موسوعة اللغة العربية

المَطْلَبُ التَّاسِعُ: الزُّهْدُ


على الرَّغْمِ مِن التَّرَفِ والنَّعيمِ والغِنى الَّذي أصابَ المُسلِمينَ في تلك الدَّولةِ، وانْفِتاحِ الدُّنيا على النَّاسِ واغْتِرافِهم مِنها، فإنَّ ذلك لم يَزِدْ كَثيرًا مِن النَّاسِ إلَّا تَمَسُّكًا بالآخِرةِ وزُهْدًا في الدُّنيا، فغَلَبَ عليهم الوَرَعُ والتَّقشُّفُ مِن مَتاعِ الدُّنيا إلَّا بما لا حَياةَ بدونِه، وانْكبُّوا على العِبادةِ والتَّوْحيدِ، وانْصَرفوا عن فِتَنِ الحَياةِ، وتَرَكوا نَعيمَها رَغْبةً فيما عنْدَ اللهِ عزَّ وجَلَّ، فتَرَكوهم ودُنياهم، ومَضَوا يَتَعبَّدونَ، وزَهِدوا في الدُّنيا وفيما عنْدَ النَّاسِ، وما زادَتْهم فِتَنُ هذا العَصْرِ واضْطِرابُه إلَّا قُرْبًا مِن اللهِ وبُعْدًا عنِ النَّاسِ.
وقد انْتَشرَتْ في العِراقِ مَوْجةٌ مِن الزُّهْدِ المُبالَغِ فيه، المُتأثِّرِ بالأدْيانِ والثَّقافاتِ المُخْتلِفةِ الَّتي أثَّرَتْ جَرَّاءَ اخْتِلاطِ العَربِ بغيْرِهم مِن المَوالي والتُّجَّارِ ونَحْوِ ذلك، فظَهَرَ في النَّاسِ الرَّهْبانيَّةُ والعُزوفُ عن الدُّنيا بالكُلِّيَّةِ.
وانْعَكَسَ هذا التَّخلِّي الرُّوحانيُّ والعِبادةُ القَلْبيَّةُ على الشِّعْرِ، فظَهَرَتِ النَّزْعةُ الدِّينيَّةُ واضِحةً في شِعْرِهم، وانْعَكَسَ نَقاءُ رُوحِهم في أشْعارِهم، وأضْفَوا على شِعْرِهم سِمةً صوفيَّةً روحانيَّةً [464] ينظر: ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (2/369). .
ومِن ذلك قولُ ذي الرُّمَّةِ:
‌يا ‌ربِّ ‌قد ‌أشَرفَتْ ‌نفْسي ‌وقد ‌عَلِمَتْ
عِلمًا يَقينًا لقد أحْصيْتَ آثاري
يا مُخرِجَ الرُّوحِ مِن جِسْمي إذا احْتَضَرتْ
وفارِجَ الكَرْبِ زَحْزِحْني عن النَّارِ [465] ((ديوان ذي الرمة)) (ص: 130).
وقولُ أبي الأسْوَدِ الدُّؤَليِّ:
وإذا طَلَبْتَ مِن الحَوائِجِ حاجةً
فادعُ الإلهَ وأحْسِنِ الأعْمالا
فلَيُعْطيَنَّكَ ما أرادَ بقُدْرةٍ
فهو اللَّطيفُ لِما أرادَ فِعَالا
ودَعِ العِبادَ ولا تَكُنْ بطِلابِهم
لَهِجًا تُضَعْضِعُ للعِبادِ سُؤالا
إنَّ العِبادَ وشأنَهم وأمورَهم
بيَدِ الإلهِ يُقلِّبُ الأحْوالا [466] ((ديوان أبي الأسود الدؤلي)) (ص: 360).
وقولُ سابِقٍ البَرْبَريِّ:
أمْوالُنا لذَوي الميراثِ نَجمَعُها
ودُورُنا لخَرابِ الدَّهْرِ نَبْنيها
والنَّفْسُ تَكْلَفُ بالدُّنيا وقد عَلِمَتْ
أنَّ السَّلامةَ مِنها تَرْكُ ما فيها [467] ((ديوان سابق بن عبد الله البربري)) (ص: 135).

انظر أيضا: