التَّعريفُ بمَوضوعِ الكتابِ:
مُصطَلَحُ (أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ) مُصطَلحٌ شرعيٌّ دَلَّت عليه النُّصوصُ، واشتَهَر في كلامِ الأئِمَّةِ، وهو لقبٌ لا يَسعَدُ به إلَّا من التزم السُّنَّةَ تمسُّكًا واتِّباعًا، ولَزِم الجماعةَ اعتقادًا وافتراقًا عن أهلِ الأهواءِ والبِدَعِ. وأحقُّ النَّاسِ بهذا الاسمِ هم الصَّحابةُ والتَّابعون ومن سار على طريقتِهم مِن سَلَفِ الأمَّةِ، من المحَدِّثين والمفَسِّرين والفُقَهاءِ وسائِرِ أئمَّةِ الهُدى رحمهم اللهُ ورَضِيَ عنهم.
وقد نازَع متأخِّرو الأشاعِرةِ في هذا المُصطلَحِ، فادَّعَوه لأنفُسِهم -رغمَ مخالفتِهم لأهلِ السُّنَّةِ فيما أجمَعوا عليه مُخالَفةً صَريحةً!-، بل سعَوا إلى سَلبِه ممَّن هو أحقُّ به وأليقُ به وصفًا وواقِعًا!
فجاءَ هذا الكِتابُ ليَتَناولَ دَعوى انتِسابِ الأشاعِرةِ إلى أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ بميزانِ التَّحقيقِ والإنصافِ، ويَعرِضَها على مَوازينِ العِلمِ الَّتي لا يَختَلِفُ عليها عاقِلان، ولا يَتَنازَعُ فيها مُنصِفان؛ ليُبَيِّنَ وجهَ الحَقِّ فيها ويُمَيِّزَ بَينَ ما هو مَنهَجٌ سَلَفيٌّ راسِخٌ وما هو انتِسابٌ وادِّعاءٌ لا يَقومُ على بُرهان.
وقد اختِيرَتْ ثَلاثٌ مِن أبرزِ المسائلِ الَّتي خالَفَ فيها الأشاعرةُ السَّلَفَ؛ لإخضاعِها لميزانِ العَدلِ والإنصافِ، ولأدلَّةِ الكتابِ والسُّنَّةِ وإجماعِ السَّلَفِ، وهيَ: مَسألةُ الإيمانِ، ومَسألةُ عُلوِّ اللهِ تعالى، ومَسألةُ كَلامِه سُبحانَه بالصَّوتِ والحَرفِ؛ لكَونِها مِن أظهَرِ المَسائِلِ الَّتي وقَعَ فيها الخِلافُ بَينَ الأشاعرةِ وبَينَ مَن مَضى مِنَ القُرونِ المُفَضَّلةِ.
ومن خلال تلك المسائلِ وما جاء في غُضونِها من نُصوصِ الكِتابِ والسُّنَّةِ، وإجماعِ السَّلَفِ مِن أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ، وأقوالِ أئِمَّتِهمُ الرَّاسِخينَ في العِلمِ: يَتَبَيَّنُ للقارِئِ المُنصِفِ مِقدارُ التَّبايُنِ الواضِحِ بين ما قرَّره هؤلاء الأئمةُ الربَّانيون وبَينَ ما قَرَّرَه أئِمَّةُ الأشاعِرةِ في كُتُبِهمُ المُعتَمَدةِ الَّتي تُدرَّسُ ويُقَرَّرُ مَضمونُها في حَلَقاتِهمُ العِلميَّةِ لَيلًا ونَهارًا، ويَظهَرُ له أنَّ بَينَ المَنهَجَينِ تَبايُنًا لا يَقبَلُ الجَمعَ، ولا يُمكِنُ التَّوفيقُ بَينَهما.
فدَعوى الانتِسابِ إلى السَّلَفِ لا تُقبَلُ بمُجَرَّدِ الادِّعاءِ، ولا تَصِحُّ إلَّا بالِاتِّباعِ والموافَقةِ، لا بالمُخالَفةِ والمُفارَقةِ، وإلَّا فكيف يَصِحُّ في ميزانِ العَدلِ والإنصافِ أن يَكونَ مَن خالَفَ إجماعَ السَّلَفِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ أحَقَّ بهذا الاسمِ، ومَن وافَقَهم لا يُنسَبُ إلَيهم؟ هذا قَلبٌ للحَقائِقِ، ومُفارَقةٌ لا يَقبَلُها عَقلٌ، ولا يُقِرُّها نَقلٌ، ولا يَقولُ بها إلَّا مَنِ اختَلَّ في قَلبِه ميزانُ الفَهمِ!
وذكر المصنِّفُ أنَّه إنَّما كتَب هذا الكتابَ نُصحًا وبَيانًا للمُسلمينَ، ورَغبةً في جَمعِ الكَلِمةِ على الحَقِّ، ورَدِّ النَّاسِ إلى مَنهَجِ السَّلَفِ الَّذي هو الصِّراطُ المُستَقيمُ، الَّذي لا نَجاةَ إلَّا بسُلوكِه.
عرضُ الكتابِ:
انطوى الكتابُ على مُقَدِّمةٍ، تليها ثلاثةُ فُصولٍ رئيسةٍ، ثمَّ مُلحَقٌ تكميليٌّ، ثمَّ خاتمةٌ.
فأمَّا المُقدِّمةُ الَّتي صُدِّر بها الكِتابُ فأبانت أنَّ أهلَ السُّنَّةِ والجَماعةِ هُمُ السَّلَفُ الصَّالِحُ: الصَّحابةُ رِضوانُ اللهِ عليهم والتَّابِعونَ وتابِعو التَّابِعينَ، وهؤلاء هُمُ السَّلَفُ في المقامِ الأوَّلِ، وهُم أهلُ القُرونِ الأولى المُفَضَّلةِ الخَيريَّة.
وعليه، فمَن وافَقَهم استَحَقَّ اسمَ «أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ»، ومَن خالَفَهم وخالَفَ ما أجمَعوا عليه فهو دَعيٌّ.
وقُرِّر فيها أنَّه ليس مِنَ العَدلِ ولا الإنصافِ أن يُنسَبَ إلى السَّلَفِ مَن خالَفَهم في أُصولِهم ومُعتَقداتِهم، أو أن تُلبَسَ عَقائِدُ الخَلَفِ لباسَ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ.
وأنَّ دَعوى انتِسابِ الأشاعِرةِ إلى مَنهَجِ السَّلَفِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ -مَعَ ما في مَذهَبِهم مِن مُخالَفةٍ صَريحةٍ لِما أجمَعَ عليه الصَّحابةُ والتَّابِعونَ وأئِمَّةُ الدِّينِ- ليستْ إلَّا دَعوى مُجَرَّدةً، عاريةً عن البُرهانِ، لا تَقومُ على بَيِّنةٍ، ولا يُسنِدُها نَقلٌ صَحيحٌ، ولا فَهمٌ مُستَقيمٌ.
وأنَّ هذه الدَّعوى لا تَزالُ تُرَدَّدُ في الأوساطِ العِلميَّةِ، ولا يَزالونَ يُؤَلِّفونَ الكُتُبَ، ويُلقونَ الخُطَبَ والدُّروسَ والمُحاضَراتِ، ويُقيمونَ المُؤتَمَراتِ؛ ليُثبِتوا لأتْباعِهم وللعامَّةِ أنَّهم هُم وحدَهم أهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ رَغمَ مُخالَفَتِهم لأُصولٍ أجمَعَ عليها أهلُ
السُّنَّةِ والجَماعةِ! بل إنَّهم خالفوا أئمَّتَهم في الفُروع: أبا حنيفةَ، ومالكًا، والشَّافِعيَّ، وأحمدَ.
ثمَّ جاءت الفُصولُ الثَّلاثةُ الرَّئيسةُ:
الفَصلُ الأوَّلُ: في مسألةِ الإيمانِ.
الفَصلُ الثَّاني: في صفةِ العُلُوِّ والفَوقيَّةِ للهِ تعالى.
الفَصلُ الثَّالِثُ: في صفةِ الكَلامِ للهِ عزَّ وجَلَّ.
وقد ابتُدِئ كُلُّ فَصلٍ بعَرضِ أقوالِ أئمَّةِ الأشاعِرةِ وعُلَمائِهم مِن كتُبِهم المعتَمَدةِ في المسألةِ، ثمَّ أُتبِعَتْ بالأدِلَّةِ مِن الكتابِ والسُّنَّةِ وإجماعِ السَّلَفِ، ثمَّ أقوالِ عُلَماءِ السَّلَفِ.
ومِن منهجِ الكتابِ الاقتصارُ في ذكرِ أقوالِ علماءِ السَّلفِ على أهلِ القُرونِ الثَّلاثةِ الأولى، أي: إلى أوَّلِ سَنةِ (300هـ)، وهي السَّنةُ الَّتي بدأ فيها ظُهورُ المذهَبِ الأشعَريِّ.
ولهذا لم يُذكُرْ ضِمنَ عُلَماءِ السَّلَفِ في هذا السِّياقِ: ابنُ جريرٍ الطَّبَريُّ، ومَن في طبقَتِه -رَغمَ أنَّه مِن أتباعِ السَّلَفِ الصَّالحِ المبايِنينَ في مَنهَجِهم لمنهَجِ الأشاعِرةِ-؛ وذلك لكَونِ وفاتِه كانت سنةَ (310هـ)، التزامًا بمنهَجِ هذا الكتابِ.
ثمَّ أُلحِقَ البحثُ بمُلحَقٍ تكميليٍّ، ليس مِن أصلِ هذا الكتابِ ولا على شرْطِه، سُرِد فيه أقوالُ عَدَدٍ مِن عُلَماءِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ وأئمَّتِهم في القُرونِ الثَّلاثةِ التَّاليةِ، إلى حدودِ سنةِ (650هـ).
ثمَّ جاءت الخاتمةُ.