قراءة ونقد

منهجُ الأشاعِرةِ في التَّوفيقِ بيْنَ الأدِلَّةِ النَّقليَّةِ والعقليَّةِ في مَسائلِ العقيدةِ لمحمَّد صلاح تقوى (قراءة ونقد)
book
عنوان الكتاب: منهجُ الأشاعرةِ في التَّوفيقِ بيْن الأدِلَّةِ النَّقليَّةِ والعقليَّةِ في مَسائلِ العقيدةِ.
اسم المؤلِّف: د. محمَّد صلاح تقوى
النَّاشر: دار النُّور المبين- عمَّان
الطَّبعة: الأولى
سنة الطَّبع: 2023م
عدد الصَّفحات: 795

أوَّلًا: عرضُ الكتابِ

اشتمَل هذا الكِتابُ على مُقدِّمةٍ، وتمهيدٍ، وبابَينِ.

عرَض في المقدِّمةِ لبيانِ أهمِّيَّةِ موضوعِ البحثِ، ثمَّ الأسبابِ الَّتي دعَتْ إلى اختيارِه، ثمَّ مُشكِلةِ البحثِ، ثمَّ الدِّراساتِ السَّابقةِ، ثمَّ تبيينِ خُطَّةِ البحثِ، والمنهجِ المُتَّبَعِ في كتابَتِه.

ثمَّ جاء التَّمهيدُ، وصُدِّر بمَدخَلٍ إلى عِلمِ الكلامِ عندَ الأشاعرةِ، وفيه مَبحثانِ:

المَبحَثُ الأوَّلُ: لمحةٌ عن عِلمِ الكلامِ ونَشأتِه، وفيه كلامٌ عن حقيقةِ عِلمِ الكلامِ ووظيفتِه، ولمحةٌ عن نَشأتِه، والاتِّجاهاتُ العامَّةُ للبحثِ في أُصولِ الدِّينِ لَدى المسلمينَ -وقد قسَّمَها إلى ثلاثةِ اتِّجاهاتٍ: الاتِّجاهِ العقليِّ، والاتِّجاهِ النَّصِّيِّ، والاتِّجاهِ الوَسَطيِّ-، ثمَّ تَناوَلَ حُكمَ تَعلُّمِ عِلمِ الكلامِ، وعِلمَ الكلامِ بيْن المؤيِّدينَ والمُعارِضينَ.

المَبحَثُ الثَّاني: دراسةٌ تاريخيَّةٌ موجَزةٌ للمَدرَسةِ الأشعَريَّةِ وأهَمِّ أعلامِها. وفيه عرَّف بالمؤسِّسِ أبي الحسَنِ الأشعَريِّ، ثمَّ بأهَمِّ أعلامِ المدرسةِ الأشعَريَّةِ مِن العُلماءِ والمُصلِحينَ، وقسَّمهم إلى ثلاثَ عَشْرةَ طَبَقةً.

ثمَّ كان البابُ الأوَّلُ: مَوقِفُ الأشاعرةِ مِن الأدِلَّةِ النَّقليَّةِ والعقليَّةِ والشُّبُهاتُ المُثارةُ حَوْلَه.

وتحتَه فَصْلانِ:

الفصلُ الأوَّلُ: موقفُ الأشاعِرةِ مِن الأدِلَّةِ النَّقليَّةِ والعقليَّةِ.

وتَناوَلَ فيه الأدِلَّةَ النَّقليَّةَ؛ أنواعَها وحُجِّيَّتَها عندَ الأشاعرةِ.

فعرَّف الدَّليلَ النَّقْليَّ وأنواعَه عندَ الأشاعِرةِ، ثمَّ تحدَّث عن القُرآنِ الكريمِ وحُجِّيَّتِه في مجالِ العقيدةِ عندَهم، وأورَد لَمَحاتٍ مِن الجُهودِ الَّتي بذَلوها في إثباتِ حُجِّيَّةِ القُرآنِ والدِّفاعِ عنها، ثمَّ تكلَّم عن السُّنَّةِ وحُجِّيَّتِها في مجالِ العقيدةِ عندَهم.

ثمَّ دَلَف إلى الأدِلَّةِ العَقليَّةِ؛ أنواعِها وحُجِّيَّتِها عندَ الأشاعِرةِ.

فتكلَّم عن الدَّليلِ العقليِّ ومكانتِه عندَ الأشاعِرةِ، ثمَّ بحَثَ تطَوُّرَ مَنهجِ الاستِدلالِ العقليِّ عندَهم، ثمَّ عرَضَ لأنواعِ المعارِفِ العَقليَّةِ وأقسامِها عندَهم، ثمَّ الدِّفاعِ عن العقلِ عندَهم، ورُدودِهم على بعضِ الفِرَقِ والمذاهبِ؛ كالسُّمَنيَّةِ، والسُّوفِسْطائيَّةِ، ومُنكِري الحِسِّيَّاتِ، ومُنكِري البَدَهيَّاتِ.

الفصلُ الثَّاني: أهمُّ الشُّبهاتِ المُثارةِ حولَ موقفِ الأشاعِرةِ مِنَ الأدِلَّةِ النَّقليَّةِ والعقليَّةِ.

وذكَرَ فيه شُبُهاتٍ حولَ موقفِ الأشاعرةِ مِن الدَّليلِ النَّقليِّ، فبدأ بحقيقةِ مَصدَرِ التَّلَقِّي عندَ الأشاعرةِ، ثمَّ ثَنَّى بذِكْرِ شُبهةِ أنَّ الأدِلَّةَ النَّقليَّةَ لا تُفيدُ اليقينَ عندَهم، ثمَّ فِكرةِ الدَّورِ المنهجيِّ وعَلاقَتِها بمَصدَرِ التَّلَقِّي عندَهم.

ثمَّ جاءَتْ قضيَّةُ التَّحسينِ والتَّقبيحِ العَقليَّيْنِ بيْن الأشاعِرةِ وخُصومِهم، وفيها ذِكرٌ لأدِلَّةِ الأشاعرةِ على بُطلانِ التَّحسينِ والتَّقبيحِ العقليَّينِ.

ثمَّ تطرَّقَ الحديثُ إلى قضيَّةِ تَعارُضِ العقلِ والنَّقلِ بيْن الأشاعِرةِ وخُصومِهم، والشُّبُهاتِ المُثارةِ حولَ موقفِ الأشاعرةِ مِن تَعارُضِ العقلِ والنَّقلِ.

ثمَّ كان البابُ الثَّاني بعُنوان: نماذِجُ مِنَ الانحرافاتِ العَقَديَّةِ لَدى المخالِفينَ لمنهجِ الأشاعِرةِ، ومَوقِفُهم منها.

وتحتَه ثلاثةُ فُصولٍ:

الفصلُ الأوَّلُ: انحرافاتٌ مَنشَؤُها الإفراطُ في تقديمِ العقلِ على النَّقلِ. وذُكِر فيه الموقفُ مِن «أهل الفَترةِ» ومِن «العلمانيَّة» نموذجًا.

الفصلُ الثَّاني: انحرافاتٌ مَنشؤُها الإفراطُ في تقديمِ النَّقلِ على العقلِ. وأُورِدَ فيه «موقفُ المُجَسِّمةِ مِن مُتشابِهِ الصِّفاتِ نموذجًا».

وتُعُرِّضَ فيه للمُحكَمِ والمُتشابِهِ وعَلاقَتِهِما بصِفاتِ اللهِ تعالى، والتَّفويضِ عندَ السَّلفِ، ومَوقفِ ابنِ تيميَّةَ مِنَ المُتشابِهِ والتَّفويضِ، وتأويلِ المُتشابِهِ بيْن الأشاعِرةِ والمُخالِفينَ.

الفصلُ الثَّالثُ: انحرافاتٌ مَنشؤُها الاعتِداءُ على العقلِ والنَّقلِ معًا، واختِيرَ فيه «القِراءاتُ الحداثيَّةُ للنَّصِّ الدِّينيِّ» نموذجًا.

وتُنُووِلَ فيه الحداثةُ ونَظرتُها إلى العقلِ البَشَريِّ، والفَلسفاتُ والأفكارُ الَّتي يُسخِّرُها الحداثيُّونَ للقضاءِ على قُدسيَّةِ النَّصِّ -كتاريخيَّةِ النَّصِّ، وأَنْسَنَةِ الوحيِ-، والتَّأويليَّةُ الغَربيَّةُ «الهرمينوطيقا» ومحاولةُ إسقاطِها على الواقعِ الإسلاميِّ.

ثمَّ جاءَتِ الخاتمةُ والتَّوصيَّاتُ.

ثانيًا: نقدُ الكِتابِ

الكتابُ وإن كان فيه جُهدٌ كبيرٌ وتأصيلٌ جيِّدٌ ورَدٌّ لعاديةِ كثيرٍ مِن الضُّلَّالِ وبيانٌ لانحرافِهم في مَواضِعَ، فإنَّ فيه هَنَاتٍ ومآخِذَ ليست باليسيرةِ.

فمِن ذلك: استِخدامُ القِسمةِ الثُّلاثيَّةِ في المسائلِ العِلميَّةِ، حيثُ يُبادِرُ إلى تقسيمِ المُختلِفينَ إلى ثلاثةِ أقسامٍ: طرَفَينِ ووسَطٍ، ويَجعَلُ الوسَطَ للأشاعِرةِ -الَّذين يُسَمِّيهم أهلَ السُّنَّةِ، وأهلَ السُّنَّةِ والجَماعةِ-، وبما أنَّ الوسَطَ محمودٌ، وكِلا طَرَفَيْ قَصدِ الأُمورِ ذَميمُ؛ فيكونُ قولُ الأشاعِرةِ هو السَّديدَ، ومَن خالَفَهم إمَّا غالٍ أو مُقَصِّرٌ، مُفرِطٌ أو مُفَرِّطٌ! وما هكذا يكونُ الحُكمُ في العِلمِ.

ومِن ذلك ما جاء في الفصلِ الثَّاني مِن البابِ الثَّاني، في أثناءِ حديثِه عن نَماذِجَ مِنَ الانحرافاتِ العَقَديَّةِ لَدى المخالِفينَ لمنهجِ الأشاعِرةِ، حيثُ أورَد «موقفَ المُجَسِّمةِ مِن مُتشابِهِ الصِّفاتِ» نموذجًا للانحرافاتِ الَّتي مَنشَؤُها الإفراطُ في تقديمِ النَّقلِ على العقلِ! وهو يعني بالمُجَسِّمةِ: أهلَ السُّنَّةِ، المُتَّبِعينَ للسَّلفِ الصَّالحِ، المُثْبِتينَ للصِّفاتِ!

يقولُ (ص: 463): (تُعتبَرُ مسألةُ «مُتشابِهِ الصِّفاتِ» أو «الصِّفاتِ الخَبَريَّةِ» مِن أكثَرِ المسائلِ إثارةً للخِلافِ بيْن المُسلِمينَ عَبْرَ التَّاريخِ، ولا زالَتْ هذه المسألةُ حتَّى يَومِنا هذا مَنبَعًا لكثيرٍ مِن الجِدالِ والأخْذِ والرَّدِّ والتَّكفيرِ والتَّبديعِ.

وقد كان لأهلِ السُّنَّةِ الأشاعِرةِ مِن هذه الصِّفاتِ -كغيرِها مِنَ المسائلِ- مَوقفٌ وسَطٌ...

وبالمُقابِلِ يُصِرُّ المُخالِفونَ للأشاعِرةِ على تعطيلِ دَورِ العقلِ في فَهمِ نُصوصِ الصِّفاتِ، وحَملِها على ظاهِرِها، وإنْ أدَّى ذلك إلى الوُقوعِ في التَّجسيمِ والتَّشبيهِ، ومُخالَفةِ القَواعِدِ العقليَّةِ المُقَرَّرةِ، زاعِمينَ أنَّ ذلك هو منهجُ السَّلفِ الصَّالحِ)!

فأنت تَراه قد بادَر بحَجزِ الوسَطيَّةِ للأشاعِرةِ، مع اتِّهامِ مُخالِفيهم بتعطيلِ دَورِ العقلِ، ووُقوعِهم في التَّجسيمِ والتَّشبيهِ!

هذا فضلًا عن الخطأِ في جعلِ الصِّفاتِ مِن المُتشابِهِ، وإنَّ مَنشَأَ فِتْنةِ الأشاعِرةِ وضَلالِهم في بابِ الصِّفاتِ ظَنُّهم أنَّ آياتِ الصِّفاتِ وأحاديثِها مِن المُتَشابِهِ الَّذي اسْتَأثَرَ اللهُ بعِلمِ تَأويلِه، وأنَّه لا يُفهَمُ مَعْناه، معَ أنَّه لا يُعلَمُ عن أحَدٍ مِن أئِمَّةِ السَّلَفِ جَعْلُ أسماءِ اللهِ وصِفاتِه مِن المُتَشابِهِ، ولا أحَدَ مِن العُلَماءِ المُتَقدِّمينَ جَعَلَ آياتِ الصِّفاتِ وأحاديثَها كالكَلامِ الأعْجَميِّ، وكالحُروفِ المُقَطَّعةِ في أوائِلِ السُّوَرِ، بل نُصوصُهم صَريحةٌ في أنَّهم يُمِرُّونَ آياتِ الصِّفاتِ وأحاديثَها على ما دلَّتْ عليه مِن غيرِ تَحريفٍ ولا تَعطيلٍ، ولا تَكييفٍ ولا تَمثيلٍ، ويَفهَمونَ المُرادَ مِنها، ويُنكِرونَ تَأويلاتِ الجَهْميَّةِ والمُعَطِّلةِ ويُبطِلونَها.

وجَميعُ كُتبِ السُّنَّةِ الَّتي نَقَلَتْ آثارَ السَّلَفِ في العَقيدةِ -كَكِتابِ ((الرَّدِّ على الجَهْميَّةِ)) لأحمَدَ بنِ حَنْبَلٍ، والدَّارِميِّ، وابنِ مَنْدَهْ، وكِتابِ ((السُّنَّة)) للمُزَنيِّ، وابنِ أبي عاصِمٍ، والخَلَّالِ، والبَرْبَهاريِّ، وكِتابِ ((صَريح السُّنَّةِ)) لابنِ جَريرٍ الطَّبَريِّ، وكِتابِ ((أُصول السُّنَّةِ)) لابنِ أبي زَمَنِينَ، وكِتابِ ((شَرْح أُصولِ اعْتِقادِ أهْلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ)) لِلَّالَكائيِّ، وغيرها كثير- لم يُنقَلْ في أيٍّ مِنها عن أحَدٍ مِن السَّلَفِ الصَّالِحِ أنَّه جَعَلَ آياتِ الصِّفاتِ مِن المُتَشابِهِ([1]).

ومِن المآخِذِ على الكتابِ كذلك: قولُه وهو يَذكُرُ الأدِلَّةَ النَّقليَّةَ على كَونِ الصِّفاتِ الخبَريَّةِ مِن المُتشابِهِ عندَ الأشعريَّةِ (ص: 476): (مُعارَضةُ ظَواهِرِ تلك النُّصوصِ لآياتٍ عِدَّةٍ، مُتَّفَقٍ بيْن العُلماءِ على أنَّها مُحْكَمةٌ، فوجَبَ أن تكونَ تلك الظَّواهِرُ مِن المُتشابِهاتِ، ومِن تلك الآياتِ قولُه تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11])!

والحقُّ أنَّه لا توجَدُ مُعارَضةٌ إلَّا في أذهانِ المُعَطِّلينَ فحَسْبُ! فأمَّا السَّلفُ فإنَّهم يُثْبِتونَ لله ما أثبَتَه لنَفْسِه وما أثبَتَه له رسولُه صلَّى الله عليه وسلَّمَ، على الوجهِ الَّذي يَليقُ بجَلالِه، مِن غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومِن غيرِ تَكييفٍ ولا تمثيلٍ، فأين التَّعارُضُ؟!

ولو كان ثَمَّ تعارُضٌ كما ادَّعَتِ الأشعريَّةُ في الصِّفاتِ الخَبَريَّةِ، لَوُجِدَ التَّعارُضُ نفْسُه بيْن جميعِ صِفاتِ الرَّبِّ تعالى -بما في ذلك الصِّفاتُ الَّتي تُثبِتُها الأشاعِرةُ- وبيْن الآياتِ المُحْكَماتِ الأُخَرِ.

قال التِّرْمِذيُّ بعدَ أن روَى حديثَ أبي هُرَيرةَ رضيَ اللهُ عنه، مرفوعًا: ((إنَّ اللهَ يقبَلُ الصَّدَقةَ ويأخُذُها بيَمينِه فيُرَبِّيها لأحَدِكم كما يُرَبِّي أحَدُكم مُهْرَه...)):

(وقد قال غيرُ واحدٍ من أهلِ العلمِ في هذا الحديثِ وما يُشبِهُ هذا من الرِّواياتِ من الصِّفاتِ، ونزولِ الرَّبِّ تبارك وتعالى كُلَّ ليلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنيا، قالوا: قد تثبُتُ الرِّواياتُ في هذا، ويؤمَنُ بها، ولا يُتوَهَّمُ، ولا يُقالُ: كيف؟

هكذا رُوِي عن مالكٍ، وسُفْيانَ بنِ عُيَيْنةَ، وعبدِ اللهِ بنِ المبارَكِ أنَّهم قالوا في هذه الأحاديثِ: أَمِرُّوها بلا كَيفٍ. وهكذا قولُ أهلِ العِلمِ من أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ.

وأمَّا الجَهميَّةُ فأنكرت هذه الرِّواياتِ، وقالوا: هذا تشبيهٌ!

وقد ذَكَر اللهُ عزَّ وجَلَّ في غيرِ مَوضِعٍ من كتابِه اليَدَ والسَّمعَ والبَصَرَ، فتأوَّلَتِ الجَهميَّةُ هذه الآياتِ ففَسَّروها على غيرِ ما فسَّر أهلُ العلمِ، وقالوا: إنَّ اللهَ لم يخلُقْ آدَمَ بيَدِه، وقالوا: إنَّ معنى اليدِ هاهنا القُوَّةُ!

وقال إسحاقُ بنُ إبراهيمَ: إنَّما يكونُ التَّشبيهُ إذا قال: يَدٌ كَيَدٍ، أو مِثلُ يدٍ، أو سَمعٌ كسَمعٍ، أو مِثلُ سَمعٍ، فإذا قال: سَمعٌ كسَمعٍ، أو مِثلُ سَمعٍ، فهذا التَّشبيهُ، وأمَّا إذا قال كما قال اللهُ تعالى: يدٌ، وسمعٌ، وبَصَرٌ، ولا يقولُ: كيف، ولا يقولُ مِثلَ سَمعٍ، ولا كسَمعٍ، فهذا لا يكونُ تشبيهًا، وهو كما قال اللهُ تعالى في كتابِه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11])([2]).

وقال ابنُ جَريرٍ الطَّبَريُّ: (فإنْ قال لنا قائِلٌ: فما الصَّوابُ مِن القَولِ في معاني هذه الصِّفاتِ الَّتي ذُكِرَت، وجاء ببَعضِها كتابُ اللهِ عزَّ وجَلَّ ووَحْيُه، وجاء ببَعضِها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قيل: الصَّوابُ مِن هذا القولِ عِندَنا أن نُثبِتَ حقائقَها على ما نَعرِفُ مِن جهةِ الإثباتِ ونَفيِ التَّشبيهِ، كما نفى ذلك عن نفْسِه جلَّ ثناؤُه، فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، فيُقالُ: اللهُ سميعٌ بصيرٌ، له سمعٌ وبصَرٌ؛ إذ لا يُعقَلُ مُسمًّى سميعًا بصيرًا في لغةٍ ولا عقلٍ في النُّشوءِ والعادةِ والمُتعارَفِ إلَّا مَن له سمعٌ وبَصَرٌ ... فنُثبِتُ كُلَّ هذه المعاني الَّتي ذكَرْنا أنَّها جاءت بها الأخبارُ والكتابُ والتَّنزيلُ على ما يُعقَلُ من حقيقةِ الإثباتِ، ونَنفي عنه التَّشبيهَ)([3]).

وقال أبو الحسَنِ الأشعَريُّ: (ويُقالُ لهم: لِمَ أنكرتُم أن يكونَ اللهُ تعالى عَنى بقولِه: {بِيَدَيَّ} [ص: 75] يَدَينِ لَيْسَتا نِعمتَينِ؟

فإن قالوا: لأنَّ اليدَ إذا لم تكُنْ نِعمةً لم تكُنْ إلَّا جارِحةً.

قيل لهم: ولِمَ قضَيْتُم أنَّ اليدَ إذا لم تكُنْ نِعمةً لم تكُنْ إلَّا جارِحةً؟

وإنْ رجَعونا إلى شاهِدِنا، أو إلى ما نَجِدُه فيما بَيْنَنا مِن الخَلقِ فقالوا: اليدُ إذا لم تكُنْ نِعمةً في الشَّاهِدِ لم تكُنْ إلَّا جارِحةً.

قيل لهم: إن عمِلتُم على الشَّاهِدِ وقضَيْتُم به على اللهِ تعالى، فكذلك لم نَجِدْ حَيًّا مِن الخَلقِ إلَّا جِسمًا، لحمًا ودَمًا، فاقضُوا بذلك على اللهِ -تعالى عن ذلك- وإلَّا كنتُم لِقَولِكم تارِكينَ، ولاعتِلالِكم ناقِضينَ.

وإن أثبَتُّم حَيًّا لا كالأحياءِ مِنَّا، فلِمَ أنكرتُم أن تَكونَ اليَدانِ اللَّتانِ أخبَرَ اللهُ تعالى عنهما يدَينِ لَيْسَتا نِعمتَينِ، ولا جارِحتَينِ، ولا كالأيدي؟

وكذلك يُقالُ لهم: لم تَجِدوا مُدَبِّرًا حكيمًا إلَّا إنسانًا، ثمَّ أثبتُّم أنَّ للدُّنيا مُدَبِّرًا حكيمًا ليس كالإنسانِ، وخالفتُم الشَّاهِدَ، ونقَضْتُم اعتِلالَكم، فلا تَمنعوا مِن إثباتِ يدَينِ لَيْسَتا نِعمتَينِ ولا جارِحتَينِ مِن أجْلِ أنَّ ذلك خِلافُ الشَّاهِدِ)([4]).

وقال ابنُ شَيخِ الحَزَّامين: (والَّذي شرَح اللهُ به صدري في حالِ هؤلاء الشُّيوخِ الَّذين أَوَّلُوا الاستِواءَ بالاستيلاءِ، والنُّزولَ بنُزولِ الأمرِ، واليدَينِ بالنِّعمتَينِ والقُدرتَينِ: هو عِلمي بأنَّهم ما فَهِموا في صِفاتِ الرَّبِّ إلَّا ما يَليقُ بالمخلوقينَ، فما فَهِموا عن اللهِ استِواءً يَليقُ به، ولا نُزولًا يَليقُ به، ولا يَدَينِ تليقُ بعظَمتِه بلا تَكييفٍ ولا تَشبيهٍ؛ فلذلك حرَّفوا الكَلِمَ عن مَواضِعِه، وعطَّلوا ما وصَف اللهُ به نفْسَه، ونَذكُرُ بيانَ ذلك إن شاء اللهُ تعالى، فنقولُ:

لا رَيْبَ أنَّا نحن وإيَّاهم مُتَّفِقون على إثباتِ صِفاتِ الحياةِ والسَّمعِ والبصَرِ والعِلمِ والقُدرةِ والإرادةِ والكلامِ لله تعالى، ونحن قطعًا لا نَعقِلُ مِن الحياةِ إلَّا هذا العرَضَ الَّذي يَقومُ بأجسامِنا، وكذلك لا نَعقِلُ مِن السَّمعِ والبصرِ إلَّا أعراضًا تقومُ بجَوارِحِنا، فكما أنَّهم يَقولونَ: حياتُه ليست بعَرَضٍ، وعِلمُه كذلك، وبصَرُه كذلك، هي صِفاتٌ كما يَليقُ به، لا كما يَليقُ بنا؛ فكذلك نقولُ نحن: حياتُه معلومةٌ وليست مُكيَّفةً، وعِلمُه معلومٌ وليس مُكيَّفًا، وكذلك سمعُه وبصَرُه مَعلومانِ، وليس جميعُ ذلك أعراضًا، بل هو كما يَليقُ به، ومِثلُ ذلك بعَينِه فَوقيَّتُه واستِواؤُه ونُزولُه...

فإن قالوا لنا في الاستواءِ: شَبَّهْتُم، نقولُ لهم: في السَّمعِ شبَّهتُم، ووصفتُم ربَّكم بالعَرَضِ...

 وليس من الإنصافِ أن يَفهموا في الاستواءِ والنُّزولِ والوَجهِ واليَدِ صِفاتِ المخلوقينَ فيَحتاجونَ إلى التَّأويلِ والتَّحريفِ، فإنْ فَهِموا في هذه الصِّفاتِ ذلك فيَلزَمُهم أن يَفهَموا في الصِّفاتِ السَّبعِ صِفاتِ المخلوقينَ مِن الأعراضِ، فما يُلزِمونَنا في تلك الصِّفاتِ مِن التَّشبيهِ والجِسميَّةِ نُلزِمُهم في هذه الصِّفاتِ مِن العَرَضيَّةِ، وما يُنَزِّهونَ ربَّهم به في الصِّفاتِ السَّبْعِ ويَنفونَه عنه مِن عَوارِضِ الجِسمِ فيها فكذلك نعملُ في تلك الصِّفاتِ الَّتي يَنسبونَنا فيها إلى التَّشبيهِ سواءً بسَواءٍ)([5]).

ومِن الأخطاءِ الكبيرةِ الواقعةِ في الكتابِ: نسبةُ التَّفويضِ إلى السَّلفِ الكرامِ، وادعاؤُه (ص: 487) أنَّ المتقدِّمينَ مِن العُلماءِ يَكادُون (يُجمِعونَ على نِسبةِ التَّفويضِ إلى مذهبِ السَّلفِ، ولا يُعلَمُ لهم مُخالِفٌ في هذه النُّقطةِ)!

ثمَّ يقولُ (ص: 489، 490): (تواتَرَتْ في أقوالِ العُلماءِ المُحقِّقينَ نِسبةُ التَّفويضِ إلى السَّلفِ، حتَّى إنَّه لا يَكادُ يوجَدُ كِتابٌ لعالِمٍ مِن عُلماءِ المُسلِمينَ -له عَلاقةٌ بمَباحِثِ الإيمانِ مِن قريبٍ أو بعيدٍ- إلَّا ويَنقُلُ فيه التَّفويضَ عن السَّلفِ)!

ونِسبةُ التَّفويضِ مُطلقًا هكذا إلى السَّلفِ مِن الباطِلِ البَيِّنِ، وحكايةُ الإجماعِ على ذلك كذلك، وإنَّما يَنقُلُ الإجماعَ في هذا مَن ليس لَديه اطِّلاعٌ تامٌّ على كُتبِ السَّلفِ والعُلماءِ المُتقدِّمينَ -ولا سيَّما تلك الَّتي تَروي هذه الأقوالَ بالأسانيدِ-، وإنَّما يَعتمِدُ على المتأخِّرينَ في حكايةِ مِثلِ هذا المذهبِ والإجماعِ المزعومِ عليه!

و(مَذهَبُ السَّلَفِ يُعرَفُ بنقلِ أقوالِهم، أو نَقلِ مَن هو خبيرٌ بأقوالِهم، وما ذكَره من العبارةِ لم يُنقَلْ عن أحَدٍ من السَّلَفِ، ولا نقَلَه مَن يحكي إجماعَ السَّلَفِ... ولكِنْ ما ذكرَه هذا مِن مذهَبِ السَّلَفِ والتَّفويضِ إنَّما يَعرِضُ في كلامِ مَن ليس لهم خِبرةٌ بكلامِ السَّلَفِ رحمهم اللهُ، بل ولا بكلامِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلا يُميِّزونَ بيْنَ صحيحِ هذا وبيْنَ ضعيفِه، ولكنْ يَنقلونَ مَذهَبَ السَّلَفِ بحسَبِ اعتقادِهم، لا بأقوالِ السَّلَفِ وما بيَّنوه وقالوه في هذا البابِ، وأقوالُ السَّلَفِ كثيرةٌ مشهورةٌ في كتُبِ أهلِ الحديثِ والآثارِ الَّذين يَروونَها عنهم بالأسانيدِ المعروفةِ)([6]).

والسَّلفُ على إثباتِ المعاني، وتفويضِ الكَيفيَّةِ، كما قال الإمامُ مالكٌ وغيرُه: (الاستِواءُ معلومٌ، والكَيفُ مجهولٌ، والإيمانُ به واجبٌ، والسُّؤالُ عنه بِدعةٌ).

وقال أبو جعفرٍ التِّرمذيُّ حينَ سألَه سائلٌ عن حديثِ نُزولِ الرَّبِّ: فالنُّزولُ كيف هو يبقى فوقَه علوٌ؟ فقال: (النُّزولُ معقولٌ، والكَيفُ مجهولٌ، والإيمانُ به واجبٌ، والسُّؤالُ عنه بِدعةٌ)([7]).

ومَن نقَل عن السَّلفِ تفويضَهم للمعنى والكَيفَ جميعًا فقد تقوَّلَ عليهم وافترى.

وإنَّما قيل بالتَّفويضِ مِن قِبَلِ أهلِ البدعِ -كالجَهميَّةِ-، وجُعِل مَدرَجةً لإنكارِ الصِّفاتِ أو تأويلِها.

عن محمَّدِ بنِ الحسَنِ الشَّيْبانيِّ، قال: (قال حَمَّادُ بنُ أبي حنيفةَ: قُلْنا لهؤلاءِ: أرأَيْتُم قولَ الله عزَّ وجلَّ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]، وقولَه عزَّ وجلَّ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [البقرة: 210]؟ فهل يَجيءُ ربُّنا كما قال؟ وهل يجيءُ الملَكُ صَفًّا صَفًّا؟

قالوا: أمَّا الملائكةُ فيَجيئون صفًّا صفًّا، وأمَّا الرَّبُّ تعالى فإنَّا لا ندري ما عنى بذاك، ولا نَدري كيفيَّةَ جَيئتِه.

فقلتُ لهم: إنَّا لم نُكَلِّفْكُم أن تَعلَموا كيفَ جيئته، ولكنَّا نُكلِّفُكم أن تؤمِنوا بمَجيئِه، أرَأَيْتَ مَن أنكَر أنَّ الملَكَ يَجيءُ صَفًّا صَفًّا ما هو عندَكم؟ قالوا: كافرٌ مُكَذِّبٌ. قُلْنا: فكذلك إنْ أنكر أنَّ اللهَ سُبحانَه لا يَجيءُ فهو كافرٌ مُكذِّبٌ) ([8]).

و(قال إسحاقُ بنُ راهَوَيه: إنَّ اللهَ تبارَك وتعالى وصَف نفْسَه في كِتابِه بصِفاتٍ استغنى الخَلقُ كلُّهم عن أن يَصِفوه بغيرِ ما وصَف به نفْسَه...

وإنَّما يَلزَمُ المُسلِمَ أن يُثبِتَ معرفةَ صِفاتِ اللهِ بالاتِّباعِ والاستِسْلامِ كما جاء، فمَن جَهِل معرفةَ ذلك حتَّى يقولَ: إنَّما أصِفُ ما قال اللهُ ولا أدري ما معاني ذلك، حتَّى يُفضيَ إلى أن يقولَ بمعنى قولِ الجَهميَّةِ: يَدُه نِعمةٌ، ويَحتجَّ بقولِه: {أَيْدِينَا أَنْعَامًا} ونحو ذلك؛ فقد ضَلَّ سواءَ السَّبيلِ، هذا مَحضُ كلامِ الجَهميَّةِ، حيثُ يُؤمِنونَ بجميعِ ما وصَفْناه مِن صِفاتِ اللهِ، ثمَّ يُحَرِّفون معنَى الصِّفاتِ عن جِهَتِها الَّتي وصَفَ اللهُ بها نفْسَه)([9]).

ومِن المآخِذِ كذلك: زَعمُه أنَّ ابنَ تيميَّةَ وأتْباعَه هم أوَّلُ مَن رفَضوا نِسبةَ التَّفويضِ إلى السَّلفِ معَ إجماعِ العُلماءِ قَبْلَهم على أنَّ التَّفويضَ مذهبُ السَّلفِ!

وكيف يكونُ هذا الإجماعُ المزعومُ صحيحًا مع وُجودِ عشَراتِ النُّصوصِ عن السَّلفِ والعُلماءِ في الكلامِ على معاني الصِّفاتِ؟

وهاك واحدًا منها: قال أبو منصورٍ الأزهريُّ (تُوُفِّيَ: 370هـ): (السَّميعُ مِن صِفاتِ اللهِ وأسْمائِه، وهو الَّذي وَسِعَ سَمْعُه كلَّ شيءٍ...

والعَجَبُ مِن قَوْمٍ فَسَّروا السَّميعَ بمَعْنى المُسمِعِ؛ فِرارًا مِن وَصْفِ اللهِ بأنَّ له سَمْعًا!

وقدْ ذَكَرَ اللهُ الفِعلَ في غَيْرِ مَوضِعٍ مِن كِتابِه، فهو سَميعٌ ذو سَمْعٍ، بلا تَكْييفٍ ولا تَشْبيهٍ بالسَّميعِ مِن خَلْقِه، ولا سَمْعُه كسَمْعِ خَلْقِه، ونحن نَصِفُه بما وَصَفَ به نَفْسَه، بلا تَحْديدٍ ولا تَكْييفٍ)([10]).

وقال ابنُ قُتَيْبةَ (ت: 276هـ): (الواجبُ علينا أن نَنتهيَ في صِفاتِ اللهِ حيثُ انتهى في صِفَتِه، أو حيثُ انتهى رسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولا نُزيلَ اللَّفظَ عمَّا تَعرِفُه العربُ وتَضَعُه عليه، ونُمسِكَ عمَّا سِوى ذلك)([11]).

وما أكثَرَ ما لَهِجَ المصنِّفُ بتخطئةِ ابن تيميَّةَ وأتْباعِه، والادِّعاءِ عليهم بانفِرادِهم بالقولِ في أشياءَ لم يُسبَقوا إليها!

ومِن ذلك رميُ العُلماءِ المُخالِفينَ للأشاعِرةِ بالوُقوعِ في الانحرافاتِ الفِكريَّةِ والعَقَديَّةِ، ومخالفةِ القواعدِ العقليَّةِ، كقولِه (ص: 693): (ظنَّ ابنُ تيميَّةَ وأتْباعُه أنَّهم برَفضِهم للتَّأويلِ والتَّفويضِ ونحوِها مِن المذاهبِ المقبولةِ المَرْضيَّةِ إنَّما يُحافِظونَ على قُدسيَّةِ النَّصِّ وعِصمتِه مِن التَّحريفِ الباطنيِّ، فكان مِن نتيجةِ ذلك أن وقَعوا في فخِّ التَّشبيهِ والتَّجسيمِ، وغيرِها مِنَ الانحرافاتِ الفِكريَّةِ والعَقَديَّةِ، عدا عن مُخالَفةِ القواعدِ العقليَّةِ المُتَّفَقِ عليها بيْن العُقلاءِ أجمعينَ، ومُخالَفةِ المَنهَجِ السَّليمِ الَّذي مشى عليه سلَفُ هذه الأمَّةِ وخيرةُ رِجالِها)!

ومِن المآخِذِ كذلك: احتِجاجُه بما لا حُجَّةَ له فيه، بل بما يَعكِسُ عليه مُرادَه، كاحتِجاجِه (ص: 509) بأقوالِ الأئمَّةِ في نُصوصِ الصِّفاتِ -كقولِهم: (أَمِرُّوها كما جاءت بلا كَيفٍ)- على أنَّ المُرادَ بها مُطلَقُ التَّفويضِ، تفويض المعنى والكَيفِ جميعًا! مع أنَّ مُرادَ الأئمَّةِ تفويضُ الكَيفِ لا المعنى، وهذه العبارةُ مِثلُ قولِ الإمامِ مالكٍ الآنِفِ الذِّكرِ: (الاستِواءُ معلومٌ، والكيفُ مجهولٌ...).

وكذلك مُرادُ السَّلفِ بقولِهم: (أَمِرُّوها كما جاءت بلا تفسيرٍ) أحَدُ مَعْنيَينِ:

الأوَّلُ: أَمِرُّوها بِلا تَفسيرٍ مُبتَدَعٍ، كما يُفَسِّرُها الجَهْميَّةُ والمُعتَزِلةُ ومَن تأثَّرَ بهم كالأشاعِرةِ.

الثَّاني: أَمِرُّوها بِلا تَفسيرٍ للكَيْفيَّةِ؛ فمَعاني الصِّفاتِ مَعْلومةٌ لنا، وكَيْفيَّتُها مَجْهولةٌ لنا([12]).

ونحوُ هذا النُّصوصُ الَّتي نقلها (ص: 528) مُستَدِلًّا بها على أنَّ السَّلفَ يَنفُونَ الكَيفَ ولا يُثبِتونَه، خلافًا للصَّحيحِ مِن أنَّهم يُثبِتونَ الكَيفَ لكنْ يُفَوِّضونَه، فمَذهَبُ السَّلفِ تفويضُ الكَيفِ لا نَفْيُه.

وفي تضاعيفِ الكتابِ مُغالَطاتٌ أخرى كثيرةٌ، لا يَفي هذا المقالُ بتفصيلِ القولِ في نَقدِها جميعًا، كتَمجيدِه في عِلمِ الكلامِ المذمومِ وإعلائِه مِن شأنِه، وككَلامِه في غُضونِ مَبحَثِ تَعارُضِ العقلِ والنَّقلِ بيْن الأشاعِرةِ وشُبُهاتِ الخُصومِ، وكلامِه في مبحثِ تأويلِ المُتشابِهِ، وكزَعمِه (ص: 532) أنَّ إثباتَ الكَيفِ يَستلزِمُ التَّجسمَ، وادِّعائِه أنَّ التَّأويلَ والتَّفويضَ مِن المذاهبِ المقبولةِ... وغيرِ ذلك.

وفيما يلي ذِكرٌ لبعضِ النَّتائجِ الَّتي توَصَّل إليها -وفيها سُمٌّ مُختلطٌ بعسلٍ، وصوابٌ وخطأٌ-:

- إنَّ عِلمَ الكلامِ مِن أهَمِّ العُلومِ الإسلاميَّةِ، وأكثرُ الاعتِراضاتِ الَّتي أُثيرَتْ حَوْلَه إنَّما مَرَدُّها إلى سوءِ فَهمٍ لِمَقاصِدِ واضِعيه ومَناهِجِهم، أو تعصُّبٍ لا يقومُ على حُجَّةٍ صحيحةٍ مِن العقلِ أو النَّقلِ!

- المدرسةُ الأشعريَّةُ مدرسةٌ سُنِّيَّةٌ عريقةٌ، تمثِّلُ قلبَ التَّيَّارِ السُّنِّيِّ وعقلَه المُفَكِّرَ!

- يُقرِّرُ الأشاعرةُ أنَّ القرآنَ الكريمَ والسُّنَّةَ الثَّابتةَ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هُما المصدرُ الفَذُّ لتَلَقِّي العقائدِ الصَّحيحةِ، ومِن ثَمَّ يُقرِّرُ مُحَقِّقو الأشاعرةِ أنَّ الأدِلَّةَ النَّقليَّةَ الثَّابتةَ تُفيدُ اليقينَ، فهي كالأدِلَّةِ العقليَّةِ في هذا، وإنَّما يُعتمَدُ على الدَّليلِ العقليِّ وحدَه مع غيرِ المُقِرِّينَ بنُبوَّةِ سيِّدنا محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أمَّا المُسلِمُ فالأصلُ في خِطابِه هو الدَّليلُ النَّقليُّ.

- يَتميَّزُ منهجُ الاستِدْلالِ العقليِّ عندَ الأشاعرةِ بأنَّ أُصولَه مُستمَدَّةٌ مِن الوَحيِ، ومِن عمَلِ السَّلفِ الصَّالحِ، لكنَّه مع ذلك مَنهجٌ مَرِنٌ يَقبَلُ الإضافةَ والتَّطويرَ، ويَتَّسِعُ لِما يُبدِعُه العقلُ البشَريُّ مِن أدِلَّةٍ عَقليَّةٍ مَضبوطةٍ بقواعِدِ الاعتِقادِ والتَّشريعِ، ومِن هنا فقد شَهِدَ منهجُ الاستِدْلالِ عندَ الأشاعِرةِ عدَّةَ إضافاتٍ وتعديلاتٍ، ساهمَتْ في إكسابِه مَزيدًا مِن القُدرةِ على مواجَهةِ المُستجدَّاتِ الفِكريَّةِ والحضاريَّةِ.

- رغمَ أنَّ الأشاعرةَ أعطَوُا العقلَ دَورًا أساسيًّا في منظومةِ الاستِدْلالِ، وقاموا بدَحضِ الشُّبُهاتِ المُثارةِ حولَ الدَّليلِ العقليِّ، فإنَّهم يُقَرِّرونَ مع ذلك بأنَّ التَّشريعَ حقٌّ يَنفَرِدُ به اللهُ تعالى، وأنَّ العقلَ البشَريَّ ليس مؤهَّلًا لإصدارِ أحكامٍ بالتَّحسينِ والتَّقبيحِ -بمعنى التَّحليلِ والتَّحريمِ- على شَيءٍ مِن الأشياءِ، أو فِعلٍ مِن الأفعالِ؛ لذلك يُقرِّرُ الأشاعرةُ أنَّ الدَّعوةَ إلى فَصلِ الدِّينِ عن الدَّولةِ، وإعطاءِ حقِّ التَّشريعِ لغيرِ اللهِ تعالى جريمةٌ كُبرى، قد تَصِلُ إلى حدِّ الكُفرِ.

- يَرى الأشاعرةُ وُجوبَ الاهتِمامِ بكِلا نَوعَيِ الأدِلَّةِ العقليَّةِ والنَّقليَّةِ، وأنَّ الأصلَ في هذَينِ النَّوعَينِ مِن الأدِلَّةِ هو الاتِّفاقُ والتَّعاضُدُ، لا الاختِلافُ والتَّعارُضُ، ولكنْ مع ذلك لو فُرِض وُجودُ تَعارُضٍ بيْن شَيءٍ مِن تلك الأدِلَّةِ فإنَّ التَّرجيحَ يكونُ للدَّليلِ الأقوى، فيُرَجَّحُ الصَّحيحُ على الضَّعيفِ، والقَطعيُّ على الظَّنِّيِّ، سواءٌ مِن حيثُ الثُّبوتُ أو مِن حيثُ الدَّلالةُ.

- رجَّح مُتأخِّرو الأشاعرةِ وُجوبَ تأويلِ النُّصوصِ الَّتي يوهِمُ ظاهِرُها اتِّصافَ الذَّاتِ العَليَّةِ بشَيءٍ مِن صِفاتِ المُحْدَثاتِ، وذلك بحَمْلِها على مَعانٍ لائقةٍ بالله تعالى، مع كَونِها صحيحةً في لُغةِ العربِ واستِعْمالاتِهم!

- يَسعى الفِكرُ العلمانيُّ الحديثُ بخُطًى حَثيثةٍ إلى إيجادِ ما يَظُنُّها مُرتكَزاتٍ إسلاميَّةً لدَعواتِه اللَّادينيَّةِ، بحيثُ تكونُ تلك المُرتكزاتُ غِطاءً يُبرِّرُ ما يَدعو إليه هذا التَّيَّارُ مِن أفكارٍ غايتُها النِّهائيَّةُ: عَلمَنةُ الدِّينِ بشكلٍ كاملٍ.

فتارةً يُظهِرُ الفِكرُ العلمانيُّ نفْسَه على أنَّه امتِدادٌ للمُعتزِلةِ ومَشروعِهم العَقلانيِّ، جاعلًا مِن شُذوذاتِ هذه الفِرقةِ في مَسائلِ التَّحسينِ والتَّقبيحِ وخَلقِ القُرآنِ وغيرِها سُلَّمًا يوصلُ بظَنِّه إلى تاريخيَّةِ النَّصِّ وأَنْسَنةِ الوَحيِ، وُصولًا بعدَ ذلك إلى تقديمِ العقلِ البشَريِّ على النَّصِّ تقديمًا مُطلَقًا، بحيثُ لا تَبقى لنُصوصِ الكِتابِ والسُّنَّةِ أيَّةُ عِصمةٍ أو قُدسيَّةٍ.

وتارةً يَتَّخِذُ الفِكرُ العلمانيُّ مِن مَوضوعِ مَقاصِدِ الشَّريعةِ مَدخلًا مُلتويًا للقَضاءِ على قُدسيَّةِ النُّصوصِ والأحكامِ المُستنبَطةِ منها، مِن خِلالِ جعلِ المصالحِ المَوهومةِ للنَّاسِ حاكمًا على تلك النُّصوصِ، يَلوي أعناقَها، ويُخضِعُها للأهواءِ والآراءِ.

إلى غيرِ ذلك مِن المُناوَراتِ المكشوفةِ، الَّتي لا هدفَ لها إلَّا التَّخلُّصُ مِن رِبْقةِ التَّكليفِ بالكُلِّيَّةِ...

- مِن أخطَرِ الأفكارِ الَّتي يَدعو إليها العلمانيُّونَ الجُدُدُ: ما يُسمَّى بالقِراءاتِ الحَداثيَّةِ للنَّصِّ الدِّينيِّ، وهي قِراءاتٌ تَقومُ بمُجمَلِها على التَّسلُّحِ بأحدثِ النَّظريَّاتِ والفَلسفاتِ والأدواتِ التَّأويليَّةِ الغَربيَّةِ، وتسليطِها على القواعدِ العقليَّةِ الثَّابتةِ، بغرضِ خَلخَلَتِها وزَعزَعَتِها مِن جهةٍ، وعلى النَّصِّ الدِّينيِّ بغرَضِ التَّلاعُبِ به والقضاءِ على أيِّ احتِمالٍ لفَهمِه وتفسيرِه تفسيرًا مَوضوعيًّا صحيحًا مِن جِهةٍ أخرى.

- إنَّ إعمالَ ضوابطِ فَهمِ النُّصوصِ الَّتي وضَعها الأشاعِرةُ وبَثُّوها في عُلومِهم المُختلِفةِ -مِن أُصولِ دِينٍ، وأُصولِ فِقهٍ، ولُغةٍ، وبيانٍ، وإعرابٍ، وغيرِها- والتَّحاكُمَ إلى تلك الضَّوابطِ في مَسائلِ الاعتِقادِ والتَّشريعِ، كفيلٌ بأن يَحميَ العقيدةَ والشَّريعةَ معًا مِن تحريفِ الغالينَ، وانتِحالِ المُبطِلينَ، وتأويلِ الجاهِلينَ!

هكذا زعم المصنِّفُ، والحقُّ أنَّ الَّذي يتكفَّلُ بحِفظِ العقيدةِ والشَّريعةِ هو اتِّباعُ الكِتابِ والسُّنَّةِ بفَهمِ أعلَمِ النَّاسِ بهما، وهُمُ الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عنهم وأتْباعُهم مِن السَّلفِ الكرامِ، لا بفُهومِ الخلَفِ المُتبايِنةِ الملوَّثةِ بالثَّقافاتِ المسمومةِ والعُلومِ المذمومةِ، فمذهبُ السَّلفِ أسلَمُ وأعلَمُ وأحكَمُ، واللهُ أعلى وأعلَمُ.

وفي الختامِ: فإنَّ الكتابَ يَشتَمِلُ على حقٍّ وباطلٍ، وفيه اتِّهامٌ وتجريحٌ لكلِّ مُخالِفٍ؛ فيَنبغي الحذرُ منه.

 

([1]) يُنظر: ((الأشاعرة في ميزان أهل السنة)) للجاسم (ص: 254)، ((الأشاعرة والماتريدية في ميزان أهل السنة والجماعة)) إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدرر السنية (ص: 199). ويُنظر أيضًا: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/ 294 - 296)، ((الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة)) لابن القيم (2/ 422 - 424).

([2]) ((سنن الترمذي)) (3/ 41، 42). ويُنظر: ((الحجة في بيان المحجة)) للأصبهاني (2/ 129).

([3]) ((التبصير في معالم الدين)) (ص: 140، 142).

([4]) ((الإبانة عن أصول الديانة)) (ص: 136، 137).

([5]) ((النصيحة في صفات الرب جل وعلا)) (ص: 22-24).

([6]) يُنظر: ((بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية)) لابن تيمية (8/ 536 - 538).

([7]) أخرجه الذَّهَبيُّ في ((العلو للعلي الغفار)) (ص: 213، 214)، وقال: (قلتُ: صدَقَ فَقيهُ بغدادَ وعالِمُها في زمانِه؛ إذ السُّؤالُ عن النُّزولُ: ما هو؟ عِيٌّ؛ لأنَّه إنَّما يكونُ السُّؤالُ عن كَلمةٍ غريبةٍ في اللُّغةِ، وإلَّا فالنُّزولُ والكلامُ والسَّمعُ والبصرُ والعِلمُ والاستِواءُ عِباراتٌ جَليَّةٌ واضحةٌ للسَّامعِ، فإذا اتَّصَف بها مَن ليس كمِثْلِه شَيءٌ فالصِّفةُ تابِعةٌ للمَوصوفِ، وكَيفيَّةُ ذلك مجهولةٌ عندَ البشَرِ. وكان هذا التِّرمِذيُّ مِن بُحورِ العِلمِ، ومِن العُبَّادِ الوَرِعينَ).

([8]) ((عقيدة السلف وأصحاب الحديث)) لأبي عثمان الصابوني (ص: 63).

([9]) يُنظر: ((التسعينية)) لابن تيمية (2/ 422، 423).

([10]) ((تهذيب اللغة)) (2/ 74).

([11]) ((الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية)) (ص: 44).

([12]) يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (5/ 38 - 46).