موسوعة اللغة العربية

تمهيدٌ: النَّثْرُ


نجَم عن دُخولِ العَرَبِ تحتَ سَيطرةِ الدَّولةِ العُثمانيَّةِ التي تقَعُ عاصِمتُها في الأناضولِ بعيدًا عن مَنالِ الأُدَباءِ والكُتَّابِ، فضلًا عن استخدامِ اللُّغةِ التُّركيَّةِ رسميًّا في المخاطَباتِ الدِّيوانيَّةِ ونحوِها، وما ترتَّبَ على ذلك من إلغاءِ وظيفةِ الإنشاءِ التي كان يسعى إليها الأُدَباءُ والمُثَقَّفون: تأثُّرُ الحَرَكةِ الأدبيَّةِ في الدَّولةِ العُثمانيَّةِ عامَّةً، وفي النَّثرِ الفنِّيِّ بوَجهٍ خاصٍّ.
وتكفي مقالةُ شهابِ الدِّينِ الخفاجيِّ واصفًا الحالَ الذي آل إليه الأدَبُ في عَصرِه: (إلَّا أنَّ الأدَبَ في هذه الأعصارِ قد هبَّتْ على أطلالِه ريحٌ ذاتُ إعْصارٍ، حتَّى أخْلَقتْ عُرى المحامِد، واسترْخى في جرْيِه عِنانُ القصائِد، وتقلَّصتْ أذيالُ الظِّلال، وخَطَب البَلاءُ على منابِرِ الأطْلال، وعفا رَسْمُ الكِرام، فعليه منِّي السَّلام) [258] يُنظَر: ((ريحانة الألبا وزهرة الحياة الدنيا)) للشهاب الخفاجي (ص: 5). .
ولا أدلَّ على ذلك من أنَّ بعضَ الأعلامِ طَلَب من الشَّيخِ يوسُفَ الشِّربينيِّ أن يضَعَ شَرحًا على قصيدةٍ نظَمَها أحدُ الفلَّاحين، ممَّا لا يُشبِهُ الشِّعرَ لا في وزنٍ ولا قافيةٍ ولا لُغةٍ ولا غيرِها، فاستجاب الشَّيخُ لذلك على مَضَضٍ، وكتب في مقدِّمةِ كتابِه الذي سمَّاه (هَزُّ القُحوف في شَرحِ قصيدةِ أبي الشَّدوف): (إنَّ ممَّا مرَّ عليَّ من نَظمِ شِعرِ الأرياف، الموصوفِ بكثافةِ اللَّفظِ بلا خِلاف، المُشابِهِ في رصِّهِ لطِينِ الجوالِس، وجرى ذكرُه في بعضِ المجالِس: قصيدَ أبي شادوف، المحاكي لبَعرِ الخَروف أو طِينِ الجَروف، فوجَدْتُه قصيدًا يا له من قصيد! كأنَّه عُمِلَ من حديد أو رُصَّ من قُحوفِ الجَريد، فالتَمَس منِّي مَن لا تَسَعُني مخالفتُه، ولا يمكِنُني إلَّا طاعتُه أن أضَعَ عليه شرحًا كرِيشِ الفَراش، أو غُبارِ العفاشِ، وزوابعِ السِّباخ، يحُلُّ ألفاظَه السَّخيمة، ويُبَيِّنُ معانيَه الذَّميمة، ويَكشِفُ القِناعَ عن وَجهِ لُغاتهِ الفَشرويَّة، ومَصادِرِه الفَشكليَّة، ومعانيه الرَّكيكة ومبانيه الدَّكيكة، ومقاصِدِه العبيطة وألفاظِه الحَويطة، وأن أُتِمَّه بحكاياتٍ غريبة ومَسائِلَ هباليةٍ عَجيبة، وأن أُتحِفَه بشرحِ لُغاتِ الأرياف التي هي في معنى ضُراطِ النَّملِ بلا خِلاف، وأشعارِهم المُغتَرِفةِ مِن بحرِ التَّخابيط، واشتِقاقِ كَلِماتِها التي هي في الصِّفاتِ تُشبِهُ الشَّراميط، ووقائِعَ وَقَعت لبعضِهم باتِّفاق، في القاهِرةِ ومِصرَ وثَغْرِ بُولاق، وذِكْرِ فُقَهائِهم الجُهَّال، وعِلْمِهم الذي يُشبِهُ ماءَ النخال، وفُقَرائِهم الأجلاف، وأحوالِ الأوباشِ منهم والأظراف، وذِكْرِ نسائِهم عِندَ الِهراش ومُلاعَبَتِهنَّ في الفِراش، التي هي شَبيهُ نَطِّ القُرود أو بَرْبَرة الهُنود، وأن أوردَ جَولَ كلامِ المتنِ بمعنًى إذا ذُقتَه -أيُّها السَّامِعُ- يحكي طَعْمَ البَول، وإذا اقتَطَفْتَ من يانِعِ ثمارِ لَفظِه -أيُّها النَّاظِرُ- كأنَّك قد قطَفْتَ زِبْلَ الغُول، وإذا نظَرْتَ إلى أشعارِه فكأنَّها رَصُّ القُلْقَيل، وإذا تأمَّلْتَ عفاشةَ كلامِه فكأنَّك تلوكُ زِبلَ الخَيل، وأن أصرِّحَ فيه ببعضِ نُكَيتاتٍ هَزليَّة وحِكَمٍ هباليَّة، على سبيلِ المُجونِ والخلاعة والدَّيدَنةِ والصَّقاعة، حتَّى يَشتَهِرَ شَرحُ هذا القصيد من دمياطَ إلى الصَّعيد، وأرجو ألّا يخلوَ منه إقليمٌ بل ولا بَلَدٌ مِن بلادِ العَبيد ...) [259] يُنظَر: ((هز القحوف في شرح قصيدة أبي الشدوف)) ليوسف الشربيني (ص: 3). .
ولا يعني هذا أنَّ النَّثرَ الفَنِّيَّ قد انطفَأَت جَذوتُه، وخمَدَت شرارتُه، بل عَرَف الأدبُ العَرَبيُّ في ذلك العَصرِ أعلامًا من الكُتَّابِ المُتَفَنِّنين في صنائِعِ الشِّعرِ والنَّثرِ؛ كأنَّ نَقْلَ الخلافةِ من بلادِ العَرَبِ إلى الأناضولِ، وتغييرَ أُسلوبِ السِّياسةِ ولُغةِ الحُكمِ، كان كالسَّيفِ ذي الحدَّينِ؛ إذ كان من ثمارِه النَّافعةِ أن انصَرَف الاهتمامُ عن الكتابةِ الدِّيوانيَّةِ الرَّسميَّةِ إلى أنواعِ الكتابةِ الأخرى؛ كالمقالاتِ، والرَّسائِلِ، والكتابةِ الإخوانيَّةِ، وفُنونِ القَصَصِ الأُخرى، فضلًا عن دوائرِ المعارِفِ، والكُتُبِ الأدبيَّةِ والتَّاريخيَّةِ [260] يُنظَر: ((تاريخ الأدب العربي في العصر العثماني)) لعمر باشا موسى (ص: 612). .
ويشهَدُ لهذا أنَّ النَّثرَ الفَنِّيَّ قد بلغ شأوًا بعيدًا حتَّى في الكتاباتِ الدِّينيَّةِ والتَّاريخيَّةِ، مترفِّعًا عن الابتذالِ في الألفاظِ، والإسفافِ والتَّكلُّفِ في استخدامِ المحسِّناتِ اللَّفظيَّةِ والمعنَويَّةِ التي تُشَوِّهُ النَّظْمَ والمعنى؛ فهذا الشَّيخُ زَينُ الدِّينِ عبدُ الرَّؤوفِ المُناويُّ يقولُ في مَطلَعِ كِتابِه: (التَّيسير في شَرحِ الجامِع الصَّغير): (فإنِّي لَمَّا شرحتُ فيما مضى الجامعَ الصَّغير من حديثِ البشيرِ النَّذير، كوى قَلبَ الحاسدِ لَمَّا استوى، فجَهَد أن يأتيَ له بنَظير فرَجَع إليه بصرُه خاسِئًا وهو حَسير! فلمَّا آنَسَ من نفسِه القُصورَ والتَّقصيرَ عَمَد إلى الطَّعنِ فيه بالتَّطويل، وكَثرةِ القالِ والقِيل، فلِقَطْعِ ألسِنةِ الحَسَدةِ المتعَنِّتين [261] المتعَنِّتُ: المتشَدِّدُ والمتعَصِّبِ في الرَّأيِ. يُنظَر: ((معجم اللغة العربية المعاصر)) لأحمد مختار عمر (2/1561). وقُصورِ هَمِّ الرَّاغِبين، وخَوفِ انتِحالِ السَّارِقين؛ أمَرَني بعضُ المحِبِّين أن أختَصِرَ اللَّفظَ اختصارًا، وأقتَصِرَ في المعاني على ما يَظهَرُ جِهارًا، فعَمَدتُ أختَصِر وطَفِقُت أقتَصِر، ثمَّ عَنَّ [262] عنَّ: عرض وبدا. يُنظَر: ((الصحاح)) للجوهري (6/2166). لي أنَّه كيف يليقُ إهمالُ هاتيك النُّكَتِ البديعةِ اللَّطيفة، والتَّحقيقاتِ المنيعةِ الشَّريفة؛ لخَوفِ السَّارقين والمُنتَهِبين، وقُصورِ الأغبياءِ والمُتَغِّنين؟! فإنْ لم ينتَفِعْ به الحاسِدون والقاصرون فسينتفِعُ به المنصِفون الكامِلون، وإن انتَحَل منه عُتاةٌ خائِنون فمِن خِوانِ الكِرامِ يَنْتَهِبون، ولمِثْلِ هذا فلْيَعمَلِ العامِلون. فرأيتُ إبقاءَ الأصلِ على حالِه حَذَرًا من إضاعةِ هاتيك البدائِعِ الرَّوائِعِ، التي هي خلاصةُ أبكارِ العُلَماء، وعُصارةُ أنظارِ الفُضَلاء، وأن يكونَ هذا شرحًا ثانيًا وَجيزًا، فدونَك يا طالِبَ الاختصارِ والاقتِصار شَرحًا كأنَّه سبيكةُ نُضَار، ومع ذلك فيه طَرَفٌ من الظَّرفِ، ونُبذةٌ من الأدَبِ مَن وَقَف عليها وَقَف، ومع وصفي له بذلك ما أُبَرِّئه ولا نفسي من رَيْب، ولا أبيعُه بشَرطِ البراءةِ من كُلِّ عَيْب، ولا أدَّعي فيه كمالَ الاستقامة، ولا أقولُ بأنَّه كأصلِه جمعُ سلامة، بل أعترِفُ بالقُصور وأسألُ اللهَ الغفورَ العَفْوَ عمَّا طغى به القَلَمُ، فكم جرى بهذه السُّطور، فما حَرجٌ على مَن عَثَر على هَفوةٍ أو كَبْوة أن يَرْقَعَ خَرْقَه، ويَفْتُقَ رَتْقَه [263] الرَّتقُ: ضِدُّ الفَتقِ، وهو الالتِئامُ. يُنظَر: ((تاج العروس)) للزبيدي (25/332). ، ويُصلِحَ خَلَلَه، ويَستُرَ زلَلَه؛ فمَن تجنَّب الإنصاف ونَظَر بعينِ الانحراف وطَلَب عَيبًا وجَدَّ وَجَد، ومن افتَقَد زَلَل أخيه بعينِ الرِّضا فقَد؛ فرَحِم اللهُ امرأً غَلَب هواه وعَمِل بالإنصافِ، وعَذَرني في خَطَأٍ كان منِّي وزَلَلٍ صَدَر عنِّي؛ فالكمالُ محالٌ لغيرِ ذي الجَلالِ، والمرءُ غيرُ مَعصوم، والنِّسيانُ في الإنسانِ غيرُ مَعدوم) [264] يُنظَر: ((التيسير بشرح الجامع الصغير)) (1/ 2، 3). .
وقد غَلَب على نَثْرِ هذا العَصرِ الاعتمادُ على المُحَسِّناتِ البديعيَّةِ، واللُّجوءُ إلى تقليدِ القُدَماءِ في المعاني والمضمون، بل ربَّما في الألفاظِ والمكنون.

انظر أيضا: