موسوعة اللغة العربية

المَطلَبُ الثَّالِثُ: عبْدُ اللهِ بنُ رَواحةَ


هو أبو مُحمَّدٍ، عبْدُ اللهِ بنُ رَواحةَ بنِ ثَعْلبةَ بنِ امْرِئِ القَيْسِ الخَزْرَجيُّ الأنْصاريُّ.
كانَ عبْدُ اللهِ بنُ رَواحةَ عَظيمَ القَدْرِ في قَوْمِه، سيِّدًا في الجاهِليَّةِ، وكانَ في الإسْلامِ عَظيمَ القَدْرِ والمَكانةِ عنْدَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فقدْ أسْلمَ مُبكِّرًا، وشَهِدَ العَقَبةَ، وكانَ أحَدَ النُّقَباءِ الاثْني عشَرَ، وشَهِدَ بَدْرًا وأُحُدًا والخَنْدقَ والحُدَيْبيَةَ، واسْتَخْلَفه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في إحْدى غَزَواتِه على المَدينةِ، وصَحِبَه في عُمْرةِ القَضاءِ.
كانَ يَهْجو المُشْرِكينَ فيُوبِّخُهم على الكُفْرِ، وكانَ حسَّانُ وكَعْبُ بنُ مالِكٍ يَهْجوانِهم بذِكْرِ مَثالِبِهم وأيَّامِهم الَّتي هُزِموا فيها، ويَتوعَّدانِهم بالقَتْلِ والأسْرِ، فلمَّا أسْلموا اسْتَبانَ لهم أنَّ هِجاءَ ابنِ رَواحةَ كانَ أقْذَعَ وأشَدَّ عليهم مِن هِجاءِ كَعْبٍ وحسَّانَ.
أمَرَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أن يُدافِعَ عنه وعنِ المُسْلِمينَ وأن يَهْجوَ المُشْرِكينَ؛ قالَ عبْدُ اللهِ بنُ رَواحةَ: مَرَرْتُ بمَسجِدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو في نَفَرٍ مِن أصْحابِه، فأضَبَّ القَوْمُ: يا عبْدَ اللهِ بنَ رَواحةَ، يا عبْدَ اللهِ بنَ رَواحةَ، فعَرَفْتُ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ دَعاني، فانْطَلقْتُ إليهم مُسْرِعًا، فسلَّمْتُ فقالَ: هاهنا، فجَلَسْتُ بيْنَ يَدَيه فقالَ: -كأنَّه يَتعجَّبُ مِن شِعْري- كيف تقولُ الشِّعْرَ إذا قُلْتَه؟ قلْتُ: أنْظُرُ في ذلك ثُمَّ أقولُ، قالَ: فعليكَ بالمُشْرِكينَ، قالَ: فلم أكُنْ أعْدَدْتُ شيئًا، فأنْشَدْتُه، فلمَّا قُلْتُ:
فخَبِّرُونيَ أثْمانَ العَباءِ متى
كنْتُم بَطاريقَ أو دانَتْ لكم مُضَرُ
قالَ: فكأنِّي عَرَفْتُ في وَجْهِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الكَراهةَ إذ جَعَلْتُ قَوْمَه أثْمانَ العَباءِ، فقُلْتُ:
نُجالِدُ النَّاسَ عن عِرْضٍ فنأسِرُهم
فينا النَّبيُّ وفينا تَنزِلُ السُّوَرُ
وقد عَلِمْتُم بأنَّا ليس غالِبَنا
حَيٌّ مِن النَّاسِ إنْ عَزُّوا وإنْ كَثُروا
يا هاشِمَ الخَيْرِ إنَّ اللهَ فضَّلَكم
على البَرِيَّةِ فَضْلًا ما لهُ غِيَرُ
إنِّي تَفرَّسْتُ فيك الخَيْرَ أعْرِفُه
فِراسةً خالَفَتْهم في الَّذي نَظَروا
ولو سألْتَ أو اسْتَنْصرْتَ بعضَهمُ
في جُلِّ أمْرِك ما آوَوا وما نَصَروا
فثَبَّتَ اللهُ ما آتاك مِن حَسَنٍ
تَثْبيتَ موسى ونَصْرًا كالَّذي نُصِروا [373] ((ديوان عبد الله بن رواحة)) (159).
فأقبلَ عليَّ بوَجْهِه مُبْتسِمًا، ثُمَّ قالَ: وإيَّاكَ فثَبَّتَ اللهُ [374] الحديث أخرجه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (4533)، والطبري في ((مسند عمر)) (977)، والطبراني (14/392) (15021) و يُنظر: ((طبقات فحول الشعراء)) لابن سلام (1/225). !
لمَّا جهَّزَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الجَيْشَ لغَزْوةِ مُؤْتةَ، أمَرَ أن يكونَ الأميرُ زيدَ بنَ حارِثةَ، فإن قُتِلَ فجَعْفَرٌ، فإن قُتِلَ فعبْدُ اللهِ بنُ رَواحةَ، فلمَّا قُتِلَ جَعْفَرٌ تأخَّرَ عبْدُ اللهِ بنُ رَواحةَ وكَرِهَ الإقْدامَ، ثُمَّ قالَ:
أقْسَمْتُ يا نفْسُ لتَنْزِلِنَّهْ
طَائِعةً أو لا لَتُكْرَهِنَّهْ
إن أجْلَبَ النَّاسُ وشَدُّوا الرَّنَّهْ
ما لي أراكِ تَكْرَهينَ الجَنَّهْ
قد طالَ ما قد كنْتِ مُطْمَئِنَّهْ
هلْ أنتِ إلَّا نُطْفةٌ في شَنَّهْ
ثُمَّ تَقدَّمَ فقاتَلَ إلى أن اسْتُشهِدَ رَضيَ اللهُ عنه [375] يُنظر: ((الاستيعاب في معرفة الأصحاب)) لابن عبد البر (3/898)، ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (1/ 230). .
ومِن شِعْرِه أيضًا:
تَذكَّرَ بَعْدَما شَطَّتْ نُجودا
وكانَتْ تيَّمَتْ قَلبي وَليدا
كذي داءٍ غَدا في النَّاسِ يَمْشي
ويَكتُمُ داءَه زَمَنًا عَميدا
تَصيَّدُ عَورةَ الفِتيانِ حتَّى
تَصيدَهمُ وتَشْنَأ أن تَصيدا
فقدْ صادَتْ فُؤادَك يَوْمَ أبْدَتْ
أسيلًا خَدَّها، صَلْتًا، وَجيدا
تَزينُ مَعقِدَ اللَّباتِ مِنها
شُنوفًا في القَلائِدِ، والفَريدا
فإنْ تَضنَنْ عليك بما لَدَيها
وتَقلِبْ وَصْلَ نائِلِها، جَديدا
لعَمْرُك ما يُوافِقني خَليلٌ
إذا ما كانَ ذا خَلَفٍ كَنودا
وقد عَلِمَ القَبائِلُ غيْرَ فَخْرٍ
إذا لم تُلْفَ ماثِلةً رَكودا
بأنَّا تَخرُجُ الشَّتَواتُ منَّا
إذا ما اسْتَحكَمَتْ، حَسَبًا وَجودا
قُدورٌ تَغرَقُ الأوْصالُ فيها
خَضيبٌ لَوْنُها بيضًا وسُودا
متى ما تأتِ يَثْرِبَ أو تَزُرْها
تَجِدْنا نحن أكْرَمَها وُجودا [376] ((ديوان عبد الله بن رواحة)) (117).

انظر أيضا: