قراءة ونقد

الكينونة المتناغمة
book
عبد الله حميد الدين
عنوان الكتاب: الكينونة المتناغمة
الناشر: دار مدارك للنشر - دبي، وبيروت
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: 2012م
عدد الصفحات: 232 صفحة
عرض ونقد: القسم العِلمي بمؤسَّسة الدُّرر السَّنية

كتاب هذا الشهر، هو واحدٌ من الكتب التي أثارت جدلًا كبيرًا في هذه الآونة، خصوصًا في أرض الحرمين الشَّريفين؛ مهبط الوحي ومنبع التوحيد؛نظرًا لما انتهجه مؤلِّفه من منهج يَهدِم ثوابت الدِّين والعقيدة، وينقض أُسسَه، وما يزعُمه من تصوُّر جديد، وقد اتبعه على منهجه هذا فئامٌ من الشباب والفتيات المغرَّر بهم وبهن، وساندتْه وأتباعَه جهاتٌ ومؤسَّسات. وسوف نقوم بعرْض أهمِّ ما ورد في هذا الكتاب، ونقْد أبرز ما جاء فيه مِن أفكار وتصوُّرات، وذلك من خلال طبعته الثانية، والتي نشرتها مأزورةً سيِّئة الذِّكر دارُ مدارك ببيروت، الوجه الآخر لمركز المسبار، وكلاهما وجهان لطِينة ليبراليَّة واحدة.
أولًا: عرْض الكتاب:
تألَّف الكتاب من عدَّة عناوين ومحاور رئيسيَّة، بدأها الكاتب بمقدِّمة، ومدخل لهذه الطبعة، ذكر فيهما سبب نشره للكتاب، وأنَّه بعد الهجمة على حمزة كاشغري الذي اشتهر بتغريداته المسيئة لنبيِّنا محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، وبداية الهجمة ضدَّه مِن المتطرفين والمتهمين بالإرهاب الدِّيني- على حدِّ زعمه- موضحًا أنهعبَّر في هذا الكتاب، وكتاب تفسير سورة الفاتحة له، عن اعتقاده وما يؤمن به، ولا يصحُّ له نسبة أيِّ اعتقاد له من أيِّ مصدر آخر له، ثم تتابعتْ عناوين الكتاب، فتحدَّث عن: لماذا نتفلسف، وأشكال السُّؤال الفلسفي، والنزعة الأخلاقية والحُكم الأخلاقي، وفلسفات السَّعادة ووعودها ومناهجها، وتقريب طريق السَّعادة، والحالة الإنسانيَّة معها، ثم تحدَّث عن تعريف الحالة الإنسانيَّة وأبعادها وعناصرها، وعن أبعاد الإنسان، وقُدراته العلميَّة والعمليَّة المحدودة، ولذَّاته وكمالاته، وحاجاته الذاتية وغرائزه، وذكر أنَّنا نعيش في عالمين: ذهني وخارجي، ثم تحدَّث عن الفعل، والكينونة المتناغمة وآثارها، ثم تحدَّث عن الوعي بالله تعالى ومعرفته، وعن احتضان الشكِّ، وعرَض أسئلة كثيرة وغريبة؛ مثل سؤاله: ماذا لو لم يكن الله تعالى موجودًا؟ وذكر الإجابات والتَّحليلات، ثم ختم الكتاب بعنوان: وماذا بعد؟، ثم الخاتمة.

ثانيًا: نقد الكتاب:
بدايةً نقرِّر: أنَّ مثل هذا الكتاب لا يستحقُّ العرض ولا النَّقد ولا الذِّكر أصلًا؛ إذ لا يحتوي على شيء! إلَّا ما ذكره مؤلِّفه من الشكِّ والحيرة، وعرض بدهيات وتناقضات في الوقت نفسه، وأباطيل وضلالات لا تحتاج إلى نقد، بل يصدُق عليها أنَّها: (أقوال لا نحتاج لإبطالِها إلى أكثرَ مِن إيرادِها)! بل قراءة مثل هذه الكتب تُصيب القارئَ بعُقدة نفسيَّة بل عُقد،وبشيءٍ من الغثيان، والرغبة في التقيُّؤ، إلَّا أن سبب عرضه ونقده راجعٌ إلى كثرة تأثُّر المتأثرين بهذا الاتِّجاه، وإلى كثرة ذيوعه وانتشاره؛ فأردْنا بهذا العرْض والنقد أمرين اثنين:
الأوَّل: بيان طريق الحقِّ والهدى والنُّصح لهذه الفِئة المشكِّكة في وجودِ الله تعالى؛ لأنَّهم حقًّا قوم مساكين، حيارى تائهون، فأردْنا تبيين باطلهم لهم أولًا؛ لعلَّهم إلى الحقِّ والهدى يرجعون، وإلَّا فَلِيهلكَ مَن هلك عن بيِّنة، ولِيَحيا مَن حيَّ عن بيِّنة.
الأمر الثَّاني: إرشاد الشَّادِين مِن المثقَّفين والمغترِّين بأمثال هؤلاء، الذين يغرُّهم زخرف القول، ويشعرون بالكبْت، فيجدون مع أمثال هؤلاء الانطلاقَ والتحرُّر، خصوصًا الشباب والفتيات الذين يتَّبعون أمثال أولئك -أردْنا إرشادَهم وتحذيرَهم مِن مثل هاتيك المسالِك؛ وذلك أنَّ الله تعالى قد وضَّح الحقَّ من الباطل وفصَّل لنا الآيات؛ ولتستبين سبيلُ المجرمين، وأخَذ علينا الميثاق لنبينه للنَّاس ولا نكتمه، ولنعتذرَ أيضًا إلى ربِّنا ولعلَّهم يتقون.

ولعلَّ من المناسب قبل نقْد هذا الكتاب أن نُشير إلى مقدِّمات ومسلَّمات مهمَّة باختصار، وإنْ كان الأمر يحتاج إلى مزيد بسط وتفصيل، لكن ليس هذا محلَّه:
1- أنَّ البشرية كلَّها لا تحتاج لهدايتها وطُمأنينتها وسعادتها في الدُّنيا والآخرة أكثرَ من القرآن والذِّكر الحكيم، وما فصَّله ووضحه نبيُّنا الكريم، فقط إذا اعتصمت بهما، وأحسنت التدبُّر،والعمل والاتباع؛ قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51]، والآيات في هذا كثيرة معلومة، وقال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «يا أيُّها النَّاس، إنِّي قد تَركتُ فيكم ما إنِ اعتصمتم به، فلنْ تضلُّوا أبدًا؛ كتاب الله، وسُنَّة نبيِّه»[رواه مالك في الموطأ(3)، والحاكم (319)، صحَّحه ابن حزم في ((أصول الأحكام)) (2/251)والألبانيُّ في ((صحيح الترغيب والترهيب)) (40)]. وما ترك نبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم من خير إلَّا دلَّ الأمَّة عليه، وما ترَك من شرٍّ إلَّا حذَّرنا منه، وهذا يعمُّ كلَّ شيء: العلوم التنظيريَّة والعملية؛ يعمُّ المناهج والأفكار، ويشمل الأحكام والأعمال، والحِكمةُ ضالَّة المؤمن أينما وجدها فهو أحقُّ بها، وهذا ضابطُ الاستفادة والانفتاح على الشَّرق والغرب؛ نأخُذ ما يُفيدنا وما يوافق ما إليه هدَانا ربُّنا ونبيُّنا، وندَعُ ما يضرنُّا وما حذَّرنا منه ربُّنا ونبيُّنا. وليس هذا كبْتًا ولا انغلاقًا على الذات كما يُلبَّس على شبابِنا.

2- العقل الصَّريح لا يخالف ولا يعارض أبدًا النقل الصَّحيح من الوحي كتابًا وسُنة، والعقل خلَقه الله تعالى وجعَل له حدودًا وقُدرة، وأمرَنا بالتعقُّل والتفكُّر والتدبُّر، في حدود ما أطاقه العقل، ومَن كان عقله سليمًا صحيحًا لم يتدخَّل فيما لا يُطيقه ولا ما يَستطيع أن يُدركَه.

3- الاستسلام والانقياد لله تعالى ولشريعته، والالتزام الكامِل بهذا في كلِّ مناحي الحياة، هو الحرية الحقَّة، والتحرُّر الصَّحيح من العبودية والأسْر للمخلوقين، وليس هذا كبْتًا، ولا انغلاقًا، ولا تخلفًا ولا رجعيَّة، كما يزعُم الملحِدون والعلمانيُّون والليبراليُّون ومَن يُسمَّون بالتنويريِّين؛ بل النور المبين، والهدى والحق والصِّراط المستقيم،والعدل القويم،هو في منهج الله تعالى فقط؛ قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15، 16].

ونحاول هنا أن نركِّز نقْدَنا على الكتاب ومؤلِّفه في عِدَّة نقاط:
1- منهجه وفكره:
يقول (ص: 14 – 15) واصفًا هذا المنهج وهذا الفِكر بأنَّه: (مشروع فكري ثقافي دِيني بدأ يبرز في مدينة جدة، ففكرة الكينونة لم تكُن كتابًا فحسب، وإنما منهجًا وطريقة لخَلق حوار حر ومفتوح في أشدِّ القضايا حساسية. حوار يهدف إلى طرح كافة الأسئلة من دون خوف، ومن دون وصاية، ومن دون وعظ، ومن دون حُكم. لقد كانت لقاءات الكينونة المتناغمة تجربة لخلق فضاء حواري مفتوح؛ فالحياة بيننا تقوم على تبادل الأفكار. وكافة أبعاد حياتنا ما هي إلا محصلة لمجموعة أفكار الْتقَتْ. سواء نتج عن اللقاء اندماج أو تضاد أو تقاطع...).
ويقول (ص: 20 – 21): (إنَّ غياب مثل هذه اللقاءات لهو خسارة كبيرة للمملكة التي تواجه تحديات ثقافية هائلة، والتي هي أحوج ما يكون إلى مثل تلك الأجواء التي كان يتم تكوينها).

فنقول: بلْ إنَّ كثرةَ المسائل و(طرح كافة الأسئلة من دون خوف، ومن دون وصاية، ومن دون وعظ، ومن دون حُكم) سببٌ للكُفر بها، وسبب أيضًا للهلاك؛ فمِن الأسئلة ما يَسوءنا إبداؤُها كما قال ربنا سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} [المائدة: 101، 102]، وبكثرة المسائل والتنطُّع هلَك مَن كان قَبلنا من سائر الأمم، كما أخْبر بهذا الصَّادق المصدوق صلَّى الله عليه وسلَّم؛ إذ يقول: «ما نَهيتُكم عنه فاجْتَنِبوه، وما أمرتُكم به فافعلوا منه ما استطعتُم؛ فإنَّما أهلَك الَّذين مِن قبلكم كَثرةُ مسائلِهم، واختلافُهم على أنبيائِهم» [رواه مسلم (1337)]، وقد أدَّي به هذا المنهجُ إلى طرْح أسئلة كثيرة وغريبة؛ مثل قوله (ص: 180) والعياذ بالله: (ماذا لو لم يكن الله موجودًا؟)، وقد عرَض هذا السؤال على مجموعةٍ كبيرة من الناس، وفي غير مناسبة ومن خلفيات عمرية مختلفة، ووجد لها إجابات متنوِّعة، ثم قام بتحليلها! بل نراه حينما يأتي ليجيب ينطلق في وادٍ فسيح من الأسئلة؛ يقول في الصفحة نفسها (180): (منطلقي في الإجابة يبدأ من سؤال آخر عن ما هو الله تعالى لنا؟ ما هي مكانته في أنفسنا؟ لو لم يكن الله موجودًا، أو لو لم نكن نؤمن بالله تعالى؛ فكيف ستكون حياتنا؟ لو ألحَدْنا في هذه اللحظة؛ فكيف ستكون حياتنا في اللحظات التي تليها؟ هل سنشعر أنَّنا فقدنا أمرًا؟ أو كسبنا أمرًا؟)! وفي الكتاب من أمثلة هذا كثير.
كما أنَّ منهج كثرة الأسئلة في كلِّ شيء، دون أيِّ خوف ودون مراعاة أيِّ حدود، هو سَببٌ للشكِّ والحَيرة التي يُعاني منها المؤلِّف - وبالطبع هو لا يرَى هذا الشكَّ وهذا القلق معاناةً أصلًا، بل يتَّخذه منهجًا أيضًا - كما سيأتي في النقطة التالية:

2- الشكُّ والحَيرة واستفزاز الرُّوح وعدَم وضْع الحلول، أو الوصول إلى اليقين:
وهذا المنهج يسير مع الكاتِب من أوَّل الكتاب إلى نِهايته - كما سنرى - ويتطرَّق به إلى مدًى غريب عجيب!
يقول (ص: 36): (المسلَّمة الثالثة: لا يوجد الطريق التام والكامل: فالمناهج متعدِّدة في هذا المجال، والأساليب تتنوَّع، ولا يمكن لأحد إلَّا أن يُقدِّم مجموعةً من الأفكار غير المكتملة وغير الكاملة بهدف إثارة دفائن العقول، وليس تقديم الحلول الشاملة...).

ويقول عن نفسه وعن كتابِه (ص: 39): (وبالتالي فعندما أقطع وأتيقَّن في بعض المواطن فإنه قطع ويقين عليَّ وليس على غيري، وما آمله ليس أن يقدِّم لك حلًّا وإنما أن يستفزَّ فكرك، ليس أن يعطيك الأجوبة وإنما أن يستثير روحك).
ويتطرَّق به الشكُّ حتى في معرفة الله تعالى إلى أن يقول (ص: 177): (هذه قضية خامسة ذات صلة بمعرفة الله تعالى، وهو أنَّ علينا ألَّا نخشى من الشكِّ؛ فالموضوع نفسه يحتمل الشكَّ بدرجة عالية، ومَن لم يشكَّ لم يعرف، بمعنى أنَّ مَن ظنَّ اليقين دومًا هو في الحقيقة لا يعرف موضوع بحثه، اليقين ليس ممكنًا ولا مطلبًا...)!
بل يحتضِن هذا الشكَّ، ويَعيب مَن يرفضه ويقاومه، ويعدُّ عدمَ اليقين مصدرَ قوَّة!يقول (ص: 178 – 179): (والشاكُّ بعد شكه يحافظ على إيمانه لا لأنه تجاوز الشك، بل لأنه احتضنه، واستطاع أن يتعايش معه، بعبارة أخرى استطاع أن يتعايش مع محدودية ذاته ومحدودية فكره، وتقبل أنه لن يجد الجواب على كلِّ شيء، أسوأ ما نعمله هو أن نرفض الشك وأن نقاومه، علينا أن نحتضنه ولكن نبقيه في نِطاقه، وما أقصده باحتضان الشك هو أن ندرك أنَّ السؤال طبيعي وأنَّ الشك طبيعي، بل وأنه صحي وضروري أحيانًا، احتضان الشك هو بأن نتفاعل معه، وأن نتعايش معه أحيانًا... الاحتضان أيضًا هو ألَّا نشعر بالإرهاق من حالة اللايقين، بل نعتبر اللايقين مصدر قوة في أكثر الأحوال).
ويظلُّ هكذا إلى أن يأتي في آخِر صفحة في الكتاب ويشكُّ أيضًا! فيقول (ص: 232): (ولا أدري هل بهذا أكون قد أكملت ما كنت عازمًا على المشاركة فيه؟ هل أنا أختم أم أبدأ؟ هل عدت من حيث بدأت؟ أم تهيأت لانطلاقة جديدة؟ أم لاستكشاف آخر؟ سألني أحد: هل نفعك الكتاب؟ أو هل نفعتك الأفكار هنا؟ هل تعيش هذا الأمر؟ لا أعرف كيف أجيب على هذا؟!... هل حياتي أحسن؟ هناك جوانب في حياتي تتحسَّن، وهناك جوانب تتدهور، وهناك أسئلة وشكوك يرافقها قلق شديد، ولكن هناك أيضًا جوانب تُضاء، وشعور بعمق روحي... ثم هناك الكثير ممن وجدتهم سعداء، ثم بعد اللقاءات الحوارية التي دارت حول بعض الأفكار هنا ارتبكت أمورهم، وكنت أسأل نفسي: هل أفيدهم؟ بعضهم سعيد بما هو عليه فهل أقدِّم أمرًا يضيف سعادة إليهم؟ هذا القلق لن يتوقَّف، ولكن قطعًا سأستمر في التفكير، وفي استماع أفكار الآخرين وفي مشاركة الآخرين أفكاري. لعلي أقابل الله وقد عرفت نفسي وعرفته أكثر)!
وحُقَّ لقارئ هذا الكلام أن يقول: «الحمدُ لله الذي نجَّانا ممَّا ابتلى به كثيرًا من الناس، وفضَّلنا على كثيرٍ ممَّن خلق تفضيلًا».
ونحسب أنَّنا لا نحتاج إلى إيراد أدلَّة ذمِّ هذا الشك وهذا القلق؛ لاستقرار هذا في كلِّ الفطر السَّليمة، وكل العقول النيِّرة؛ فكيف يصحُّ في الأذهان شيءٌ إذا احتاج النهار إلى دليل؟!

3- تصوُّره للعَلاقة بالله تَعالى والاتصال به:
يَشعُر المؤلِّف بالانفصال عن الله تعالى، ويضع لنفسه تصورًا للعلاقة معه، وينتقد العلاقة المصالحيَّة - كما يُسمِّيها - وهو كلام غريب متناقِض، يشبه كلام غُلاة المتصوِّفة والقائلين بوحدة الوجود:
يقول (ص: 185): (لماذا السؤال؟ نشأ هذا السؤال (ماذا لم لو يكن الله موجودًا؟) بسبب شعورٍ بالانفصال عن الله تعالى، وشعورٍ بعدم الملاءمة أو النشاز، عدم ملاءمة ونشاز لأمر غير ظاهر. وكان الشعور يتأكَّد لما [الصواب: حِينما] أجد الجواب الثاني حاضرًا لديَّ أكثر من غيره. وكنت أشعر عندها أنَّ العلاقة المصالحية مع الله تعالى غير لائقة به وسطحية للغاية؛ غير لائقة لأنني حوَّلت الله تعالى إلى وسيلةٍ وجعلت ما يُعطينيه الله هي المعبود على الحقيقة:صرت أعبد المكافأة لا الله، وسطحية لأنني كنت أشعر أنَّ طبيعة وجودي من المحدودية بحيث إن الإيمان بالله يجب أن يعيد تعريف نفسي أمام نفسي، فكوني لا شيء، وكوني اتصلت بالله تعالى لا بدَّ من يغير من لا شيئيتي، ولكن في العلاقة المصالحية فإنني أنا ولا أتغير سواء فقدتُ الله أم وجدته، وما يتغيَّر إنما هو حال الاطمئنان والثقة في هذا العالم القاسي؛ وذلك لأنني في العلاقة المصالحية لا أضيف نفسي إلى الله و إنما أضيف منافعه تعالى إليَّ).
ويستمر قائلًا: (ولعلي كنت أبحث عن سراب، فلعلَّه وهمًا [الصواب: وهمٌ] أن أتوقع بأن نجد الله في غير كونه راعٍ[الصواب: راعيًا]، وقد يكون تكلفًا ومثالية زائفة أن أحكم على العلاقة المصالحية بأنها غير لائقة بالله تعالى، ولعلَّ تعاليَ الوجود الإلهي وتدني الوجود الإنساني يجعل العلاقة الوحيدة الممكنة به هي العلاقة السطحية. أو لعل غاية ما يمكن هو إدراك الأمر فكريًّا ولكن ليس شعوريًّا؛ أي إدراكنا العقلي بأنَّنا موجودات مُمكنات شبه معدومات لا تقوم إلَّا بالله تعالى، ولكن بغير أن يتعدَّى ذلك إلى الشعور. و أيًّا كان الصواب، فذلك منشأ السؤال).
ويقول (ص: 124): (لا يوجد اتصال حسي بالله تعالى، وبالتالي لا يوجد مسافة إدراكية، وعليه فلا يمكن للالتفات أن يتحقق من هذه الجهة، يبقى السؤال: هل هناك طرق أخرى للإدراك يمكن أن تتصل بالله تعالى ويمكن أن تحقق المسافة؟
نتوقع من الله تعالى أفعالًا بإزائنا، ونعلم أنه تعالى «ملتفت» إلينا وأنَّنا مكشوفون له تمامًا، ولكن الفرق أننا لم «نجرب» فعل الله تعالى المباشر لهذا التوقع، فتوقعنا للفعل المجرب أكثر من توقعنا للفعل غير المجرب، نحن نجد الناس تكفُر وتظلم ولا يحصُل لها شيء).

وهذا الكلام الغريب الغامض لا يعرفه المسلمون الموحِّدون، ولا يعرِفون مثل هذه الترَّهات. والله سبحانه وتعالى قد رغَّبنا في ثوابه ووعَدنا بالجنة وما فيها من أنواع النَّعيم، ووعدنا برضوانه والنظر إلى وجهه الكريم، وكل هذا متَّسق وواضح، ولا يعني أنَّها علاقة مصالحية أو سطحية كما يصف المؤلِّف، ولما سأل النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم رجلًا من أصحابه: «ما تقول في الصَّلاة؟» فقال: أتشهَّد ثم أسأل اللهَ الجَنَّة، وأعوذ به مِن النار، أمَا واللهِ، ما أُحسن دَندنتَك، ولا دَنْدنةَ معاذٍ فقال له النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «حَوْلَها نُدندِنُ» [أخرجه أحمد (15898)، وأبو داود (792)،وابن ماجه (910، 3847)،وصحَّحه ابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (2/226)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (3163)]؛ فلم يذمَّه، ولم ينكر عليه، ولا قال له: إنَّ علاقتك مع الله مصالحية، أو سطحية، وهو صلَّى الله عليه وسلَّم أعلمُ الناس بربه، وأتقاهم وأخشاهم، وأحسنهم علاقةً واتصالًا به - عزَّ وجلَّ؛ فهل يقول المؤلِّف بأنه يريد أن يتَّصل بالله تعالى أو ينشئ علاقةً معه أحسن من اتصال النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وعلاقته بربِّه؟!

4- عقيدته وتصوُّره في الله تعالى، وفي التوحيد:
المؤلِّف يطْرَح تصورًا خاصًّا به وبمَن اتَّبعه، وهذا التصوُّر لا يتَّفق مع التصوُّرات السائدة عند المسلمين، وحتى عند غيرهم من أهل الأديان أيضًا؛ هذا التصوُّر لا يعرفه إلا هو وأتباعه فقط!
يقول (ص: 37): (وكفرع لهذا الأمر طرحتُ تصور[الصواب: تصورًا] عن الله يتلاءم مع فكرة الكينونة؛ لأنَّ التصورات السائدة لا تعطي المجال للتوسع الأفقي بقدر ما تعزز فكرة الضبط الإرادي... على سبيل المثال يمكن قبول إن التوسع الرأسي ضروري، ولكن نفي الحاجة إلى الله، واعتبار أنَّ الفن مثلًا بديلًا ملائمًا لهذا الأمر...)!
ويقول عن الارتباط بهذا الإله الذي يصفه بالموجود المطلَق! (ص: 137 – 138): (الارتباط مع موجود مطلق: مطلق القدرة، مطلق العلم، مطلق الحضور، مطلق الحِكمة، مطلق العدل، وهذا يكاد يكون من المسلمات بين جميع الأديان، وطائفة كبيرة من الفلاسفة، والبعض يفسِّر به نشوء الأديان وفكرة التقديس، والخلاف هو في تحديد من أو ما هو هذا المطلق؟ وما صفاته؟ وهل يريد منا شيئًا؟ وكيف يمكن معرفته؟ وكيف يمكن الارتباط به؟ ... إلخ من الأسئلة. ولكن كما قلت أولًا: فإن بعض الحاجات مختلف عليها، والبعض يجادل في حقيَّة هذه الحاجة، وهل هي فعلًا موجودة. أم أنها وهم. والبعض يرى أن الأديان لكي تحافظ على قيمتها بين الناس تحاول أن تُديم هذا الخطاب الذي يدعي وجود هذه الحاجة، لعلَّ أقرب حاجة إلى هذه هي الحاجة إلى الفن والاندماج مع أنواع منه مثل الموسيقى، ممَّا يوحي بأن فينا ما يريد الاتصال بشيء لا حدود له. والموسيقى تقدم هذا كمَا تقدمها كثير من الفنون الذي تخلق تلك الإيحاءات، لا يعني هذا أن المطلق موجود، فالحاجة إلى شيء ليست دليلًا على وجود ذلك الشيء...).

ويقول: (ص: 197): (لا بد من تجاوز الذهنية السحرية التي شكلت رؤيتنا لله فيما سبق؛ لأنَّ تلك الذهنية تقيد رؤيتنا لله تعالى بشكل جذري، فلا تسمح لنا إلا برؤية من نوع خاص وتحجب عنا رؤى أخرى، نحتاج إلى ذهنية واقعية تفسح لنا رؤية لله تعالى كما هو...).
ثم يقول (ص: 226): (ولكن مع ذلك تبقى مجموعة من الإشكالات التي لا أملك الإجابة عليها الآن بشكل حاسم، فالتصور الذي أطرحه يقدِّم تصورًا عن الله يختلف جذريَّا عن التصور السائد بيْن المسلمين؛ فكيف يمكن التعاطي مع فكرة التكليف؟ أو فكرة الاختبار تحديدًا؟ فالله بالمعنى الذي تكلمت عنه ليس الإله الذي يختبر البشر بأمور يوجبها عليهم أو يحرمها عليهم، وكيف يمكن التعامل مع الوعيد؟ فالله هنا لا يتلاءم معه نوع الوعيد الذي تتحدَّث فيه الأديان)!
وعن التوحيد وطبيعة الإله حسب تصوُّره يقول (ص: 203): (ولذلك فقد تأرجحت الرؤية التوحيدية بين توحيد سحري أو توحيد انفصالي: إمَّا إيمان بإله يتدخَّل بشكل مباشر ومضطرب في شخصيته، يتم إسقاط صفاتنا البشرية عليه، وإمَّا إيمان بإله واحد منفصل تمامًا عن الكون وما فيه...أمَّا الموحد فمأزقه أنَّ ليس أمامه إلا مصدر واحد للقوة، وهذا المصدر الوحيد لا أمان في العلاقة به، ومن ينظر إلى العهد القديم أو إلى بعض كتب الحديث بين المسلمين ويقرأ كيف تظهر شخصية الإله فيها، وكيف تظهر شخصيات الأنبياء ورسل الله،سيدرك التأثير لمثل هذا العقل ونوع الشخصية التي يمكن أن تتمخَّض عنه).
ثم يقول: (أيضًا فكرة الهوية الدِّينية ستفقد الكثير من أرضيتها، فهي ترتكز على الإيمان بإله نعرفه ولا يعرفه غيرُنا، بوحي اتَّبعناه ولم يتبعْه غيرنا)!
نقول: نعم! هو تصوُّر مختلف غير سائد، عن إله لا يعرفه أحدٌ من العالمين، إله ليس عنده وعيد، ولا حاجة للتكليف أيضًا، ولا حاجة للاختبار، نعم هو إله لا يُحتاج إليه، وقد يستعاض بالفن - الموسيقا تحديدًا - بديلًا عن هذه الحاجة؛ أيُّ فساد وأيُّ ضلال في هذا التصوُّر! وهل هذا يكون إلهًا؟! تعالى الله عمَّا يقول الظالمون الجاهلون المشكِّكون الملحدون علوًّا كبيرًا.
بل هذا التصوُّر مبيحٌ للانفلات والإباحيَّة بكلِّ صُورها- كما سنرى في نقطة تالية من كلام المؤلِّف؛ إذ لا تكاليف، ولا وعيد، ولا اختبار؛ فعلى حسب تصوُّره هذا يصنع المرء ما شاء، ويتمتَّع بما أراد،ولا يخشى شيئًا؛ لا يخشى عقابًا، ولا تحقُّقَ وعيد، ولا مجازاة ولا عذابًا على اختبار وابتلاء، بل يأمن بهذا الإله الذي تصوره، وتصوَّر الأمان في العلاقة معه!

5- عقيدته في الوحي (القرآن)، وأنه لا يقدم دائمًا الجواب النهائي، وأنَّ لهجته قاسية ويجب تقييدها بالظرف الذي نزل فيه:
يقول (ص: 204): (وثنائية التماهي والتعالي هي إحدى مُشكِّلات الوحي. وبقراءة الوحي من جهة أنه نص تماهي وتعالي فإننا سيمكن أن نقول إن الوحي:
1. يتماهى مع الشكل الموجود وليس مع المضمون.
2. تكلم بسكوته بقدر ما تكلم بنصه. فكثير من الصيغ التي استثناها وتجبنها أرسلت رسالة أن الله ليس هكذا.
3. ثبَّت معانيه الأساسية من خلال آياته المحكمة.
.4 أحيانًا يقدم نقلات من إطار فكري وثقافي وتشريعي إلى إطار آخر، ولم يكن يقدم دائمًا الجواب النهائي.
5. مرساة للعقل ومستفزًّا لتفكيره أكثر من كونه مصدر معلوماتٍ له.
6. قسوة اللهجة القرآنية يجب تقييدها بالظرف الذي نزل فيه، وهو ظرف كان يعني الحياة أو الموت للدعوة من أصلها أو لأتباعها.
وبكل ذلك سيكون الوحي محور حياة، يدور حوله الجميع، ولكن ضمن أفلاك متعددة وليس فلكًا واحدًا...)
ويضرب على ذلك مثال ًا قائلًا:
(على سبيل المثال لنفهم فكرة «الأحد » في القرآن لا بد أولًا أن نفهم أنه كان جوابًا على سؤال، وأن السؤال أتى ممن يؤمن بإله واحد غير متوازن وغير مطرد، إله مضطرب ومتذبذب. لم يكن الأحد لوصف وحدة الذات أو الصفات بل وحدة الشخصية. إله أحد أي متوازن مطرد واحد راعٍ للخير. لقد فصلنا التوحيد عن جميع مصادر القوة الأخرى، وبذلك سمح لنا أن نكون أحرارًا وأن ننمو؛ إذا ما أردنا).
بل ذهب به الشَّطط والشكُّ والحيرة والضلال إلى أنْزعم أنَّ القرآن الكريم ليس مصدرًا أساسيًّا في معرفة الله تعالى!
يقول (ص: 175): (القضية الثالثة هي أن القرآن الكريم ليس مصدرًا أساسيًّا في معرفة الله. بل القرآن إلى حد كبير يتأثر بالمعارف السابقة لدينا ويتوجه بها، صحيح أن بعض المعارف السابقة لا يمكن تطبيقها على القرآن بغير بعض القسر، ولكن طبيعة النص اللغوي وطبيعة النص القرآني تحديدًا يجعل من انتزاع معان مختلفة منه ممكنًا)؛
فما الحلُّ إذًا - حسب تصوره وزعمه -؟:
يزعم أنَّ الحلَّليس في القرآن ولا في الوحي، بل هو في النِّقاش المستمَدَّة مادتُه مِن الفكر والفلسفة وعِلم الكلام والعلوم الاجتماعيَّة؛ يقول (ص: 175): (لا بدَّ للنِّقاش من أن يستمد مادته من الفكر والفلسفة وعلم الكلام والعلوم الاجتماعية، ولكن لا بد أيضًا من أن يتعامل مع تعاطي الناس للقضية بشكل جدي، كما لا بد من التخلِّي عن لغة الدليل والحجَّة والإلزام والإثبات، والتمسك بلغة الحوار المفتوح المتواصل، ولغة القفزات الإيمانية).
وإذا كان يرى الحلَّ في هذا، وأنَّ هذا يؤدي به إلى اليقين، إذًا لأثبت تناقضه مع نفسه أيضًا وهذا يظهر في النقطة التالية، وهي:

6- زعمه أنَّه لا يقين! ولا مصادر يقينيَّة للتعرُّف على الله تعالى:
يقول (ص: 174): (القضية الأولى التي يجب إثارتها في باب معرفة الله هو أنه لا يمكن الوصول إلى يقين فيها؛ وذلك لأننا لا نملك وسيلةً للتحقق من صوابيَّة الرأي أو خطأه [الصواب: خطئِه]، لدينا الأدوات لبناء معرفة، يمكن لنا أن نقدم تصورات ومفاهيم مفيدة. يمكن استكشاف التناشز بين المفاهيم واعتباره وسيلة لتصحيح الصورة الكلية، ولكن لا يمكن الوصول إلى يقين؛ لذلك فالسبيل الوحيد الممكن في هذا الأمر هو التفكير والنقاش مع الآخرين، ومحاولة استكشاف أفضل ما يمكن من خلال هذا).
بل يزعم أنَّه لا يقين أصلًا، وأنَّ اليقين ليس ممكنًا ولا مطلبًا، كما مرَّ قوله (ص: 177): (اليقين ليس ممكنًا ولا مطلبًا...).
فهل مجرَّد التفكير والنقاش مع الآخرين كافٍ لإثبات أعظم حقيقة في الوجود، ومَن هم هؤلاء (الآخرين) ما عِلمهم؟ وما ثقافتهم؟ وما مقدار معرفتهم بالله تعالى وصِفاته؟ وكيف هي طبيعة هذا النِّقاش؟ أهو نقاش حر مفتوح تُتاح فيه كلُّ الأسئلة من غير حرج أو خوف كما ذكر المؤلِّف فيما سبق؟! ألَا ساء ما يَحكُمون!

7- نفيه للحِكمة الإلهيَّة في كلِّ ما يحدث:
يقول (ص: 90): (إن الأحداث السيِّئة نتيجة لتخطيط بشري سيء[الصواب: سيِّئ]، وليس نتيجة لحِكمة عليا).
وهذا من أبطل الباطل، وأسفه السَّفه؛ إذ لا حادثةَ تقَع في الكون إلَّا بعلم الله تعالى وإذْنه، ولا تقَع إلَّا لحِكم جليلة قضاها سبحانه، وما يعقلها إلَّا العالمون؛ قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 22، 23]، وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11]، وقال سبحانه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]، وقال تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء: 26]... إلى غير ذلك ممَّا يطول ذكره من الآيات، وأمثاله في السُّنة النبويَّة وتاريخ البشرية كلها كثيرٌ.

8- عقيدته في الأنبياء والمُرسَلين ومنهجهم:
يقول (ص: 81): (ولو فرضنا وجود ذلك المنهج فلن نجد شخصًا يمكنه أن يستوعبه تمامًا. لأن هذا معناه شخص عبقري فذ للغاية. محيط بتفاصيل لا تُحصى. ولكن لو فرضنا وجود ذلك الشخص، نبي مثلًا أو فيلسوف نادر الوجود، فلن يستطيع أن ينقله كاملًا إلينا بطريقة مقنعة لكل أحد: إمَّا لمحدودية فيه أو لمحدودية في حجَّته، أو لمحدودية المتلقِّي ومحدودية قدراته ومحدودية رؤيته المعرفية، أو لمحدودية وسائل الاتصال المثالي. فكمال الشخص لا يعني كمال الاتِّصال ولا كمال التلقِّي).
والمعلوم الثابت أنَّ الله تعالى قد أعْطى كلَّ نبي ما على مثله آمن الناس معه، وقد أُوتي نبينا صلَّى الله عليه وسلَّم أعظم هذه الآيات، وهو القرآن الكريم، ورجَا أن يكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة، وهو متحقِّق له بفضل ربه جلَّ وعزَّ، ومعلوم أنَّه والأنبياء كلهم صلَّى الله عليهم وسلَّم، قد بلَّغوا البلاغ المبين، الذي تنقطع به كلُّ الحجج؛ قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165]، وقالت الصِّديقة بنت الصِّديق عائشة بنت أبي بكر – رضي الله عنهما: «... ومَن زعَم أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كتَم شيئًا مِن كتاب الله، فقدْ أعظمَ على الله ِالفريةَ، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولَ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67]...»[أخرجه مسلم (177)]، فقد نقل نبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم الرسالة وبلَّغها كاملة، وتلقَّاها عنه أصحابه رضوان الله عليهم كاملةً، ووصلتنا كاملةً، مِن غير تلك المحدودية التي يتحدَّث عنها المؤلِّف.
وكمِثال أيضًا على سوء تصوُّره للأنبياء والمُرسَلين ننظُر كيف يصِف النبيَّ الكريمَ بنَ الكريمِ بن الكريم، يعقوبَ بنَ إسحاقَ بنِ إبراهيم - عليهم السلام -:
يقول (ص: 70): (بل القرآن يحكي لنا قصَّة اكتئاب النبيِّ يعقوب مقدما نموذجًا مهمًّا لشخص متصل بالله أعلى درجات الاتصال البشري، ومع ذلك يصاب بالاكتئاب لفقدان ابنه. المسألة أكثر تعقيدًا مما نتصور أو يحاول البعض أن يصور.)

ويُمعن المؤلِّف في سمادير هواه، مسوِّلةً له نفسُه أنَّ هذا الوصف بالاكتئاب ليس ذمًّا ولا تنقيصًا من قدْر هذا النبيِّ الكريم، وأنَّ الإيمان لا يمكنه أن يُعالِج هذا الاكتئاب، ولا يتدخل فيه، فيقول (ص: 83): (فالنبي يعقوب عليه السلام رجل متصل بالله وتام في أخلاقه وسلوكه ووعيه وعقله، ولكنه مع ذلك يمر بتجربة حزن شديدة أشبه بما نسميه اليوم اكتئاب وذلك بسبب فقدانه لابنه. إيمانه بالله واتصاله به تعالى لم تمنع [الصواب: يمنع] من الإصابة بالاكتئاب. هذا مع أن القصة القرآنية تأتي من منظومة فكرية تفترض أن غاية السعادة ومنتهاها هي بالاتصال بالله، ومع ذلك فلم يمنع ذلك الاتصال الوصول إلى تلك الحالة، وربما ساعده إيمانه على التعامل مع حالته بحيث لم تقهره أو تكسره، ولكنه اكتئب[الصواب: اكتأَب] بالرغم من ذلك. ولا ينقص منه أن أقول: إنه كان مكتئبًا؛ لأنَّ هذا ليس قدحًا فيه ولا في إيمانه؛ فالإيمان والأخلاق مصدرهما غير الحزن والاكتئاب. الاكتئاب ألمٌ مثل بقية الآلام: الصداع ألم، وكسر الرجل ألم، والحمى ألم، والاكتئاب ألم آخر. الفرق أنَّ أسبابها تختلف. وبعضها هرموني، وبالتالي لا يمكن للإيمان أن يعالجها. وبعضها ذات صلة بعوارض عاطفية وهذه أيضًا لا يتدخل الإيمان في علاجها).

فالمؤلِّف لم يستطعْ أن يفرِّق بين الحزن والرحمة التي في قلب نبي الله يعقوب، والتيهي من كمال الإنسان، وبين الحالة النفسيَّة التي تسمى الاكتئاب الذي لا يستريب عاقل أنه من نقص الإنسان، ومِن منقصات الإيمان، وهل غاب عنه ما حكاه الله تعالى عن نبيه يعقوب أنه قال في موضعين: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]، {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم} [يوسف: 83]، وهذا الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه ولا جزع- كما يقول المفسِّرون – وبالأحرى لا اكتئاب معه. وإنَّ من أحسن علاج لحالة الاكتئاب التي انتابت كثيرًا من الناس اليوم هو الإيمان بالله تعالى الإيمان الصحيح، وعلى هذا اتَّفق العالمون، والأطبَّاء الحاذقون؛ فكيف يزعم المؤلِّف أنَّ الإيمان لا يتدخل في علاجها؟! ولو سلَّمنا أنه ليس نقصًا، فأضعف حالاته أنَّ وصف نبي الله يعقوب بمثل هذا الوصف هو مِن سوء الأدب وقلَّته مع أنبياء الله المكرمين.

9- إنكاره للعذاب، وفتْحه باب الانحلال والتحرُّر من كلِّ التكاليف:
يستهلُّ المؤلِّف كتابه (ص: 23) داعيًا إلهه ومعبودَه بقوله: (... وثبت في قلبي الإيمان بغِناك عني وعن الإصابة في حقك وبأنك لا تبالي إن أخطأت فيك).
نقول: كيف لا يبالي الإلهُ إنْ أخطأ فيه العبدُ؟! يوضِّح لنا ذلك بقوله (ص: 178):
(بل مسألة الوعيد أيضًا مرهقة؛ لماذا يخلقنا الله ثم يُعذِّبنا؟ لماذا يعذبنا بذلك العذاب الشديد الشديد!! ولماذا يعذبنا على قضايا لا يبدو أنها تستحق هذا العذاب؟ هذه النقاط يجب ألَّا تغير من الجمال الموجود في لوحة الوجود. الجمال الذي هو الله ومن الله).
ثم يختم بثالثة الأثافي في قوله (ص: 227): (النجاح في الآخرة ليست [الصواب: ليس] بالحرمان من الدنيا، بل كل لحظة في الدنيا تستحق أن تعاش. كل تجربة تستحق أن تجرب. بشرط واحد أن لا تكون التجربة فيها تعدٍّ على الغير. إن كل تجربة واستكشاف ذاتي هو خير. وكل تجربة تقوم على إيذاء الغير هي سيئة. والله تعالى أجل وأكرم وأحكم وأغنى من أن يعاقبنا على «المعصية»)!

ونقول: إنَّ من حِكم الله عز وجل العظيمة وعدله وكرمه، أنْ أثاب الطائعين، وعذَّب العاصين، بعدما بيَّن لكِلا الفريقين النَّجدين: طريق الهُدى وطريق الضلالة، وخلق لهم قُدرة وإرادة ومشيئة، ولم يجبرهم على الطاعة ولا المعصية؛ فمَن شاء وفَّقه بفضله، ومَن شاء أضلَّه بعدله سبحانه،وليس هذا منافيًا لعدل الله تعالى ولا لحِكمته، ولا للجمال الذي وصف نفْسه به سبحانه، وأدلَّة هذا أكثر من الحصر، ولكن مَن ضاق عطنُه فهوعن فهم هذا وتصوره بعيد؛ فالقدَر سرٌّ من أسرار الله تعالى،وكما قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو أعلم الخلق به: «إنَّ الله لو عذَّب أهلَ سمواته وأرضِه لعذَّبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانتْ رحمتُه لهم خيرًا من أعمالهم»[أخرجه أحمد (21589 )،وابن ماجه (77)،وصحَّحه ابن حبَّان والحاكم وغيرهما]،وينظر في تفصيل هذه القضية الكبرى: الكتاب الماتع (شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل)، فهو كاف شاف إن شاء الله تعالى لمن أراد الهداية.
بل إنَّ مِن أعظم أسباب المغفرة عِلمَ العبد بأنَّ الربَّ الجليل يغفر الذنب، ويأخُذ بالذنب ويعاقب عليه؛ كما أخبر بذلك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فيما يحكي عن ربِّه عزَّ وجلَّ أنَّه قال: ((أذنَب عبدٌ ذنبًا، فقال: اللهمَّ ! اغفِرْ لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنَب عبدي ذنبًا ، فعلم أنَّ له ربًّا يغفر الذنبَ، ويأخذ بالذَّنبِ، ثم عاد فأذنب، فقال: أي ربِّ ! اغفرْ لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبًا، فعلم أنَّ له ربًّا يغفرُ الذنبَ، ويأخذُ بالذنبِ، ثم عاد فأذنب فقال: أي ربِّ ! اغفرْ لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنبَ عبدي ذنبًا، فعلم أنَّ له ربًّا يغفرُ الذنبَ، ويأخذ بالذنبِ، اعملْ ما شئت فقد غفرتُ لك)) [أخرجه مسلم (2758)]، وقوله: ((اعملْ ما شئت فقد غفرتُ لك)) ليس معناه الإذن بالذُّنوب، وإنما معناه: ما دمت تُذنب ثم تتوب، معترفًا بذنبك، خائفًا من ربِّك، عالما أنه يأخذ بالذَّنب، غفرت لك ولو تكرَّر منك الذنب.

وبطبيعة الحال يتَّخذ هذا الإنكار لكلِّ نصوص الوعيد، وهذا الاعتقاد المنحرِف الذي هو أبطلُ من الباطل نفْسه، تكئةً لفعل ما يشاء، ثم يدعو إلى الانحلال، والتخلِّي عن الالتزامات والولاءات، وبغير ندم! بقوله (ص: 24): (إنها حياة تتطلَّب من الأفراد أن يكونوا مرنين وقادرين على التكيف، والاستعداد المتواصل، واتخاذ تكتيكات قصيرة المدى، وبالتخلِّي عن الالتزامات والولاءات بغير ندَم).
ولله الأمر من قبلُ ومن بعدُ!

10- ثم يصل به المطاف بهذا الشكِّ وهذه الحيرة إلى أن يُضفي على الإنسان بُعدًا إلهيًّا، ويصفه بالأبديَّة وأنَّه لن يفنى!
يقول (ص: 79): ( بالنسبة لي فإن وجود العطاء المطلق لدى الإنسان حتى وهو محدود في قدره يدلُّ على أنَّ فينا بُعد إلهي[الصواب: بُعدًا إلهيًّا]. وأننا أكثر من جينات. ولهذا الكلام موضع آخر في البحث).
ولم نرَه تكلم عنه! إلا أن تكون عبارته التالية (ص: 164): ( ثم ينظر مرة أخرى لنفسه لينتبه إلى كونه فعلًا لله المطلق. هذا الإدراك يقدم حلًّا للتناقض السابق. فكون الله تعالى التفت إليه يعطيه قيمة عليا. فكوننا محدودي الوجود يعالجها أننا موجودون بالله تعالى. ثم ينظر مرة أخرى ليرى أن مع هشاشة وجوده إلا أنه سيبقى إلى الأبد ولن يفنى)!
وأرانا لسنا في حاجة إلى ردِّ على هذا الهراء.

دعوة أخيرة: إلى الهدى ائتنا:
وفي الختام نوجه الدعوة والنداء إلى الكاتب وأمثاله، وأتباعه من الشباب والفتيات فلَسْنا محرِّضين ولا راغِبين في أذاهم- كما يتَّهمون كلَّ مَن ينتقدهم وبنكر عليهم، بل ندْعوهم ونُناديهم شفقةً عليهم، ورجاءً لهدايتهم: أن يأتوا إلى الهدى، وإلى اليقين، وإلى الطُّمأنينة، وأن يَدَعوا الشكَّ والريب والحيرة والتيه، ندْعوهم أنْ يعرفوا الله تعالى كما وصف نفْسه بصِفات الكمال، ونعوت الجلال، في قرآنه الكريم، وتنزيله الحكيم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ تنزيل مِن حكيم حميد، وأن يَفيئوا إلى ظلال الوحي وإلى نور الهُدى الذي هدانا الله تعالى إليه، وأنْعَم به علينا؛ ففيه الهداية والسَّعادة، والإجابة عن كلِّ ما يدور بهذا العقل الذي خلَقه الله تعالى، ولا جرَم! فهو كلامُه ووحيُه، وهذا العقلُ خلقُه وصُنعُه، وندعوهم أن يتركوا ما لا ينفعهم من تلك الأفكار والضَّلالات والتيه والعَمَه، ونردِّد قوله سبحانه: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنعام: 71، 72]، ونحمده سبحانه كما حمده أهلُ الجنة قائلين: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 43].

وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا محمَّد داعي البشريةِ إلى صِراط الله المستقيم.