أحدًا سبَقَ الشيخَ إليه، وقوله: ((لا فَرْقَ في الحُكم بينه وبين وَضوئِه)) غيرُ صحيحٍ؛ فالصحابةُ رضي الله عنهم فَرَّقوا بينهما، فكانوا يَتبرَّكون بوَضوئِه، ولم يُنقلْ عنهم أنَّهم كانوا يَشرَبون من ماءِ بِئر أَرِيس تبرُّكًا بعدَ سُقوطِ خاتَمِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيه مِن يَدِ عُثمانَ رضي الله عنه، كما في الصَّحيحَينِ.
 

 والخلاصة:

أنَّ التبرُّكَ بآثارِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الحِسيَّةِ كبَطنِه وشَعَرِه ونُخامته، وكذا ما لامَسَ جسَدَه الطاهِر الشريفَ كوَضوئِه ومَلابِسه؛ صحيحٌ، قد فعَلَه الصحابةُ ومِن بعدِهم بعضُ التابعين، ثم عفا الفِعلُ كما عفا الأثرُ.

وما قَصَدَه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للصلاةِ أو الدعاءِ عِندَه من الأماكنِ كمَسجدِ قُباءٍ ومقامِ إبراهيم؛ فقَصْدُه للصلاةِ أو الدُّعاءِ اقتداءً به سُنَّةٌ مُستحبَّةٌ، أمَّا التبرُّك بها فبِدعةٌ مُنكَرةٌ. وأمَّا ما لم يَقصِدْه من الأماكن فالصحيحُ عدمُ قصْدِ الصلاةِ عِندَه إلا إذا وافَق ذلك وقتُ صلاةٍ.
 

 أمَّا وجوبُ المحافظةِ على الآثارِ النبويَّة المكانيَّة لغَرضِ التبرُّكِ عندها، فلم يَقُلْ به أحدٌ مِن العُلماءِ، لا مِن السَّلَف ولا مِن الخَلف، وفتْحُه فتْحُ بابِ شَرٍّ وفِتنةٍ.
 

واللهُ أعلمُ، وصلَّى اللهُ على نبيِّنا وسيِّدنا محمَّدِ بنِ عبدِ الله، وعلى آلِه وصَحْبِه أجمعين.