قراءة وتعريف

البَلاغةُ في ضَوءِ مَذهبِ السَّلفِ في الاعتِقادِ (قراءة وتعريف)
book
عبد المُحِسن بن عبد العزيز العَسْكر
عنوان الكِتاب: البَلاغةُ في ضَوءِ مَذهبِ السَّلفِ في الاعتِقادِ
اسم المؤلف: د. عبد المُحِسن بن عبد العزيز العَسْكر
الناشر: مكتبة دار المنهاج - الرياض
سنة الطبع: 1435- 2014
عدد الصفحات: 110

التَّعريفُ بمَوضوعِ الكتابِ:

كثُر الحديثُ عن مُؤلَّفاتِ البلاغيِّينَ مِن جِهةِ ما تَحمِلُه مِن مَذاهبَ عَقَديَّةٍ مُخالِفةٍ لمنْهجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ أتْباعِ طَريقةِ السَّلفِ الصالِحِ؛ فجاء هذا الكِتابُ مُستقْرِئًا لأشهَرِ تلك المؤلَّفاتِ في الجُملةِ، وكاشفًا عن العَلاقةِ بيْن المذهَبِ العِلميِّ والتَّوجُّهِ الفِكريِّ لَدى المُصنِّفينَ في البلاغةِ، ومُبيِّنًا ما وُجِد عِندَهم مِن انحرافٍ وتَنكُّبٍ عن طَريقةِ السَّلفِ، وما كان وراءَ ذلك مِن أسبابٍ وبَواعِثَ، ثمَّ خلَصَ في إثرِ ذلك كلِّه إلى بَيانِ الائتلافِ التَّامِّ بيْن عِلمِ البلاغةِ والعَقيدةِ السَّلَفيَّةِ، وأنَّ الأوَّلَ خادِمٌ للثَّاني، وجُنديٌّ أمِينٌ مِن جُندِه.

وقدْ قسَّم المؤلِّفُ البحْثَ إلى مُقدِّمةٍ، وعُنواناتٍ رَئيسةٍ تَناوَل تحْتَها مَسائِلَ البحثِ:

تَحدَّث تحْتَ العُنوانِ الأوَّلِ عن (البلاغةِ وأنَّها مِن عُلومِ أهْلِ السُّنةِ)، وقال: إنَّ هذا العِلمَ اكتُشِف اكتِشافًا، واستُنبِطَ مِن الكلامِ العرَبيِّ الفصيحِ، كما استُنْبِط النَّحْوُ مِن نَثْرِهم، والعَروضُ مِن نظْمِهم. وأشار إلى أنَّ أبا إسحاقَ الشَّاطبيَّ يَرى هو وجَماعةٌ أنَّ سِيبوَيْهِ -رَحِمه اللهُ تعالَى- هو مُستنبِطُ عِلمِ البِلاغةِ ومُؤسِّسُه؛ فإنَّه وإنْ تكلَّمَ في النَّحْوِ فقدْ نبَّهَ في كِتابِه على مَقاصدِ العرَبِ وأنحاءِ تَصرُّفاتِها في مَعانِيها وألْفاظِها، وكشَفَ أسرارَ التَّراكيبِ، وبيَّن عِلَلَها، وهذه مِن أساسيَّاتِ عِلمِ البَلاغةِ.

وإذا ثبَت أنَّ كِتابَ سِيبوَيْهِ قدْ ضمَّ بيْن دَفَّتَيه أُصولَ عِلمِ البلاغةِ، كما رآهُ الشَّاطبيُّ وغيرُه؛ سقَطَ ما يُدَّعى مِن أنَّ المعتزِلةَ والمتكلِّمين مِن الأشاعِرةِ والماتُرديَّةِ همْ مُكتشِفو البلاغةِ، والواضِعون لأُسَسِها؛ بدَعْوى أنَّهم مُحتاجون إلى البلاغةِ في الدَّعوةِ إلى مَذاهبِهم، وإقامةِ الحُجَجِ على صِحَّتِها، كما صرَّحَ به غيْرُ واحدٍ مِن المتأخِّرين، وهو غيْرُ صَحيحٍ، وفيه مُصادَرةٌ لجُهودِ أهْلِ السُّنةِ، وممَّا يَدْحَضُ هذا الزَّعمَ: أنَّ مِن المقطوعِ به أنَّ كِتابَ سِيبوَيْهِ هو أوَّلُ مُصنَّفٍ في العربيَّةِ يَصِلُ إلينا، وقدْ وُصِفَ سِيبوَيْهِ بأنَّه (كان سُنِّيًّا على مَذهبِ السُّنةِ)، كما أنَّه أخَذَ عُلومَه مِن عُلماءَ كِبارٍ مِن أهْلِ السُّنةِ؛ كالخَليلِ بنِ أحمَدَ (ت170هـ)، ويُونسَ بنِ حَبيبٍ (ت182هـ)، وأبي عمْرِو بنِ العَلاءِ (ت154هـ)، ذلك قبْلَ أنْ يكونَ للاعتزالِ شَوكةٌ، وقبْلَ أنْ يَكونوا عِصابةً ذاتَ شأنٍ، اللَّهُمَّ إلَّا ما يُذكَرُ عن واصلِ بنِ عَطاءٍ أوَّلِ المُعتزِلةِ (ت131)، وكان صاحبَ مُناظَراتٍ، ولم تكُنْ له فَضيلةٌ في تَأسيسِ أيِّ عِلمٍ مِن العُلومِ.

وتحْتَ العُنوانِ الثَّاني (أصالةُ البَلاغةِ) تحدَّثَ عن أنَّه في مَطالِعِ هذا العَصرِ الحديثِ اتُّهِمَت البلاغةُ -كَذِبًا وزُورًا- بأنَّها مُقتبَسةٌ مِن العَقلِ والفِكرِ اليُونانيِّ؛ فمعَ كوْنِ هذا العلمِ عَرَبيَّ النَّشأةِ والجُذورِ، إلَّا أنَّ قوْمًا استَكْثَروه على العرَبِ وعلى لُغةِ العرَبِ؛ فسَلَبوا المُسلِمينَ -بدَعْواهم تلك- فَضيلةَ تأْسيسِ هذا العِلمِ، فادَّعَوا أنَّه يُونانيُّ الأصْلِ، وأنَّ المسلمينَ الأوائلَ -كابنِ المعْتَزِّ (ت 296هـ) وغيرِه- أخَذوه عن أرِسْطو، وتَجلَّى ذلك الأخذُ -على حدِّ زَعْمِهم- عندَ عبْدِ القاهرِ الجُرْجانيِّ أكثَرَ مِن غيْرِه؛ إذ اعتمَدَ في تَأسيسِ (نَظريةِ النَّظْمِ) على ما سطَّره أرِسْطو في كِتابَيه: الخَطابةُ والشِّعرُ، ثمَّ طبَّقَ ما فيهما على آيِ القرآنِ الكريمِ، وعلى التُّراثِ العربيِّ بعامَّةٍ! ثم أشار المؤلِّفَ إلى أنَّ هذا قوْلٌ باطلٌ مِن أصلِه، عارٍ عن الصِّحَّةِ والدَّليلِ، ولم يَقُلْ به إلَّا مَن تَعصَّبَ ضِدَّ المُسلِمينَ، وضاقَ صَدْرُه بفَضائلِهم؛ مِن المسْتشْرِقين ومَن سارَ على خُطاهم مِن أبْناءِ جِلْدتِنا ممَّن تَقلَّدَ مَذاهبَهم، وقال بأقوالِهِم!

ثم جَعَل العُنوانَ الثَّالثَ للحديثِ عن (الانْحرافِ العَقَدِيِّ في التَّأليفِ البَلاغيِّ)

وأوضَحَ فيه أنَّه مِن البَدَهيَّاتِ في تاريخِ عِلمِ البَلاغةِ: أنَّ طائفةً مِن حمَلَتِه والمؤلِّفين فيه، كانوا يَنتسِبون إلى مَذاهبَ كَلاميةٍ حادِثةٍ في تاريخِ الإسلامِ، ناكبةٍ عن مَذهَبِ السَّلفِ؛ فكان فيهم المُعتزِليُّ، والأشعريُّ، والماتُريديُّ، والمُرْجئيُّ، والصُّوفيُّ، والرافضيُّ، والمتفلْسِفُ، وغيْرُهم، وقدِ اجتهَدَ هؤلاء في أنْ يُسخِّروا البلاغةَ لخِدمةِ مُعتقَداتِهم، فأدخَلوا في كُتبِ البلاغةِ كثيرًا مِن تَأويلاتِهم، واجتَلَبوا الآياتِ والأحاديثَ التي يُخالِفُ ظاهرُها مَذاهِبَهم، وجعَلوها أمثلةً لِما قعَّدوه، وحمَلوها على مَعانٍ تُخالِفُ ظاهرَها، تَرجِعُ إلى مُصطلحاتِهم في عُلومِ البلاغةِ الثَّلاثةِ: المَعاني، والبَيانِ، والبَديعِ، وكذلك تَأوَّلوا الآياتِ والأحاديثَ التي هي حُجَّةٌ عليهم، ومُبطِلةٌ لأقوالِهِم، ساقُوها ليَصرِفُوها عن ظَواهرِها بالتَّأويلاتِ البَعيدةِ والمَجازاتِ المتعسِّفةِ، فخالَفوا بذلك طَريقةَ الصَّحابةِ والتَّابِعين لهم بإحسانٍ، وذكَرَ مِن جُملةِ أولئك:

عبْدَ القاهرِ الجُرْجانيَّ -رَحِمه الله- المؤسِّسَ الحقيقيَّ للبلاغةِ في طَوْرِها الأخيرِ، وقدْ ذَكَروا أنَّه كان (مُتكلِّمًا على طَريقةِ أبي الحسَنِ الأشعريِّ)، و(مِن أعْيانِ الأشاعرةِ)، وأنَّه (مُتمكِّنٌ في مَذهَبِه الأشعريِّ)، كما ذكَروا أنَّه (أوَّلُ مَن مهَّدَ للأشاعرةِ نَظَريةً في النَّظْمِ والبيانِ، وأحسَنُ مَن طبَّقَ أُصولَ المذْهبِ الأشعريِّ في بابِ إعجازِ القُرآنِ)، وأنَّه (سخَّر أبحاثَهُ البلاغيَّةَ في نَظَريَّتهِ في النَّظْمِ لخِدمةِ عَقيدتِه الأشْعريَّةِ).

فخْرَ الدِّينِ الرَّازيَّ صاحبَ (نِهايةِ الإيجازِ في دِرايةِ الإعجازِ): الذي لخَّصَ فيه كِتابَيْ عبدِ القاهرِ (دَلائل الإعجاز - وأسرار البَلاغة)، وهو أشعريٌّ كَبيرٌ، بلْ كان (مِن أئمَّةِ الأشاعرةِ الذين مَزَجوا المذْهبَ الأشعريَّ بالفلْسفةِ والاعتزالِ)، وقدِ استعانَ بالبلاغةِ في تَأويلاتِه في كِتابِه هذا، وفي (تَفسيرِه الكبيرِ)، وفي (أساسِ التَّقديسِ)، وفي كَثيرٍ مِن مُصنَّفاتِه.

السَّكَّاكيَّ صاحبَ (مِفْتاحِ العُلومِ): وكان مُعتزِليًّا مُصرِّحًا، وكان يَستثمِرُ البلاغةَ في اعْتزاليَّاتِه، كتَأويلِ صِفاتِ اللهِ تعالَى، والقولِ بعدَمِ خلْقِ أفعالِ العِبادِ، وغيرِ ذلك.

سعْدَ الدِّينِ التَّفتازانيَّ صاحبَ الشَّرْحَين (المُطوَّل) و(المُختصَر) على (التَّلخيص): الذي (انتَهَت إليه مَعرِفةُ عُلومِ البلاغةِ والمَعقولِ في المشْرقِ، بلْ بسائرِ الأمصارِ، ولم يكُنْ له فيها نَظيرٌ في مَعرفةِ هذه العلومِ)، كما يَصِفُه ابنُ حجَرٍ، وهو مع ذلك (ماتُريديٌّ صُلْبٌ)، ومِن الجَماعةِ التي نصَرَت المذْهبَ الماتُريديَّ، وهو فَيلسوفُ الماتُريديَّةِ، كما أنَّ الرَّازيَّ فَيلسوفُ الأشْعَريَّةِ، وله تَأويلاتٌ في صِفاتِ اللهِ تعالَى، وقرَّر أنَّ الإيمانَ هو التَّصديقُ بالقلْبِ فقطْ، كما هو مَذهبُ أصحابِه... وذكَر المؤلِّفُ غيْرَهم.

وتحْتَ العُنوانِ الرابعِ (تَوْظيف البَلاغةِ لخِدمةِ المُعتقَدِ) أشار إلى أنَّه كما أفاد مِن البلاغةِ طائفةٌ مِن عُلمائِها لتَوظيفِها في خِدمةِ عَقائدِهم، فقدْ أفاد منها آخَرون مِن أهْلِ العُلومِ الأُخرى؛ كالتَّفسيرِ، واللُّغةِ، والأُصولِ، وشَرْحِ الحديثِ، وغيْرِ ذلك، واستَثْمَروها في تَأصيلِ عَقائدِهم ونشْرِها؛ حيث لم يَكونوا على مَنْهجِ السَّلفِ في أسماءِ اللهِ وصِفاتِه، وفي مَسائلِ الإيمانِ والقدَرِ، وجزَمَ بعْضُ الباحثينَ بأنَّ الأخْفَشَ (ت215هـ) والجاحظَ (ت255هـ) المعْتزليَّينِ هما (أوَّلُ مَن افتتَحَ البابَ، فأوَّلَا آياتِ الصِّفاتِ بِداعي المجازِ، وتَصرَّفا في ذلك تَصرُّفًا عَجيبًا؛ فِرارًا مِن إثباتِ أيِّ صِفةٍ للمَوْلى عزَّ وجلَّ).

ومِن هؤلاء: الزَّمَخْشريُّ –رَحِمه الله تعالى- المعْتزِليُّ اللُّغويُّ المفسِّرُ، صاحبُ (الكشَّاف)؛ فإنَّه -كما يقولُ ابنُ عاشورٍ- (كثيرًا ما يُرغِمُ مَعانيَ القُرآنِ على مُسايَرةِ مَذْهبِه، فتَنْزو عَصبيَّتُه، وتَنْزوي عَبقريَّتُه)، (وقدْ يَطغى عليه حُبُّ الاستدلالِ لعَقائدِ أهلِ الاعتزالِ طُغيانًا يَرْمي بفَهْمِه في مَهاوي الضَّلالةِ)، وقدِ اعتمَدَ فُنونَ البلاغةِ في تَأويلاتِه للنُّصوصِ بما يَخدُمُ المذْهبَ الاعتزاليَّ ويَسيرُ في رِكابِه.

وما وقَعَ فيه كَثيرٌ مِن المفسِّرين واللُّغويِّين مِن تَحريفِ نُصوصِ القرآنِ، وقَعَ فيه كَثيرٌ مِن شُرَّاحِ الحديثِ النَّبويِّ؛ فإنَّهم يَجْعَلون أحاديثَ الصِّفاتِ مِن قَبِيلِ المُتشابِهِ، ولا يَزالون بها يُقلِّبونها على الوجوهِ المَجازيَّةِ المختلفةِ حتى يُفرِّغوها مِن دَلالاتِها الحقيقيَّةِ، وربَّما وَضَعوا قَواعدَ في ذلك لمَن بعْدَهم، كما فعَلَ مَجْدُ الدِّينِ ابنُ الأثيرِ (ت 606هـ) -وكان مِن الأشاعرةِ-؛ فإنَّه لَمَّا ذكَر حَديثَ: (وكِلْتا يَدَيْه يَمينٌ)، وصرَفَه عن ظاهرِه، قال: (وكلُّ ما جاء في القُرآنِ والحديثِ مِن إضافةِ اليَدِ، والأيدي، واليمينِ، وغيرِ ذلك مِن أسماءِ الجَوارحِ إلى اللهِ تعالَى؛ فإنَّما هو على سَبيلِ المَجازِ والاستِعارةِ، واللهُ مُنزَّهٌ عن التَّشبيهِ والتَّجسيمِ).

فهذا كلامُ نُفاةِ الصِّفاتِ مِن البَلاغيِّين وغيْرِهم؛ وهو صَريحٌ في أنَّهم سخَّروا البلاغةَ لخِدمةِ نِحَلِهم، وجَعَلوها مَطيَّةً يَرتحِلونها إلى تَقريرِ عَقائدِهم؛ فتَراهم يُوجِّهون كلَّ نصٍّ مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ يَرُدُّ عليهم، أو يُخالِفُ مَذاهِبَهم، إلى ما يُرِيدون عن طَريقِ البلاغةِ.

وتَحدَّث تحْتَ العُنوانِ الخامسِ عن (ادِّعاءِ المَجازِ في الأسماءِ والصِّفاتِ الحُسنى)

فأشار إلى أنَّ أكثَرَ الأجناسِ البلاغيَّةِ التي اعتَمَدَها النُّفاةُ هو المَجازُ بأنواعِه المختلِفةِ؛ مِن المَجازِ العقْليِّ، والمجازِ المُرْسَلِ، والمجازِ التَّشبيهيِّ (الاستعارة)، وأنَّهم ما سَلَكوا طَريقَ المجازِ إلَّا فِرارًا مِن إثباتِ حَقائقِ النُّصوصِ، فإذا قالوا عن الآيةِ القرآنيَّةِ، أو الحديثِ النَّبويِّ: (إنَّه مَجازٌ)؛ فالمعنى -عِندَهم-: أنَّه لا حَقيقةَ له، وليْس على ظاهرِه المتبادِرِ، ولكنْ له معنًى آخَرُ؛ فمثلًا قولُه تعالَى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22]؛ جَعَله المعتزِلةُ والأشاعرةُ مِن بابِ المَجازِ بالحذْفِ، وقالوا: المعْنى: وجاء أمْرُ ربِّك! وذلك تَأويلٌ يُخرِجُ الآيةَ عن المعنى الذي أرادهُ اللهُ تعالَى؛ وهو أنَّه يَجِيءُ سُبحانه يوْمَ القِيامةِ للفصْلِ بيْن عِبادِه مَجيئًا حَقيقيًّا يَلِيقُ بجَلالِه وعَظَمتِه، فكان المَجازُ هو وَسيلةَ المعطِّلةِ إلى هذا التَّبديلِ والتَّحريفِ.

وتحْتَ العُنوانِ السادسِ (جُهود عُلماءِ السُّنةِ لصَدِّ التَّحريفِ المَجازيِّ) تحدَّثَ عن تَنَبُّه أئمَّةِ السُّنَّةِ، وعُلماءِ الإسلامِ مُنذ وقْتٍ مُبكِّرٍ إلى استغلالِ الفِرَقِ المنْحرِفةِ للمَجازِ، وتَوظيفِهم له في خِدمةِ مَذاهبِهم، وأنْكَروا عليهم، ونقَضوا استدلالَهُم به؛ مِن أولئك ابنُ قُتَيْبةَ -رَحِمه الله-؛ فقدْ عقَدَ بابًا في كتابِه: (تَأْويلِ مُشكِلِ القرآنِ) سمَّاه: (بابُ القولِ في المَجازِ)، قال فيه: (وأمَّا المجازُ: فمِن جِهتِه غَلِطَ كَثيرٌ مِن الناسِ في التَّأويلِ، وتَشعَّبت بهم الطُّرقُ، واختَلَفت النِّحَلُ). ومنهم شيْخُ الإسلامِ ابنُ تَيميَّةَ -رَحِمه اللهُ- وكان مِن أكبَرِ المناضِلين عن العَقيدةِ السَّلَفيةِ في تاريخِ الإسلامِ، فلمَّا رَأى حَفاوةَ الفِرَقِ المبْتدِعةِ بالمَجازِ، وتذَرُّعَهم به في بابِ الأسماءِ والصِّفاتِ، وفي بابِ الإيمانِ؛ سَعَى -رَحِمه اللهُ- إلى إبطالِ المجازِ، وهَدْمِه مِن أصْلِه، بما آتاهُ اللهُ مِن سَعةِ الاطِّلاعِ، وظُهورِ الحُجَّةِ، وقُوَّةِ العارضةِ، وأنْكَرَ وُجودَ المَجازِ في اللُّغةِ والقرآنِ والحَديثِ، وذكَرَ أنَّ المجازَ مُصطلَحٌ مُبتدَعٌ، وأنَّ الصَّحابةَ لم يَتكلَّموا به، ولا التَّابِعون لهم بإحسانٍ، ولا أئمَّةُ العِلمِ؛ كمالكٍ، والثَّوريِّ، والأوزاعيِّ، وأبي حَنيفةَ، والشَّافعيِّ، والخَليلِ، وسِيبوَيْهِ، وأبي عمْرِو بنِ العَلاءِ، وغيْرِهم، ثمَّ جزَمَ بأنَّ المجازَ: (اصطلاحٌ حادثٌ، والغالبُ: أنَّه كان مِن جِهةِ المعْتزِلةِ ونحْوِهم مِن المتكلِّمِين).

وتابَعَه على هذا الإنكارِ والرَّفضِ تِلميذُه ابنُ القيِّمِ رَحِمه اللهُ، وسمَّى المجازَ طاغوتًا، ثمَّ عقَدَ بابًا لكسْرِه في كِتابِه: (الصَّواعق المرْسَلة)، وقطَعَ بأنَّ الذي اخترَعَ هذا المصطلحَ همُ الجَهْميَّةُ؛ لغرَضِ تَعطيلِ حَقائقِ الأسماءِ والصِّفاتِ.

ثمَّ عقَّب المؤلِّفُ على ذلك قائلًا: (ومع جَلالةِ ابنِ تَيميَّةَ وابنِ القيِّمِ رَحِمَهما الله، ومَنزلتِهما في نُفوسِنا، ومع كَوْنِنا نَلْتَقي معهما على عَقيدةٍ سَلَفِيةٍ واحدةٍ بحمْدِ اللهِ وفضْلِه؛ فإنَّنا لا نُوافِقُهما على نَفْيِ المجازِ في اللُّغةِ والقُرآنِ، وما هو إلَّا اصطلاحٌ، ولا مُشاحَّةَ في الاصطلاحِ، ومع إنْكارِهما للمَجازِ فإنَّه كَثيرًا ما يَرِدُ في كَلامِهما الإحالةُ عليه، ولم تكُنْ جِنايةُ التَّأويلِ بسَببِ مُصطلَحِ الحَقيقةِ والمَجازِ، وإنَّما مَصْدرُ ذلك: الأصولُ الفاسِدةُ، وادِّعاءُ المجازِ فيما ليْس بمَجازٍ، ولم يَقتصِرْ أهلُ التَّأويلِ على مُصطلَحِ (المجاز) في تَأويلِ ما يُخالِفُ مَذاهبَهم، بلْ أفادوا مِن الألفاظِ المشْتركةِ في اللُّغةِ، ومِن اتِّساعِ دَلالةِ التَّعبيرِ أحيانًا.

والذي يَظهَرُ للباحثِ: أنَّ إنكارَ المجازِ ليس هو الجَوابَ الكافيَ، ولا الدَّواءَ النَّاجعَ في الرَّدِّ على المبتدعةِ، كما أنَّ إثباتَ المجازِ ليْس هو المصحِّحَ لِعقائدِ المخالِفِين، ولا المسوِّغَ لقَبولِ مَذاهبِهِم الفاسدةِ المخالِفةِ لإجماعِ السَّلَفِ؛ فلا أثَرَ في إثباتِ المجازِ ولا نفْيِه في تَأييدِ مَذهَبِ أيِّ الطَّائفتينِ).

ثمَّ تحدَّث تحْتَ عُنواناتٍ تاليةٍ عن: (مُجمَل عَقيدةِ السَّلفِ) و (وقْفَتا إنصافٍ في المَجازِ) و (إبْطال دَعوى المجازِ في نُصوصِ العقائدِ)، ثمَّ انتهى إلى نَتائجِ البحثِ، فذكَرَ منها:

1- أنَّ نشْأةَ عِلمِ البلاغةِ لم تكُنْ على أيْدي المبتدِعةِ والمتكلِّمين، بلْ وُجِدتْ أُصولُه في كِتابِ سِيبويْهِ، وكان مِن أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، وقدْ أخَذَ سِيبوَيْه عُلومَه عن كِبارِ أهْلِ السُّنَّةِ.

2- أصالةُ عِلمِ البلاغةِ، وأنَّه عَرَبيٌّ صَميمٌ؛ فليْس مُستقًى مِن اليونانِ، ولا مِن الهُنودِ، ولا مِن الفُرْسِ، ولا مِن غيْرِهم.

3- بَراءةُ فُنونِ البلاغةِ مِن كلِّ باطلٍ جَرَّتْ إليه؛ في أبوابِ الاعتقادِ وغيْرِها.

4- أنَّ أكثَرَ المخالَفاتِ العَقَديَّةِ في كُتبِ البَلاغةِ هي في تَوحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ، وهو أكبَرُ أبوابِ التَّوحيدِ التي وقَعَت فيها الخُصومةُ بيْن أهلِ السُّنَّةِ ومُخالِفِيهم مِن أهلِ القِبلةِ.

5- أنَّ أحقَّ النَّاسِ بدِراسةِ الإعجازِ البَيانيِّ همْ أهلُ السُّنةِ؛ لاعتقادِهِم أنَّ القرآنَ كَلامُ اللهِ حَقيقةً لا مَجازًا.

6- أنَّ الرَّدَّ على مَن حادوا بفُنونِ البَلاغةِ -كالمجازِ وغيْرِه- لنُصرةِ مَذاهبِهم؛ لا يكونُ بإنكارِ هذه الفُنونِ، بل بوُجوهٍ أُخرى؛ مِن سِياقِ الكلامِ وسِباقِه ولِحاقِه، ومِن القَرائنِ المَعْنويةِ واللَّفظيَّةِ المتَّصلةِ والمنْفصِلةِ، وغيْرِ ذلك.

7- شِدَّةُ الحاجةِ إلى مُؤلَّفٍ بَلاغيٍّ على مَذهبِ أهلِ السُّنةِ والجَماعةِ في قَواعِدِه وشَواهِدِه وتَحليلاتِه.