موسوعة اللغة العربية

المَطلَبُ الثَّاني: المذاهبُ فيها


قد وقَف العُلَماءُ من هذه القضيَّةِ موقِفَينِ على النَّحوِ الآتي:
المذهبُ الأوَّلُ: أنَّ وقوع الألفاظِ التي يُرادُ بها معنيانِ متضادَّانِ قائمٌ في اللُّغةِ، وأنَّ "الأضداد" من سَنَنِ العَرَبِ في كلامِهم، وعلى ذلك أغلبُ أهلِ اللُّغةِ؛ مِثلُ: الأصمعيِّ، وابنِ الأعرابيِّ، وأبو عُبَيدةَ، وابنِ السِّكِّيتِ، والسِّجِسْتانيِّ، وقُطرُبٍ، والتَّوَّزيِّ، وابنِ فارسٍ، وأبي بكرِ بنِ الأنباريِّ، وأبي البَرَكاتِ بنِ الأنباريِّ، وابنِ القُوطيَّةِ، وابنِ الدَّهَّانِ، والصَّغانيِّ، وغيرِهم، وذلك معلومٌ من كلامِهم المتناثرِ في كتُبِ اللُّغةِ، أو من تصنيفِهم كُتبًا عن الأضدادِ [355] يُنظر: ((الصاحبي في فقه اللُّغة)) لابن فارس (ص: 60)، ((المزهر)) للسيوطي (1/ 312). .
المذهبُ الثَّاني: أنكَر وقوعَ "الأضداد" في كلامِ العَرَبِ، ويتأوَّلون ما وقع منها في اللُّغةِ، ولعَلَّ أشهرَهم ابنُ دُرُستَوَيهِ؛ حيثُ ألَّف كتابًا سمَّاه "إبطال الأضداد" ذكَره في شرحِ الفصيحِ [356] يُنظر: ((تصحيح الفصيح وشرحه)) لابن درستويه (ص: 185). .
وقد ذكَر أبو بكرِ بنُ الأنباريِّ في مُقَدِّمةِ كتابِه "الأضداد" أنَّ قومًا يقولون بوجودِ الأضدادِ، لكنَّهم يتَّخذونها مَثلَبةً من مثالِبِ العَرَبِ، وأنَّ وجودَها دالٌّ على نُقصانِ حِكمةِ العَرَبِ، وقِلَّةِ بلاغتِهم، وكثرةِ الالتباسِ في كلامِهم، محتَجِّين بأنَّ اللَّفظَ يدُلُّ على معنًى تحتَه، فإذا توارد على اللَّفظِ الواحدِ معنيانِ مختلفانِ التبَسَ الأمرُ على المخاطَبِ، وقد سمَّاهم "أهلَ البِدَعِ والزَّيغِ والإزراءِ بالعَرَبِ"، وهم الشُّعوبيَّةُ.
والمذهَبُ الأوَّلُ هو المعتَمَدُ، وهو الذي عليه أكثرُ أهلِ اللُّغةِ، وهو واقعٌ في لغةِ العَرَبِ؛ قال سِيبَوَيهِ: (اعلَمْ أنَّ من كلامِهم اختلافَ اللَّفظينِ لاختلافِ المعنيينِ، واختلافَ اللَّفظينِ والمعنى واحدٌ، واتِّفاقَ اللَّفظينِ واختلافَ المعنَيَينِ) [357] ((الكتاب)) لسيبويه (1/ 24). ، وظاهِرةُ "الأضداد" تدخُلُ تحتَ اتِّفاقِ اللَّفظينِ واختلافِ المعنيَينِ، غيرَ أنَّ الأضدادَ يكونُ فيها المعنى وضِدُّه.
والحُجَّةُ قائمةٌ في السَّماعِ؛ فقد تناقلَت كتُبُ اللُّغةِ والمعاجِمُ ظاهرةَ الأضدادِ، وصنَّف فيها العُلَماءُ؛ فمن المقطوعِ به أنَّ العَرَبَ تقولُ -مثلًا- للأبيضِ والأسوَدِ: الجَوْنَ؛ قال ابنُ فارسٍ: (وأنكر ناسٌ هذا المذهَبَ، وأنَّ العَرَبَ تأتي باسمٍ واحدٍ لشيءٍ وضدِّه، وهذا ليسَ بشيءٍ؛ وذلك أنَّ الذينَ رَوَوا أنَّ العَرَبَ تُسمِّي السَّيفَ مُهنَّدًا، والفَرَسَ طِرْفًا، هم الذينَ رَوَوا أنَّ العَرَبَ تُسمِّي المتضادَّينِ باسمٍ واحدٍ) [358] ((الصاحبي في فقه اللُّغة)) لابن فارس (ص: 60). ، فاحتجَّ ابنُ فارسٍ بالرِّوايةِ والسَّماعِ.
واحتجَّ أبو عليٍّ الفارسيُّ بالسَّماعِ أيضًا فيما نقَله عنه ابنُ سِيدَه [359] يُنظر: ((المخصص)) لابن سيده (4/ 173). .
وقد ردَّ على المذهَبِ الثَّاني أبو بكرِ بنُ الأنباريِّ بأنَّ كلامَ العَرَبِ لا يُعرَفُ معناه إلَّا باستيفائِه، والكَلِمةَ التي تقعُ على معنيَينِ متضادَّينِ إمَّا أن يتقدَّمها أو يأتيَ بعدَها ما يخصِّصُ أحَدَ المعنَيَينِ؛ فمثَلًا كَلِمةُ (جَلَل) من الأضدادِ، وتعني: الحقيرَ والعظيمَ، والسِّياقُ يحدِّدُ أيَّ المعنيَينِ هو المرادُ؛ فقولُ القائِلِ:
كلُّ شَيْءٍ ما خَلا المَوْتَ جَلَلْ ... والفَتَى يَسْعَى ويُلْهِيه الأمَلْ
فالمعنى: كُلُّ شيءٍ ما خلا الموتَ يسيرٌ، ولا يمكِنُ أن يظُنَّ عاقلٌ أنَّ الجَلَلَ معناه هنا: العظيمُ.
ثمَّ احتَجَّ بالقياسِ؛ ذلك أنَّ الكَلِمةَ التي تحمِلُ معنيَينِ متضادَّينِ مِثلُها مِثلُ الكَلِمةِ التي تتواردُ على أكثَرَ من معنًى، ثمَّ يأتي السِّياقُ ليخَصِّصَ أحدَ المعاني دونَ الآخَرِ؛ مِثلُ كَلِمةِ (الأُمَّة)؛ من معانيها: أتباعُ الأنبياءِ، والجماعةُ، والصَّالحُ الذي يؤتَمُّ به، والدِّينُ، والمنفَرِدُ بالدِّينِ، والحينُ من الزَّمانِ، والأُمُّ، والقامةُ، وتجمَعُ على أُمَمٍ، والسِّياقُ هو الذي يحدِّدُ أيًّا من هذه المعاني [360] يُنظر: ((الأضداد)) لابن الأنباري (1 – 6). .

انظر أيضا: