موسوعة اللغة العربية

المَطلَبُ الثَّالِثُ: الهِجاءُ


كانَ الهِجاءُ مِن أشَدِّ الأغْراضِ الَّتي اسْتَخدَمَها الإسْلامُ في نُصْرةِ دَعْوتِه؛ فالهِجاءُ سِلاحٌ لا يَقِلُّ فَتْكُه عنِ السَّيْفِ، فاتَّخَذَه شُعَراءُ الصَّحابةِ سِلاحًا يُهاجِمونَ به أعْداءَ الدِّينِ، ويُناصِرونَ به دَعوةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُشجِّعُهم على الحَرْبِ بألْسِنتِهم، وأن يُدافِعوا عنه ويَرُدُّوا مَسبَّةَ الكُفَّارِ، فما برِحَ أعْداءُ اللهِ يَهْجونَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصْحابَه، ولا بُدَّ أن يَرُدَّ عليهم أحَدٌ بلِسانِهم، كما أنَّهم كانوا يَخافونَ مِن الهِجاءِ جدًّا؛ لأنَّهم يَعلَمونَ أنَّ الشِّعْرَ يُلصِقُ الهِجاءَ بصاحِبِه فلا يَبرَحُ عنه، وإنَّما تَتَناقَلُه الألْسِنةُ وإن كانَ كَذِبًا صُراحًا.
وكانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُهَيِّجُ الشُّعَراءَ على هِجاءِ المُشْرِكينَ، فكانَ يقولُ لحسَّانَ بنِ ثابِتٍ: ((اهْجُهم -أو هاجِهم- وجِبْريلُ معَك )) [345] أخرجه البخاري (3213) ومسلم (2486)، عن البراءِ بنِ عازبٍ رَضِيَ اللهُ عنه. .
ومِن شِعْرِ الهِجاءِ قولُ حسَّانَ رَضيَ اللهُ عنه في هِجاءِ أبي سُفْيانَ بنِ الحارِثِ بنِ عبْدِ المُطَّلِبِ، الَّذي هَجا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ:
‌ألَا ‌أبْلِغْ ‌أبا سُفْيانَ عنِّي
مُغَلْغَلةً فقدْ برِحَ الخَفاءُ
هَجَوْتَ مُحمَّدًا فأجَبْتُ عنه
وعنْدَ اللهِ في ذاكَ الجَزاءُ
أتَهْجوهُ ولسْتَ له بنِدٍّ
فشَرُّكما لخَيْرِكما الفِداءُ
فمَن يَهْجو رَسولَ اللهِ مِنكم
ويُطْريهِ ويَمدَحُه سَواءُ
لنا في كلِّ يَوْمٍ مِن مَعَدٍّ
سِبابٌ أو قِتالٌ أو هِجاءُ
لِساني صارِمٌ لا عَيْبَ فيه
وبَحْري لا تُكدِّرُهُ الدِّلاءُ
فإنَّ أبي ووالِدَهُ وعِرْضي
لعِرْضِ مُحمَّدٍ مِنكم وِقاءُ [346] يُنظر: ((ديوان حسان بن ثابت)) (ص: 17).
وكانَ حسَّانُ وكَعْبٌ يُعارِضانِ شُعَراءَ قُرَيشٍ بمِثلِ قَوْلِهم بالوَقائِعِ والأيَّامِ والمَآثِرِ ويُعيِّرانِهم بالمَثالِبِ، وكانَ عبْدُ اللهِ بنُ رَواحةَ يُعيِّرُهم بالكُفْرِ، فكانَ في ذلك الزَّمانِ أشَدُّ القَوْلِ عليهم قَوْلَ حسَّانَ وكَعْبٍ، وأهْوَنُ القَوْلِ عليهم قَوْلَ ابنِ رَواحةَ، فلمَّا أسْلَموا وفَقِهوا الإسْلامَ كانَ أشَدُّ القَوْلِ عليهم قَوْلَ ابنِ رَواحةَ [347] ينظر: ((الأغاني)) للأصفهاني (4/138). .
ويَتَّضِحُ جِدًّا في هِجاءِ الشُّعَراءِ المُسْلِمينَ للمُشْرِكينَ أنَّهم تَأثَّروا بأخْلاقِ الإسْلامِ ومَنهَجِ القُرآنِ؛ فليس الهِجاءُ سَبًّا أو إفْحاشًا أو طَعْنًا في الأنْسابِ، بلْ تَقْذيعًا لهم على كُفْرِهم، وتَشْنيعًا على آلِهتِهم الَّتي لا تُغْني عنهم شيئًا، واسْتِهزاءً بجُموعِهم وقُوَّتِهم الَّتي لا تَصمُدُ أمامَ المُسْلِمينَ [348] ينظر: ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (2/50). .
غيْرَ أنَّ الهِجاءَ كلَّه لم يكنْ مِن هذا النَّوْعِ؛ فهذا هِجاءٌ بحَقٍّ ودِفاعٌ عن حَقٍّ، وصاحِبُه مَأجورٌ مُثابٌ، أمَّا الهِجاءُ الآخَرُ الَّذي يَكشِفُ السَّوْءاتِ، ويَنالُ مِن أعْراضِ النَّاسِ، فقدْ حَرَّمَه الإسْلامُ ونَهى عنه، وجَعَلَ له عِقابًا وعَذابًا أليمًا.
فمِن ذلك الحُطَيئةُ الَّذي سَبَّ الزِّبْرِقانَ بغيْرِ وَجْهِ حَقٍّ، وشَهَّرَ به بيْنَ النَّاسِ وقالَ:
ما كانَ ذَنْبُ بَغيضٍ أن رَأى رَجُلًا
ذا حاجةٍ عاشَ في مُسْتوعِرٍ شاسِ
جارٌ لقَوْمٍ أطالوا هُونَ مَنزِلِه
وغادَروهُ مُقيمًا بيْنَ أرْماسِ
مَلُّوا قِراه وهرَّتْهُ كِلابُهُمُ
وجَرَّحوهُ بأنْيابٍ وأضْراسِ
دَعِ المَكارِمَ لا تَرحَلْ لِبُغْيتِها
واقْعُدْ فإنَّكَ أنتَ الطَّاعِمُ الكاسي [349] ((ديوان الحطيئة)) (ص: 284).
وكانَ ذلك أنَّ الحُطَيئةَ كانَ جارًا للزِّبْرِقانِ بنِ بَدْرٍ، فلم يَحمَدْ جِوارَه، فانْتَقلَ عنه إلى بَغيضٍ، فأكْرَمَ جِوارَه، فقالَ ذلك يَمدَحُ بَغيضًا ويَهْجو الزِّبْرِقانَ.
فشَكاه الزِّبْرِقانُ لعُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه، وأنْشَدَه آخِرَ بَيْتٍ، فقالَ له عُمَرُ: ما أعْلَمُه هَجاك، أمَا تَرْضى أن تكونَ طاعِمًا كاسِيًا؟! قالَ: إنَّه لا يكونُ في الهِجاءِ أشدُّ مِن هذا، ثُمَّ أرْسَلَ إلى حسَّانَ بنِ ثابِتٍ، فسألَه عن ذلك، فقالَ: لم يَهْجُه ولكنْ سلَحَ [350] السَّلْح: العَذِرَة، وسَلَح: قضى حاجَتَه وتغوَّطَ. يُنظر: ((المحكم والمحيط الأعظم)) لابن سيده (5/ 234)، ((لسان العرب)) لابن منظور (1/ 64). عليه! فحَبَسَه عُمَرُ، وقالَ: يا خَبيثُ! لأشْغَلنَّك عن أعْراضِ المُسْلِمينَ، فقالَ وهو مَحْبوسٌ:
ماذا أرَدْتَ لأفْراخٍ بذي مَرَخٍ
حُمْرِ الحَواصِلِ لا ماءٌ ولا شَجَرُ
ألْقَيْتَ كاسِبَهم في قَعْرِ مُظْلِمةٍ
فاغْفِرْ عليك سَلامُ اللهِ يا عُمَرُ [351] ((ديوان الحطيئة)) (ص: 66).
فرَقَّ له عُمَرُ وخلَّى سَبيلَه، وأخَذَ عليه ألَّا يَهْجوَ أحَدًا مِن المُسْلِمينَ [352] ينظر: ((الشعر والشعراء)) لابن قتيبة (1/316). .

انظر أيضا: