قراءة ونقد

الاحتساب المدني - دراسة في البناء المقاصدي للاحتساب
book
محمد العبدالكريم
عنوان الكتاب: الاحتساب المدني- دراسة في البناء المقاصدي للاحتساب
الناشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر - بيروت
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: 2011
عدد الصفحات: 103
عرض ونقد: القسم العلمي بمؤسسة الدرر السنية

ظهرت في السنوات الأخيرة، عدة حملاتٍ شعواء، موجَّهةً ضد جهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمملكة العربية السعودية، والأفراد العاملين فيه، وأخذت تشتدُّ بين الحين والآخر، مشرعةً في وجه هذه الفريضة العظيمة، أسلحةً متنوعة، ومن جهاتٍ متعددة، إلا أنَّ أسلوب الكتاب الذي بين أيدينا جديد، وإن تشابه مع القوم في تحقيق أهدافهم. فالسلاح المشهر عبره هذه المرة مختلف، فهو أجرأ، وأمضى، ويحقق المراد بأسرع وسيلة، وأضمن طريقة، حيث يسعى كاتبه -أستاذ أصول الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض- إلى إلغاء وجود هذا الجهاز بالمرَّة، مستخدمًا دعوى مختلفة، من نوع اضرب الدين بالدين، وهي تحقيق مقاصد الشريعة، متذرعًا في ذلك بآياتٍ قرآنية، وأحاديث نبوية، وحججٍ أصولية، وكلامٍ لأهل العلم، ثم هو يؤصِّل لنوعٍ آخر من الاحتساب، يقرِّر في كتابه أنه الأجدى والأصلح لتحقيق مقاصد الأمة الكبرى كما يعبِّر هو.
وسنقوم بعرض الكتاب، ونقد أبرز ما يُؤخَذ عليه.

أولًا: عرض الكتاب
قسَّم المؤلف كتابه إلى مدخل وثلاثة فصول وخاتمة.
وقد ذكر في المدخل الموضوعات التالية:
- اختطاف الحسبة
- مفهوم الاحتساب المدني في الشريعة.
- سبب ربط الاحتساب المدني بمقاصد الشريعة.
- الاحتساب ضرورة مدنية.
وتحدَّث في الفصل الأول عن: مقصد الشريعة في إقامة الاحتساب.
وعنون للفصل الثاني بـ: بناء الاحتساب المدني بمقاصد الشريعة، وفيه تعرض للموضوعات التالية:
أولًا: علاقة المعروف والمنكر بالضروري والحاجي والتحسيني.
ثانيًا: إعمال الاحتساب المدني في الواقع المعاصر بناءً على المنهج الشرعي في تقديم الضروري.
ثالثًا: فقه الموازنات بين المصالح والمفاسد.
وتكلم في الفصل الثالث عن: تصنيف الأضرار التي يتعرض لها المحتسب بحسب مقاصد الشريعة.
ثم ذكر في نهاية الكتاب: الخاتمة، التي حوت بعض النتائج.
وتقوم فكرة الكتاب على محور رئيس وهو: إلغاء الجهاز الرسمي للحسبة –والذي يعبر عنه بالاحتساب الديني- وتحويله إلى احتساب غير رسمي يسميه الاحتساب المدني.

ثانيًا: النقد
إنَّنا في هذا النقد، لسنا ندافع عن جهاز الحسبة في دولةٍ ما، بقدر ما ندافع عن المبادئ التي نرى مخالفة المؤلف لها شرعًا، بل وعقلًا، بشكلٍ ضمنيٍّ أو صريح.
وهذه بعض المؤاخذات التي أُخِذَت على الكتاب:
- قال المؤلف في (ص8): (كيف نخلق احتسابًا آمنًا من التسلط أو الوصاية أو الاحتكار...؟).
إنَّ دعوى المؤلف بأنَّ الاحتساب الرسمي، فيه تسلطٌ ووصايةٌ واحتكار، يصح دعواها أيضًا على الاحتساب المدني الذي يدعو إليه؛ لأنَّ الاحتساب المدني كما يقرِّر المؤلف، سيكون عبر أمورٍ اجتهاديةٍ، فرديةٍ كانت أو جماعية، فالعلة التي يذكرها المؤلف لإلغاء الاحتساب الرسمي، موجودةٌ كذلك في الاحتساب المدني الذي ينشده، فلِمَ نطالب بإلغاء أحدهما وإثبات الأخرى؟ لم اختلف الحكم عليهما، والعلة واحدة؟
- قال المؤلف في (ص9): (كيف نقنع الناس بأنَّ حماية أعراضهم ورعاية الفضيلة، ممكنةٌ من دون جهاز هيئة؟ ... كيف نحوِّل وظيفة الاحتساب إلى خارج سلطة الدولة؟ وهل يمكن تنظيمها إذا كانت في مؤسسات مجتمعٍ مدنيٍّ تقوم بالرقابة والمحاسبة على أعمال الدولة؟ ألا يمكن حماية الفضيلة بعناوين "مدنية"...؟).
نقول: لو ألغي جهاز الحسبة الرسمي، فلا يكاد يوجد أحد، سينكر على أحد، كما هو معلومٌ بالضرورة لمن له أدنى معرفةٍ بما يجري في الواقع الحالي، والمؤلف يتحدث، وكأننا نعيش في مجتمع المدينة الفاضلة، التي يُفترض في أهلها جاهزيَّتهم وحماسهم لهذا النوع من الاحتساب الفردي أو الجماعي، فكلما ضعُف الوازع الديني في نفوس الناس، كثُر ارتكابهم للمنكر، وفشا فيهم دون إنكارٍ من أحد، فكلٌّ يقول: نفسي نفسي، وما علاقتي أنا بالمشاكل وإقحام نفسي فيها؟ وغير ذلك من الأسباب الواهية التي يقدِّمها الناس؛ ليقنعوا أنفسهم بترك القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالتالي ستكون هذه الدعوة المقدمة من المؤلف، لا لإنعاش الاحتساب الشرعي في صورةٍ مدنيةٍ كما يقرِّر هو، بل للقضاء عليه تمامًا، وإن حسُنت نيته في ذلك، وهل نسي المؤلف أنَّ الله يزع بالسلطان، ما لا يزع بالقرآن أحيانًا؟
- إحالة الأمر إلى عامة الناس مطلقًا، بل وحتى إلى مؤسساتٍ مدنية، يعوز أهلها المعرفة بالشريعة، والتعمق في أحكامها، فيه ما فيه، فالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، معناه وجود فقهٍ بذلك، ومعرفةٍ بالمصالح والمفاسد، كما يقرِّر المؤلف بنفسه، وكما جاء في كتابه المليء بفقه الموازنات بين المصالح والمفاسد، والتفريق بين ما هو ضروري، وحاجي، وتحسيني، وتكميلي، وكلِّي، وجزئي...الخ، مما قد تخفى تفاصيله على بعض طلبة العلم، فضلًا عن عامة الناس، الذين يصعب عليهم فهمها وإدراكها، ومن ثمَّ عدم القدرة على تطبيقها، على الوجه الذي يريده المؤلف، والذي وضع مجموعةً من التضييقات والضوابط للقيام بهذه الشعيرة حتى على مستوى الأفراد. وبناءً على ذلك سينحصر أداء هذه الشعيرة، والفريضة العظيمة، في طبقةٍ معينةٍ محدودةٍ من الناس، وإذا ما أضفنا إلى هذه الدعوى، دعوى عدم الإنكار في مسائل الخلاف، مع نبش المثقَّفين وغيرهم، أقوالًا غريبةً وشاذَّةً من كتب الفقهاء؛ ليتذرَّعوا بها في إحلال حرامٍ أو غيره- فمعنى ذلك كلِّه، أنه لا أمر ولا إنكار مطلقًا، وأن المحصِّلة النهائية من هذه الدعاوى، التي تصدر من هنا وهناك، هي إلغاء هذه الفريضة مطلقًا، لينحصر الأمر والنهي في أمورٍ دنيويةٍ بحتة، تحت غطاء المدنية، وتحقيق مقاصد الأمة الكبرى، وهو ما يريده المؤلف، والذي نصَّ على أن هذه الكبائر من صون الأعراض وغيرها، هي صغائر ينبغي إغفالها في سعي الأمة لتحقيق مكانةٍ عالميةٍ لها بين الدول المتقدمة، وازدهار حضارتها المادية، بعد أن قام المؤلف بتقرير ذلك تحت مسمَّى مقاصد الشريعة؛ ليُلْبِس هذه الحضارة المادية، ثوبًا إسلاميًّا مفصَّلا على ما يريده القوم، وبئس ما أرادوا.
- كما أن الكاتب يبدو، وكأنه على خصامٍ مع الجهات الرسمية التي تمارس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويريد سحب البساط من تحت قدميها؛ ليستنى له مواجهة الظلم والاستبداد بزعمه، ويريد أن يشرع سلاحًا في مواجهتها، عبر تقريره وتأصيله لموضوع الاحتساب المدني، وهذا واضحٌ جدًّا من خلال تتبُّع عدة مواضع من كتابه.
- قال المؤلف في (ص11) : (أليس الأولى لصون الشريعة، اختيار الثقاة والأكفاء لحفظ الأعراض، تحت عناوين أخرى، كشرطة الآداب؛ حماية من نسبة الخطأ للشعيرة، وللشريعة؟)
وقال أيضًا في (ص12) : (تجنيب الشريعة أخطاء العاملين تحت عناوين دينية).
وسبق أن قال في (ص8) : (كيف نخلق احتسابا آمنًا من التسلط، أو الوصاية، أو الاحتكار، أو تجريح الشريعة بسبب أخطاء بعض المحتسبين؟).
فنقول: لنا مع هذه العبارات، وغيرها من العبارات المشابهة، عدة وقفات:
- إنَّ الأخطاء التي يذكرها المؤلف عن الهيئة، ليست أمورًا مستعصيةً على الحل، بل يمكن حلها وعلاجها؛ لكنَّ المؤلف عفا الله عنه، تصوَّر أنَّ هذه الأخطاء غير قابلةٍ للعلاج، ومن ثمَّ بنى حلَّه بإلغاء نظام الهيئة الرسمي!
- وبالنسبة لأخطاء بعض المحتسبين في جهاز الهيئة الرسمي، فكذلك الحال في الاحتساب المدني، كما في غيره من الأجهزة الرسمية، كقطاعات الشرطة وغيرها، فهل هي خاليةٌ من الأخطاء؟ وهل الاحتساب المدني، معصومٌ أصحابه من الوقوع في الأخطاء؟
فإن قيل: لكن تلك مدنية ولا تتحدث باسم الشرع والدين، قلنا وهناك جهات وهيئات رسمية تتحدث باسم الدين والشرع كالشئون الإسلامية ومكاتب الدعوة والإرشاد وجهاز القضاء وكلهم بشر وتصدر منهم أخطاء، فلماذا التركيز على جهاز الحسبة فحسب؟!
وهل نحول هذه الجهات إلى نظامٍ مدني؛ حتى نجنب الشريعة أخطاء القائمين عليها، كما أنه لا داعي لإقامة جمعياتٍ لتحفيظ القرآن الكريم، والعناية بالسنة النبوية؛ لنجنب الشريعة مزالق العاملين في تلك الجمعيات، فهل هذا منطق يتحدث به المؤلف؟! منطقٌ يخالف صريح النقل، وصحيح العقل! لكنَّ المشكلة أنَّ الإنسان يؤتى أحيانًا؛ بسبب النظر لموضوعٍ من زاويةٍ معينة، دون النظر الشمولي من جميع الزوايا، وبالتالي تخرج الرؤية قاصرةً، وإن ألبسها صاحبها ثوب الدين، مستخدمًا اللغة الأصولية تارة، مع تغطيتها بنزعةٍ فلسفيةٍ فكريةٍ ومنطقيةٍ تارة، ليخرج بها صاحبها، وكأنه قد أتى بحلولٍ إبداعية، لمشاكل الأمة الإسلامية!
- جعلَ المؤلف احتساب عامة الناس، سواء كانوا أفرادًا أو منتظمين في مؤسساتٍ مدنية، جعله في مقابلة الاحتساب الشرعي، المنظَّم من قبل الدولة، وقرَّر أن وجود أحدهما، يلزم منه عدم وجود الثاني، ولنا هنا أن نتساءل: ما المشكلة إذا وجد الاثنان معًا، وتكاملت الأدوار، بحيث تعالج أخطاء الجهاز المنظَّم، والذي لن يرتدع بعض الناس إلا به، مع وجود احتساب بقية المسلمين على بعضهم، مع بث الفقه الصحيح للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ فإن الناس ليسوا متساوين في قبول النصح والإرشاد، فمنهم من لا يرتدع إلا بذي سلطان، يأخذ على يديه. أليس من المصلحة التي يتحدث عنها المؤلف، وأخذ يعقد الموازنات بينها وبين المفاسد، أن يوجد الأمران معًا؟ أم أنَّ المؤلف ماضٍ في عزمه بأيِّ وسيلةٍ أو حجةٍ يرتضيها؛ لإقناع الآخرين بضعف جدوى وجود جهازٍ رسميٍّ للاحتساب؛ لسبب أو لآخر؟
- قال المؤلف في (ص19) : (إنَّ كل فعلٍ تمحَّض للدنيا، عندما يصاغ في هيئةٍ دينية، أو بصفةٍ تعظيمية، فسوف يخرج عن مقصوده الدنيوي، إلى حالةٍ تعبديةٍ مقدَّسةٍ، ترهب الآخرين من تطبيع المعاملة معه).
هنا نكتفي بإيراد سؤالٍ واحدٍ للمؤلف: هل منع ارتكاب الفواحش على سبيل المثال، هو أمرٌ دنيويٌّ محض؟ أم أنه أمرٌ تعبديٌّ يحبه الله تعالى؛ لئلا يقع ما يسخطه ويغضبه جلَّ وعلا؟!!!
- وقال في نفس الصفحة: (... لم لا تُدرج في إطارٍ مدني، يصون الدين عن الاجتهادات الخاطئة، التي تقع كنتيجةٍ طبيعيةٍ في كل عملٍ بشريٍّ، تتنازعه المصلحة والمفسدة؟)
أمام هذه العبارة وغيرها من العبارات الكثيرة المشابهة في ثنايا هذا الكتاب، نجد بوضوحٍ تام -سواء قصد المؤلف أم لم يقصد- نجد الدعوة إلى فصل سلطان الدين عن الدولة، والتي يسميها هو تمييزًا لا فصلًا، وتحت حجج وذرائع دينيةٍ بزعمه، وكأنه يرمي بالتدريج، إلى أمرٍ أبعد من ذلك مستقبلًا، وهو مدنية الدولة في جميع نواحيها، بدعوى تحقيق مقاصد الأمة، وأن ذلك من الضروريات. والمتتبع لعبارات المؤلف حول المدنية، سيجد أن كلمة المدنية، قد تكرَّرت كثيرًا في هذا الكتيِّب الصغير، وانظر على سبيل المثال: (ص9، 18، 19، 33).
بل لقد أصَّل المؤلف تأصيلًا غير أصيل، ونطق بدعوى صريحة منه، بأن تنهج الدولة الأسلوب الديمقراطي الغربي، مع ضربه مثالًا للتجربة التركية، وانظر مثلًا (ص66).
وكاستطرادٍ نقول: إنَّ الانبهار بالتجربة التركية الحالية (الليبروإسلامية)، ربما رآه بعض المسلمين مخرجًا مما هم فيه؛ فلجئوا إلى تأصيل هذه التجربة؛ ليسيروا على غرارها.
- قال المؤلف في (ص13-14) : (...لم لا تتولى الهيئة القبض على قاطعي إشارات المرور... لم لا يتبع جهاز التعليم مسمى الأمر بالمعروف؟... ).
إنَّ المؤلف يخلط هاهنا الحابل بالنابل، فما علاقة جهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بإشارات المرور؟ فهذا تناقضٌ منه؛ فهو يدعو إلى مدنية الدولة، مع أن مؤسسات الدولة المدنية قائمة على تخصصات، وعلى حدود خاصةٍ بكلٍّ منها، بحيث لا يتدخل أحدٌ في تخصص الآخر، ولو أخذنا بهذا المنطق الغريب، لجاز لنا أن نقول مثلًا: لم لا تتدخل الشرطة في أعمال المستشفيات، وأخطاء الأطباء؟
كما إنه يريد تجريد الهيئة من ثوبها الشرعي بأيِّ طريقة، ويكسوها بثيابٍ مدنية، تحت مسمى الاحتساب المدني، وتحقيق مقاصد الأمة كما يزعم، ثم يتساءل لم لا تكون الهيئة مسئولةً، عن قضايا المرور والتعليم وغيرها؟ بمعنى أن نُلبس هذه القضايا ثوب الهيئة الشرعي، فأيُّ تناقضٍ هذا؟!
- قال المؤلف في (ص15) : (هل وجود جهازٍ تقف أمامه عقباتٌ ضخمة، مع فشلٍ إداري، ومعوقاتٍ مالية، وعدم مبالاةٍ في التخطيط... يُتصوَّر عقلًا وحسًّا وشرعًا، أن يقوم بالمسئولية، ويأمن الناس على أعراضهم؟!).
نقول: إذا كانت هناك أخطاء إدارية، ومعوقاتٌ مالية، وسوء تخطيط، وضعف رواتب، في جهاز الهيئة الرسمي، بما يعوق معه أداءٌ أفضل للهيئة، فهل الحل يكمن في الاستئصال أم العلاج؟ وهلَّا طالب المؤلف، المتسبِّب في ذلك كله، وحمَّله المسئولية، بدلًا من أسلوب محاولة التخلص من هذا الجهاز؟ أم أنه يخشى لو أنَّ الهيئة أصبحت قوية ومتطورة إداريًّا، وبشريًّا، وماليًّا، يصعب التخلص منها؟!
- قال المؤلف: في (ص55) : (... وتخلفها هو سبب تخلف الدين، وانحساره في ملاحقة التفاصيل التي لا تنتهي).
المؤلف في هذه العبارة وغيرها من عباراتٍ مشابهةٍ في تضاعيف الكتاب، دائمًا ما يركز على الكلِّي، وهذا حق، لكن لا يعني التركيز على الكلي، إلغاء الجزئي. إنَّ الاهتمام بالتفاصيل في أيما عمل، من أسرار نجاحه، ويقرِّر بعض خبراء الأعمال، أنَّ اقتصاد الدولة يبدأ من المشاريع الصغيرة، وأفضل من ذلك كله، قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208] فهذا أمرٌ للمؤمنين، بأن يأخذوا بجميع شرائع الإسلام.
ثم ما هو الكلي، وما هو الجزئي الذي يتحدث عنه المؤلف؟ المؤلف يتحدث عن جعل الأمة الإسلامية في صدارة أمم الأرض، وفي سبيل هذه الغاية يصرِّح بأنَّ الغاية تبرر الوسيلة -فقد قال في (ص65) : (ويجب لأجل ذلك أن نكرِّس مبدأ الغاية، التي تبرٍّر كل وصول لتحقيق ضرورة الوحدة الإسلامية، فالضرورات تبيح المحظورات)، فتجده يلغي الجزئي المتفق عليه، والذي لبعضه تعلقٌ مباشرٌ بحقوق الله عز وجل، ويجعله أمرًا ثانويًّا قد يعيق حركة تقدم الأمة نحو الصدارة؛ لتحقيق غاياتها بزعمه.
حيث قال المؤلف في (ص67) : (وأما المنكرات التي ترافق التحديث، فإن كانت لا تشغل عن الغاية الكبرى، فالاحتساب واجب، وإن كانت تؤثر، فالأهم يقدم على المهم في حال المزاحمة) مع أنه قد ثبت بالتجربة، فشل بعض الأعمال، أو عدم نضوجها كما ينبغي، إذا صاحبتها أخطاء، فكيف يريدنا المؤلف أن نغضَّ الطرف عن الجزئي الذي يدَّعيه، لتحقيق الكلِّي؟ فإنه حتى في حال قيام الكلِّي قيامًا صوريًّا، لا يلبث أن ينهار؛ لأن بنيانه لم يكن على أساس ٍمن تقوى الله عزَّ وجل، ولم يكن قائمًا بالطريقة النبوية الصحيحة، على صاحبها أفضل الصلاة وأتمُّ التسليم، أو على هديٍ من الخلافة الراشدة على أصحابها رضوان الله.
- قال المؤلف في (ص71-72) : (... فقد يكون من المرجَّح، أنَّ حركة الاحتساب القائمة ضد التيارات الليبرالية، أنها اشتغالٌ بغير الأولى، فإن كان ولا بدَّ من التصدي والثورة، ضد الفكر الليبرالي، فليكن ضد الليبرالية الحكومية، التي تصانع الفساد بكل صوره).
وقال في (ص72) : (...بل أكثر أفراد التيارات الليبرالية غير الحكوميين، يشتركون في الغايات الكبرى، التي تطالب بالعدل والحقوق).
نقول: ما أكثر الكفار الذين يشتركون مع المسلمين، في هذا المطلب الطبيعي والفطري: العدل والحقوق، وعليه فلا داعي للتصدي لكفرهم، والرد عليهم، والسعي لهدايتهم، وما أنبل بعض الماسونيين الذين يسعون لهذه الغاية: الحرية والإخاء والمساواة، ولم لا ندخل معهم في تنظيماتهم ومحافلهم الماسونية، بناءً على فهم المؤلف، وتقريراته العجيبة؟!
ثم ما هذا الدفاع المستميت من أستاذ أصول الفقه عن الليبراليين؟ والإنكار على من يحتسب عليهم؟
العجيب أنه ما زالت هناك فئات، تنادي بهذه الشعارات؛ لتحقيق الغايات الكبرى بزعمهم، وتغض الطرف عن إدخال السوس إلى جذوع البيت، أو عدم محاربته بدعوى أنها كائنات صغيرة، فلا يلبث أن ينهار بهم البيت، فلا تبقى غاياتٌ صغيرة ولا كبيرة، فهذا الكلام الذي يقوله المؤلف، يخالف العقل، عند من لديه أدنى مسكةٍ من عقل، ويصادم الفطرة، التي فطر الله تعالى الناس عليها، لكن {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [الحج: 46].
- قال المؤلف في (ص73) : (هؤلاء الجوعى الذين يعدون بمئات الملايين، أكثرهم في دول العالم الإسلامي. تُرى ماذا تعني لهم المواعظ وبطونهم خاوية؟ فالجوعى والمرضى وهم الأكثر، لا يستصلحون بالتذكير، وهم لا يملكون ضرورات حياتهم، ويموت بعضهم شهيدًا لجوعه!).
سبحان الله! المؤلف يتحدث عن تحقيق الغايات الكبرى، ثم هو يخالف سننًا كونية، وأمورًا شرعيةً ثابتةً متفقًا عليها، قد قرَّرها القرآن، ولِحكمٍ شاءها الرحمن، أليس الله عز وجل قد قال: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168]؟ ألم يقل سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157].
أليس نزول البلاء بقومٍ، هو من مواطن تذكيرهم، وأسباب هدايتهم؟
وما أجمل قول الله تعالى ردًّا على جميع ما يذكره المؤلف، وكفى به من رد، من عليمٍ خبير، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟ حيث قال جلَّ وعلا: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 42 - 44].
فأوضح الله تعالى بكلامٍ عربيٍّ مبين، أنَّ البلاء يُقصد به أحيانًا، العودة والرجوع إلى الله تعالى، وإقامة الدين الصحيح، وإلَّا فإنَّ الفتنة والاستدراج، قد تكون قائمةً على الأبواب، حيث ينسى الناس هذا التذكير، ويُغرُّوا بدنيا واسعة، مع التنافس عليها، والفرح بها، كما ينشد المؤلف، وكما يؤصِّل لهذه الغاية العجيبة، فإذا بالحال، تنقلب إلى استئصال، كما يقول الله تعالى: {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً}.
ونقول له، ولأمثاله الذين يرددون مثل هذا الكلام، في وسائل الإعلام: وهل إذا أوقف المفتون فتاواهم، والوعَّاظ مواعظهم، سيشبع الجوعى؟ وماذا ينفع الجوعى مثل كتابك هذا؟ تُرى ماذا عني لهم هذا الكتاب أو غيره من الكتب المشابهة، وبطونهم خاوية؟ فالجوعى والمرضى لا يستصلحون بأمثال هذه الكتب، وهم لا يملكون ضرورات حياتهم، ويموت بعضهم نتيجةً لجوعه!
فويلها من دعوةٍ، ما أخطرها على أمة الإسلام، وما أخطر أن يُهدم الدين الحق، باسم الإسلام، والسعي لتحقيق مصالحه.
ثم إنَّ المؤلف يريدنا أن نكفَّ عن إصلاح الناس ويجعل إصلاح الدنيويات هي الأصل، ويؤصِّل لدينٍ غايته دنيوية، ويُلبس أمور الدنيا ثيابًا روحانية!!! قال في (ص54) : (إلَّا أن الإسلام وهو يطبع الديني بالدنيوي، والدنيوي بالديني، يهدف من ذلك للارتقاء بالمادي، إلى طور السمو الروحي، ويكسب الديني طابعًا بالروحية الدنيوية) وكيف ستقاد دنيا صحيحة، إلا بشرعٍ يرضي الربَّ جلَّ وعلا والذي قال: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96]؟
فالقرآن يجعل التذكير والتقوى، هما الأصل، سواء للدنيا أو للآخرة، والمؤلف يريد العكس، لكن يبدو الانبهار بحضارة الغرب، آخذًا على القلوب بشدَّة، وزاد من هذه الفتنة، كون الله تعالى لم يعاجلهم بعقوبةٍ تستأصل شأفتهم، مما جعل القلوب، تتوجه إلى تلك الناحية، وتحاول أن تضع أمام طريقنا، أيما حجةٍ، تجعلنا نولِّي وجوهنا، شطر أمم الغرب الكافر، وإن كانت عادلة.
وأخيرًا، فالكتاب غير منظَّمٍ في الطرح، مما قد يجعل القارئ، يفقد القدرة على المتابعة أحيانًا، وفيه تكرارٌ غير محمودٍ في عدة مواضع.
هذا وقد أعرضنا عن جملة أخطاء مبثوثةٍ في ثنايا الكتاب؛ إما لتهافتها، أو لوضوح خطئها، وبعضها لا ينقضي منه العجب، فالله المستعان، ونسأل الله تعالى لنا ولجميع المسلمين، البصيرة في الدين، وأن يرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه.