موسوعة اللغة العربية

تمهيدٌ: الأدَبُ في العَصرِ العُثمانيِّ


نشَأَت الدَّولةُ العُثمانيَّةُ في شَوَّالٍ سَنةَ (698هـ) الموافِقِ لشَهرِ يوليو سَنةَ (1299م) على يَدِ عُثمانَ الأوَّلِ بنِ أُرْطُغْرُل، كإمارةٍ تُرْكُمانيَّةٍ تابِعةٍ لسَلاجِقةِ الرُّومِ، التي استقَلَّت فيما بَعدُ، بعدَ سُقوطِ سَلْطَنةِ السَّلاجِقةِ، وقد تمدَّدَت تلك الإمارةُ العُثمانيَّةُ في دُوَلِ أوروبَّا الشَّرقيَّةِ حتَّى استطاعت أن تفتَحَ أغلَبَ بِلادِ البُلقانِ، إلى أن أسقَطَت الإمبراطوريَّةَ البِيزَنطيَّةَ وفتَحَت القُسْطَنطينيَّةَ سَنةَ (857هـ).
ومن هذا الوقتِ تغَيَّرَت وِجهةُ نَظَرِ العُثمانيِّينَ من فتحِ البِلادِ الأوروبيَّةِ إلى تحويلِ الفُتوحاتِ إلى بلادِ الإسلامِ؛ لتَدخُلَ في اشتباكاتٍ مع المماليكِ والصَّفَويِّينَ وغيرِهم من الممالِكِ والدُّوَيلاتِ، تنتهي بضَمِّ مِصرَ والشَّامِ والحِجازِ وغيرِها من الأقطارِ العَرَبيَّةِ، وسُقوطِ الخِلافةِ العبَّاسيَّةِ المستَقِرَّةِ في القاهِرةِ، بتنازُلِ الخليفةِ العبَّاسيِّ محمَّدٍ المتوكِّلِ على اللهِ للسُّلطانِ العُثمانيِّ سِليم الأوَّلِ سِنةَ 923هـ.
وكعادةِ اللهِ تعالى في خَلْقِه أنَّ (لكُلِّ شيءٍ إذا ما تمَّ نُقصانُ)؛ فقد تحوَّلت قوَّةُ الدَّولةِ العُثمانيَّةِ إلى ضَعفٍ! ساعَد على ذلك تلك الثَّوراتُ الدَّاخليَّةُ التي أشعلَتْها الحرَكاتُ القوميَّةُ في الدَّاخِلِ، بتحريضٍ من الأوروبِّيِّينَ، فتكالبت عليها إمبراطوريَّاتُ أوروبَّا، حتَّى أُعلِنَ استِسلامُها وانتهاؤُها بصفةٍ سياسيَّةٍ، وأُزيلت بوَصفِها دولةً، وقامت الجُمهوريَّةُ التُّركيَّةُ مقامَها في أوروبَّا في سنةِ (1923م)، مع اقتِسامِ فَرَنسا وإنجِلْترا للتَّركةِ العُثمانيَّةِ في العِراقِ والشَّامِ، بَعْدَ أن سبقَتْهما المغرِبُ ومِصرُ إلى أيديهما [143] يُنظَر: ((نزهة الأنظار في عجائب التواريخ والأخبار)) لمحمود مقديش (2/ 5)، ((تاريخ الدولة العلية العثمانية)) لمحمد فريد بك (ص: 118). !
ومن البَديهيِّ إذَنْ أن تكونَ دِراسةُ الأدَبِ العَرَبيِّ في العَصرِ العُثمانيِّ مقصورةً على المدَّةِ التي تبدأُ من قيامِ الِخلافةِ العُثمانيَّةِ في بلادِ العَرَبِ والمُسلِمين، لا قَبْلَ ذلك من وُجودِهم في أوروبَّا؛ إذ العُثمانيُّون أتراكٌ ليسوا عَرَبًا.
كَلِمةُ حَقٍّ:
اختلفت آراءُ الباحِثين في الأدَبِ في العَصرِ العُثمانيِّ؛ فحينَ عَزَف عنه أكثَرُ الدَّارِسين، وصَفَه بعضُهم بأنَّه كان جامِدًا منحطًّا؛ فمِن هؤلاء جورجي زِيدان الذي قال: (أمَّا في العصرِ العُثمانيِّ فتمكن فيه الذُّلُّ من النُّفوسِ، وفسَدت مَلَكةُ اللِّسانِ، وجمَدَت القرائِحُ، فلم ينبُغْ شاعرٌ يستحِقُّ الذِّكرَ خارِجَ البُقعةِ العَرَبيَّةِ ... وأمَّا الآدابُ العَرَبيَّةُ على الإجمالِ فأصبحَت في أحطِّ أدوارِها، ونَدَر نبوغُ العُلَماءِ المفَكِّرين أو المستَنبِطين فيها ... وانحَطَّ أُسلوبُ الإنشاءِ حتَّى أوشَك أن يكونَ عامِّيًّا، كما في قِصَصِ بني هلالٍ ونحوِها ممَّا وصل إلينا من القِصَصِ الموضوعةِ في عُصورِ الانحِطاطِ، بعضُها وُضِع في آخِرِ العَصرِ المغوليِّ، والبَعضُ الآخَرُ في العَصرِ العُثمانيِّ) [144] يُنظَر: ((تاريخ آداب اللغة العربية)) لجورجي زيدان (ص: 1078). .
وقد أرجَع ذلك الانحِطاطَ والجُمودَ -على الرَّغمِ مِن أنَّ كلًّا من المماليكِ والعُثمانيِّين أتراكٌ- إلى أسبابٍ:
- أنَّ المماليكَ كانت عاصِمتُهم مِصرَ، وهي قَلبُ العالَمِ العَرَبيِّ.
- أنَّ المماليكَ جَعَلوا اللُّغةَ العَرَبيَّةَ لُغةَ البلادِ، بها يتكاتَبون ويُصدِرون الأوامِرَ والمنشوراتِ، بخلافِ العُثمانيِّين الذين احتفَظوا بلُغتِهم في التَّخاطُبِ والمعامَلاتِ.
- بُعدُ العاصِمةِ (الأَسَتانة) عن البلادِ العربيَّةِ، وضَعفُ طُرُقِ الوُصولِ إليها؛ ممَّا أخاف السَّلاطينَ من استقلالِ الوُلاةِ عنها؛ ولهذا استَعمَلوا مبادئَ التَّفرِقةِ بَيْنَ رجالِ الحكومةِ، ممَّا فشا به الفَسادُ والظُّلمُ الإداريُّ.
- اهتمامُ المماليكِ بالعُلَماءِ والقُرَّاءِ، وتشجيعُ حَرَكةِ التَّعليمِ، وبناءُ المدارِسِ ووَقفُ الأوقافِ عليها [145] يُنظَر: ((تاريخ آداب اللغة العربية)) لجورجي زيدان (ص: 1077). .
ووافقَه على ذلك عبدُ الرَّحمنِ الرَّافِعيُّ؛ حيثُ قال: (ولكِنْ ممَّا لا شَكَّ فيه أنَّه منذُ الفتحِ العُثمانيِّ لمصرَ سَنةَ 1517م قد وقَفَت حركةُ التَّقدُّمِ تمامًا، فكَسَدت العُلومُ، وانحَطَّ الأدَبُ، وجمَدت القرائِحُ، وتراجَعَت العُقولُ، وانقَضَت نحوُ ثلاثةِ قُرونٍ والشَّرقُ في تأخُّرٍ من النَّاحيةِ العِلميَّةِ والسِّياسيَّةِ والاقتِصاديَّةِ والاجتِماعيَّةِ، بينما الغَربُ قد أخذ بأسبابِ الحياةِ والنُّهوضِ، فسَبَق الشَّرقَ عدَّةَ قُرونٍ في النُّضجِ العَقليِّ. فبَديهيٌّ أنَّه عندما ابتدأ الشَّرقُ يستفيقُ من سُباتِه العميقِ في نهايةِ القرنِ الثَّامِنَ عَشَرَ كان لا بُدَّ أن يقتَبِسَ من الغَربِ ما سبقه إليه في خلالِ القُرونِ المتعاقبةِ؛ لأنَّ العُلومَ والآدابَ والاكتِشافاتِ والاختراعاتِ قد ضاعفت تراثَ الغَربِ بحيثُ لا يستطيعُ الشَّرقُ أن يأخُذَ قِسطَه من الحياةِ العقليَّةِ إلَّا إذا اقتبس عنه خيرَ ما أنتجَتْه قرائحُ عُلَمائِه وفلاسفتِه وأُدَبائِه في خلالِ هذه الحِقبةِ الطَّويلةِ مِن الزَّمَنِ) [146] يُنظَر: ((مجلة الرسالة)) لأحمد حسن الزيات (العدد: 404). .
كذلك قال الأستاذُ شوقي ضَيف: (ويدخُلُ العَصرُ العُثمانيُّ وتدخُلُ مِصرُ معه في ظلامٍ قاتمٍ؛ فقد تحوَّلت من دولةٍ -بل إمبراطوريَّةٍ مُستقِلَّةٍ- إلى ولايةٍ تابعةٍ للدَّولةِ العُثمانيَّةِ، وليت الأمرَ وقَف عِندَ ذلك، فقد سَلَبها سليمٌ فاتِحُها خيرَ ما فيها من ثروةٍ عِلميَّةٍ وفنِّيَّةٍ؛ إذ أخذ معه كثيرًا من التُّحَفِ والكُتُبِ، كما أخذ معه كثيرًا من الأُدَباءِ والعُلَماءِ والمُهَندسين وأصحابِ الصِّناعاتِ الفَنِّيَّةِ الذين يصنَعون أدواتِ التَّرَفِ، وانكمشت مصرُ ولم يَعُدْ لها صِلةٌ إلَّا بالقُسْطَنطينيَّةِ، وهي صلةٌ تقِفُ عِندَ خَلعِ وَالٍ أو بيانِ مَظلمةٍ، صِلةُ التَّابعِ بالمتبوعِ، وأعوَزَ مصرَ في هذا العَصرِ العُثمانيِّ الوُلاةُ والحُكَّامُ الذين يُعْنَون بالحَرَكةِ العِلميَّةِ والأدبيَّةِ، فانطفأت المصابيحُ التي كانت مشتَعِلةً في العُصورِ السَّابقةِ.
ولا نستطيعُ أن نقولَ: إنَّ الشِّعرَ انعدَم في العَصرِ العُثمانيِّ؛ فقد كان موجودًا، ولكِنَّه وجودٌ خيرٌ منه العَدَمُ؛ إذ اقتَصَر الأمرُ على جماعةٍ يَقرَؤون بعضَ القصائدِ الموروثةِ، وخاصَّةً التي كانت قريبةً من عصورِهم، ثمَّ يعارِضونها أو يُخَمِّسونها أو يُرَبِّعونها، فيأتون بنماذجَ لا رُوحَ فيها ولا جمالَ، إنَّما هي تقليدٌ ركيكٌ ضعيفٌ، ومن أين تأتيها الرُّوحُ أو يأتيها الجَمالُ وهي تَصدُرُ عن نفوسٍ مُجدِبةٍ، لا تستطيعُ أن تصنَعَ شيئًا إلَّا أن تجترَّ القديمَ هذا الاجترارَ الذي يحيلُه إلى مُرَبَّعاتٍ ومُخمَّساتٍ في أساليبَ واهيةٍ ضَعيفةٍ. وليس من شَكٍّ في أنَّ الشُّعَراءَ كانوا يحتالون على ألوانِ البَديعِ يملؤون بها شِعْرَهم، ولكنَّا نُحِسُّ أنَّ هذه الألوانَ أصبحت باهتةً في أيديهم؛ إذ فقَدَت مَقدِرتَها القديمةَ على التَّلوينِ والتَّعبيرِ) [147] يُنظَر: ((الفن ومذاهبه في الشعر العربي)) لشوقي ضيف (ص: 508). .
في حينَ ذَهَب آخرون إلى خِلافِ ذلك، وأنَّ هذا الكلامَ من بابِ التَّعسُّفِ، يدفَعُه أيادٍ خفيَّةٌ تهدُفُ إلى صَرفِ الباحثين عن هذه الحِقبةِ، والاكتفاءِ بحُكمٍ سريعٍ عليها، ربَّما كان سبَبُه رَبطَ الأوضاعِ الاجتماعيَّةِ والسِّياسيَّةِ والاقتِصاديَّةِ بالأدَبِ، أو لأنَّ الدَّولةَ العُثمانيَّةَ كانت حاملةً رايةَ الجِهادِ الإسلاميِّ، وهذا ما يُغري الغَربَ والمُستَشرِقين ضدَّ جميعِ ما في تلك الفترةِ.
وقد تبَنَّى تلك النَّظرةَ الدُّكتورُ بكري شيخ أمين؛ حيثُ قال في حديثِه عن عَصرِ المماليكِ والعُثمانيِّين: (ويُخَيَّلُ إلينا أنَّه ما منِ عَصرٍ من عُصورِنا الأدبيَّةِ أصابه من الظُّلمِ في الأحكامِ والإهمالِ في الدِّراساتِ ما أصاب هذا العَصرَ وناله، وأكثَرُ من هذا اعتقادُنا الجازِمُ أنَّ هناك عمليَّةً خَفيَّةً تهدُفُ إلى صَرفِ الباحثين عن دراسةِ هذه الحِقبةِ، والاكتفاءِ بحُكمٍ سريعٍ ظالمٍ عليها، ولَسْنا ندري لذلك سببًا، اللَّهُمَّ إلَّا أن يكونَ هذا العَصرُ هو الذي قاوم جحافِلَ الغَربِ التي استحكَمَت حينًا من الدَّهرِ في هذه البلادِ، ودَفَع الوَثَنيَّةَ التي جاءت على سُيوفِ التَّتارِ ورماحِهم، وملأَ المكتبةَ العربيَّةَ التي خوت بمصيبةِ بَغدادَ وسِواها بالتُّراثِ العَرَبيِّ والإسلاميِّ المُشرقَينِ، وأعاد إلى النَّفسِ العربيَّةَ عِزَّتَها وثِقَتَها) [148] يُنظَر: ((مطالعات في الشعر المملوكي والعثماني)) (ص: 6). .
وقد أنصف عُمَر موسى باشا حين ذَكَر القولينِ ثمَّ عقَّب بقولِه: (لكِنَّ الذي يسترعي الانتباهَ حقًّا هو وجودُ الفارِقِ البيِّنِ بَيْنَ العُهودِ الأولى من هذا العَصرِ، والعُهودِ الأخيرةِ منه، حينَ بدأ السَّلاطينُ العُثمانيُّون بمحاربةِ اللُّغةِ العَربيَّةِ، وظُهورِ سياسةِ التَّتريكِ في مطالِعِ عَصرِ النَّهضةِ العَرَبيَّةِ. وهكذا نستطيعُ أن نلحَظَ مظهرينِ اثنَينِ: يتَّضِحُ المظهَرُ الأوَّلُ في هذه الحركةِ الأدبيَّةِ الهادئةِ التي تطوَّرت تُكمِلُ نَهجَها المملوكيَّ الأوَّلَ والثَّانيَ، بَيْدَ أنَّها ابتعَدَت عن السُّلطةِ الحاكمةِ، وكان في ذلك النَّفعُ لها، ففتَّقَت مكنوناتِها الإبداعيَّةَ الخاصَّةَ بها. وأمَّا المظهرُ الثَّاني فيتَّضِحُ في هذا المنطلَقِ الجديدِ؛ لأنَّ أدَبَ هذا العصرِ قد ابتعَد عن بلاطاتِ السَّلاطينِ العُثمانيِّين، والتَزم النَّظْمَ في أغراضٍ جديدةٍ وفُنونٍ مُستَحدَثةٍ اعتَمَدت على الطَّبيعةِ التي نالت نصيبًا كبيرًا مِن شِعْرِهم أو نَثْرِهم، يَرفِدُها مَعينٌ من الذَّاتيَّةِ في المطارَحاتِ وغَيرِها، ولا نَعرِفُ في تاريخِنا الأدبيِّ من الشُّعراءِ من أعطى ذلك حقَّه كما رأينا في هذا العَصرِ.
وآيةُ ذلك كُلِّه هو أنَّ الانحسارَ السِّياسيَّ عن الأدَبِ قابله امتدادٌ فِكريٌّ جديدٌ في الشِّعرِ والنَّثرِ، يتمَثَّلُ في هذه الاتِّجاهاتِ الذَّاتيَّةِ والاجتماعيَّةِ والإنسانيَّةِ، والعَجيبُ أنَّ الطَّبيعةَ والبيئةَ المحلِّيَّةَ نالتا من الاهتمامِ الكبيرِ ما لم تنالاه في العُصورِ السَّابقةِ؛ ذلك لأنَّ الشُّعراءَ وغيرَهم كانوا يسعَون لرضا الممدوحينَ، لكِنَّهم يَسعَون الآنَ إلى الطَّبيعةِ؛ فهي كَعبةُ الشِّعرِ، ومَصدَرُ الوَحيِ والإلهامِ) [149] يُنظَر: ((تاريخ الأدب العربي في العصر العثماني)) (ص: 5). .

انظر أيضا: