موسوعة اللغة العربية

المَطْلَبُ الثَّالثُ: عُمَرُ بنُ أبي رَبيعةَ


هو أبو الخَطَّابِ، عُمَرُ بنُ عبْدِ اللهِ بنِ أبي رَبيعةَ المَخْزوميُّ، مِن بَني مَخْزومٍ، وُلِدَ في اللَّيلةِ الَّتي قُتِلَ فيها عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه، فسُمِّيَ باسمِه، وكانَ الحَسَنُ البَصْريُّ إذا ذَكَرَ تلك اللَّيلةَ قالَ: أيُّ حقٍّ رُفِعَ وأيُّ باطِلٍ وُضِعَ؟! [480] يُنظر: ((وفيات الأعيان)) لابن خلكان (3/ 439).
أرَقُّ شُعَراءِ عَصْرِه، مِن طَبَقةِ جَريرٍ والفَرَزْدَقِ، غيْرَ أنَّه كانَ فاسِقًا شَديدَ التَّشْبيبِ بالنِّساءِ، يَتعرَّضُ للنِّساءِ الحَواجِّ في الطَّوافِ والسَّعْيِ وسائِرِ المَناسِكِ، فيَتغزَّلُ فيهنَّ ويُشبِّبُ بهنَّ، وقالوا: ما عُصِيَ اللهُ بشِعْرٍ ما عُصِيَ بشِعْرِ عُمَرَ بنِ أبي رَبيعةَ!
وكانَ كَثيرَ التَّغزُّلِ بالثُّريَّا بِنْتِ عليِّ بنِ عبْدِ اللهِ بنِ الحارِثِ الأُمَوِيَّةِ، وكانت شَديدةَ الجَمالِ، تَزوَّجَها سُهَيْلُ بنُ عبْدِ الرَّحْمنِ بنِ عَوْفٍ وانْتَقلَ بها إلى مِصْرَ، وفي هذا يقولُ عُمَرُ بنُ أبي رَبيعةَ:
أيُّها المُنكِحُ الثُّريَّا سُهَيْلًا
عَمْرَكَ اللهَ كيف يَلْتَقيانِ
هي شاميَّةٌ إذا ما اسْتَقلَّتْ
وسُهَيْلٌ إذا اسْتَقلَّ يَماني [481] ((ديوان عمر بن أبي ربيعة)) (ص: 229).
بَعَثَ عبْدُ المَلِكِ بنُ مَرْوانَ إلى عُمَرَ بنِ أبي رَبيعةَ وجَميلِ بنِ مَعمَرٍ وكُثَيِّرِ عَزَّةَ، فأتَوْه، فقالَ: لِيُنْشِدْني كلُّ واحِدٍ مِنكم ثَلاثةَ أبْياتٍ في الغَزَلِ، فمَن كانَ شِعْرُه أفْضَلَ فله ناقةٌ مُحمَّلةٌ ذَهَبًا وفِضَّةً، فقالَ عُمَرُ بنُ أبي رَبيعةَ:
فيا ليتَ أنِّي حيثُ تَدْنو مَنيَّتي
شَمَمْتُ الَّذي ما بيْنَ عَيْنَيكِ والفَمِ
وليتَ طَهورِي كانَ ريقَكِ كلَّهُ
وليتَ حَنوطِي مِن مُشاشِكِ والدَّمِ
وليتَ سُلَيْمى في المَنامِ ضَجيعَتي
لدى الجَنَّةِ الخَضْراءِ أو في جَهَنَّمِ
وأنْشَدَ جَميلٌ:
حَلَفْتُ يَمينًا يا بُثَيْنةُ صادِقًا
فإنْ كنْتُ فيها كاذِبًا فَعَمِيتُ
حَلَفْتُ لها بالبُدْنِ تَدْمى نُحورُها
لقد شَقِيَتْ نفْسي بِكم وعَيِيتُ
ولو أنَّ راقي المَوْتِ يَرْقي جَنازتي
بِمَنطِقِها في النَّاطِقينَ حَييتُ
وقالَ كُثَيِّرٌ:
بأبي وأُمِّي أنتِ مِن مَعْشوقةٍ
ظَفِرَ العَدُوُّ بها فغَيَّرَ حالَها
ومَشى إليَّ ببَيْنِ عَزَّةَ نِسوةٌ
جَعَلَ المَليكُ خُدودَهُنَّ نِعالَها
لو أنَّ عَزَّةَ خاصَمَتْ شَمْسَ الضُّحَى
في الحُسْنِ عِنْدَ مُوفَّقٍ لقَضى لَها
فقالَ عبْدُ المَلِكِ: خُذِ النَّاقةَ يا صاحِبَ جَهَنَّمَ [482] ((تاريخ الإسلام)) للذهبي (3/ 114). !
خُتِمَ له بالشَّهادةِ؛ حيثُ غَزا في البَحْرِ فأحْرَقوا سَفينتَه فاحْتَرَقَ، قالَ عبْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ: فازَ عُمَرُ بنُ أبي رَبيعةَ بالدُّنْيا والآخِرةِ. [483] ينظر: ((الشِّعْر والشُّعَراء)) لابن قتيبة (2/539)، ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (6/231).
ومِن أشْهَرِ قَصائِدِه قَصيدتُه الرَّائيَّةُ الَّتي يقولُ فيها:
أَمِن آلِ نُعْمٍ أنتَ غادٍ فمُبكِرُ
غَداةَ غَدٍ أم رائِحٌ فمُهَجِّرُ
بحاجةِ نَفْسٍ لم تَقُلْ في جَوابِها
فتُبلِغَ عُذْرًا والمَقالةُ تَعذِرُ
نَهيمُ إلى نُعْمٍ فَلا الشَّمْلُ جامِعٌ
ولا الْحَبلُ مَوْصولٌ ولا القَلْبُ مُقصِرُ
ولا قُرْبُ نُعْمٍ إن دَنَتْ لك نافِعٌ
ولا نأيُها يُسْلي ولا أنتَ تَصبِرُ
وأخرى أَتَتْ مِن دونِ نُعْمٍ ومِثلُها
نَهى ذَا النُّهى لو تَرْعَوي أو تُفكِّرُ
إذا زُرْتُ نُعْمًا لم يَزَلْ ذو قَرابةٍ
لها كلَّما لاقَيْتُها يَتنمَّرُ
عَزيزٌ عليهِ أن أُلِمَّ ببَيْتِها
مُسِرٌّ ليَ الشَّحْناءَ للبُغْضِ مُظهِرُ
ألِكْني إليها بالسَّلامِ فإنَّه
يُشَهَّرُ إلْمامي بها ويُنكَّرُ
على أنَّها قالت غَداةَ لَقيتُها
بمَدفَعِ أكْنانٍ أهذا المُشهِّرُ
قِفي فانْظُري يا أَسْمُ هلْ تَعْرِفينَه
أهذا المُغيريُّ الَّذي كانَ يُذكَرُ
أهذا الَّذي أطْريتِ نَعْتًا فلم أكُنْ
وعَيْشِك أنْساهُ إلى يَوْمِ أُقْبَرُ
فقالت: نَعمْ لا شَكَّ غيَّرَ لَوْنَه
سُرى اللَّيلِ يُحْيي نَصَّهُ والتَّهجُّرُ
رَأتْ رَجُلًا أمَّا إذا الشَّمْسُ عارَضَتْ
فيَضْحَى وأمَّا بالعَشِيِّ فيَخْصَرُ
أخا سَفَرٍ جَوَّابَ أرْضٍ تَقاذَفَتْ
بهِ فَلَواتٌ فهْو أَشْعَثُ أغْبَرُ
قَليلٌ على ظَهْرِ المَطيَّةِ ظِلُّه
سِوى ما نَفى عنه الرِّداءُ المُحبَّرُ
وأعْجَبَها مِن عَيْشِها ظِلُّ غُرْفةٍ
ورَيَّانُ مُلتَفُّ الحَدائِقِ أنْضَرُ
ووالٍ كَفاها كلَّ شيءٍ يَهُمُّها
فليسَتْ لشيءٍ آخِرَ اللَّيلِ تَسهَرُ
ولَيلةَ ذِي دَوْرانَ جَشَّمَني السُّرى
وقد يَجشَمُ الهَوْلَ المُحِبُّ المُغرَّرُ
فبِتُّ رَقيبًا للرِّفاقِ على شَفًا
أراقِبُ مِنهم مَن يَطوفُ وأنْظُرُ
إليهم متى يَسْتأخِذُ النَّومُ فيهمُ
ولي مَجلِسٌ لولا اللُّبانةُ أوْعَرُ
وباتَتْ قَلوصي بالعَراءِ ورَحْلُها
لطارِقِ لَيلٍ أو لمَن جاءَ مُعوِرُ [484] ((ديوان عمر بن أبي ربيعة)) (ص: 122).
يُرْوى أنَّ جَريرَ بنَ عَطيَّةَ لمَّا سَمِعَ هذه القَصيدةَ قالَ: "ما زالَ هذا القُرَشيُّ ‌يَهْذي ‌حتَّى ‌قالَ الشِّعْرَ" [485] ينظر: ((ربيع الأبرار)) للزمخشري (5/210)، ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (6/231). .
ومِن جَميلِ شِعْرِه أيضًا قَوْلُه:
حَدِّثْ حَديثَ فتاةِ حَيٍّ مرَّةً
بالجَزْعِ بَيْنَ أذاخِرٍ وحَراءِ
قالَتْ لِجارتِها عِشاءً إذ رَأتْ
نُزَهَ المَكانِ وغَيْبةَ الأعْداءِ
في رَوْضةٍ يَمَّمْنَها مَوْليَّةٍ
مَيْثاءَ رابِيةٍ بُعَيْدَ سَماءِ
في ظِلِّ دانِيةِ الغُصونِ وريقةٍ
نَبَتَتْ بأبْطَحَ طَيِّبِ الثَّرْياءِ
وكأنَّ ريقتَها صَبيرُ غَمامةٍ
بَرَدَتْ على صَحْوٍ بُعَيدَ ضَحاءِ
ليتَ المُغيريَّ العَشيَّةَ أسْعَفَتْ
دارٌ بهِ لتَقارُبِ الأهْواءِ
إذ غابَ عنَّا مَن نَخافُ وطاوَعَتْ
أرضٌ لنا بلَذاذةٍ وخَلاءِ
قلْتُ ارْكَبوا نَزُرِ الَّتي زَعَمَتْ لنا
ألَّا نُباليها كَبيرَ بَلاءِ
بينا كذلك إذ عَجاجةُ مَوكِبٍ
رَفَعوا ذَميلَ العيسِ بالصَّحْراءِ
قالَتْ لِجارتِها انظُري ها مَن أُلى
وتَأمَّلي مَن راكِبُ الأدْماءِ؟
قالَتْ أبو الخَطَّابِ أعرِفُ زِيَّهُ
ورَكوبَهُ لا شَكَّ غيْرَ خَفاءِ
قالَتْ وهلْ قالَتْ نَعمْ فاسْتَبْشري
ممَّن يُحَبُّ لَقِيُّه بلِقاءِ
قالَتْ لقد جاءَتْ إذًا أمُنيَّتي
في غيْرِ تَكلِفةٍ وغيْرِ عَناءِ
ما كنْتُ أرْجو أن يُلِمَّ بأرْضِنا
إلَّا تَمنِّيهِ كَبيرَ رَجاءِ
فإذا المُنى قد قَرَّبتْ بلِقائِهِ
وأجابَ في سِرٍّ لنا وخَلاءِ
لمَّا تَواقَفْنا وحَيَّيناهما
رَدَّتْ تَحِيَّتَنا على اسْتِحياءِ [486] ((ديوان عمر بن أبي ربيعة)) (ص: 5).

انظر أيضا: