موسوعة اللغة العربية

المَبحَثُ الثَّاني: أيُّهما أسْبَقُ إلى الظُّهورِ: الشِّعْرُ أمِ النَّثْرُ؟


اخْتَلفَ الأدَباءُ والنُّقَّادُ المُعاصِرونَ في نِسبةِ الأسْبَقيَّةِ إلى أيٍّ مِن الشِّعْرِ والنَّثْرِ، ولم يَلْتفِتْ إلى تلك القَضيَّةِ العُلَماءُ والأدَباءُ القُدَماءُ؛ إذ لا يُجْدي نَفْعًا مَعْرفةُ أيُّهما أسْبَقُ، إلَّا أنَّ إدْخالَ الفَلسفةِ في مَبادِئِ العُلومِ دفَعَتِ الباحِثينَ إلى النَّظَرِ في أصولِ الأشْياءِ وبداياتِ الظَّواهِرِ الَّتي يُمكِنُ إخْضاعُها للبَحْثِ والنَّظَرِ، وقد أثارَ الغَرْبُ هذه المَسألةَ، وتَبِعَهم في تَصوُّرِها والبَحْثِ فيها الأُدَباءُ والنُّقَّادُ العَربُ.
وقد ذَهَبَ فَريقٌ مِن الباحِثينَ والمُسْتَشرِقينَ إلى أنَّ الشِّعْرَ أقْدَمُ مِن النَّثْرِ؛ إذ النَّثْرُ وإن كانَ كَلامًا سَهْلًا يَتأتَّى للإنْسانِ في سُهولةٍ ويُسْرٍ، فإنَّ الكَلامَ المُرسَلَ الخاليَ عن الوَزْنِ والقافِيةِ لا يَأخُذُ بالألْبابِ، ولا يَتعلَّقُ بالأفْئِدةِ؛ ولِهذا فإنَّ الشِّعْرَ هو أوَّلُ ما عَرَفَ الإنْسانُ مِن الأدَبِ، ومعَ تَطوُّرِ الأُمَمِ وازْدِهارِها شيئًا فشيئًا نَما عن ذلك الكَلامِ المُرسَلِ نَوْعٌ مِن الكَلامِ الأدَبيِّ الَّذي يُخاطِبُ العَقْلَ والعاطِفةَ معًا، ويَأسِرُ مَكامِنَ العُقولِ والأسْماعِ.
في حينِ ذهَبَ آخَرونَ إلى أنَّ النَّثْرَ أقْدَمُ مِن الشِّعْرِ؛ ذلك أنَّ الشِّعْرَ مَرحَلةٌ مُتطوِّرةٌ مِن ذلك الكَلامِ البَليغِ الَّذي يُخاطِبُ العَقْلَ ويُؤثِّرُ في القَلْبِ، وهو مُرَكَّبٌ مِن الوَزْنِ والسَّجْعِ، في حينِ أنَّ النَّثْرَ بَسيطٌ يَقومُ على السَّجْعِ فحسْبُ، دونَ أن يَتَوجَّبَ فيه الإتْيانُ بالسَّجْعِ كما في الشِّعْرِ، والبَسيطُ سابِقٌ على المُركَّبِ، فكانَ مَعنى ذلك أنَّ النَّثْرَ سابِقٌ على الشِّعْرِ لا العَكْسُ. وهذا القولُ أرْجَحُ وأدِلَّتُه أقْوى [270] ينظر: ((أيهما أسبق في الظهور الشعر أم النثر الفني، مجلة التراث العربي)) لمحمود المقداد (10/167). .
ويُؤيِّدُ ذلك قَوْلُ ابنِ رَشيقٍ: (وكانَ ‌الكَلامُ ‌كُلُّه ‌مَنْثورًا، فاحْتاجَتِ العَربُ إلى الغِناءِ بمَكارِمِ أخْلاقِها، وطِيبِ أعْراقِها، وذِكْرِ أيَّامِها الصَّالِحةِ، وأوْطانِها النَّازِحةِ، وفُرْسانِها الأمْجادِ، وسُمَحائِها الأجْوادِ؛ لتَهُزَّ أنْفُسَها إلى الكَرَمِ، وتَدُلَّ أبْناءَها على حُسْنِ الشِّيَمِ، فتَوهَّموا أعاريضَ جَعَلوها مَوازينَ الكَلامِ، فلمَّا تَمَّ لهم وَزْنُه سمَّوه شِعْرًا؛ لأنَّهم شعَروا به) [271] ((العمدة في محاسن الشعر وآدابه)) لابن رشيق (1/20). .

انظر أيضا: