قراءة ونقد

مفهوم البدعة وأثره في اضطراب الفتاوى المعاصرة ويليه نقد كتاب (كل بدعة ضلالة) للسَّيِّد علوي بن عبدالقادر السقاف
book
عبدالإله بن حسين العرفج
عنوان الكتاب: مفهوم البدعة وأثره في اضطراب الفتاوى المعاصرة ويليه نقد كتاب (كل بدعة ضلالة) للسَّيِّد علوي بن عبدالقادر السقاف
الناشر: دار الفتح - الأردن
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: 1433هـ
عدد الصفحات: 447 صفحة
عرض ونقد: القسم العِلمي بمؤسَّسة الدُّرر السَّنية

أولًا: عرْض الكتاب:

كتاب هذا الشهر سبق أن قدمنا عرضًا ونقدًا لطبعته الأولى وكان النقد مستلًا من كتاب ((كل بدعة ضلالة)) للشيخ علوي بن عبدالقادر السَّقِّاف والذي ردَّ فيه على الطبعة الأولى من هذا الكتاب، فقام الدكتور عبدالإله بن حسين العرفج بالرد على الشيخ السَّقِّاف في طبعته الثانية، فتعقبه السَّقِّاف ووقف مع ردِّه وقفات رأينا أن نضعها هنا برمتها كنقد على ما استدركه الدكتور العرفج.

ثانيًّا: نقد الكتاب

الوقفة الأولى:

استغرق نقده للكتاب خمسين صفحة فيها كثير مما سبق ذكره في كتابه الأصل وسبق أن ناقشته فيه حيث أعاد الدكتور الأمثلة نفسها وربما ذكر ما هو شبيه بها، ولا أرى أنَّ هناك حاجة لإضاعة وقت القارئ في إعادة ذكرها والرد عليها، فمن رامها وجدها في الأصل.

الوقفة الثانية:

تضايق الدكتور من نقلي لبعض سيرته من موقعه الإلكتروني الشخصي والذي يُشرف هو نفسه عليه، واعتبر ذلك تشويشاً على القارئ، وذكر (ص 388) أنَّ التقاءه بالعلماء واستجازتهم والاستفادة منهم، لا تعني بالضرورة تقليدهم، وظنَّ أنني انتقدت عليه مجرد التقائه بهم واستجازتهم والاستفادة منهم، ولم يذكر أنني ذكرت ثناءه عليهم وتبجيله لهم، كما أنني ذكرت فيما استجازهم وفيما أجازوه، فليرجع إليه القارئ غير مأمور ( [1] ) .

الوقفة الثالثة:

بنى الدكتور -وفقه الله- على ما سبق أنني أرى أن الاستفادة من عالم تعني موافقته في كل شيء، فقال (ص 388): ((ولكن إن كنتَ ترى - أخي الكريم - أن الاستفادة من عالمٍ ما تعني موافقته في كل أقواله وآرائه, فدعني أطبق ذلك عليك, فها أنت تحتج بالإمام الشاطبي رحمه الله))، ثم سرد عشر صفحات (388-398) يوضح فيها الواضح، ويجلي فيها الجلي، وهي أن الشاطبي أشعري العقيدة -وهذا مما يعرفه عامة طلاب العلم- محتجاً علي به لأنني اختصرت كتابه الفذ ((الاعتصام))، وكأني بالدكتور لا يفرق بين من يأخذ من عالم بدعته ومن يأخذ منه ما وافق فيه السنة، فهل رآني أخذتُ عن الشاطبي أشعريته أو تفويضه؟ وهل احتججت بشيء من أقواله المبتَدعة؟ وهل اختصرتُ له كتاباً في العقيدة؟ أمَّا هو، فليرجع القارئ إلى مقدمة الطبعة الأولى ليرى ماذا أخذ منهم الدكتور.

ولا أملك هنا إلا أن أتجاوز هذه المسألة لأنها لا علاقة لها بموضوعنا.


الوقفة الرابعة:

رغم أنني أوضحت بجلاء موقف الشاطبي من البدع، وإنكاره تقسيم البدع إلى حسن وقبيح، ونقلتُ له جوابه عندما سُئِل: هل كل بدعة حُسِّنت أو قُبِّحت ضلالة لعموم الحديث أم تنقسم على أقسام الشريعة؟

فأجاب: (إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل بدعة ضلالة) محمول عند العلماء على عمومه لا يستثنى منه شيء البتة، وليس فيها ما هو حسنٌ أصلاً) ( [2] ) .

ورغم أن الدكتور ذكر منصفاً - جزاه الله خيراً- ومعترفاً أن الشاطبي لا يتوسع في معنى البدعة حيث قال: (ص97): (وتبقى مواضع أخرى يشم منها أن الشاطبي رحمه الله لا يتوسع في معنى البدعة إلى درجة كبيرة، فمن ذلك أنه يرى أن اتخاذ البخور في المساجد بدعة، وأن التزام الدعاء للأمراء -ومنهم الخلفاء الراشدون- في خطبة الجمعة بدعة، وأن الذكر الجماعي بصوت واحد بدعة، وأن اتخاذ يوم المولد النبوي عيدًا بدعة، وأن التزام صوم يوم النصف من شعبان وقيام ليلته بدعة).

رغم ذلك كله إلا أنه رجع وحاول أن يشكك في ذلك فقال في نقده (ص 415): (ما زلتُ متيقنا أن الشاطبي رحمه الله يطلق وصف البدعة على المحدثات التي تتعارض مع نصوص الشرع وقواعده, ولا يدل عليها دليل خاص أو عام, أما إذا سلمت من ذلك, وكانت فيها مصلحة, فإنه لا يطلق عليها وصف البدعة.

وحتى لا يظل القارئ متحيراً متشككاً سأورد كلام الشاطبي نفسه في المسائل التي ذكرها الدكتور لتتبين حقيقة منهج الشاطبي في البدعة، وهو مثال تطبيقي جيد في تنزيل القواعد على الفروع، فمن ذلك:

1- (سئل عن دعاء الإمام للجماعة في أدبار الصلوات هل في السنة ما يعضده أو ما ينافيه؟

فأجاب: دعاء الإمام للجماعة في أدبار الصلوات ليس في السنة ما يعضده ( [3] ) ، بل فيها ما ينافيه...) ( [4] ) ، بل إنه أنكر على بعض أصحابه ممن اضطرتهم ظروفهم أن يقبلوا بالإمامة مع الدعاء للجماعة فقال لهم مؤنِّباً: (بلغني أنكم رجعتم إلى الإمامة، واشتُرط عليكم في الرجوع أن تدعوا بهيئة الاجتماع في أدبار الصلوات، فالتزمتم الشرط، فإن كان ذلك لأنكم ظهر لكم الصواب فيه فما بالكم لم تعرِّفوا محبَّكم بوجه صوابه، فيكون تعاوناً على البر والتقوى؟!، وإن كان ذلك لأجل المعيشة فقد اتهمتم الرب سبحانه في ضمان الرزق، أو لغير ذلك فعرِّفوني به) ( [5] ) .

2- وسئل عن قوم يجتمعون للذكر ثم للغناء والضرب بالأكف والشطح إلى آخر الليل ( [6] ) ، فأنكر عليهم الأمرين وقال عن مجرد الاجتماع للذكر: (إن اجتماعهم للذكر على صوت واحد إحدى البدع المحدثات التي لم تكن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا زمان الصحابة، ولا من بعدهم ولا عُرف ذلك قط من شريعة محمد عليه السلام بل هو من البدع التي سمَّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ضلالة وهي مردودة) ( [7] ) .

3- وسئل عن حكم قراءة سورة الكهف بعد صلاة العصر من يوم الجمعة يقرؤها الناس مجتمعين بصورة معينة.

فأجاب بعد أن ذكر فضل قراءة القرآن وتعلمه: (وأمَّا قراءته بالإدارة وفي وقت معلوم على ما نُصَّ في السؤال وما أشبهه، فأمر مخترع وفعل مبتدع، لم يجر مثله قط في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا زمان الصحابة رضي الله عنهم، حتى نشأ بعد ذلك أقوام خالفوا عمل الأولين، وعملوا في المساجد بالقراءة به على الوجه الاجتماعي الذي لم يكن قبلهم) ( [8] ) .

4- وسئل عن التكبير الجماعي على صوت واحد يوم العيد وأن هناك من قال أنه من بدع الخير التي شهد الشرع باعتبار حسنها ( [9] ) وفي فعلها أجر، فأجاب: (قول القائل إنَّ التكبير على صوت واحد فيه الأجرُ، فإن أثبت لنا ذلك نقلاً صريحاً لا احتمال فيه عن السلف صح الأجرُ، وإلا فلا أجر فيه البتة، وأمَّا قوله: إنه من بدع الخير التي شهد الشرع بحسنها فغلط، إذ لا بدعة في الدنيا يشهد الشرع باعتبار حسنها، بل الأمر بضد ذلك لقوله عليه السلام: كل بدعة ضلالة، وأشباهه ( [10] ) ( [11] )

5- وأخيراً رأي الشاطبي في إقامة المولد، فقد سئل عمن أوصى بالثلث ليوقَف على إقامة ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (إن إقامة المولد على الوصف المعهود بين الناس بدعة محدثة، وكل بدعة ضلالة، فالإنفاق على إقامة البدعة لا يجوز والوصية به غير نافذة، بل يجب على القاضي فسخه وردُّ الثلث إلى الورثة يقتسمونه فيما بينهم) ( [12] )

وبعد هذه الجولة السريعة والصريحة في التطبيق العملي لقاعدة الشاطبي التي أكَّدها في كتابه الفذ ((الاعتصام)) والتزم بها في جميع فتاويه، أوَ يصح أن يقول الدكتور بعد ذلك (ص 97): (الذي يظهر لي بعد هذا التتبع أن الشاطبي رحمه الله يتوسط في موضع أقرب إلى الرأي الأول الموسِّع لمعنى البدعة منه إلى الرأي الثاني المضيِّق لمعناها)؟! أو يقول (ص 415): (ما زلتُ متيقنا أن الشاطبي رحمه الله يطلق وصف البدعة على المحدثات التي تتعارض مع نصوص الشرع وقواعده, ولا يدل عليها دليل خاص أو عام, أما إذا سلمت من ذلك, وكانت فيها مصلحة, فإنه لا يطلق عليها وصف البدعة)، لعل يقينه قد زال الآن، لكن الذي يبدو أن الدكتور أُتي من إشكال عنده بسطته في الوقفة التاسعة، وهو ظنه أن مضيقي معنى البدعة الذين لا يقبلون تقسيمها إلى حسن وقبيح يجب ألا يختلفوا في تطبيق ذلك وتنزيله على المسائل والفروع الفقهية، ويجب أن يتفقوا جميعاً على مسائل أنها بدعة ومسائل أنها مشروعة، فما أن يجد اختلافاً بين ترجيح الشاطبي وابن تيمية أو ابن باز -مثلاً- في مسألة إلا ويجزم أن منهجهم مختلف وبالتالي يعدُّه مع الموسعين!.

الوقفة الخامسة:

انزعج الدكتور كثيراً من قولي عن كتابه: (إنَّ من قرأه يظهر له جليًّا أن مقصود مؤلفه منه هو إثبات أن الاحتفال بالمولد النبوي ليس بدعة ضلالة، بل هو بدعة حسنة) ورغم أني ذكرت قرينة ذلك وقلت: (حيث ورد ذكره في الكتاب في أكثر من ثلاثين موضعًا، وما استطاع المؤلف أن يخفي ذلك، وهذا ليس رجمًا بالغيب ولا ظنًّا، ولا دخولا في النيات بل هو حقيقة ظاهرة لمن تأمل الكتاب) ( [13] ) ، رغم ذلك قال -عفا الله عنه- (ص 406) تحت عنوان (المقصود أكبر من مسألة المولد): (صرَّحتَ في كتابك بأن مقصودي من تأليفي هو إثبات جواز الاحتفال بالمولد النبوي, وخصصت وقفة في آخر كتابك لتأكيد هذا الأمر, ومع أن تصريحَك هذا داخلٌ في الاطلاع على النيات والرجم بالغيب, إلا أنني سأصحح لك مقصودي من التأليف)، وكان بودي أن أقبل هذا التصحيح منه لكن كيف ذا وقد ازدادت قناعتي بعد نقده هذا البالغ خمسين صفحة حيث كرر مفردة المولد في 33 صفحة فقط (406-439) أكثر من خمس وعشرين مرة في ثمان مواضع ( [14] ) ، وعندما تكثُر الشواهد والقرائن لايُقال هذا داخلٌ في الاطلاع على النيات والرجم بالغيب.

الوقفة السادسة:

وهي متعلقة بسابقتها، وبدفاعه عن الاحتفال بالمولد النبوي، إذ من فَرْطِ هذا الدفاع قلَّد ( [15] ) السيد محمد علوي المالكي في الزعم بأنهم لا يخصِّصون يوم الثاني عشر من ربيع الأول لإقامة المولد، وقد كان المالكي قد قرَّر في كتابه ((حول الاحتفال بذكرى المولد النبوي)) (ص 10) أن المولد النبوي يُحتفل به طيلة أيام السنة وليس مختصاً بيوم مولده الثاني عشر من ربيع الأول ( [16] ) ، وزاد الدكتور بقوله (ص 429): (لا يكاد يوجد مسلمٌ يقدِّس اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول, أو يتعبد الله بإقامة المولد النبوي فيه, وهي أن مجالس المولد النبوي - أو ما أحب تسميته بمجالس السيرة النبوية - تقام في سائر أيام السنة)، وفي هذا تغافل عن نصوص لكثير من محسِّني المولد وموسِّعي مفهوم البدعة تؤكد تقديسهم لهذا اليوم وتعظيمهم له وتخصيصه للاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم وإن كان ذلك لا يمنع من إقامته في أي وقت آخر، وحتى يكون الأمر على بينة دون لبس سأنقل نصوص بعض هؤلاء، بل سأكتفي بالقليل منها وكتبهم تطفح بذلك.

1- محمد عليش المالكي:

 قال بعد أن أنهى جزءاً من الشرح (أتم الله سبحانه وتعالى بفضله الجزء الأول من شرح مختصر سيدي الشيخ خليل يوم الاثنين لخمس بقيت من شهر المولد الشريف ربيع الأول المنيف) ( [17])

2- وقال محمد بن محمد ابن الحاج:

(ومن جملة ما أحدثوه من البدع، مع اعتقادهم أن ذلك من أكبر العبادات، وأظهر الشعائر ما يفعلونه في شهر ربيع الأول من المولد، وقد احتوى على بدع ومحرمات ( [18] ) ... فكيف به إذا انضم إلى فضيلة هذا الشهر العظيم الذي فضله الله تعالى وفضلنا فيه بهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - الكريم على ربه عزَّ وجلَّ؟!... فكان يجب أن يزاد فيه من العبادات والخير شكرا للمولى سبحانه وتعالى على ما أولانا من هذه النعم العظيمة) ( [19] )

3- وقال علوي بن أحمد الحداد:

(ومن عادة سيدنا الحداد – صاحب الراتب – نفع الله به أن يعمل مولداً للنبي صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول) ( [20] )

4- وقال أحمد زيني دحلان:

(ومن تعظيمه صلى الله عليه وسلم الفرح بليلة ولادته وقراءة المولد) ( [21] ) .

5- وقال حسن السندوبي:

(ومن الليالي الغر التي لا أنساها ما حييت، ليلة الثاني عشر من ربيع الأول سنة 1364هـ الموافق 24فبراير سنة 1945م والتي تُعدُّ بحق مثالاً لما يجب أن يكون عليه الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف في كل عام) ( [22] ) .

6- وقال المخلِّص الكتاني:

(مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبجَّل مكرَّم، قُدِّس يوم ولادته وشُرِّف وعُظِّم، ... فشابه هذا اليوم يوم الجمعة من حيث أن يوم الجمعة لا تسعَّر فيه جهنم، هكذا ورد عنه صلى الله عليه وسلم، فمن المناسب إظهار السرور، وإنفاق الميسور، وإجابة من دعاه ربُّ الوليمة للحضور) ( [23] ) .

7- وأختم بكلام مهم جدًّا للحافظ ابن حجر العسقلاني عندما شبه الاحتفال بالمولد النبوي بصيام يوم عاشوراء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم خصَّ هذا اليوم بالصوم لأنه اليوم الذي نجى الله فيه موسى عليه السلام، وأصحاب المولد يخصون الثاني عشر من ربيع الأول بالاحتفال؛ لأنه اليوم الذي وُلد فيه محمد صلى الله عليه وسلم، ويعيب على من يقيم المولد في أي يوم من هذا الشهر فضلاً عمن يقيمه في أي يوم في السنة، فيقول: (وعلى هذا فينبغي أن يُتحرى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى في يوم عاشوراء ومن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر بل توسع قوم فنقلوه إلى أي يوم من السنة وفيه ما فيه) ( [24] ) .

أوَ يصح بعد ذلك يا دكتور أن يُقال: (لا يكاد يوجد مسلمٌ يقدِّس اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول, أو يتعبد الله بإقامة المولد النبوي فيه)؟!

ولا أظن يخفى على الدكتور -حفظه الله- تغني الشعراء بهذا اليوم، تعظيماً، وتبجيلاً، وبحضرة أصحاب الموالد، ومن ذلك تواشيح النقشبندي التي يقول فيها:

وأتى ربيع فمرحبًا بهلالِه
 

 

قد أقبلَ الإسعادُ في إقبالِهِ
 

شهرٌ به سَعِدَ الزمانُ فحقُّه
 

 

أنْ يزدهي شرفًا على أقرانِهِ ( [25] ) !
 

ما ازدانَتِ الأعيادُ إلا أنَّها
 

 

جمعتْ لزينتِها بديعَ جمالِهِ
 

الوقفة السابعة:

وما زلنا في المولد حيث أكَّد الدكتور -غفر الله له- ما سبق أن قاله في أصل الكتاب من أنه لا فرق بين تخصيص يوم للوعظ أو الدرس وبين تخصيص يوم الثاني عشر من ربيع الأول للمولد فقال (ص 420): (أما مسألة تخصيص يوم الخميس للوعظ فالعجيب أيضاً أنَّك ذكرتَ أنَّ عبدالله بن مسعود رضي الله عنه لم يخصص يوم الخميس تعبداً لذات الخميس, وبالتالي فإنه لا حرج - حسب رأيك - في هذا التخصيص.

أيها الكريم, ألا تظن أنك بكلامك هذا تفتح باباً واسعاً للابتداع في الدين؟! إذ إنه يمكن لأي إنسان - حسب رأيك - أن يخصص أي يوم على مدار الأسبوع أو الشهر أو السنة للوعظ أو التدريس أو الزيارة أو غير ذلك, ما دام غير متعبد بذات اليوم, وهل يوم المولد النبوي شيء مختلف؟! فإن كان ثمة اختلاف فأوضحه)

نعم شيء مختلف، وها أنا ذا أوضح لك الاختلاف بينهما.

فهذا الذي خصص يوماً في الأسبوع لفراغه فيه، أو ذاك الذي خصص يوماً في الشهر لا لذات اليوم أو لذات الشهر لكن لظروف عمله، أو سفره، أو لجدولة أعماله إن كان مدرساً في مدرسة أو جامعة، وتلك الجامعات الشرعية التي  تضع جدولها أول العام ثم تخصص للطلاب يوماً في الأسبوع لدرس العقيدة، ويوماً للحديث، ويوماً للفقه، وهلمَّ جرَّا، هل هو مثل الذي يخصص يوماً في السنة كالسابع والعشرين من رجب لذات اليوم وذات الشهر معتقداً أفضلية اليوم والشهر وأفضلية التعبد فيه بزعمه أنها ليلة الإسراء والمعراج؟! وقل مثل ذلك في يوم المولد، لا أظن أنَّ طالب علم منصف يقول ليس ثمة اختلاف بينهما، ولعل الأمر اتضح للدكتور.

ولمزيد من الإيضاح أقول: الإشكال ليس في تخصيص اليوم بل في سبب التخصيص والدافع له ( [26] ) ، وهنا سأذكر مثالين ليتضح الأمر: مثال بالخطبة وآخر بالصلاة.

المثال الأول الخطبة:

خصص الشارع يوماً في الأسبوع للخطبة وهو يوم الجمعة، وخصص يوماً في السنة لخطبة عيد الأضحى، وآخر لخطبة عيد الفطر، وآخر لخطبة يوم عرفة، وهذه خطب خُصِّصت لذات اليوم ولأفضليته وتقام تعبداً ولا تُجزئ في غيره، كما خصص خطباً لمناسبات بذاتها وليست في يوم معين كخطبة صلاة الاستسقاء، وترك الناس يخطبون في أي يوم يحتاجون فيه لخطبة أو موعظة، فلو جاء شخصٌ الآن وقال: أنا أريد أن أخطب في الناس لأذكرهم وأعظهم دون تحديد يوم بذاته، قلنا له: لا بأس، ولو قال: آخر أريد أن أخطب فيهم لأعلمهم أمر دينهم لكنهم في بلد يوم عطلتهم الأسبوعية الأحد ولا يجتمعون إلا في ذلك اليوم أو أن ظروفي وانشغالاتي لا تسمح لي إلا في يوم كذا، قلنا له لا بأس، ولو جاء ثالث وقال أنا أريد أن أخطب خطبة كل أسبوع يوم الاثنين لأنه يومٌ فضله الله على سائر الأيام وفيه وُلد النبي صلى الله عليه وسلم، أو قال أريد أن أخطب خطبتين في العام خطبة في الثاني عشر من ربيع الأول وأخرى في السابع والعشرين من رجب، وذلك لأفضلية هذين اليومين على سائر الأيام، فالأول وُلد فيه النبي صلى الله عليه وسلم، والثاني عُرج به إلى السماء، قلنا له لا، فتخصيصُ كل يوم اثنين، أو تخصيص يومٍ في السنة، تعبداً وتقرباً إلى الله لذات الأيام ولفضلها، بدعة ضلالة تضاهي الشرعية، فالأولى تضاهي خطبة يوم الجمعة، والثانية تضاهي خطبة العيد.

المثال الثاني الصلاة:

خصص الشارع أوقاتاً في اليوم للصلاة المكتوبة، وأوقاتاً أسبوعية كصلاة الجمعة، وأوقاتاً سنوية كصلاة العيد، وجعل لكل صلاة كيفية وهيئة معينة، كما سنَّ لنا نوافل مطلقة يصليها المسلم في الليل أو النهار، ومن ذلك: صلاة الضحى وقيام الليل وغيرهما، فلو خصَّ شخصٌ ما يوماً في الأسبوع لصلاة الضحى لأنه اليوم الوحيد الذي يستطيع أن يصلي فيه هذه الصلاة وبقية الأيام يكون في عمله ومهنته فلا حرج عليه، لكن لو خصَّ يوم الاثنين مثلاً لذات يوم الاثنين ولأن فيه ولادة النبي صلى الله عليه وسلم، أو خص يوماً في السنة كالثاني عشر من ربيع الأول أو السابع والعشرين من رجب لذاتهما ولفضلهما، قلنا له: هذه بدعة ضلالة تضاهي الشرعية، في حين لو خصَّ يوم الاثنين بصيام لذات يوم الاثنين ولولادة النبي صلى الله عليه وسلم فيه قلنا له: هذه سنة حسنة لقول النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن صوم يوم الاثنين: (ذاك يوم ولدت فيه) رواه مسلم.

أرجو أن يكون الفرق قد اتضح الآن للدكتور.

الوقفة الثامنة:

أفرد الدكتور -حفظه الله- في كتابه (ص 71-86) مبحثاً بعنوان: (نصوص الموسعين لمعنى البدعة) نقل فيه من لسان العرب تعريف ابن منظور للبدعة، ثم سرد ستة عشر نقلاً للقائلين بتقسيم البدعة إلى خمسة أقسام مبتدئاً بابن عبدالسلام (ت: 660هـ)، ثم القرافي (ت: 684هـ) ومنتهياً بالملا الحنفي (ت: 1270هـ)،  فتعقبته في كتابي ( [27] ) هذا بقولي: (البدعة من حيث معناها اللغوي منها الحسن ومنها السيئ وهذا ما عليه عامة العلماء، ومن حيث معناها الشرعي فلم يُنقل عن أحد من المتقدمين أنه قال بهذا التقسيم، وكلهم متفقون على أنَّ كل بدعة ضلالة، وأول من قال بهذا التقسيم هو العز بن عبدالسلام وتبعه بعض الفقهاء على ذلك، وقد نقل المؤلف نصوص عددٍ منهم، من عصر ابن عبدالسلام -القرن السابع- إلى عصرنا الحاضر).

وقلتُ قبل ذلك في الهامش: (ولو وجد الدكتور من قال بقوله من المتقدمين لما بخل به) ( [28] ) .

فعقّب الدكتور عليَّ هنا (ص 411) بقوله: (ذكرتَ أيضا - أخي الكريم - أنني نقلت نصوص الموسعين للبدعة, مبتدئا بالعز بن عبدالسلام رحمه الله المتوفى سنة 660هـ, وأنني لو وجدت من يقول بقوله من المتقدمين لما بخلت به, وقد تملكني العجب من ذلك, فقد نقلتُ نصوصاً عن الإمام الشافعي رحمه الله المتوفى سنة 204هـ (ص68,ص70), ونقلتُ أمثلة من فعل الصحابة رضي الله عنهم, كتعريف عبدالله بن عباس رضي الله عنه بغير عَرَفة, وتجويز الإمام أحمد رحمه الله له (ص204-205), واستحباب الإمام أحمد لدعاء ختم القرآن في الصلاة (ص259), وغير ذلك)

فها أنت ترى أني أطلب من الدكتور أن يذكر من العلماء من صرَّح بتقسيم البدعة إلى خمسة أقسام (واجبة، ومندوبة، ومباحة، ومكروهة، ومحرمة) وكلامي فيها صريح! فهل نقل الدكتور نصوصاً لصحابي واحد أو للشافعي أو أحمد؟! بل هل نقل عن أحدٍ قبل العز بن عبدالسلام؟! فلا أدري من أولى بأن يتملكه العجب؟!

الوقفة التاسعة:

ذكرتُ في كتابي وربما كررتُه أكثر من مرة، أن الحكم على مسألة ما بأنه بدعة يشابه الكلام على مسائل الحلال والحرام من حيث اختلاف أنظار العلماء في تطبيق قواعدهم على آحاد المسائل سواء كانوا من المضيقين لمعنى البدعة أو الموسعين -على حسب تعبيره-، وضربت أمثلة مما اختلف فيه هؤلاء وهؤلاء، فمثلاً تجد من المضيقين من يرى بدعية صلاة التسابيح في حين آخر من المضيقين أنفسهم يرى مشروعيتها لثبوت الحديث عند الثاني وعدم ثبوته عند الأول، أو يخطئ في اجتهاده في تنزيل الحكم على الواقع، وكذلك الموسعون لمعنى البدعة، فمثلاً تجد منهم من يرى بدعية صلاة الرغائب في حين آخر من الموسعين أنفسهم يرى مشروعيتها لاختلاف الأنظار، لكن يبقى أن تأصيل من سماهم الدكتور بالمضيقين هو الصواب الموافق لحديث: (كل بدعة ضلالة)، وأن الموسعين فتحوا باباً واسعاً للبدع لذلك تجد الأصل في عمل أولئك اتباع السنة، وإنما تجيء مخالفتها في التطبيق بسبب خطأ في الاجتهاد لا في التأصيل، وقد بينت ذلك في الكتاب إلا أن الدكتور -عفا الله عنه- عقَّب عليه بقوله (ص 424): (أخي الكريم, لقد أخذ مني هذا الفصل ما يقرب من سبعين صفحة (ص155-224), ثم جئتَ لتقول بكل بساطة: (وقد أجهد الدكتور نفسه وأتعب قلمه فيما لا طائل تحته ولا ثمرة فيه), وكان تعليلك: (أن الحكم بالبدعة من الأمور التي يجتهد فيها العالم أو الفقيه, كالحكم بالكراهة والتحريم وغيرها, فلا ضير أن نجد من السلف من يحكم على مسألة ما بأنها بدعة, في حين أن هناك من لا يرى أنها بدعة)، لقد قرأتُ هذه العبارةَ مراتٍ ومرات؛ لأتثبتَ منها تماماً, وأخذتُ أتساءل: هل تعني وتعي - أخي الكريم - ما تقول؟! إن كنت تقر بأن الحكم بالبدعة قد تختلف فيه أنظار العلماء, فهل ألفتُ كتابي وأجهدتُ نفسي إلا لأثبت هذه الحقيقة؟! وها أنت تعترف بها بكل هدوء ووضوح.

أخي الكريم, لو رجعتَ إلى الصفحات الأولى من كتابي, لوجدتَ أنني صرَّحتُ في مقدمته بأن (الاختلاف في حكم بعض المحدَثات الدينية - خصوصا العملية منها - بين كونها مشروعة أو بدعة, قد يدخل في دائرة الاختلاف المقبول, ويدور بين الصواب والخطأ, ولا يلزم أن يكون كله دائراً بين الحق والضلال) (ص25)، وهذه الحقيقة العلمية التي قررتُها, ثم جئتَ - بكل برودٍ ( [29] ) - مقرراً لها, هل تنسجم مع منهج المضيقين للبدعة, وأحدهم يفتي بأن تصنيع السبحة وبيعها ووقفيتها وإهداءها وقبولها وتأجير المحل لمن يبيعها, كل ذلك لا يجوز؛ لأن السبحة بدعة محرَّمة؟!.

وعموما, أحمدُ الله الذي جعلك تقر بهذه الحقيقة, ولعل المسافات بدأت تقترب بين أهل السنة والجماعة بعد طول فراق وشدة خصام) انتهى كلامه.

وبما أنَّ كلامي الذي ذكرته هناك لم يتضح للدكتور رغم أني حاولت جاهداً أن يكون بأيسر عبارة وأوضحها، فإني أستميح القراء عذراً أن أبسط المسألة أكثر لعل الدكتور يتضح له مقصودي، فأقول:

يتوهم الدكتور -سدَّده الله- أنَّ من سماهم بالمضيقين أمثال ابن باز وابن عثيمين والألباني وغيرهم يجب ألا يختلفوا في مسألة واحدة إن كانت بدعة أم لا، ويرى أن من التناقض أن يقول أحدهم ببدعية مسألة ما ولايقول بها آخر، وهذا الوهم جاءه من أن قاعدتهم في التبديع واحدة وعليه فينبغي عند التطبيق ألا يختلفوا، وأنَّ اختلافهم دليل على أن قاعدتهم خطأ ومجانبة للصواب؛ وعليه فالحق -بناءً على توهمه هذا- مع الموسعين لمعنى البدعة!! وأنَّ منها الحسن ومنها القبيح، وهذا الكلام منقوض من وجهين:

الوجه الأول:

أن يقال وكذلك الموسعون قاعدتهم واحدة فهم يرون أن البدعة هي: (فعل ما لم يُعهد في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي منقسمة إلى واجبة، ومحرمة، ومندوبة، ومكروهة، ومباحة، والطريق في ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة) ( [30] ) ، ومع ذلك تراهم يختلفون في كثير من المسائل عند التطبيق وعند عرض هذه المسائل على قواعد الشريعة، وقد ضربت مثالاً واضحاً لصلاة الرغائب ( [31] ) ، فقد عرضها ابن عبدالسلام -وهو من الموسعين- على قواعد الشرع فظهر له أنها بدعة محرمة وتبعه كثيرون مثله، وعرضها ابن الصلاح -وهو من الموسعين أيضاً- على قواعد الشرع فظهر له أنها مستحبة وتبعه كثيرون مثله، وهنا أسأل الدكتور: لماذا هذا الاختلاف؟ أهو في التأصيل والتقعيد أم في التطبيق؟

وإذا جاز للموسعين أن يختلفوا وقاعدتهم واحدة، جاز للمضيقين أن يختلفوا عند التطبيق مع أنَّ قاعدتهم واحدة.

الوجه الثاني:

أنَّ سبب اختلاف العلماء في الحكم على مسألة من المسائل أنها بدعة، هو نفسه سبب اختلافهم في مسألة من المسائل أنها حرام أو واجبة، وإن اتفقوا في القواعد والأصول، فأنت ترى شافعيين مثلاً قواعدهما وأصولهما الفقهية واحدة ومع هذا يختلفون في الحكم ولهذا أمثلة كثيرة لا تخفى على طالب العلم.

وبما أنَّ الدكتور قد ضرب مثالاً لذلك بالتسبيح بالسبحة حيث قال: (وهذه الحقيقة العلمية التي قررتُها, ثم جئتَ - بكل برودٍ- مقرراً لها, هل تنسجم مع منهج المضيقين للبدعة, وأحدهم يفتي بأن تصنيع السبحة وبيعها ووقفيتها وإهداءها وقبولها وتأجير المحل لمن يبيعها, كل ذلك لا يجوز؛ لأن السبحة بدعة محرَّمة؟.

أقول له: نعم، تنسجم عند المحققين المنصفين، فالمفتي الذي يعنيه الدكتور العرفج هو فضيلة الشيخ الدكتور بكر أبو زيد رحمه الله رئيس مجمع الفقه الإسلامي، عالم غير مقلِّد، كتب بحثاً ممتعاً عن السبحة بعنوان (السبحة، تاريخها وحكمها) خالف فيه فتوى الشيخ ابن عثيمين وغيره، تحدث في هذا الكتاب عن تاريخ السبحة، وأصلها، وأول من اخترعها واستخدمها، وثبت لديه أنها كانت معروفة عند رهبان النصارى وبعض الأعاجم ولم تكن معروفة عند المسلمين إلا بعد قرون من الزمن استخدمها الروافض ثم انتشرت عند الصوفية ثم استخدمها عوام الناس وبعضهم يستخدمها للتباهي، وظهر له أنها تفوت كثيراً من السنن كعقد التسبيح بالأنامل وغير ذلك، ثم نقل كلاماً لابن الحاج في المدخل (3/214) وهو من الموسعين لمعنى البدعة -على طريقة الدكتور- ذكر فيه أن كثيراً من مستخدميها يستخدمونها للشهرة وعدَّ ذلك من البدع المذمومة، واستشهد الشيخ بكر في الكتاب بآثار عن الصحابة في ذم من يعد تسبيحاته بالحصى أو النوى فعن الصلت بن بهرام, قال: ((مَرَّ ابن مسعود بامرأة معها تسبيح تُسبح به فقطعه, وألقاه. ثم مَرَّ برجل يسبح بحصى, فضربه برجله, ثم قال: لقد سبقْتُمْ, ركبتم بدعة ظلماً, ولقد غلبتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عِلْماً)). وأثر آخر عنه ((أَن أُناساً بالكوفة يُسبحون بالحصى في المسجد, فأتاهم وقد كَوَّمَ كُلُّ رجل منهم بين يديه كوْمَةَ حصى, فلم يزل يحصبهم بالحصى حتى أخرجهم من المسجد, ويقول: لقد أحدثتم بدعة ظلماً, أو قد فَضَلْتُم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عِلْماً)).

لذلك كله ولغيره مما أورده الشيخ -رحمه الله- في الكتاب ختمه بقوله عنها: (وسيلة محدثة, وبدعة محرمة؛ ولما فيها من التشبه بالكفرة, والاختراع في التعبد؛ فإنه لا يجوز فيما كان سبيلها كذلك تصنيعها, ولا بيعها ولا وقفيتها, ولا إهداؤها وقبولها, ولا تأجير المحل لمن يبيعها؛ لما فيه من الإِعانة على الإِثم, والعدوان على المشروع).

فهذا اجتهاده الذي أدَّاه إليه علمه -وافقناه في ذلك أو خالفناه- وقد قال ببدعية التسبيح بغير اليد ابن مسعود رضي الله عنه، قال ذلك في موضع الذم فلا يأتي أحدٌ ويقول لنا ابن مسعود يعني بدعة حسنة، وقل مثل ذلك لموسعي معنى البدعة فلو سألت من يرى منهم بدعية صلاة الرغائب ما حكم إعانة المسلم على أداء هذه البدعة لقال لك: لا يجوز، في حين من يرى منهم أنها بدعة حسنة سيقول لك: يؤجر على ذلك.

أما قول الدكتور -حفظه الله- : (وعموماً, أحمدُ الله الذي جعلك تقر بهذه الحقيقة, ولعل المسافات بدأت تقترب بين أهل السنة والجماعة بعد طول فراق وشدة خصام)

فأقول له حقيقتي العلمية غير حقيقتك العلمية، والسعي لتقارب أهل السنة واجب شرعي وأقرب طريق إليه اتباع سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم والابتعاد عن البدع، وحتى لا يغتر القارئ بكلام الدكتور -والذي أظنه قاله بحسن نية- من أنني أقررت بحقيقته العلمية، سأوضح له حقيقة الدكتور وحقيقتي، وهذا ليس تعريفاً للبدعة.

فالحقيقة العلمية عندي:

هي أنَّ كل بدعة ضلالة، وليس هناك بدعة حسنة، فمتى اتفق عالمان على فعل تعبدي أنه بدعة فإنه يجب عليهما التحذير منه، ومع ذلك فقد يختلف عالمان في فعل تعبدي فهذا يرى أنه مشروع لثبوت الحديث عنده -مثلاً- أو لسبب آخر، والآخر يرى أنه بدعة لعدم ثبوته، ولا تثريب على أي منهما ما دام ملتزماً بالقاعدة النبوية: ((كل بدعة ضلالة)).

والحقيقة العلمية عند الدكتور:

هي أنه ليس كل بدعة ضلالة، فالبدع منها الحسن ومنها القبيح، فإن اتفق عالمان على فعل تعبدي أنه بدعة، فإنه إمَّا أن يكون عند كليهما بدعة حسنة، أو عند كليهما بدعة سيئة، أو عند كليهما بدعة، لكنه عند أحدهما بدعة حسنة يتعبد الله بها، وعند الآخر بدعة سيئة لا يجوز أن يتعبد الله بها.

الوقفة العاشرة:

ذكر الدكتور في كتابه عدداً من الأمثلة ليستشهد بها على وقوع محدثات سكت عنها العلماء المعاصرون ولما كان بعض هذه المحدثات دنيوية وليست دينية عقبت عليه وذكرت منها إقامة المهرجانات الشعبية كمثال فما أعجبه ذلك وعلق في نقده (ص 409) بقوله: (سردتُ إحدى وعشرين محدثة, وذكرتُ من ضمنها: المهرجانات الشعبية والتراثية, فوجدتَ - أخي الكريم - في ذلك مغمزاً عليَّ, وتناسيتَ كل المحدثات الأخرى المذكورة, فما أدري كيف أفسِّر صنيعك؟!).

بل أنا الذي لا أدري كيف أفسِّر صنيعك؟!.

يقول الدكتور هنا في نقده: أنني لم أذكر مما سرده إلا المهرجانات!، مع أنني سردت جلَّ المحدثات الدنيوية التي ذكرها وزعم أنها دينية، وها أنا أنقل بالحرف الواحد ما ذكرته هناك وأترك للقارئ التعليق ولن أعلق على كلامه هذا.

قلتُ هناك ما نصه: [وسأقتبس هنا بعض هذه الأمثلة ليدرك القارئ الكريم اللبس الذي وقع فيه الدكتور -حفظه الله-:

1- التزام دروس الوعظ يوميًا في رمضان بعد صلاة العصر أو بين ترويحات صلاة التراويح أو بين ركعات صلاة القيام.

2- تأخير أذان العشاء في رمضان بعد المغرب بساعتين.

3- إنشاء المنظمات والهيئات التي تُعنَى بالدعوة والإغاثة وشؤون المسلمين.

4- إقامة المهرجانات والأنشطة التي تحفظ على الشباب أوقاتهم في الإجازات الصيفية.

5- المهرجانات الشعبية والتراثية.

6- إحداث تغييرات في هيئة المساجد، كالمحراب، وتقصير الصفوف من الجانبين، ورسم خطوط على فرش المسجد؛ لتسوية الصفوف، وتثبيت مسند خلف الصف الأول، وغير ذلك من المحدثات الدينية.

تأمل هذه الأمثلة وقد نقلتها من كتابه بحروفها، ولاحظ كيف خلط الدكتور - وفقه الله - بين المحدثات التي يقصد بها التعبد إلى الله وبين وسائل كمساند الصف الأول ومحدثات بعضها دنيوي كالمهرجانات الشعبية والتراثية ومع ذلك ختمها بقوله: (ص53) (وغير ذلك من المحدثات الدينية) ] ( [32] ) انتهى النقل.

 ثم قال (ص 410) من نقده: (وأجد من المهم إضافة فتوى أخرى, تتعلق بمحدثة دنيوية محضة, وقد نقلتُها في كتابي (ص231-232), ولكنك مررتَ عليها مرور الكرام, ولم تُشر إليها مع أنها أولى بالاستغراب من المهرجانات الشعبية, ألا وهي غسل السكين قبل الذبح, وغسل اللحم قبل الطبخ, فقد أفتى ابن تيمية رحمه الله ببدعيتهما, فقال: "أكل الشوي والشريح جائز, سواء غسل اللحم أو لم يغسل, بل غسل لحم الذبيحة بدعة, فما زال الصحابة رضي الله عنهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يأخذون اللحم, فيطبخونه ويأكلونه بغير غسله,..., وسكين القصاب يذبح بها ويسلخ, فلا تحتاج إلى غسل, فإن غسل السكاكين التي يذبح بها بدعة" ( [33] ) , فأيهما أولى بوصف البدعة: المهرجانات الشعبية أم غسل السكين قبل الذبح؟!)

وجواباً على سؤاله: أيهما أولى بوصف البدعة: المهرجانات الشعبية أم غسل السكين قبل الذبح؟!

أقول: غسل السكين قبل الذبح، وغسل اللحم.

وطالب العلم والفقيه -إن كان يُحسن الظن بشيخ الإسلام وليس هناك ما يدفعه للاتهام والتجهيل- يقف عند هذه العبارة ويحاول فهمها على حقيقتها، ويقرأ ما قبلها وما بعدها والدافع لها، فإن لم يفتح الله عليه يسأل أهل العلم، {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].

كيف يمكن لعالم مجتهد محقق كابن تيمية شهد له خصومه قبل محبيه بالعلم والورع والتقوى أن يبدع غسل اللحم والسكين لتنظيفه؟! أليس هذا بغريب؟!

بلى غريب، لكن الأغرب أن يفهم طالب علم من كلام ابن تيمية هذا الفهم!

إنَّ من قرأ ما قاله ابن تيمية قبل هذا الكلام بأسطر يمكنه أن يستنبط علة التبديع ولعلَّ عين الدكتور لم تقع عليه، والأغرب من ذلك أن ما حذفه من كلام شيخ الإسلام ووضع مكانه نقطاً ( [34] ) وأثبت ما قبله وما بعده؛ يمكن كذلك لمن ليس له موقفٌ مسبقٌ من ابن تيمية أن يفهم منه مراده.

وإليكم كلام ابن تيمية كاملاً، مع توضيح ما لم ينقله الدكتور وما نقله وحذف منه بعض العبارات ووضع مكانها نقطاً حتى يتضح المراد:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ثوب القصَّاب وبدنه محكوم بطهارته وإن كان عليه دسم وغسل اليدين من ذلك وسوسة وبدعة ومكانه من المسجد وغيره طاهر وغاية ما يصيب القصَّاب أن الدم يصيبه أحياناً فالذي يماسُّه إذا لم يكن عليه دم لا يضره ولو أصابه دم يسير لعُفي عنه؛ لأنَّ الدمَ اليسير معفوٌ عنه، ونجاسة القصَّاب ليست من نجاسة الدسم فإن الدسم طاهر لا نجاسة فيه ويسير الدم معفو عنه وغسل يده من مصافحة القصاب أو الطواف وسوسة وتنطع مخالف للسنة) ( [35] ) . ثم قال: (أكل الشوي والشريح جائز سواء غسل اللحم أو لم يغسل؛ بل غسل لحم الذبيحة بدعة فما زال الصحابة - رضي الله عنهم - على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يأخذون اللحم فيطبخونه ويأكلونه بغير غسله [وكانوا يرون الدم في القدر خطوطاً؛ وذلك أن الله إنما حرم عليهم الدم المسفوح أي المصبوب المهراق فأمَّا ما يبقى في العروق فلم يحرمه، ولكن حرَّم عليهم أن يتبعوا العروق كما تفعل اليهود الذين بظلم منهم حرَّم الله عليهم طيباتٍ أحلت لهم وبصدِّهم عن سبيل الله كثيراً]. وسكين القصاب يذبح بها ويسلخ، فلا تحتاج إلى غسل، فإن غسل السكاكين التي يذبح بها بدعة) ( [36] )

فمن تأمل هذا الكلام يتضح له أن شيخ الإسلام لا يتحدث عن بدعية غسل اللحم أو السكين للتنظيف فهذا أمر دنيوي فطري لا تتطرق إليه البدعة، ولا يتحدث عن عادات دنيوية لا تمت إلى الدين بصلة ( [37] ) ، إنما يتحدث عن أمر ديني تعبدي شاع بين الناس في زمانه وروَّج له المتنطعون والموسوسون وعدُّوه من أمور الدين، فمن اعتقد أن الدسم الذي يبقى في ثوب القصَّاب أو يده نجس يجب غسله، أو اعتقد بضرورة غسل اللحم بعد ذبحه تعبداً لبقايا دم الذبيحة عليه، وكذا من اعتقد أنَّ من الواجب أو السنة غسل السكين لنجاسة بقايا دم الذبيحة عليها، أو حرَّم على نفسه أكلَ اللحم المشوي لبقايا خيوط من الدم عليه، من اعتقد شيئاً من ذلك وظنه من الدين فقد خالف السنة ووافق اليهود في تنطعهم، ومن هنا يكون قد وقع في البدعة.

وزيادة في التوضيح أقول: إنَّ لكلام ابن تيمية هذا نظير في كتب الفقه وسأورد أمثلة لفقهاء لا أظن أنَّ الدكتور يعدُّهم من مضيقي معنى البدعة، كلهم قال بتبديع أمور في ظاهرها دنيوية محضة، لكن من تأمل كلامهم وأحسن الظن بهم، عرف مقصدهم، وعذرهم ولو خالفهم، ومن هذه الأمور:

استعمال الحناء (بدعة).

الرقود على أحد الجنبين (بدعة).

المعانقة (بدعة).

حلق الشارب (بدعة).

غسل الثوب (بدعة).

وهاكم التفصيل:

1- قال ابن الحاج: (من البدع التي أحدثها النساء فيه - يوم عاشوراء - استعمال الحناء على كل حال، فمن لم يفعلها منهن فكأنها ما قامت بحق عاشوراء) ( [38] ) .

فكيف يكون وضع الحناء بدعة وهو أمر دنيوي لا علاقة له بالدين؟

الجواب: لما صحبها تعظيم يوم عاشوراء واعتقاد استعمالها من حقوق هذا اليوم صارت بدعة.

2- قال القاضي عياض عن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر: (ذهب مالك وجمهور العلماء وجماعة من الصحابة إلى أنه بدعة) ( [39] ) .

كيف يكون الرقود على أحد الجنبين بدعة مع أنه لا علاقة له بالدين؟ ومن منا لا يرقد على جنبه؟! لكن لما ارتبط الاضطجاع بركعتي الفجر وصار يفعله بعض الناس تقرباً إلى الله صار في هذه الحالة عندهم من البدع.

3- قال النووي: (اختلف العلماء في معانقة الرجل للرجل القادم من سفر فكرهها مالك وقال: هي بدعة واستحبها سفيان وغيره وهو الصحيح الذي عليه الأكثرون والمحققون وتناظر مالك وسفيان في المسألة فاحتج سفيان بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك بجعفر حين قدم فقال مالك: هو خاص به فقال سفيان: ما يخصه بغير دليل؟ فسكت مالك. قال القاضي عياض: وسكوت مالك دليل لتسليمه قول سفيان وموافقته وهو الصواب حتى يدل دليل للتخصيص) ( [40] ) .

فكيف يقول الإمام مالك ببدعية المعانقة وهي أمر فطري؟! وما جعله يسلِّم لسفيان إلا الدليل، وهذا يعني لولا الحديث لقال مالك ببدعيته.

4- نقل الحافظ ابن حجر عن أشهب عن مالك في حلق الشارب: (وقال لمن يحلق شاربه هذه بدعة ظهرت في الناس) ( [41] ) .

5- قال الإمام النووي تعليقاً على حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت لرجل أصاب ثوبه مني فغسله كله: (إنما كان يجزيك إن رأيته أن تغسل مكانه فإن لم تره نضحت حوله ولقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركاً فيصلي فيه):

(وأما قول عائشة (إنما كان يجزيك) فهو وإن كان ظاهره الوجوب فجوابه من وجهين: أحدهما حمله على الاستحباب لأنها احتجت بالفرك فلو وجب الغسل لكان كلامها حجة عليها لا لها وإنما أرادت الإنكار عليه في غسل كل الثوب فقالت غسل كل الثوب بدعة منكرة وإنما يجزيك في تحصيل الأفضل والأكمل كذا وكذا) ( [42] ) .

ويقال هنا ما قيل فيما سبق: كيف يكون غسل كل الثوب الذي وقع عليه المني بدعة؟! كما استنكر الدكتور كيف يكون غسل السكين بدعة؟!

والجواب واحد، من غسل الثوب كله، أو السكين، أو اللحم بعد الذبح، تنطعاً معتقداً أن هذا يلزمه وأنه من الدين فقد خالف السنة ووقع في البدعة.

الوقفة الحادية عشرة:

يهوى الدكتور -سلمه الله- ضرب فتاوى العلماء بعضها ببعض، كما يُكثر من إيراد الاستشكالات على أقوالهم، ومن أمثلة ذلك ( [43] ) :

1- نقل كلاماً (ص 403) لابن تيمية ثم قال مستدركاً: (فليتك - أخي الكريم - تتحفني بدليل صحيح صريح على استحباب المواظبة على قول: يا حي يا قيوم, لا إله إلا أنت, ...).

2- قال (ص 404): (أخي الكريم, فإن لم يقنعك ما سبق فلعلك تقتنع بفتوى الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله المتضمنة ...) واستدرك عليه.

3- وفي (ص 406) قال مستدركاً على ابن باز أيضاً: (فليتك تتحفني أيضا - أخي الكريم - بدليل صحيح صريح على مشروعية قراءة آيات السحر على المسحور والنفث في الماء...).

4- وفي (ص 407) استدرك على الشيخ ابن عثيمين وقال: (وإلا فكيف تفسر قول الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: أما دعاء ختم القرآن في الصلاة فلا أعلم له أصلا, لا من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم, ولا من سنة الصحابة, ...).

5- وفي الصفحة نفسها أراد أن يضرب كلامه بكلام الشيخ ابن باز فقال: (وكيف تفسر قول الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: "لم يزل السلف يختمون القرآن, ويقرءون دعاء الختمة في صلاة رمضان, ولا نعلم في هذا نزاعا بينهم ...).

6- (ص 408) أراد أن يضرب الشيخ الألباني بالشيخ ابن عثيمين في مسألة قراءة سورة العصر، فقال: (وقفت بعد تأليف كتابي على مسألة, أفتى فيها الشيخ الألباني رحمه الله بالجواز, وفي المقابل أفتى فيها الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله بالبدعة, ألا وهي مسألة التزام قراءة سورة العصر عند الافتراق).

7- (ص 423) ابن باز مرة أخرى، فقال: (ما تقول - أخي الكريم - في فتوى الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله عن الإكثار من العبادات ...).

8- (ص 426) ثم الفوزان، فقال: (ولكن هل لك أن تجيبني عن قول الشيخ صالح الفوزان حفظه الله ...).

9- (ص 427) حاول أن يضرب المشايخ ابن باز وابن عثيمين والفوزان وابن جبرين بعضهم ببعض وجمعهم كلهم في مكان واحد!

10- وفي (ص 428) كذلك.

وهكذا دواليك، فاختلاف أقوال العلماء تشكل عند الدكتور معضلة كبرى، وقد أوضحت هذا الإشكال بما فيه الكفاية في الوقفة التاسعة.

الوقفة الثانية عشرة:

نقلتُ في كتابي أقوال خمسة عشر عالماً ممن لا يقولون بتقسيم البدعة ويصرحون بأنَّ (كل بدعة ضلالة)، فعلق الدكتور (ص 411) بقوله: (إن النصوص التي نقلتَها عن بعض العلماء يمكنني مناقشتها بكل سهولة)، لكن ما رأينا هذه السهولة حيث انتقى ثلاثة أو أربعة منها وأهمل الباقي، وأنا هنا أعيد بشكل مختصر -من باب الفائدة- بعض ما أهمله الدكتور ولم يناقشه.

1- قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام: (البدع والأهواء كلها نوعٌ واحدٌ فى الضلال).

2- وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي:  (قوله صلى الله عليه وسلم: (كل بدعة ضلالة) من جوامع الكلم، لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدين، وهو شبيه بقوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، فكل من أحدث شيئًا ونسبه إلى الدين، ولم يكن له أصل من الدين يرجع عليه، فهو ضلالة، والدين بريء منه).

3-  وقال الشيخ إبراهيم بن محمد الحلبي الحنفي: (فالذكر بالصوت الشديد في الطرقات بدعة، لكونه غير معهود في زمنه عليه الصلاة والسلام، ولا في القرون المشهود بخيريَّتها دَلالةَ سَندٍ ظاهر، ولا خفي، ولا يجوز قياسه على التلبية والتكبير في طريق العيد لعدم شرط القياس، على أنَّ التلبية والتكبير لم يُشرع الجهر بهما إلَّا لكل فردٍ بنفسه، لا بهيئة الاجتماع والاتفاق في الصوت بالرفع والخفض، ومراعاة الأنغام، والزيادة والنقص، والتمطيط، والإبدال في الحروف، لأجل ذلك فإن ذلك كله حرام في الذكر، كما يحرم في قراءة القرآن، وقد اعتاد هؤلاء وأمثالهم الجواب لمن قال لهم: إنَّ هذه بدعة لم تكن في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، بأن يقولوا: هذه بدعة حسنة، ...) ثم قال: (فهكذا يقال لكلِّ مَنْ أتى في العبادات بصفة لم تكن في زمن الصحابة، كالجهر بالذكر قدَّام الجنازة، ونحوها، ومن ثمَّ حكم العلماء على ذلك بكونه بدعة مكروهة، مع أنه في ذاته عبادة، فلو كان وصف العبادة في الفعل المبتَدَع يقتضي كونه بدعة حسنة لم يوجد في العبادة ما هو بدعة مكروهة، وقد وجد البدعة المكروهة فيها إجماعًا، ولم يوجد عبادة خالصة هي بدعة حسنة إجماعًا، فعلم أنَّ كل بدعة في العبادات الخالصة، فهي مكروهة، وإلَّا لما فاتت أهل الصدر الأول، والقرون التي شهد الصادق المصدوق بخيريتها، ولأنها لا بدَّ أن تدافِع سنة، وكل بدعة دافعت سنة فهي سيئة).

4- وقال محمد عبدالحي اللكنوي الحنفي: (اختلف العلماء في هذا الباب على قولين:

الأول: أن حديث (كل بدعة ضلالة) عام مخصوص، والمراد به البدعة السيئة، وقسَّموا البدعة إلى واجبة ومندوبة ومكروهة ومحرمة ومباحة، ...

والقول الثاني وهو الأصح بالنظر الدقيق: أن حديث (كل بدعة ضلالة) باقٍ على عمومه، وأن المراد به البدعة الشرعية)

وغيرها من النقولات، فأين الدكتور عنها؟ وأين قوله: (يمكنني مناقشتها بكل سهولة)

الوقفة الثالثة عشرة:

ومن النقولات التي أهملها الدكتور -حفظه الله- قولي له: (لكن الدكتور - حفظه الله - يُشكل عليه اتفاق عدد من العلماء على قاعدةٍ ما ثم يختلفون في تنزيل الحكم، وهذا الاستشكال غريب منه، فلا زال العلماء يتفقون على قواعد كلية، ويختلفون في تطبيقها على الوقائع. كقاعدة: العادة محكمة، والمشقة تجلب التيسير، واليقين لا يزول بالشك، والضرر يزال،...الخ، وهناك أمثلة كثيرة لاختلاف الفقهاء في تطبيق بعض القواعد التي اتفقوا عليها، فهل يقول الدكتور -حفظه الله- أن هذا مما يثير الاستغراب، أم أنَّ إثارة الاستغراب فقط عند من اتفق على قاعدة (كل بدعة ضلالة)؟!) ( [44] ) .

الوقفة الرابعة عشرة:

ومما أهمله الدكتور ولم يجب عنه أنه ذكر في كتابه مسائل اختلف في حكمها السلف بين من يرى بدعيتها ومن يرى مشروعيتها فذكر أن هذا يقتضي تبديع بعضهم بعضاً وذكر جملة من كبار علماء المسلمين قديماً وحديثاً، كالإمام أحمد والبخاري واسحاق بن راهويه والطبري ومالك والنخعي ... إلى ابن باز وابن عثيمين.

فعقبت على الدكتور بقولي: (وما رأي الدكتور -حفظه الله- لو قال قائل: ومن أخذ بقول العز بن عبدالسلام ببدعيَّة صلاة الرغائب، لزمه تبديع ابن الصلاح والغزالي، فهل يلتزم هو بهذا اللازم وقد أخذ بقول العز ابن عبدالسلام؟) ( [45] ) .

الوقفة الخامسة عشرة:

من لطائف كتاب الدكتور أن عنوانه: (مفهوم البدعة) ومع ذلك لم يعرف البدعة التي يريد أن يوضح مفهومها!، وعندما أراد طباعة الكتاب طبعة ثانية قدمه للدكتور عجيل النشمي حفظه الله ليقرظه له فطلب منه في ثنايا تقريظه أن يعرف البدعة، يقول الدكتور العرفج (ص417): (ونظراً لطلب عدد من العلماء وطلبة العلم أن أضع تعريفاً مختصراً للبدعة المذمومة, ومنهم فضيلة الشيخ الدكتور عجيل النشمي حفظه الله كما في تقديمه للطبعة الثانية, فإن التعريف الذي أرتضيه للبدعة المذمومة هو: محدثة دينية تتصادم مع نصوص الشرع أو مقاصده أو قواعده ( [46] ) )، إذاً تعريف البدعة في كتاب (مفهوم البدعة) إنما جاء بطلب من عدد من العلماء وطلبة العلم! وتغيَّر التعريف خلال بضعة أشهر، ولم يضعه في أصل الكتاب بل في آخر صفحاته وفي ملحق رده على كتاب ((كل بدعة ضلالة)).  

الوقفة السادسة عشرة:

وأخيراً ، كان الأولى بالدكتور وهو يدعو إلى الألفة والمحبة بين المسلمين وعدم التشنج والتوتر وإطلاق العبارات المستفزة أن لا يقول عبارات مثل قوله: (ص 425) (ويبدو أن هذه الطريقة أزعجت البعض, خصوصاً من الذين تعوَّدوا أن يَنقُدوا لا أن يُنقَدوا, وأن يقوِّموا لا أن يقوَّموا, حتى تكوَّنتْ عند بعضهم نظرة الاستعلاء والاستئثار بالحق دون بقية المسلمين)

وعندما يقول الدكتور هذا الكلام بعد سرده وانتقاده لعدد من العلماء الذين وصمهم بالمضيقين لمعنى البدعة، وقد ذكرهم بأسمائهم ما الذي سيخطر في ذهن القارئ ومن الذين يعنيهم الدكتور بقوله: الذين تعوَّدوا أن يَنقُدوا لا أن يُنقَدوا, وأن يقوِّموا لا أن يقوَّموا, حتى تكوَّنتْ عند بعضهم نظرة الاستعلاء والاستئثار بالحق دون بقية المسلمين؟!

فهل مثل هذا الكلام يقرِّب أم يفرق؟

أترك الجواب لك أخي القارئ.

أسأل الله أن يهدينا جميعاً لاتباع سنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم،

وأن يجمع قلوبنا على تعظيمها والتمسك بها

والحمد لله رب العالمين


 

( [1] ) انظر: مقدمة الطبعة الأولى.

( [2] ) ((فتاوى الإمام الشاطبي)) (ص180).

( [3] ) لاحظ معي زعم الدكتور أن الشاطبي (يطلق البدعة على المحدثات التي تتعارض مع نصوص الشرع وقواعده) وبين إنكار الشاطبي على من فعل عبادة وليس في السنة ما يعضدها ولم يشترط التعارض.

( [4] ) ((فتاوى الإمام الشاطبي)) (ص 127)، ولو سألت الدكتور عن رأيه ورأي الموسعين لقال لك: في السنة أدلة عامة تعضده.

( [5] ) ((فتاوى الإمام الشاطبي)) (ص 129).

( [6] ) واضح من السؤال أنهم من المتصوفة المنحرفة.

( [7] ) ((فتاوى الإمام الشاطبي)) (ص 193)، وهذا عين ما يفعله أصحاب الموالد.

( [8] ) ((فتاوى الإمام الشاطبي)) (ص 197).

( [9] ) وهذا عين ما يدعو إليه الدكتور في كتابه.

( [10] ) هل هناك أصرح من ذلك؟!.

( [11] ) ((فتاوى الإمام الشاطبي)) (ص 200).

( [12] ) ((المصدر السابق)) (ص 203).

( [13] ) وذكرت المواضع صفحة صفحة، انظر: مقدمة الطبعة الأولى.

( [14] ) في الصفحات التالية: 406، 414، 420، 429، 431، 432، 434، 436.

( [15] ) رغم قوله (ص 388): (إنني لست نسخة كربونية من أي عالم من العلماء فالتقائي بالعلماء, واستجازتهم, والاستفادة منهم, والدراسة على أيديهم, وسؤالهم عن مسائل علمية, لا تعني بالضرورة تقليدهم في كل ما يقولون).

( [16] ) لما ظهرت حجة من يقول إن الاحتفال بيوم في السنة يضاهي العيدين، لجأ السيد المالكي إلى القول بأن المولد النبوي لا يختص بهذا اليوم بل يُقام طيلة أيام السنة، ونسي أن هذا أعظم، فبدعة تُقام مرة في السنة خيرٌ من بدعة تتكرر طيلة العام وفي كل مناسبة.

( [17] ) ((منح الجليل شرح مختصر خليل)) (4/178)،.

( [18] ) يعني آلات الطرب والسماع.

( [19] ) ((المدخل)) (2/2).

( [20] ) ((شرح راتب الحداد)) (ص 90).

( [21] ) ((الدرر السنية في الرد على الوهابية)) (190).

( [22] ) ((تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي)) (ص 196).

( [23] ) انظر: ((سبل الهدى والرشاد)) (1/441).

( [24] ) انظر: ((الحاوي للفتاوي للسيوطي)) (1/229)، ((شرح المواهب اللدنية للزرقاني)) (1/140)، ((سبل الهدى والرشاد للصالحي)) (1/444)، ((تحفة المحتاج للهيتمي)) (7/423).

( [25] ) فشهر ربيعٍ الأول من أجل يوم مولده صلى الله عليه وسلم -الذي لم يثبت أصلاً- سعِدَ به الزمان فحقُّه أن يكون أشرف الأشهر بما فيها رمضان وذو الحجة، أليس هذا غلوًّا في التعظيم؟!.

( [26] ) والعجيب أنَّ الدكتور نفسه أقرَّ بهذه الحقيقة عندما قال (ص 399): (فمثلاً لو أن مسلماً أراد الإكثار من الأعمال الصالحة, زيادةً على الثابت بالنصوص الشرعية, كأن أراد أن يحافظ يوميا على صلاةٍ وصدقةٍ وذِكرٍ؛ تقربا إلى الله, واغتناماً للوقت, ومنافسةً في الخير, فجعل يصلي كل يوم عشر ركعات بين الظهر والعصر؛ لأنه وقت مناسب له, وليس لاعتقاد = = فضيلة خاصة فيه)، وما يقول الدكتور فيمن يقيم المولد ليلة الثاني عشر من ربيع الأول لاعتقاد فضيلة خاصة فيه؛ ولأنه اليوم الذي ولد فيه خير البشر صلوات ربي وسلامه عليه، هل ارتكب بدعة أم لا؟ أرجو أن أجد جواباً صريحاً منه.

( [27] ) (ص 29 ط1)، و (ص 62) من هذه الطبعة.

( [28] ) (ص 13 ط1)، و (ص 47) من هذه الطبعة.

( [29] ) سامحك الله.

( [30] ) هذا التعريف للعز ابن عبدالسلام، ذكره في كتابه ((قواعد الأحكام)) (2/172)، وأورده الدكتور العرفج في كتابه (ص 62 ط1) و(ص 68 ط2) ووصفه بأنه (تعريف جامع للبدعة مانع لغيرها).

( [31] ) انظر: (ص 24) من الطبعة الأولى، و(ص 58) من هذه الطبعة.

( [32] ) (ص 12) من الطبعة الأولى، وهو في هذه الطبعة: (ص 46).

( [33] ) ((مجموع الفتاوى)) (21/522).

( [34] ) يغلب على الظن أنه قرأه ولم يورده عمداً، لكن من باب حسن الظن أقول: لعله لم يورده طلباً للاختصار ولم يتأمله.

( [35] ) ((مجموع الفتاوى)) (21/522)، هذا الكلام لم ينقله الدكتور وهو موجود في نفس الصفحة التي نقل منها وأنا أعذره في ذلك، ومراد ابن تيمية واضح لمن تأمله.

( [36] ) وهذا نقله الدكتور وحذف منه ما بين المعكوفتين [  ] ووضع مكانها نقطاً.

( [37] ) كما توهم الدكتور وقال في كتابه: (ص 231 ط1) (ص 238 ط2): (بل ربما حكم بعضهم ببدعة عادات دنيوية لا تمت إلى الدين بصلة، مثل غسل اللحم وسكين الذبح).

( [38] ) ((المدخل)) (1/291).

( [39] ) ((شرح مسلم للنووي)) (6/123).

( [40] ) ((شرح مسلم)) (15/193).

( [41] ) ((فتح الباري)) (10/347).

( [42] ) ((المجموع شرح المهذب)) (2/554).

( [43] ) هذا كما في نقده الأخير فقط وليس من أصل الكتاب والذي فيه أضعاف ذلك بكثير.

( [44] ) انظر: (ص 70) من الطبعة الأولى، و (ص 103) من هذه الطبعة.

( [45] ) انظر: (ص 53) من الطبعة الأولى، و (ص 86) من هذه الطبعة.

( [46] ) في الرسالة التي أرسلها لي عبر البريد الإلكتروني وما زلت محتفظاً بها عرَّف البدعة بقوله: (محدثة دينية تخالف الشريعة الإسلامية) وبين الرسالة والطبعة الثانية للكتاب بضعة أشهر.