موسوعة اللغة العربية

المَطْلَبُ الأوَّلُ: القِصَّةُ القَصيرةُ


اختلف الأُدَباءُ في تحديدِ مَفهومٍ للقِصَّةِ القَصيرةِ، والتَّمييزِ بَيْنَها وبَيْنَ القِصَّةِ الطَّويلةِ الَّتي تُعرَفُ باسمِ الرِّوايةِ، فذَهَبوا في ذلك مَذهَبَينِ:
- المَذهَبُ الأوَّلُ: التَّفرِقةُ الكَمِّيَّةُ بَيْنَ القِصَّةِ والرِّوايةِ؛ فالقِصَّةُ تتراوحُ كَلِماتُها بَيْنَ 500 كَلِمةٍ إلى 10000، وما زاد على ذلك فهو رِوايةٌ، وقيل: بل العِبرةُ بالوَقتِ؛ فقِراءةُ القِصَّةِ تَستغرِقُ رُبعَ ساعةٍ إلى ساعتَينِ على اختِلافِ الآراءِ.
- المَذهَبُ الثَّاني: التَّفرِقةُ الكَيفيَّةُ: وهي تعتَمِدُ على خصائِصِ القِصَّةِ القَصيرةِ وممَيِّزاتِها؛ فلا بُدَّ في القِصَّةِ مِن وَحدةِ الانطِباعِ أو الأثَرِ؛ ولذا لا ينبغي أن تتعَدَّدَ الشَّخصيَّاتُ والأزِمنةُ والأمْكِنةُ، وألَّا تتفَرَّعَ الحوادِثُ وتَتشَعَّبَ، ولا يتزيَّدَ المؤلِّفُ في الوَصْفِ إلَّا بما يُفيدُ في النَّصِّ؛ إذ كَثرةُ الأوصافِ تنحَرِفُ باهتِمامِ القارِئِ وتُزعِجُه، وتُبعِدُه عن مِحوَرِ القِصَّةِ والاهتِمامِ به. ولهذا فإنَّه يمكِنُ للقِصَّةِ القَصيرةِ أن تزيدَ على آلافِ الكَلِماتِ، وأن تُكتَبَ في مِئاتِ الصَّفَحاتِ، شَريطةَ أن تتحَلَّى بالإيجازِ والنَّظْرةِ المُرَكَّزةِ، فما يتحَدَّثُ عنه كاتِبُ الرِّوايةِ في صَفحةٍ، يُجمِلُه صاحِبُ القِصَّةِ في سَطرٍ أو جُملةٍ.
يقولُ عِزُّ الدِّين إسماعيل: (والفَرقُ بَيْنَهما هو الفَرقُ بَيْنَ الموضوعِ الحَيِّ المعروضِ في صورةٍ عُضويَّةٍ مُتفاعِلةِ الأجزاءِ مُتكامِلةِ العناصِرِ، والموضوعِ الجامِدِ الَّذي يَغلِبُ عليه طابَعُ التَّجريدِ والتَّلْخيصِ؛ فالقِصَّةُ القصيرةُ مِنَ الممكِنِ أن تجتازَ بالقارِئِ فَترةً زَمنيَّةً طَويلةً، كما تصنَعُ الرِّوايةُ، ولكِنْ يَحدُثُ الفَرقُ هنا في طريقةِ العَرْضِ؛ فالتَّفصيلاتُ والجُزْئيَّاتُ الَّتي تملأُ كُلَّ يومٍ وكُلَّ ساعةٍ في تلك الفَترةِ الزَّمَنيَّةِ لا حاجةَ لكاتِبِ القِصَّةِ القَصيرةِ بها، بل إنَّه يجتازُ كُلَّ شَيءٍ لينتَقِلَ مُباشَرةً مِن لَمسةٍ مِن لَمَساتِه للموضوعِ إلى أُخرى، مجتازًا بذلك مِنَ الزَّمَنِ فترةً قد تطولُ وقد تَقصُرُ. فطريقةُ العِلاجِ ترتَبِطُ ارتباطًا حيًّا بالموضوعِ، وهذا -مِن جِهةٍ أُخرى- فَرقٌ جوهريٌّ بَيْنَ القِصَّةِ القصيرةِ والطَّويلةِ. فلْيَنتَقِلْ كاتِبُ القِصَّةِ القصيرةِ في الزَّمَنِ كيف شاء، وليَجْتَزِ الشُّهورَ والسِّنينَ، ولكِنَّ الَّذي يجعَلُ عَمَلَه قِصَّةً قَصيرةً -برَغمِ ذلك- هو الوَحْدةُ الزَّمَنيَّةُ الَّتي تتمثَّلُ في القِصَّةِ؛ فلا بُدَّ في القِصَّةِ القصيرةِ مِن هذه الوَحْدةِ الزَّمَنيَّةِ الَّتي ترتَبِطُ بَيْنَ لمَساتِه المتباعِدةِ في الزَّمانِ. وهذا طَبيعيٌّ إذا عرَفْنا أنَّ القِصَّةَ القَصيرةَ في عُمومِها لا تتجاوَزُ الفِكرةَ الواحِدةَ) [169] يُنظر: ((الأدب وفنونه - دراسة ونقد)) لعز الدين إسماعيل (ص: 112). .
ويُشتَرَطُ في القِصَّةِ القَصيرةِ أن تتوافَرَ فيها عناصِرُ مُهِمَّةٌ، وهي:
1- الحَدَثُ: يجِبُ أن تتَّصِلَ تفاصيلُ الحَدَثِ وأجزاؤه في القِصَّةِ بحَيثُ تُفضي إلى معنًى أو أثَرٍ كُلِّيٍّ، وأن يكونَ له بِدايةٌ ووَسَطٌ ونِهايةٌ؛ فالبدايةُ تمثِّلُ الموقِفَ الَّذي ينشَأُ عنه الحَدَثُ، وهو أقرَبُ إلى التَّمهيدِ الَّذي تتمَثَّلُ فيه عناصِرُ الزَّمانِ والمكانِ، أمَّا الوَسَطُ فهو يتطَوَّرُ مِنَ الموقِفِ، ويترتَّبُ عليه ويمثِّلُ تعقيدًا له، أمَّا النِّهايةُ أو نُقطةُ التَّنويرِ فتتَجَمَّعُ فيها كُلُّ القوى الَّتي احتواها الموقِفُ، وفيها يكتَسِبُ الحَدَثُ مَعنًى.
2- الشَّخصِيَّةُ: لكي تتَّضِحَ الدَّوافِعُ الَّتي أدَّت إلى وُقوعِ الحَدَثِ لا بُدَّ مِنَ التَّعَرُّفِ على الأشخاصِ الَّذين قاموا بالحَدَثِ، والحَدَثُ في حَدِّ ذاتِه هو تصويرُ الشَّخْصيَّةِ وهي تَعمَلُ، فلا يمكِنُ الفَصْلُ بَيْنَ الشَّخْصيَّةِ والحَدَثِ.
3- المَغْزى: إنَّ أيَّ حَدَثٍ لا يُمكِنُ أن يكونَ خِلْوًا مِنَ المعنى، ولكِنَّ المعنى إذا انفَصَل عن الحَدَثِ وقُدِّم بشَكلٍ مجَرَّدٍ، يَسلُبُ القِصَّةَ أهمِّيَّتَها، ويحَوِّلُها إلى شَيءٍ آخَرَ لا يمُتُّ إلى هذا الفَنِّ بصِلةٍ؛ لذا لا بُدَّ من أن ينحَلَّ المعنى في مفاصِلِ الحَديثِ بحَيثُ توحي به القِصَّةُ إيحاءً، فهو رُكنٌ مِنَ الأركانِ الثَّلاثةِ الَّتي يتكَوَّنُ منها الحَدَثُ؛ ولهذا لا بُدَّ أن يكتَمِلَ المعنى باكتِمالِ الحَدَثِ نَفْسِه عندما تتجَمَّعُ كُلُّ عناصِرِ الحَدَثِ في نُقطةٍ واحِدةٍ هي نُقطةُ التَّنويرِ.
4- لحْظةُ التَّنويرِ: وهي اللَّحْظةُ الَّتي يَظهَرُ فيها حَلُّ العُقْدةِ، ويَتِمُّ المعنى كامِلًا [170] يُنظر: ((فن التحرير العربي)) للشنطي (ص: 185). .
وقد صارت القِصَّةُ القَصيرةُ الآنَ أكثَرَ الأنواعِ الأدَبيَّةِ رَواجًا؛ حَيثُ أغْرَت طبيعتُها القصيرةُ الموجَزةُ كثيرًا مِنَ الشَّبابِ على كِتابتِها، فَضلًا عمَّا تميَّز به العَصرُ الحديثُ مِنَ السُّرعةِ والآليَّةِ [171] يُنظر: ((الأدب وفنونه - دراسة ونقد)) لعز الدين إسماعيل (ص: 114). .

انظر أيضا: