التَّعريفُ بمَوضوعِ الكتابِ:
هذا الكتابُ فيه ردٌّ على كتابِ: «مفهومُ شِركِ العبادةِ. تحريرُه والرَّدُّ على غُلاةِ التَّكفيرِ بحُجَّةِ وُقوعِ المسلمينَ فيه» للأستاذِ الدُّكتورِ حاتمِ بنِ عارِفٍ العَونيِّ، والَّذي زعَم أنَّه يحتوي على الرَّدِّ القويِّ القاصمِ لتقريرِ أهلِ الغُلوِّ، وأنَّه قد وقع الخلطُ والتَّخبُّطُ عندَ أصحابِ التَّوسُّعِ في التَّكفيرِ بدَعوَى الوُقوعِ في شركِ العبادةِ!
وقد اشتمَل الكتابُ على عددٍ مِن الأُغلُوطاتِ والشُّبُهاتِ، معَ الوُقوعِ في التَّحريفِ لبعضِ النُّصوصِ الشَّرعيَّةِ، وتحريفِ بعضِ أقوالِ أهلِ العِلمِ، ولَمْزِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ -الدَّاعينَ إلى توحيدِ الله في جميعِ العِباداتِ- بأنَّهم غُلاةُ التَّكفيرِ، والخلطِ بَيْنَهم وبيْنَ مَن عُرِفوا بالإفسادِ مِن خَوارِجِ العصرِ...
فرأى الدُّكتورُ فَهدُ بنُ سُلَيمانَ بنِ إبراهيمَ الفهيد أن يرُدَّ عليه نصيحةً لله ولكِتابِه ولرَسولِه ولأئمَّةِ المسلمينَ وعامَّتِهم، ونُصحًا للكاتبِ على وجهِ الخُصوصِ ولِمَنِ اغتَرَّ بكلامِه.
عرضُ الكتابِ:
بعدَ المقدِّمةِ -الَّتي تَتضمَّنُ سببَ تأليفِ الكتابِ- صدَّر الدُّكتورُ الفهيدُ ردَّه بتَمهيدٍ اشتمَل على تقسيماتِ كتابِ «مفهوم شرك العبادة» إجمالًا، ثمَّ ثنَّى بذِكرِ أقسامِ التَّوحيدِ عندَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، ثمَّ بيانِ إيهامِ مصنِّفِ «مفهوم شرك العبادة» في إظهارِ حرصِه على عدمِ التَّكفيرِ.
ثمَّ شرَع الدُّكتورُ الفهيدُ في نقضِ الكتابِ:
فبدأ بما ورَد في تمهيد الكاتبِ مِن أغلاطٍ وشُبُهاتٍ؛ كإيهامِه القرَّاءَ حِرصَه على عدمِ التَّكفيرِ وأنَّ المردودَ عليهم يُكفِّرونَ المسلمينَ، وكقولِه: إنَّ كلَّ أهلِ الشَّهادتَينِ مُقِرُّونَ بالرُّبوبيَّةِ والأُلوهيَّةِ قطعًا، وكدَفعِه وَصْفَ الشِّركِ عمَّن وقَع فيه بالاحتمالاتِ المَوهومةِ، وكدَعوتِه لقِراءةِ كُتبِ غُلاةِ المُتصَوِّفةِ في الوقتِ الَّذي يُنفِّرُ فيه مِن دُعاةِ الحقِّ مِن عُلماءِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، وكوَضعِه شرطًا لوُقوعِ شركِ العبادةِ وهو: وُجودُ نقضٍ لتَوحيدِ الرُّبوبيَّةِ، فإذا لم يوجَدْ نقضٌ لتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ فإنَّه لم يُشركْ في العبادةِ! وهذا في الحقيقة هو زُبدةُ كتاب «مفهوم شرك العبادة» وخُلاصَتُه، وهو أنَّ العِبرةَ بتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ فحَسْبُ!
فضلًا عن اتِّهاماتٍ باطِلةٍ أطلقها؛ كاتِّهامِ مَن دعا بدعوةِ التَّوحيدِ بأنَّه على مَنهجِ الخوارِجِ، وبعضِ عباراتٍ نابيةٍ؛ كقولِه: «الظَّاهرُ أنِّي لن أكونَ سلفيًّا عندَهم حتَّى أكونَ تكفيريًّا! ألَا ساءَتْ تلكَ السَّلفيَّةُ الَّتي تُكفّرُ المسلمينَ وتَستبيحُ دماءَهم، وإنِّي لَأبرأُ منها بَراءتي مِن كلِّ ضَلالٍ!».
وقد انبرى الدُّكتور الفهيدُ للرَّدِّ على تلك الفِرَى، مع بيانِ مكانةِ أهلِ العلمِ، ومَوقِفِهم مِن الخَوارجِ والغُلاةِ ومَن تعرَّضَ للمُسلمينَ باستباحةِ الدِّماءِ وإثارةِ الفِتَنِ، وذكر نُبذة عن جُهودِهم.
ثمَّ دلَف الدُّكتورِ الفهيدُ بعدَ نقضِه للتَّمهيدِ إلى نقضِ مَباحِثِ الكِتابِ -وهي سبعةٌ- كالتَّالي:
1- نَقضُ شُبُهاتِ: «المبحَث الأوَّل: أصلُ مُشكِلةِ المكفِّرينَ بشِركِ العبادةِ وتوسُّعهم في إدخالِ ما ليس منه فيه».
2- نقضُ شُبُهاتِ: «المبحَث الثَّاني: وُجودُ صورةٍ مِن صُوَرِ الشِّركِ في الرُّبوبيَّةِ لا تُعارِضُ الإثباتَ المُجْمَلَ للرُّبوبيَّةِ يَقطَعُ بِبُطلانِ احتِجاجِهم بآياتِ إثباتِ المشرِكينَ المُجمَلِ للرُّبوبيَّةِ».
3- نقضُ شُبُهاتِ: «المبحَث الثَّالث: النُّصوصُ الدَّالَّةُ على أنَّ شِركَ المشرِكينَ كان في الرُّبوبيَّةِ مع شِركِهم في العِبادةِ».
4- نقضُ شُبُهاتِ: «المبحَث الرَّابع: أثَرُ تعريفِ (الإلهِ) في بيانِ تَلازُمِ الرُّبوبيَّةِ بالعِبادةِ».
5- نقضُ شُبُهاتِ: «المبحَث الخامس: أثَرُ تعريفِ العِبادةِ في بيانِ تَلازُمِ الرُّبوبيَّةِ بالعبادةِ».
6- نقضُ شُبُهاتِ: «المبحَث السَّادس: التَّحدِّي بذِكْرِ الفارِقِ بيْنَ العِبادةِ وغيرِها مِن أعمالِ القُلوبِ والجَوارِحِ».
7- نقضُ شُبُهاتِ: «المبحَث السَّابع: بعضُ أهَمِّ الاستِدلالاتِ الباطِلةِ الَّتي يَفرَحُ بها المُبْطِلونَ».
ثمَّ جاءتْ خاتمةٌ مُختصَرةٌ.
ونَجتزِئُ بعرضٍ سريعٍ لنَقضِ المبحَثِ الأوَّلِ، حيثُ ردَّ الدُّكتورُ الفهيدُ فيه زَعْمَ مؤلِّفِ كتابِ «مفهوم شرك العبادة» أنَّ أهلَ السُّنَّةِ توسَّعوا في التَّكفيرِ، مُبَيِّنًا أنَّه لا يجوزُ التَّطاوُلُ على أهلِ العِلمِ، ورَمْيُهم بأنَّهم يُكفِّرونَ بالباطِلِ، وبأنَّهم لا يَفهَمونَ المعانيَ...
ثمَّ بيَّن غلَط الكاتبِ في مسألةِ تعظيمِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ثمَّ فنَّد ما احتَجَّ به مِن شُبهةِ تعظيمِ الكعبةِ، ورَدَّ عليه تَسويتَه بيْن الأُلوهيَّةِ والرُّبوبيَّةِ بمُحْكَمِ الكِتابِ والسُّنَّةِ وما أَجمَعَ عليه عُلماءُ الأُمَّةِ، ونفَى ما اتَّهم به الكاتبُ العُلماءَ، كاتِّهامِه إيَّاهُم بالجهلِ، والتَّعجُّلِ... وأنَّ ثَمَّ خلَلًا في مَذهَبِهم في التَّكفيرِ!
وأوضَح الدُّكتورُ الفهيدُ أنَّه لا يوجَدُ خلَلٌ في مسائلِ الاعتقادِ عندَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ المُتمَسِّكينَ بالكتابِ والسُّنَّةِ، السَّائرينَ على نَهجِ سلَفِ الأمَّةِ، بل هُم على بَيِّنةٍ وبصيرةٍ، وإنَّما الخلَلُ في مُخالَفةِ الكتابِ والسُّنَّةِ والإعراضِ عنهما، وذكَر أنَّ الكاتبَ مُخطئٌ في كلامِه في مسائلِ التَّكفيرِ، وأنَّه غلِط في تقريرِ تلك المسائلِ أغلاطًا مُتعدِّدةً، وانحرَف عن جادَّةِ أهلِ العِلمِ وعن سَواءِ السَّبيلِ، وساق أسماءَ بعضِ أكابرِ أهل الضَّلالِ ممَّن وافَقهم الكاتبُ -كابنِ البكريِّ، وعبدِ الوهَّابِ الشَّعْرانيِّ، وابنِ فيروز، وابنِ سند، وداودَ بنِ جِرْجِيس البغداديِّ، وأحمد زَيْني دَحْلان، والحدَّاد، والقضاعيِّ، والدِّجْويِّ، والغُماريِّ، ومحمَّد علوي مالكي، وحسن السَّقَّاف، بل حتَّى الخُميني وغيره من الرَّافضةِ عُبَّادِ القُبورِ وعُبَّادِ الأئمَّةِ-، وأورد بعضَ النُّقولِ الَّتي يُعلَمُ منها التَّوافُقُ بيْن الكاتبِ وبيْن أصحابِها.
ثمَّ واصَل الفهيدُ بيانَ أغلاطِ الكاتبِ وافتراءَاتِه، وقلبِه للمعاني وشُبُهاتِه، مع الرَّدِّ عليها بالبَراهينِ والأدِلَّةِ، والنُّقولِ عن الأئمَّةِ.
ونكتفي هاهنا بذكرِ واحدةٍ مِن تلك الأغلاطِ الَّتي قالها الكاتبُ، مع نَقضِها، وهي: «... أنَّ المشرِكين كانوا أصحابَ ظَنٍّ وتخرُّصٍ فيما يَتعلَّقُ باللهِ تعالى... فمَن يَثِق بخبرِ المشرِكين عن أنفُسِهم في دَعواهُم الإقرارَ بالرُّبوبيَّةِ قد وثِق بكَذَّابٍ جَهولٍ، أو شَكَّاكٍ مُرتابٍ لا يَثبُتُ على يقينٍ. والمصيبةُ أنَّه قد اعتُمِدَ على هذا الإقرارِ الكاذبِ الجاهلِ في تكفيرِ أهلِ الشَّهادتَينِ!!».
ومآلُ هذا الكلامِ ومُؤَدَّاهُ: ردٌّ لخبَرِ اللهِ العليمِ الخبيرِ عن هؤلاءِ المشرِكينَ! والَّذي يؤمنُ بكلامِ اللهِ عزَّ وجلَّ يَعلَمُ أنَّ اللهَ بيْن أقوالَهم، وما تُكِنُّه صُدورُهم، لا يَشُكُّ في خبَرِ اللهِ عنهم.
وأمَّا زَعْمُ الكاتبِ أنَّه لا يوثَقُ بخبرِ المشرِكينَ فإنَّ زَعْمَه هذا يُقابَلُ بالآياتِ الواضِحةِ، فالَّذي أخبَرَ عنهم هو الَّذي يَعلَمُ السِّرَّ وأخفى، ومَن صدَّق بكلامِ الله تعالى صدَّق بأنَّ هذا الكلامَ قد قاله الكفَّارُ والمشرِكون.
وليس الوُثوقُ هنا مَصدَرُه مِن كلامِ المشرِكينَ استِقْلالًا وانفِرادًا، وإنَّما نَثِقُ بخبرِ اللهِ تعالى عن أحوالِهم وعقائدِهم، مِن مِثلِ قولِه تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 61 - 63]، وقولِه عزَّ وجلَّ: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84 - 89]، وقولِه سُبحانَه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [لقمان: 25]، وقولِه جلَّ ثناؤُه: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس: 31]...
وهذا الغلَطُ -وأمثالُه- ممَّا يُبَرهِنُ على أنَّه لا يَنبغي أن يوثَقَ بفَهمِ قائلِه، ويلزمُه على هذا أن يُصحِّحَ اعتراضَ كلِّ ضالٍّ مُكذِّبٍ في كلِّ موضعٍ مِن القُرآنِ الكريمِ على أنَّه عقيدةُ المشرِكين؛ فيقول المُكَذِّبُ: أنا لا أثِقُ بقولِهم، وليس هذا بمُعتقَدِهم!
وعلى هذا التَّقديرِ فما الفائدةُ مِن ذِكرِ أقوالِ الكفَّارِ والمشرِكينَ واليهودِ والنَّصارى في القُرآنِ إذا كانت كلُّها أقوالًا لا يَعتَقِدونَها؟!
***
وختامًا فإنَّ هذا النَّقضَ -كما قال مُقَرِّظُه معالي الشَّيخِ صالحِ بنِ عبدِ العزيزِ آل الشَّيخ- فيه تتبُّعٌ كثيرٌ عظيمٌ لأقوالِ الصَّحابةِ وأهلِ العِلمِ مِن بَعدِهم في تفسيرِ آياتِ التَّوحيدِ والعقيدةِ الَّتي تُبيِّنُ حقَّ اللهِ عزَّ وجلَّ وحقَّ رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وفيه تتبُّعٌ كبيرٌ واسعٌ لفَهمِ الصَّحابةِ رضيَ الله عنهم ومَن تبِعهم بإحسانٍ لحالِ شِرْكِ أعداءِ الرُّسُلِ الَّذين اتَّخَذوا مِن دونِ الله ومعَ اللهِ أولياءَ يَطلُبون منهم النَّفعَ ودَفْعَ الضُّرِّ في الدُّنيا والآخرةِ، لِيُقَرِّبوهم إلى اللهِ بزَعمِهم، وفيه معرفةٌ وعِلمٌ واسعٌ بأقوالِ أهلِ العلمِ وأئمَّةِ الدِّينِ في مسائلِ التَّوحيدِ: الرُّبوبيَّة، والأُلوهيَّة، والأسماء والصِّفات.
وهو دقيقُ الإيضاحِ للمسائلِ في التَّوحيدِ والشِّركِ ووَسائلِه، وفي السُّنَّةِ والبدعةِ ووسائلِها، يُثَنِّي الرُّدودَ والإيرادِ لِيَكونَ أبلَغَ في تقريرِ المسائلِ، واستِحضارِ الذِّهنِ لِما فات.