موسوعة اللغة العربية

تَمْهيدٌ: النَّثْرُ في العَصْرِ العبَّاسيِّ


واكَبَ العَصْرُ العبَّاسيُّ عَدَدًا مِن الأحْداثِ الَّتي أثَّرَتْ في الحَياةِ عُمومًا، وفي الأدَبِ العَربيِّ خُصوصًا، وقد اخْتَلَفَ تَأثيرُ تلك الأحْداثِ سَلْبًا وإيجابًا في الفُنونِ النَّثْريَّةِ في العَصْرِ العبَّاسيِّ.
وأبْرَزُ تلك الأحْداثِ هو اسْتيلاءُ العَجَمِ على النُّفوذِ وتَدْبيرِ أمْرِ الدَّوْلةِ؛ فقدْ تَرَعْرَعَتِ الدَّوْلةُ العبَّاسيَّةُ على يَدِ الفُرْسِ في خُراسانَ وغيْرِها، حتَّى آلَ إليهم الأمْرُ في حَقيقتِه، فلم يكنْ أحَدٌ يَدخُلُ على الخَليفةِ إلَّا بإذْنِهم، وأُبعِدَ العَربُ عن المَناصِبِ الكُبْرى في الإدارةِ والجَيْشِ، ولم يَعُدِ الخَليفةُ كشُيوخِ القَبائِلِ العَربيَّةِ قَديمًا، بل صارَ على نَهْجِ وتَقاليدِ مُلوكِ الفُرْسِ السَّاسانيِّينَ. وقد أثَّرَ ذلك سَلْبًا في اخْتِفاءِ بعضِ ألْوانِ النَّثْرِ المَعْروفةِ؛ كالخَطابةِ السِّياسيَّةِ، وخُطَبِ المَحافِلِ والوُفودِ على الأخَصِّ كما سيَأتي، إلَّا أنَّ تَأثيرَه الإيجابيَّ كانَ أكْبَرَ بكَثيرٍ؛ إذ أسْهَمَ ذلك في اهْتِمامِ الفُرْسِ بتَرْجمةِ كُتُبِهم وعُلومِهم، حتَّى قيلَ: إنَّهم لم يَتْركوا كِتابًا أدَبيًّا أو عِلميًّا إلَّا تَرْجَموه إلى العَربيَّةِ، وقد أفادَ ذلك كَثيرًا الفُنونَ الأدَبيَّةَ النَّثْريَّةَ، خاصَّةً الكِتابيَّةَ مِنها.
على أنَّ حَرَكةَ التَّرْجمةِ تلك قد كانَ لها أثَرٌ سَلْبيٌّ كَبيرٌ؛ إذ لم تكنْ نِيَّاتُ كلِّ المُتَرْجِمينَ صَحيحةً سَليمةً، بلْ تَرْجَمَ بعضُهم كُتُبَ العَقائِدِ الفارِسيَّةِ، فتَرْجَموا كِتابَ زرادشت المُسمَّى "أفستا"، كما تَرْجَموا كذلك كُتُبَ ماني ومزدك، وانْتَشَرَ في المُسلِمينَ زَنادِقةٌ كَثيرونَ، يُبْطِنونَ الزَّنْدقةَ والكُفْرَ، ويُظْهِرونَ الإسلامَ، إلَّا أنَّ الخِلافةَ العبَّاسيَّةَ حينَئذٍ كانَت مُنْتبِهةً لهم، فأقامَ المَهْديُّ ديوانًا لهم، تَتَبَّعَهم فيه، وحَرَصَ على قَتْلِهم ورَدْعِهم، كما كانَ العُلَماءُ يَرُدُّونَ أقْوالَهم ويُناظِرونَهم عن دينِهم، وأكْبَرُ الفَضْلِ يَرجِعُ إلى المُعْتزِلةِ إذ ذاك.
كما أنَّ ذلك أدَّى إلى ظُهورِ تَيَّارِ الشُّعوبيَّةِ، وهو تَيَّارٌ كانَ يُعْنى بالإعْلاءِ مِن شأنِ غيْرِ العَربِ، والتَّنقُّصِ مِن قَدْرِ العَربيِّ، وكانَ مِن هذا التَّيَّارِ أبو عُبَيْدةَ مَعْمَرُ بنُ المُثَنَّى اللُّغَويُّ الشَّهيرُ، حيثُ ألَّفَ كِتابًا في مَناقِبِ الفُرْسِ، وكِتابًا آخَرَ في مَثالِبِ العَربِ ومَساوِئِهم، إلَّا أنَّ الأُدَباءَ العَربَ أحْسَنوا في الرَّدِّ عليهم، كصَنيعِ الجاحِظِ في "البَيانِ والتَّبْيينِ"، وعلى نَهْجِه سارَ ابنُ قُتَيبةَ الَّذي وَضَعَ رِسالةً في بَيانِ فَضْلِ الجِنْسِ العَربيِّ، سمَّاها "كِتابَ العَربِ" [623] يُنظر: ((الفن ومذاهبه في النثر العربي)) لشوقي ضيف (ص: 121). .
وقد كانَ أكْبَرُ أثَرٍ أحْدَثَه نُفوذُ العَجَمِ هو عَدْوى الإطْنابِ الَّتي أصابوا بها النَّثْرَ العَربيَّ؛ فإنَّ الأعاجِمَ -خاصَّةً الفُرْسَ- يَميلونَ إلى الإطْنابِ جدًّا، قالَ ابنُ الأثيرِ: ((إنِّي وَجَدْتُ العَجَمَ يَفضُلونَ العَربَ في هذه النُّكْتةِ المُشارِ إليها -يَريدُ الإطْنابَ-؛ فإنَّ شاعِرَهم يَذكُرُ كِتابًا مُصنَّفًا مِن أوَّلِه إلى آخِرِه شِعْرًا، وهو شَرْحُ قِصَصٍ وأحْوالٍ، ويكونُ معَ ذلك في غايةِ الفَصاحةِ والبَلاغةِ في لُغةِ القَوْمِ، كما فَعَلَ الفِرْدَوسيُّ في نَظْمِ الكِتابِ المَعْروفِ بشاه نامه، وهو سِتُّونَ ألْفَ بَيْتٍ مِن الشِّعْرِ، يَشْتَمِلُ على تاريخِ الفُرْسِ، وهو قُرآنُ القَوْمِ، وقدْ أجْمَعَ فُصَحاؤُهم على أنَّه ليسَ في لُغتِهم أفْصَحُ مِنه، وهذا لا يوجَدُ في اللُّغةِ العَربيَّةِ على اتِّساعِها وتَشَعُّبِ فُنونِها وأغْراضِها، وعلى أنَّ لُغةَ العَجَمِ بالنِّسْبةِ إليها كقَطْرةٍ مِن بَحْرٍ)) [624] ((المثل السائر في أدب الكاتب والشَّاعِر)) لابن الأثير (2/ 397). .
كما ساعَدَ على تَطوُّرِ النَّثْرِ وازْدِهارِه تلك الكُتُبُ الَّتي أُلِّفَتْ في ذلك الزَّمانِ، مِثلُ كُتُبِ الجاحِظِ: البَيان والتَّبْيين، والحَيَوان، والرَّسائِل الأدَبيَّة، والرَّسائِل السِّياسيَّة، وكُتُبِ ابنِ قُتَيْبةَ، مِثلُ: أدَبِ الكاتِبِ، وعُيونِ الأخْبارِ، وبعضِ الكُتُبِ الأخرى، مِثلُ: الكامِلِ في اللُّغةِ والأدَبِ للمُبَرِّدِ، والصِّناعَتَينِ: الكِتابةِ والشِّعْرِ لأبي هِلالٍ العَسْكَريِّ، فَضْلًا عن الكُتُبِ الَّتي جَمَعَتْ نُخَبَ الأشْعارِ؛ كالمُفَضَّليَّاتِ والأصْمَعيَّاتِ والأغاني والنَّقائِضِ وشُروحِ المُعلَّقاتِ وغيْرِها، الَّتي مَكَّنَتْ مِن الاسْتِعانةِ بالأبْياتِ الشِّعْريَّةِ في الكِتابةِ [625] يُنظر: (الأدب العربي وتاريخه في العَصْرين الأموي والعباسي)) لمُحمَّد عبد المنعم خفاجي (2/ 274). .

انظر أيضا: