وأَعفَيتُ لِحْيتي
د. أحمد بن عبد الرحمن العمر
استشاري طب الأطفال (أمراض معدية)
في أوائلِ القرنِ التَّاسِعَ عَشَرَ أوصت بعضُ المجلَّاتِ الطِّبِّيَّةِ الأمريكيَّةِ بإعفاءِ اللِّحْية؛ لأنَّها تُساهِمُ في الوقايةِ من الأوبئةِ التي كان يُعتقَدُ أنَّها تنتقِلُ عَبْرَ ذراتِ الغُبارِ قبل اكتشافِ الميكروبات، وصارت اللِّحْيةُ ذاتَ قيمةٍ صِحِّية تضافُ لقيمتها الاجتماعيَّةِ آنذاك، لكن بمجرَّدِ اكتشافِ الميكروباتِ -وبالخصوصِ ميكروبُ الدَّرَن- انتابت حالةٌ مِنَ الذُّعرِ القياداتِ الصِّحِّيةَ في مدينةِ نيويورك؛ فأصدرت حزمةً من الإجراءاتِ الوقائيةِ (التي ثبت فيما بعد عدمُ صِحَّتِها وجَدواها)، ومن ذلك منعُ المُلْتَحينَ مِن حَلبِ الأبقارِ التي يتمُّ توزيعُ وبيعُ حليبِها، ومنعُهم من توزيعِ الحليبِ، واعتُبِرت اللِّحْيةُ حامِلًا ملائِمًا للميكروب، وكانوا يعتقدون أنَّ الدَّليلَ العِلميَّ يدعَمُ ذلك، فترسَّخ الانطباعُ السَّلبيُّ حولَ اللِّحْيةِ في المجتمعِ، وصار حلقُ اللِّحْية يعني "نظافةً وصِحَّةً أفضل!".
مضى الزَّمنُ وتبيَّن خطأُ ذلك الاعتقادِ؛ فالدراساتُ الحديثةُ أثبتت أنَّ اللِّحْيةَ لا تزيدُ من فرصةِ نَقلِ الميكروباتِ، بل إنَّ بعض الدِّراساتِ أفادت العكسَ؛ فحلقُ اللِّحْية يتركُ خُدوشًا صغيرةَ الحجمِ في بشرةِ الوَجهِ، وتلك الخدوشُ توفِّرُ بيئةً ملائمةً لنموِّ الجراثيمِ. (المصدر)[1]
(إعفاء اللِّحْية أمرٌ شخصيٌّ، وقد يكون له منافِعُ طبيَّة، كتقليل دخولِ مثيراتِ الحساسية العالقة في الهواءِ وذراتِ الغُبارِ إلى الجهازِ التنفسيِّ، وقد يكون له أضرارٌ محتَمَلةٌ، لكن الأضرار المحتَمَلة تخِفُّ بالمحافظةِ على نظافةِ اللِّحْية)
الدكتور ألبرت ريزو، المدير الطبي لجمعية الرئة الأمريكية. (المصدر)[2]
المسلمُ الملتحي الذي يواظِبُ على الوضوءِ الشَّرعي المتكرِّرِ يوميًّا، والمشتَمِلِ على غَسلِ الوجهِ، وتخليلِ اللِّحْيةِ؛ يتمتعُ بالنظافةِ التي يطمَحُ إليها الدكتورُ ريزو وزيادة.
كانت اللِّحْيةُ ذاتَ قيمةٍ اجتماعيَّةٍ في معظَمِ أنحاءِ العالمِ على مدارِ قُرونٍ، حتى ظهرت تلك الهستيريا مع اكتشافِ ميكروب الدَّرَن، وصارت اللِّحْيةُ كبشَ فِداءٍ، فانتكست فِطرةُ اللِّحْية، ومع ثبوتِ خطأِ المعلومةِ لم ترجِعْ فِطرةُ اللِّحْيةِ كما كانت؛ لأنَّ حَلْقَها ارتبط في أذهانِ النَّاسِ بالنظافةِ والوسامةِ وحُسنِ المظهَرِ، خُصوصًا بعد ثورةِ الفَنِّ والسينما!
زاد العبءُ على المتديِّنين واشتدَّت غُربتُهم، وصارت اللِّحْيةُ مُتندَّرًا وأُضحوكةً في عصر طغيانِ الاشتراكيَّةِ والعلمانيَّةِ، فاضطرَّ بعضُ المُصلِحين لحَلقِ لِحاهم أو تخفيفِها تخفيفًا شديدًا؛ هروبًا من المضايقاتِ، وحِفاظًا على وجودِهم في المجتَمَعِ، وممارسة الإصلاحِ حَسَبَ الطاقةِ، إلَّا أنَّ البعضَ الآخرَ اختار لزومَ السُّنَّة والحِفاظَ على الفطرةِ، فحَفِظَ اللهُ بهم هذه الشَّعيرةَ في العالَمِ الإسلاميِّ، جزاهم اللهُ عنَّا وعن الإسلام خيرًا.
رجعت اللِّحْيةُ بعد 2010 في شكل "موضة" بأشكالٍ وقصَّاتٍ مختَلِفةٍ على وجوهِ بَعضِ مشاهيرِ الفَنِّ والرِّياضةِ!
ثقة أولئك المشاهيرِ بأنفُسِهم جعلت الشَّبابَ يُقَلِّدونَهم، وصارت اللِّحْيةُ موضةً مألوفةً، وقد كان المشاهيرُ من الصَّالحين أَولى بتلك الثِّقةِ وأجدَرُ بالحفاظِ على سُنَّةِ اللِّحْيةِ.
*****
أخي الحليق.. أنا لا أريدُ الإساءةَ إليك ومُضايقَتَك، أعلَمُ أنَّك تحِبُّ الخيرَ، ولديك أعمالٌ صالحةٌ، ولا أدَّعي أني أفضلُ منك لأني مُلتَحٍ.. فقط أردتُ تذكيرَك أنَّ حبيبَك محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمرك بإعفائها، وهو لا يأمُرُ إلَّا بخيرِ!
﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾ هذه الجملةُ عظيمةُ الشَّأنِ جليلةُ القَدرِ، للمؤمِنِ أن يحلِفَ باللهِ ولا يحنث على أنَّ من أطاع رسولَ اللهِ في أمْرِه ونهْيِه لن يضِلَّ أبدًا ولن يشقى، فالهدايةُ إلى كُلِّ خيرٍ كامِنةٌ في طاعةِ رَسولِ الله ﷺ. (أيسر التفاسير)
وقد أمر النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في عدةِ أحاديثَ: "أَعْفوا اللِّحَى"، "أَرْخُوا اللِّحَى"، "وفِّروا اللِّحَى".
واللِّحْيةُ سُنَّةُ المُرسَلين عمومًا، والصَّحابة والصالحين مِن قَبْلِنا.
{قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي} [طه ٩٤]
"... وبذلك يتبيَّنُ لك أنَّ إعفاءَ اللِّحْيةِ سَمْتُ الرُّسُلِ الكرامِ الذين أمرَنا اللهُ تعالى بالاقتداء بهم؛ فقد قال تعالى: بعد أن ذكَرَ عددًا من الأنبياءِ منهم هارون: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}". (التفسير الوسيط، سيد طنطاوي).
كان قيسُ بنُ سَعدِ بنِ عُبادةَ رَضِيَ اللهُ عنهما لا يَنبُتُ في وَجهِه الشَّعرُ، وكانت الأنصارُ تقول: لوَدِدْنا أن نشتريَ لقَيسِ بنِ سَعدٍ لِحيةً بأموالِنا!
*****
في أوائِل العِشرينيَّات من عُمري، أقبَلْتُ ذاتَ مرَّةٍ على إشارةِ مرورٍ بعد صلاةِ الفَجرِ، وكان الشارعُ خاليًا، فحدَّثَتني نفسي بتجاوُزِ الإشارةِ، وتجاوَزْتُها، ولحُسنِ حظي كانت سيارةُ المرورِ خلفي وأنا لا أشعُرُ! أسرع شُرطيُّ المرورِ -جزاه الله خيرًا- بسيارتِه ليتجاوَزَني ويوقِفَني، فلمَّا صار بجانبي التفتَ إليَّ ورأى لحيتي، فأشار بيَدِه على ذَقنِه معاتِبًا وتجاوَزَني!
إلى اليومِ كلَّما حدَّثَتني نفسي بتجاوُزِ نظامٍ أو ارتكابِ خطأٍ، نهَتْني لحيتي، وتذكَّرتُ إشارةَ الشُّرطيِّ بعد ثلاثين سنةً من ذلك الموقِفِ!
صدق بعضُ الدُّعاةِ حينَ قال: كنتُ أُرَبِّي لِحْيتي، والآن لِحْيتي تُرَبِّيني!
مَشهدٌ مألوفٌ: أكونُ في العيادةِ، تأتي الأمُّ بطِفْلِها، فإن كانت متبرِّجةً ورأت هيئتي ولِحْيتي بادرَت مشكورةً لتخفيفِ تبَرُّجِها وتغطيةِ زينتِها التي يجِبُ تغطِيَتُها.
اللِّحْيةُ تأمُرُ بالمعروفِ وتنهى عن المُنَكرِ في صَمتٍ مَهيبٍ، اللِّحْيةُ تحافِظُ على صاحِبِها وتقَلِّلُ تعَرُّضَه للفِتَنِ.
*****
قالت لي إحدى الصَّغيراتِ بكُلِّ براءةٍ: "لحيَتُك كبيرةٌ!"، تبسمتُ وقُلتُ لها "النبيُّ محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لحيتُه كثيرةٌ، تحبِّينَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ "وبكُلِّ براءةٍ هزَّت رأسَها مبتَسِمةً تشيرُ بنعم.
جاء في صِفةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "وكان كثيرَ شَعرِ اللِّحْيةِ". رواه مسلِمٌ.
*****
قال لي أحدُ النَّاصِحينَ: لو خفَّفْتَ لِحْيَتَك بحيث يتقبَّلُك النَّاسُ فيكونُ تأثيرُك الدَّعَويُّ أكثَرَ!
وأقولُ: اللِّحْيةُ شعيرةٌ من شعائرِ الدِّينِ وسُنَّةٌ مِن سُنَنِ الفِطرةِ، وأخلاقُ المُلتحي هي التي تحبِّبُ النَّاسَ فيه وفي لحيتِه، أو تُنَفِّرُهم.
"..وحين يكثُرُ الشَّرُّ والفَسادُ، وتظهَرُ البِدَعُ والفِتَنُ، يكونُ أجرُ التمَسُّكِ بالسُّنَّةِ أعظَمَ، ومنزلةُ أصحابِ السُّنَّةِ أعلى وأكرَمَ؛ فإنَّهم يعيشون غُربةً بما يحمِلون من نورٍ وَسطَ ذلك الظَّلامِ، وبسبَبِ ما يَسْعَونَ من إصلاحِ ما أفسدَ النَّاسُ.
يقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
(إِنَّ الإِسلامَ بَدَأَ غَرِيبًا، وسيعودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلغُرَباءِ. قِيلَ: مَن هُم يَا رَسولَ اللَّهِ؟ قال: الذِينَ يَصلُحونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ) أخرجه أبو عمرو الداني في "السنن الواردة في الفتن" (1/25) من حديث ابن مسعود، وصحَّحه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (1273)، وأصل الحديث في صحيح مسلم (145)
ويقول النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (إِنَّ مِنْ وَرائِكم أَيَّامَ الصَّبْر، الصَّبْرُ فِيهِ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ،.. قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟! قال: أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ) رواه أبو داود (4341)، والترمذي (3058)، وقال : حديث حسن. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (494)، وفي بعض روايات الحديث قال: (هم الذين يُحْيُون سُنَّتي ويُعَلِّمونَها النَّاسَ)". (موقع الإسلام سؤال وجواب).
*****
ستذهبُ الليلةَ لحُضورِ مناسبةٍ أو للظُّهورِ في وسيلةٍ إعلاميَّةٍ، ستحَدِّثُك نفسُك:
عُمرُك سيبدو أكبَرَ بسبب اللِّحْية! ومظهرُك أمامَ النَّاسِ سيكونُ أقَلَّ قَبولًا!
قل لها: ماذا لو كنتُ سأقابِلُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟
*****
لحيتي تُظهِرُ للنَّاسِ أني أكثَرُ صلاحًا من واقعي الفِعليِّ، فأنا مقصِّرٌ وعندي أخطاءٌ!
تظُنُّ أنَّ حالَك ستتحسَّنُ إذا حلَقْتَها؟ أم أنَّك ستضيفُ خطأً آخَرَ للأخطاءِ السَّابقةِ، وسيَجُرُّك حَلْقُها للمزيدِ من التقصيرِ والحُضورِ في مجالِسَ لن تحضُرَها بلِحْيَتِك؟
*****
الإيمانُ جوهرٌ، أما اللِّحْيةُ فمُجَرَّدُ مَظهَرٍ وشَكليَّاتٍ!
ماذا عن لباسِك وهندامِك، أليست مَظهَرًا وشَكليَّاتٍ؟ ألا تهتَمُّ بها؟
بلى! طبيعيٌّ ومُستحسَنٌ جِدًّا أن تهتَمَّ بمَظهِرك ولباسِك؛ لأنَّها جزءٌ من شخصيَّتِك، وإظهارٌ لنِعمةِ اللهِ عليك. كذلك اللِّحْيةُ، جزءٌ من شخصيَّةِ المؤمِنِ، وإظهارٌ لنعمةِ مُتابعةِ هَدْيِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
*****
إعفاءُ اللِّحْيةِ مسألةٌ خلافيَّةٌ، فلا تستحِقُّ كُلَّ هذا الاهتمامِ!
إعفاؤها وإكرامُها والعنايةُ بها محلُّ اتفاقٍ بين علماءِ الإسلامِ، وأمَّا حَلقُها بالكامِلِ فحرامٌ عند جماهيرِ العُلَماءِ، بل حكى بعضُ الأئمَّةِ أنَّ التحريمَ بالإجماعِ، والتخفيفَ منها مسألةٌ خلافيَّةٌ: حرامٌ أم مكروهٌ؟
*****
اللَّهُمَّ اغفِرْ لي ولوالِدَيَّ وللمُؤمِنينَ والمُؤمِناتِ