موسوعة اللغة العربية

المَطْلَبُ الثَّاني: المُناظَراتُ


اهْتَمَّ الخُلَفاءُ العبَّاسيُّونَ ووُزَراؤُهم مِن البَرامِكةِ بعَقْدِ المُناظَراتِ بَيْنَ المُتَكلِّمينَ والفُقَهاءِ والفَلاسِفةِ ونَحْوِهم، وكانَ الخُلَفاءُ أنْفُسُهم يَحضُرونَ تلك المُناظَراتِ ويَحكُمون فيها بانْتِصارِ فَريقٍ على آخَرَ، كما جَرى ذلك في المَسألةِ الزُّنْبوريَّةِ المَشْهورةِ بَيْنَ سيبَوَيْهِ والكِسائيِّ، الَّتي دارَتْ في مَجلِسِ الرَّشيدِ، ومِثلُ المُناظَراتِ العَقَديَّةِ الَّتي دارَتْ في مَجلِسِ المَأمونِ والخُلَفاءِ بَعْدَه بَيْنَ أحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ وابنِ أبي دُؤادٍ في مَسألةِ خَلْقِ القُرآنِ، والمُناظَراتِ الفِقْهيَّةِ بَيْنَ الإمامِ مُحمَّدِ بنِ إدْريسَ الشَّافِعيِّ وبَيْنَ مُحمَّدِ بنِ الحَسَنِ الشَّيْبانيِّ صاحِبِ أبي حَنيفةَ.
وقدْ أسْهَمَتْ تلك المُناظَراتُ في إثْراءِ وإغْداقِ الثَّقافةِ الإسْلاميَّةِ بما أفادَتْه مِن تَطوُّرٍ في الأُسلوبِ، وطَريقةِ الشَّرْحِ وإيصالِ المَعنى، فَضْلًا عن تلك المُناظَراتِ البَيانيَّةِ الَّتي عَقَدَها الأُدَباءُ بغَرَضِ التَّنافُسِ في المَوْهبةِ وإظْهارِ أيُّ الطَّرَفَينِ أبْلَغُ، وهذا الَّذي يَعْنينا دونَ سائِرِ أنْواعِ المُناظَراتِ.
وفي تلك المُناظَراتِ مِرْآةٌ عاكِسةٌ لطَبيعةِ العَقْلِ العَربيِّ، كيف اسْتَوَتْ له مَلَكةُ الفَهْمِ والإقْناعِ على سوقِها، إذ لم يكنْ يَدخُلُ في المُناظَرةِ إلَّا مَن أتْقَنَ المَعارِفَ وأخَذَ مِن كلِّ فَنٍّ بطَرَفٍ، ولِهذا ذاعَ صيتُ المُعْتزِلةِ في تلك المُناظَراتِ؛ حيثُ ألَمُّوا بمَسائِلِ اللُّغةِ والشَّريعةِ وعُلومِ الكَلامِ [642] يُنظر: ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (3/ 457)، ((أشكال خطاب النثر الفني الأدبي في العَصْر العباسي)) لحسين هنداوي (ص: 98). .
فمِن هذه المُناظَراتِ مُناظَرةٌ بَيْنَ أصْحابِ الدِّيكِ وأصْحابِ الكَلْبِ، وكلُّ واحِدٍ مِنهم يُبيِّنُ مَناقِبَ ما عِنْدَه ومَساوِئَ الآخَرِ، وقد عَرَضَ الجاحِظُ ذلك في جُزْءٍ كَبيرٍ مِن كِتابِه "الحَيَوان"، وذَكَرَ أنَّ صاحِبَ الدِّيكِ هو أبو إسْحاقَ إبْراهيمُ النَّظَّامُ، أمَّا صاحِبُ الكَلْبِ فهو مَعْبَدٌ، وقدْ انْتَصَرَ في نِهايةِ تلك المُناظَرةِ صاحِبُ الكَلْبِ، وهو رَمْزٌ لانْتِصارِ العَربيِّ على الفارِسيِّ؛ فإنَّ الكَلْبَ رَمْزٌ للعَربيِّ حيثُ يَنْتشِرُ في قَبائِلِ العَربِ ومُدُنِها، يَحرُسُ بُيوتَهم ومُدَنَهم وقُراهم، في حينِ أنَّ الدِّيكَ دَليلٌ على التَّحضُّرِ، وهو مُنْتشِرٌ جدًّا في بِلادِ فارِسَ؛ ولِهذا رأى عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ قَبْلَ مَوْتِه رُؤيا، قالَ: ((إنِّي رَأيْتُ كأنَّ ديكًا نَقَرَني ثَلاثَ نَقَراتٍ، وإنِّي لا أراه إلَّا حُضورَ أجَلي، فقَصَصْتُها على أسْماءَ بِنْتِ عُمَيسٍ، فقالت: إن صَدَقَتْ رُؤْياك قَتَلَك رَجُلٌ مِن أهْلِ العَجَمِ) [643] أخرجه ابن شبة في ((تاريخ المدينة)) (3/895)، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (4956) باختلاف يسير مطولاً. .
ومِن عَجائِبِ تلك المُناظَراتِ ما دارَ بَيْنَ مَعْنِ بنِ زائِدةَ الشَّيْبانيِّ وبَيْنَ رَجُلٍ أسْوَدَ مِن رِجالةِ الخَليفةِ المَنْصورِ، وقد كانَ المَنْصورُ طَلَبَ مَعْنًا طَلَبًا شَديدًا، وجَعَلَ لمَن يأتي به مالًا، فاضْطُرَّ لشِدَّةِ الطَّلَبِ أن قامَ في الشَّمْسِ حتَّى لَوَّحَتْ وَجْهَه، وخَفَّفَ مِن عارِضَيه ولِحْيتِه، ولَبِسَ جُبَّةَ صوفٍ غَليظةً، ورَكِبَ جَمَلًا مِن جِمالِ النَّقَّالةِ، وخَرَجَ عليه ليَمضيَ إلى الباديةِ، وقدْ كانَ أبْلى في الحَرْبِ بَيْنَ يَدَي ابنِ هُبَيْرةَ بَلاءً حَسَنًا، فغاظَ المَنْصورَ، وجَدَّ في طَلَبِه.
قالَ مَعْنٌ: فلمَّا خَرَجْتُ مِن بابِ حَرْبٍ -أحَدِ أبْوابِ بَغْدادَ- تَبِعَني أسْوَدُ، مُتَقلِّدًا سَيْفًا، حتَّى إذا غِبْتُ عن الحَرَسِ، قَبَضَ على خِطامِ الجَمَلِ، فأناخَه، وقَبَضَ عليَّ.
فقلْتُ: ما لك؟ فقالَ: أنت طَلِبةُ أميرِ المُؤْمِنينَ.
فقلْتُ: ومَن أنا حتَّى يَطلُبَني أميرُ المُؤْمِنينَ؟
قالَ: أنت مَعْنُ بنُ زائِدةَ.
فقلْتُ: يا هذا اتَّقِ اللهَ، وأين أنا مِن مَعْنِ بنِ زائِدةَ؟!
فقالَ: دَعْ عنك هذا، فأنا واللهِ أَعْرَفُ بك مِنك.
فقلْتُ له: فإن كانَتِ القِصَّةُ كما تقولُ، فهذا جَوْهَرٌ حَمَلْتُه معي بأضْعافِ ما بَذَلَ المَنْصورُ لمَن جاءَ بي، فخُذْه، ولا تَسفِكْ دَمي.
فقالَ: هاتِه، فأخْرَجْتُه إليه.
فنَظَرَ إليه ساعةً، وقالَ: صَدَقْتَ في قيمتِه، ولسْتُ قابِلَه حتَّى أسْألَك عن شيءٍ، فإن صَدَقْتَني أطْلَقْتُك.
فقلْتُ: قُلْ.
قالَ: إنَّ النَّاسَ قد وَصَفوك بالجودِ، فأخْبِرْني هل وَهَبْتَ قَطُّ مالَك كلَّه؟ قلْتُ: لا.
قالَ: فنِصْفَه؟ قلْتُ: لا.
قالَ: فثُلُثَه؟
قلْتُ: لا، حتَّى بَلَغَ العُشْرَ.
فاسْتَحْيَيْتُ، فقلْتُ: أظُنُّ أنِّي قد فَعَلْتُ ذلك.
قالَ: ما أراك فَعَلْتَه، وأنا واللهِ راجِلٌ، ورِزْقي معَ أبي جَعْفَرٍ عِشرونَ دِرْهمًا، وهذا الجَوْهَرُ قيمتُه آلافُ الدَّنانيرٍ، وقد وَهَبْتُه لك، ووَهَبْتُك لنفْسِك، ولجودِك المأثورِ بَيْنَ النَّاسِ، ولتَعْلَمَ أنَّ في الدُّنْيا أجْودَ مِنك، فلا تُعْجِبَك نفْسُك، ولتَحقِرَ بَعْدَها كلَّ شيءٍ تَعمَلُه، ولا تَتَوقَّفَ عن مَكْرُمةٍ، ثُمَّ رَمى العِقْدَ في حِجْري، وخَلَّى خِطامَ البَعيرِ، وانْصَرَفَ.
فقلْتُ له: يا هذا، قد واللهِ فَضَحْتَني، ولَسَفْكُ دَمي أهْوَنُ عليَّ ممَّا فَعَلْتَه، فخُذْ ما دَفَعْتُه إليك، فإنِّي عنه غَنِيٌّ.
فضَحِكَ وقالَ: أرَدْتَ أن تُكَذِّبَني في مَقالي هذا، واللهِ لا أخَذْتُه، ولا آخُذُ لمَعْروفٍ ثَمَنًا أبدًا، وتَرَكَني ومَضى.
فواللهِ لقد طَلَبْتُه بَعْدَ أن أَمِنْتُ، وضَمِنْتُ لمَن جاءَني به ما شاءَ، فما عَرَفْتُ له خَبَرًا، وكأنَّ الأرْضَ ابْتَلَعَتْه [644] ((الأغاني)) لأبي الفرج الأصفهاني (10/ 300)، ((الفرج بعد الشدة)) للتنوخي (4/ 51). !
ومِن المُناظَراتِ الأدَبيَّةِ ما ذَكَرَه الآمِديُّ في مُوازَنتِه بَيْنَ أبي تَمَّامٍ والبُحْتُريِّ، وفيها:
قالَ صاحِبُ أبي تَمَّامٍ: كيف يَجوزُ لقائِلٍ أن يقولَ: إنَّ البُحْتُريَّ أشْعَرُ مِن أبي تَمَّامٍ، وعن أبي تَمَّامٍ أخَذَ، وعلى حَذْوِه احْتَذى، ومِن مَعانيه اسْتَقى، وباراه حتَّى قيلَ: الطَّائيُّ الأكْبَرُ، والطَّائيُّ الأصْغَرُ، واعْتَرَفَ البُحْتُريُّ بأنَّ جَيِّدَ أبي تَمَّامٍ خَيْرٌ مِن جَيِّدِه، على كَثْرةِ جَيِّدِ أبي تَمَّامٍ؛ فهو بِهذه الخِصالِ أن يكونَ أشْعَرَ مِن البُحْتُريِّ أَولى مِن أن يكونَ البُحْتُريُّ أشْعَرَ مِنه؟!
قالَ صاحِبُ البُحْتُريِّ: أمَّا الصُّحْبةُ فما صَحِبَه ولا تَلْمَذَ له، ولا رَوى ذلك أحَدٌ عنه، ولا نَقَلَه، ولا رأى قَطُّ أنَّه مُحْتاجٌ إليه، ودَليلُ هذا الخَبَرِ المُسْتَفيضِ مِن اجْتِماعِهما وتَعارُفِهما عِنْدَ أبي سَعيدٍ مُحمَّدِ بنِ يوسُفَ الثَّغْريِّ، وقدْ دَخَلَ إليه البُحْتُريُّ بقَصيدتِه الَّتي أوَّلُها:
أأفاقَ صَبٌّ مِن هَوًى فأُفيقا؟ 
وأبو تَمَّامٍ حاضِرٌ، فلمَّا أنْشَدَها عَلِقَ أبو تَمَّامٍ أبْياتًا كَثيرةً مِنها، فلمَّا فَرَغَ مِن الإنْشادِ أقْبَلَ أبو تَمَّامٍ على مُحمَّدِ بنِ يوسُفَ فقالَ: أيُّها الأميرُ، ما ظَنَنْتُ أحَدًا يُقدِمُ على أن يَسرِقَ شِعْري ويُنشِدَه بحَضرتي حتَّى اليَوْمِ، ثُمَّ انْدَفَعَ يُنشِدُ ما حَفِظَه، حتَّى أتى على أبْياتٍ كَثيرةٍ مِن القَصيدةِ، فبُهِتَ البُحْتُريُّ، ورأى أبو تَمَّامٍ الإنْكارَ في وَجْهِ أبي سَعيدٍ مُحمَّدِ بنِ يوسُفَ، فحينَئذٍ قالَ له أبو تَمَّامٍ: أيُّها الأميرُ، واللهِ ما الشِّعْرُ إلَّا له، وإنَّه أحْسَنَ فيه الإحْسانَ كلَّه، وأقْبَلَ يُقَرِّظُه ويَصِفُ مَعانيَه، ويَذكُرَ مَحاسِنَه، ثُمَّ جَعَلَ يَفخَرُ باليَمَنِ، وأنَّهم يَنْبوعُ الشِّعْرِ، ولم يَقنَعْ مِن مُحمَّدِ بنِ يوسُفَ حتَّى أضْعَفَ للبُحْتُريِّ الجائِزةَ.
فهذا الخَبَرُ الشَّائِعُ يُبطِلُ ما ادَّعَيْتُم؛ إذ كانَ مَن يقولُ هذه القَصيدةَ الَّتي هي مِن عَيْنِ شِعْرِه وفاخِرِ كَلامِه، وهو لا يَعرِفُ أبا تَمَّامٍ إلَّا أن يكونَ بالخَبَرِ؛ يَسْتَغني عن أن يَصْحَبَه أو يُتَلْمِذَ له أو لغيْرِه في الشِّعْرِ.
إلَّا أنَّه -معَ هذا- لا يُنكَرُ أن يكونَ قد اسْتَعارَ بعضَ مَعاني أبي تَمَّامٍ لقُرْبِ البَلدَينِ، وكَثْرةِ ما كانَ يَطرُقُ سَمْعَ البُحْتُريِّ مِن شِعْرِ أبي تَمَّامٍ فيَعلَقُ شيئًا مِن مَعانيه، مُعْتمِدًا للأخْذِ أو غيْرَ مُعْتمِدٍ.
وليس ذلك بمانِعٍ مِن أن يكونَ البُحْتُريُّ أشْعَرَ مِنه؛ فهذا كُثَيِّرٌ قد أخَذَ مِن جَميلٍ، وتَلْمَذَ له، واسْتَقى من مَعانيه، فما رأيْنا أحَدًا أطْلَقَ على كُثَيِّرٍ أنَّ جَميلًا أشْعَرُ مِنه، بلْ هو عنْدَ أهْلِ العِلمِ بالشِّعْرِ والرِّوايةِ أشْعَرُ مِن جَميلٍ.
وأمَّا قَوْلُ البُحْتُريِّ: "جَيِّدُ شِعْرِه خَيْرٌ مِن جَيِّدي"، فإنَّ هذا الخَبَرَ إن كانَ صَحيحًا فهو للبُحْتُريِّ لا عليه؛ لأنَّ قَوْلَه هذا يَدُلُّ على أنَّ شِعْرَ أبي تَمَّامٍ شَديدُ الاخْتِلافِ، وشِعْرَه شَديدُ الاسْتِواءِ، والمُسْتوي الشِّعْرِ أَولى بالتَّقْدِمةِ مِن المُخْتلِفِ الشِّعْرِ، وقد اجْتَمَعْنا -نحن وأنتم- على أنَّ أبا تَمَّامٍ يَعْلو عُلُوًّا حَسَنًا، ويَنْحَطُّ انْحِطاطًا قَبيحًا، وأنَّ البُحْتُريَّ يَعْلو بتَوسُّطٍ ولا يَسقُطُ، ومَن لا يَسقُطُ ولا يُسَفْسِفُ أفْضَلُ ممَّن يَسقُطُ ويُسَفْسِفُ.
صاحِبُ أبي تَمَّامٍ: فأبو تَمَّامٍ انْفَرَدَ بمَذهَبٍ اخْتَرَعَه، وصارَ فيه أوَّلًا وإمامًا مَتْبوعًا، وشُهِرَ به حتَّى قيلَ: هذا مَذهَبُ أبي تَمَّامٍ، وطَريقةُ أبي تَمَّامٍ، وسَلَكَ النَّاسُ نَهْجَه، واقْتَفَوا أثَرَه، وهذه فَضيلةٌ عُرِّيَ عن مِثلِها البُحْتُريُّ.
قالَ صاحِبُ البُحْتُريِّ: ليس الأمْرُ لاخْتِراعِه لِهذا المَذهَبِ على ما وَصَفْتُم، ولا هو بأوَّلٍ فيه، ولا سابِقٍ إليه، بلْ سَلَكَ في ذلك سَبيلَ مُسلِمٍ، واحْتَذى حَذْوَه وأفْرَطَ وأسْرَفَ، وزالَ عن النَّهْجِ المَعْروفِ، والسَّنَنِ المَألوفِ، وعلى أنَّ مُسلِمًا أيضًا غيْرُ مُبْتَدِعٍ لِهذا المَذهَبِ، ولا هو أوَّلٌ فيه، ولكنَّه رأى هذه الأنْواعَ الَّتي وَقَعَ عليها اسمُ البَديعِ -وهي: الاسْتِعارةُ، والطِّباقُ، والتَّجْنيسُ- مَنْشورةً مُتَفرِّقةً في أشْعارِ المُتَقدِّمينَ، فقَصَدَها، وأكْثَرَ في شِعْرِه مِنها، وهي في كِتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ أيضًا مَوْجودةٌ [645] يُنظر: ((الموازنة بين شِعْر أبي تمام والبحتري)) للآمدي (1/ 6). .

انظر أيضا: